سلسبيل
08-11-2005, 09:03 AM
المفكر الأميركي الشهير أكد في حديث تنشره "السياسة" بالتزامن مع "الأهرام" أن الخطاب الديمقراطي تبدد بالتدخل العسكري
أجرى الحوار - عزت إبراهيم
يعد فرانسيس فوكوياما أحد اهم المفكرين السياسيين إثارة للجدل على المستوى الدولي منذ أن اطلق فكرته الشهيرة قبل 15 عاما عن "نهاية التاريخ" وانتصار الليبرالية الديمقراطية والرأسمالية الغربية على كل الأنظمة والفلسفات الأخرى.. ومنذ ذلك التاريخ لم يبرح فوكوياما ساحات النقاش في الشرق والغرب ويندر الا ان يطرح أسمه في قضايا صراعات الحضارات والليبرالية والرأسمالية.
وكان ظهور صمويل هنتنغتون بنظرية "صدام الحضارات" بعد أقل من ثلاثة أعوام من الصخب الذي أثاره فوكوياما بمثابة إعلان عن بدء سجال لا ينتهي حول مستقبل العالم وما إذا كان التطور السياسي والاقتصادي سيتوقف عند تبني الجميع لقيم الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق المفتوح بعد أن أثبتت نجاحها في الغرب وفقا لفوكوياما أم أن المستقبل يحمل لنا صراعا لا ينتهي بين الحضارات وفقا لهنتنغتون.
وارتفعت حدة الجدل حوله بمشاركته في تأسيس "مشروع القرن الاميركي الجديد" مع رموز المحافظين الجدد في عام 1997 والذي طرح أفكاره عن سيادة الولايات المتحدة عالميا وترويج الديمقراطية بالقوة وهي الافكار التي تبناها جورج بوش بعد وصوله للحكم عام 2001, ثم جاءت حوادث سبتمبر لتبدأ حملات الترويج للديمقراطية والمصالح الاميركية بغطاء الحرب على الارهاب الدولي.
وبعد مغامرة العراق شن فوكوياما هجوما على الإدارة الاميركية واتهم البيت الابيض بالتلاعب بالشفافية والرأي العام في مراجعة شخصية واثقة من عدم قدرة أميركا على العمل بمفردها دون أصدقاء, وهو مصمم على مقاومة ما سماه نقص المحاسبة او المسألة العامة في السياسة الاميركية بعد خبرة العراق.
ويعمل فوكوياما اليوم استاذا للاقتصاد السياسي بجامعة جونز هوبكنز بواشنطن بالاضافة الى عضويته في عشرات من المجالس الستراتيجية ومراكز الابحاث والدوريات المرموقة في الولايات المتحدة وخارجها.. وقد التقينا بالمفكر الاميركي البارز في مسقط رأسه الاصلي - اليابان- على هامش منتدى الحضارة العالمية مؤخرا حيث دار حوار مطول عن التطورات الراهنة على الساحة العالمية.
وفيما يلي نص الحوار:
نشهد اليوم عمليات تصحيح سياسي وتحول ديمقراطي في سائر انحاء العالم العربي. كيف ترون هذه التحولات الايجابية والاعتبارات الاميركية فيما يخص الوضع في المنطقة خاصة في الدول العربية الكبرى?
لا جدال ان الخطاب الرسمي الاميركي قد طرأت عليه تحولات واتجاهات جديدة في العامين الاخيرين خاصة بعد خطاب الرئيس جورج دبليو بوش أمام المعهد الديمقراطي القومي, وفي خطاب التتويج (يناير الماضي) بعد فوزه في انتخابات العام الماضي بمدة رئاسة ثانية, وفي كلا الخطابين قال الرئيس بوش أنه كانت هناك حالة من الاستثناء للعالم العربي في الخطاب الاميركي المروج للديمقراطية, وأن هذا الاستثناء قد تبدد بعد التدخل العسكري في كل من أفغانستان والعراق.
كما تجلت تحولات السياسة الاميركية في الضغط على سورية لسحب قواتها من الاراضي اللبنانية باسرع وقت ممكن. وأعتقد, الان, أن هذا التحول كان أصيلا في مستوى معين من صناعة القرار السياسي الاميركي. ولكن الامر الذي يكتنفه الالتباس, بالنسبة لي, في الوقت الراهن هو مدى جدية الولايات المتحدة في المدى الطويل في أتباع أو استثمار في تلك الستراتيجية الجديدة.
فعلى سبيل المثال, لو فتحت الدولة المصرية المجال السياسي تماما من الملاحظ أن جماعة الاخوان المسلمين المحظورة سوف تسعى, على الارجح, الى الاستثمار الجيد لتلك الخطوة من أجل القفز على السلطة, وبالمثل فيما يخص وضع حركة "حماس" في الاراضي الفلسطينية.
والسؤال هل ستكون الولايات المتحدة سعيدة بنتائج رؤية القوى الاسلامية المتشددة في مقعد السلطة, أو القوى الاكثر هيمنة في النظام السياسي خاصة عندما يشير الرئيس الاميركي في أكثر من موضع عن استعداد أميركا للقبول بما ستسفر عنه العملية الديمقراطية بغض النظر عن الطرف الذي سيصل للحكم.لو قبلت الولايات المتحدة بذلك فأنه سيكون تحولا مهما في السياسة الاميركية.
ومن السابق لاوانه,قليلا, الجزم بان الولايات المتحدة قد اتخذت قرارها في هذا الشأن, ومن رؤيتي للوضع الحالي في الادارة الاميركية هناك كثيرون يأملون في التحول الديمقراطي التدريجي, فيمكن تشجيع المزيد من الانفتاح والاصلاح السياسي المتدرج بما يسمح للجماعات ذات الصبغة الدينية بالمشاركة دون ان تنتهز الفرصة للقفز على السلطة. فهناك تحول بالفعل في السياسة الاميركية ولكن حجم التحول هو ما ينبغي الانتظار بشأنه.
في تقرير المجموعة الرئاسية لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى لعام 2005 خرجت بتوصية مع الخبراء الاخرين تدعن فيها الى ممارسة الضغط على الحكومات في الشرق الاوسط باستغلال اللقاءات الرئاسية والرفيعة المستوى بين المسؤولين الاميركيين ونظرائهم في دول المنطقة لدفع الاصلاحات الديمقراطية والاقتصادية من أعلى. هل يحمل ذلك اقرارا بصعوبة تحرك الولايات المتحدة في أوساط المجتمع المدني العربي أو أن انتظار الاصلاح عبر الجماهير لم يعد مغريا?
لا توجد ستراتيجية عالمية موحدة فيما يخص الانفتاح الديمقراطي, ففي بعض الاحيان يحدث ذلك من أعلى الى أسفل, وفي حالات أخرى من اسفل الى أعلى. وفي العادة, من أجل أن تنجح هذه العمليات ينبغي ان تكون الاصلاحات أو التحولات في كلا الاتجاهين.
ففي حالات يكون تأثير النخب السياسية والفكرية أقوى في الاصلاح وفي أحيان اخرى ينبغي أن يأتي الاصلاح مدعوما من القاعدة الشعبية الاوسع والامثلة عديدة ما بين التحول الديمقراطي السلمي في كوريا الجنوبية طوال عقد الثمانينيات والثورة الشعبية في الفلبين في الفترة ذاتها.
فقد اقتضي الامر ممارسة ضغوط على الحكام لانها ببساطة لم يكن لتأتي من المجتمعات المدنية.. في الجانب الاخر في كل من اوكرانيا وجورجيا كان الضغط من أسفل,من القواعد الجماهيرية, مؤثرا جدا .. لذلك اعتقد استخدام الوسيلتين ضروري لانه لا توجد ستراتيجية واحدة يمكنها أن تضمن تحولا ديمقراطيا.
أنت ترى السياسات المضطربة والفاسدة وليست الثقافة وراء تخلف المجتمعات. هل هذا يعني أنه أذا جاءت الديمقراطية اولا فأن ذلك سوف يضع المنطقة العربية, مثلا, على الطريق الصحيح?
لا .. في مستهل الامر ما أعنيه عندما أذكر كلمة سياسة ليس الديمقراطية وحدها. ولكني أعني وجود مكونات عديدة للحكم الرشيد الى جانب المشاركة الديمقراطية. فعلى سبيل المثال بلد مثل سنغافورة لا يملك حكما رشيدا, وهو بلد يوجد به فساد الى حد كبير نسبيا, ويركز رغم ذلك على أهداف تنموية, ولا يقدم النموذج الامثل, لكنه يسعى لخلق دولة تنموية تستثمر في التعليم وجوانب التنمية الاصيلة الاخرى بدون تحقيق الديمقراطية.
ويمكنني القول أن العقبة الكبرى الدائمة هي السياسات الخاطئة, والديمقراطية, هي في بعض الاحيان, حل لكنها ليست كذلك دائما. لذلك أذا وسعنا من مفهوم السياسة ليشمل الابعاد الاخرى التي نشير اليها فأن التنمية الاقتصادية, على سبيل المثال, سوف تعتمد على وجود حكم جيد أو رشيد ونظام سياسي منضبط.
معارضتك لما سميته النظرة المثالية المنتهية الصلاحية من جانب المحافظين الجدد للوضع في الشرق الاوسط والتي تقول أن السياسة العربية اصيبت بالجمود, ومن ثم غزو العراق يخلق نموذجا بديلا (دولة تتمتع بالحرية وحكم القانون وديمقراطية واسعة), لكنك في الوقت نفسه لا تتفق مع تيار الواقعية التقليدية (يمثله وزير الدفاع دونالد رامسفيلد) الذي يؤمن بتحقيق المصالح الاميركية بالقوة واية وسائل تحقق التفوق .. كيف يمكن للولايات المتحدة الموازنة في سياساتها الخارجية?
من وجهة نظري, الولايات المتحدة لا يمكنها بناء الديمقراطية في الخارج. فالشعوب التي رغبت في خيار الديمقراطية تمكنت من بناء مؤسسات الديمقراطية بنفسها. وعليه لا يمكن للولايات المتحدة أن تقرر ببساطة انها تريد تحقيق الديمقراطية في هذا الجزء من العالم, فالامر يعتمد على الموقف الداخلي, على نحو كبير, من أجل دفع الاوضاع الى مسار الديمقراطية.
وهذا هو اعتراضي الرئيسي على الاساس أو الاحتمال النظري الذي بنت عليه الولايات المتحدة تدخلها في العراق حيث تخيل البعض أن كل شيء سوف ينهار في العراق وهو ما سوف يسهل من عملية بناء على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية.
والولايات المتحدة عندما تدفع في هذا الاتجاه فهي تقدم على مخاطرة عظيمة. ولذلك, شعوري العام أننا يجب أن نشجع على المشاركة الاوسع في العملية الديمقراطية والاصلاح السياسي, واننا لا يجب أن ندعم الديكتاتوريات لمجرد انهم يحرسون وصول البترول الينا.
ورغم ضرورة مساهمة الولايات المتحدة في الدعم السياسي والتشجيع والمساندة للمجتمع المدني وجماعات حقوق الانسان التي تكافح من اجل الديمقراطية الا انني انصح بالتحلي بالصبر لانه أذا لم يأت نبض الديمقراطية من داخل المجتمعات المعنية فأن الوصول الى الديمقراطية سيكون مستبعدا.
كيف تنظر الى عملية الاصلاح الديني التي يتردد الحديث بشأنها في الدوائر الغربية عند التعامل مع افضل وسائل القضاء على الارهاب في العالم الاسلامي?
كان هذا هو النموذج الذي ظهر في القارة الاوروبية, فقد كانت هناك ديكتاتوريات في المجتمعات المسيحية هناك ساهمت في تمهيد الطريق لظهور نسخة أكثر ليبرالية من الثقافة المسيحية. ويمكن ان يكون ظهور شخصيات أصلاحية هو أحد طرق التطور في المجتمعات الاسلامية لكنه ليس المسار الوحيد الذي يمكن تدبره.
ففي تركيا, قام كمال الدين أتاتورك ببناء دولة عصرية وديمقراطية باستخدام وسائل سياسية ودون وجود سلطة دينية, فقد أعلن دولة علمانية واستخدم السلطة السياسية من أجل توفير الاجواء والشروط اللازمة لهذا النمط من التحديث.
لذلك يمكن إنجاز الكثير من خلال الوسائل السياسية ومن خلال الاصلاح الداخلي ولكن ما أريد التأكيد عليه أنه من دون تغيير على مستوى الافكار فلن تحدث المصالحة بين الاسلام والديمقراطية.
إن الاسلام يمكن ان يفسر على أوجه عدة, فيمكن أن نرى الرؤي المتشددة مثلما هو الحال مع افكار أسامة بن لادن ويمكن أيضا رصد الافكار الاكثر تحررا.
واذا لم تأت شعوب العالم الاسلامي معا لتنتصر لمسألة أن الوجه الليبرالي للدين يستمد مشروعية من التعاليم الاسلامية والقرآن فسوف تصادف الدول ذات الغالبية المسلمة صعوبة في تبني ديمقراطية أصيلة في المدى الطويل. ومن وجهة نظري الشخصية يمكن على نحو كبير خوض معركة من هذا النوع.
البعض يشير الى فشل المجتمع الدولي في عمليات بناء الدول في الشرق الاوسط, بمعنى المسؤولية المشتركة للمنظمات الدولية مع الحكومات في حرمان المتطرفين من أسباب النجاح على مستوى الافكار بتحسين الظروف التي تدفع الشباب للتطرف?
لا اعتقد في مسؤولية المجتمع الدولي في المقام الاول عن تعثر مشاريع بناء الدول, لاني أري أن هناك سببا مجتمعيا. وما أعنيه اننا عندما ننظر الى حوادث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة وبالتأكيد الاشخاص الذين نفذوا تفجيرات لندن الاخيرة نجد أنهم أشخاص وفدوا من مجتمعات مسلمة لكنهم استقروا في القارة الاوروبية.
فاذا كانت الراديكالية قد وقعت على الارض الغربية فأنه ينبغي تفسيرها في ضوء ظاهرة سوسيولوجية تعرف بالاغتراب. لم يكن منفذي الهجمات من الفقراء بل جاءوا من أسر ميسورة وناجحة نسبيا الا انهم فشلوا في الاندماج في المجتمع الاوسع وهو ما ساهم في أنفتاح هؤلاء على تلك الايديولوجية أو التفسير المتشدد للاسلام.
من المخطيء هنا?
اعتقد أن الامر معقد للغاية حتى نضع ايادينا على السبب.. فالمسؤولية تقع,جزئيا على عاتق المجتمعات الاسلامية التي سمحت للايدولوجيات المتطرفة بالخروج عن السيطرة.. وهناك مسؤولية اخرى تتحملها المجتمعات الاوروبية التي فشلت في امتصاص المسلمين باعتبارهم شركاء حقيقيين في المجتمعات الغربية. كما أن ما يحدث هو بمثابة فشل لانماط أخرى من التقدم الاجتماعي. ولو حدث تقدم في حياة الافراد وتعاظمت الفرص أمام المواطنين فان الايديولوجيات المتشددة لن تجد لها مكانا.
والامر الاخير أن هناك مشكلة عالمية تتمثل في وجود شبكة دولية من المنظمات التي تروج للارهاب وتسمح له بالازدهار.. ولذلك لا يوجد سبب واحد يتحمل المسؤولية.
كيف ترون التطورات الاخيرة على المسرح السياسي في العالم العربي?
أتمنى الا يكون ما يحدث من تحولات ليبرالية وديمقراطية في العالم العربي من النوع الشكلي لان البعض قد يرى في الانفتاح السياسي خطرا, وبعد فترة من الوقت يوعز للحكام بالعودة الى الانغلاق مجددا.
"الولايات المتحدة تسرع بالضغط على الزناد عندما ياتي الامر للتدخل العسكري, ولكنها بطيئة جدا في تنفيذ التزامات إعادة البناء وفرض القانون والنظام" .. هذا رأيك بعد التجربة الصعبة في العراق.. هل تعتقد أن الولايات المتحدة ترتكب الخطأ القاتل?
من الصعب الجزم, بشكل مطلق, بان العراق قد تحول الى خطأ قاتل للولايات المتحدة, ورهاني الشخصي أن الاجيال القادمة ستنظر الى حرب العراق باعتبارها خطأ! فاذا كان المحتمل أن تؤدي عملية غزو العراق الى عمليات متوالية من التحول الديمقراطي والاصلاح السياسي في العالم العربي, فلو أحدثت حرب العراق هذا الأثر فلعلها كانت تستحق المخاطرة. لكن تقويمي الشخصي ان الحرب في العراق لا تؤدي الى تحولات من هذا النوع, بل أن أميركا خلقت مزيدا من المشكلات لنفسها لان العراق قد تحول الى أفغانستان الجديدة حيث أصبح مركزا لتدريب وتصدير الارهابيين وهي مشكلة لمنطقة الشرق الاوسط والعالم باسره. ومرة اخرى من المبكر جدا الحديث عن الفشل الكامل في العراق.
المراجعة التي قمت بها في العامين الاخيرين انتهت الى ابتعادك عن إدارة بوش قليلا ومنح صوتك للمرشح الديمقراطي في انتخابات نوفمبر الماضي. ما يعنينا ما ذكرته أن غياب " المسألة العامة" أو الشفافية هو السبب في تحولك عن مساندة المحافظين الجدد .. كيف تحدث أزمة مصداقية في أقوى الديمقراطيات?
انا لا اتعاطف مع المرشح الديمقراطي الاسبق السيناتور جون كيري كسياسي, ولكني منحته صوتي لاني اعتقد أن الرئيس بوش يحكم البلاد في وقت تبنت واشنطن سياسات غير ناجحة بشأن الحرب في العراق ولا يجب أن يكافيء على سياسته الخطأ.
لكن النسبة الغالبة من الاميركيين لم يتفقوا معي في هذا الرأي ومنحوه أصواتهم. اليوم, لا أعتقد أن المسألة العراقية كانت المحرك الرئيسي للتصويت لبوش, فقد كانت هناك جملة من القضايا على بطاقة الاقتراع لم تسمح بابعاده من البيت الابيض. لكن عدم خروج بوش من منصبه لا يعني بالضرورة غيابا تاما للمحاسبة والمسؤولية في الديمقراطية الاميركية.
ان طبيعة الية المحاسبة تأخذ وقتا أطول وأذا الت السياسات الحالية للادارة الاميركية الى فشل كامل في السنوات الثلاث المقبلة فانني اعتقد أن الجمهوريين, وليس الرئيس بوش وحده, سوف يدفعون ثمنا باهظا جدا جدا.
أين تكمن مشكلات الديمقراطية الاميركية اليوم?
اذا سألتني عن العيوب العامة التي تكتنف الديمقراطية الاميركية فأن هنالك الكثير منها. وأعتقد ان واحدة من مشكلات الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة هو نظام المجمع الانتخابي, بالاضافة الى الطبيعة الحزبية المتزايدة التي صارت تحكم مجلس النواب الاميركي.
والانقسام الواضح بين الديمقراطيين والجمهوريين يبدو أكثر وضوحا في واشنطن منه في سائر الولايات الاميركية, حيث الناس أكثر اعتدالا وليسوا منقسمين حول الكثير من القضايا مثلما هو الحال في الكونغرس.
كيف يمكن الارتياح للقيادة الاميركية للشؤون الدولية أذا لم يكن هناك وضوح في السياسة الداخلية.. وما هي مشكلات سمعة أميركا على الصعيد العالمي?
قيادة الولايات المتحدة للعالم مهمة للغاية. وأميركا هي البلد الوحيد الذي يمكنه, باعتباره القوي العظمي الوحيدة, حل الكثير من المشكلات العالمية. وفي أعتقادي أن الثقة في هذه القيادة سواء من حيث التأثير والحكمة والشرعية هي مسألة بالغة الاهمية.
ونحن نواجه مشكلة حقيقية على الصعيد الدولي اليوم حيث لا يعتبر كثير من الناس أن الولايات المتحدة تملك الشرعية, ومصداقية السياسات الاميركية خاصة في الشرق الاوسط في أدني مستوياتها في الوقت الراهن. والقيادة لا تعني القدرة على نشر القوات ببساطة في أي وقت .. فهي ليست قيادة مادية بالمعنى الحرفي.. والنموذج الذي تقدمه الولايات المتحدة محط أنظار الشعوب الاخرى لذلك علينا الاسراع باصلاح الامر لانني لا أري الامر مستحيلا أو مشكلة دائمة مع الاعتراف بوجود مشكلة حقيقية.
هل يمكن أرجاع هيمنة الولايات المتحدة على الشؤون الدولية الى غياب نظام جماعي دولي قوي?
نعم, غياب المؤسسات القوية القادرة على قيادة العمل الجماعي الدولي وراء تكريس الدور الاميركي الحالي.. وحرب العراق برهنت على ضعف التنظيم الدولي..والحل هو بناء منظمات دولية متقاطعة في عملها ولديها شرعية المحاسبة على المستوى الدولي. الأمم المتحدة مهمة للتنظيم الدولي لكنها لا تساعد في عولمة الديمقراطية.
لكن هناك جهودا حثيثة لاصلاح مجلس الامن الدولي ?
مع احترامي الشديد للدول الراغبة في الحصول على مقاعد دائمة أو غير دائمة في مجلس الامن, جميع المقترحات الرامية الى اصلاح أو توسيع المجلس سوف تضع العمل الجماعي الدولي في وضع اسوأ مما هو عليه اليوم.
سمعة نظرية "نهاية التاريخ" ليست طيبة في انحاء كثيرة من العالم لان خلاصتها انتصار للديمقراطية الليبرالية وفقا للنسق الاميركي دون مراعاة الثقافات الاخرى?!
هناك فارق كبير بين الليبرالية الديمقراطية وأميركا. ومن الضروري جدا للقارئ أن يفهم انني عندما تحدثت عن نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية لم أكن اروج للنموذج الاميركي للتحديث على وجه التحديد.. ولكنني تناولت مشروع التحديث الذي يأتي من التنوير والنهضة الليبرالية وكثير من دول أوروبا الغربية لديها نموذجا أفضل من نظيره في الولايات المتحدة, ونظرية نهاية التاريخ تقوم على الاعتقاد في أن الديمقراطية الحقيقية هي "الشرعية الأساسية المؤتمنة" التي تنال ثقة المواطنين. وكثير من أزمات الشرق الأوسط تعود الى قصور في الديمقراطية السليمة, وأعتقد أن الناس في هذه المنطقة يريدون بحق الوصول إلى الديمقراطية النموذجية.
لكن هناك مشكلة في تقبل الليبرالية في مناطق من العالم الاسلامي .. بل أن الترويج لها يمكن أن ينقلب الى صراع حضارات في المدى الطويل?
الاسلام يحمل مكونا ليبراليا واضحا. والليبرالية تحتاج الى تعددية وبرلمان. وهناك فرق اسلامية تتوافق مع متطلبات الليبرالية, وهناك البعض الاخر ممن لا يؤمنون بالليبرالية السياسية. لذلك هناك اشكال اكثر تطرفا في التعامل مع التعاليم الاسلامية والتي ترى انها في واقع الامر مهددة من قبل الليبرالية والعكس بالعكس. ولا يجب ان نقلل من حقيقة وجود صراع أفكار في الوقت الراهن لكنه ليس مع الاسلام كدين ولكن مع تفسيرات للدين الاسلامي.
بعد قرابة أربعة أعوام على حوادث 11 سبتمبر .. كيف ترى التقدم الذي أحرزته الولايات المتحدة, رسميا وشعبيا, في دراسة ومعرفة العالمين العربي والاسلامي?
مازالت الدراسات المتصلة بالاسلام والعالم العربي, من خبراتي والواقع العملي الذي نعيشه, فقيرة جدا لاننا لا نستثمر بطريقة تليق بالولايات المتحدة في مجالات البحث والمعرفة مثلما فعلنا في بدايات الحرب الباردة مع الروس. فقد أنفقت الولايات المتحدة أموالا طائلة على دراسة الاتحاد السوفياتي وتعلم اللغة الروسية ودراسة كل قطاع وجماعة في الدولة السوفياتية. وللاسف الولايات المتحدة لم تفعل الشيء نفسه لدراسة ومعرفة العالم الاسلامي لتجنب الممارسات الخاطئة واتمنى أن نفعل ذلك.
ينشر بالتزامن مع وكالة الأهرام للصحافة
أجرى الحوار - عزت إبراهيم
يعد فرانسيس فوكوياما أحد اهم المفكرين السياسيين إثارة للجدل على المستوى الدولي منذ أن اطلق فكرته الشهيرة قبل 15 عاما عن "نهاية التاريخ" وانتصار الليبرالية الديمقراطية والرأسمالية الغربية على كل الأنظمة والفلسفات الأخرى.. ومنذ ذلك التاريخ لم يبرح فوكوياما ساحات النقاش في الشرق والغرب ويندر الا ان يطرح أسمه في قضايا صراعات الحضارات والليبرالية والرأسمالية.
وكان ظهور صمويل هنتنغتون بنظرية "صدام الحضارات" بعد أقل من ثلاثة أعوام من الصخب الذي أثاره فوكوياما بمثابة إعلان عن بدء سجال لا ينتهي حول مستقبل العالم وما إذا كان التطور السياسي والاقتصادي سيتوقف عند تبني الجميع لقيم الديمقراطية الليبرالية واقتصاد السوق المفتوح بعد أن أثبتت نجاحها في الغرب وفقا لفوكوياما أم أن المستقبل يحمل لنا صراعا لا ينتهي بين الحضارات وفقا لهنتنغتون.
وارتفعت حدة الجدل حوله بمشاركته في تأسيس "مشروع القرن الاميركي الجديد" مع رموز المحافظين الجدد في عام 1997 والذي طرح أفكاره عن سيادة الولايات المتحدة عالميا وترويج الديمقراطية بالقوة وهي الافكار التي تبناها جورج بوش بعد وصوله للحكم عام 2001, ثم جاءت حوادث سبتمبر لتبدأ حملات الترويج للديمقراطية والمصالح الاميركية بغطاء الحرب على الارهاب الدولي.
وبعد مغامرة العراق شن فوكوياما هجوما على الإدارة الاميركية واتهم البيت الابيض بالتلاعب بالشفافية والرأي العام في مراجعة شخصية واثقة من عدم قدرة أميركا على العمل بمفردها دون أصدقاء, وهو مصمم على مقاومة ما سماه نقص المحاسبة او المسألة العامة في السياسة الاميركية بعد خبرة العراق.
ويعمل فوكوياما اليوم استاذا للاقتصاد السياسي بجامعة جونز هوبكنز بواشنطن بالاضافة الى عضويته في عشرات من المجالس الستراتيجية ومراكز الابحاث والدوريات المرموقة في الولايات المتحدة وخارجها.. وقد التقينا بالمفكر الاميركي البارز في مسقط رأسه الاصلي - اليابان- على هامش منتدى الحضارة العالمية مؤخرا حيث دار حوار مطول عن التطورات الراهنة على الساحة العالمية.
وفيما يلي نص الحوار:
نشهد اليوم عمليات تصحيح سياسي وتحول ديمقراطي في سائر انحاء العالم العربي. كيف ترون هذه التحولات الايجابية والاعتبارات الاميركية فيما يخص الوضع في المنطقة خاصة في الدول العربية الكبرى?
لا جدال ان الخطاب الرسمي الاميركي قد طرأت عليه تحولات واتجاهات جديدة في العامين الاخيرين خاصة بعد خطاب الرئيس جورج دبليو بوش أمام المعهد الديمقراطي القومي, وفي خطاب التتويج (يناير الماضي) بعد فوزه في انتخابات العام الماضي بمدة رئاسة ثانية, وفي كلا الخطابين قال الرئيس بوش أنه كانت هناك حالة من الاستثناء للعالم العربي في الخطاب الاميركي المروج للديمقراطية, وأن هذا الاستثناء قد تبدد بعد التدخل العسكري في كل من أفغانستان والعراق.
كما تجلت تحولات السياسة الاميركية في الضغط على سورية لسحب قواتها من الاراضي اللبنانية باسرع وقت ممكن. وأعتقد, الان, أن هذا التحول كان أصيلا في مستوى معين من صناعة القرار السياسي الاميركي. ولكن الامر الذي يكتنفه الالتباس, بالنسبة لي, في الوقت الراهن هو مدى جدية الولايات المتحدة في المدى الطويل في أتباع أو استثمار في تلك الستراتيجية الجديدة.
فعلى سبيل المثال, لو فتحت الدولة المصرية المجال السياسي تماما من الملاحظ أن جماعة الاخوان المسلمين المحظورة سوف تسعى, على الارجح, الى الاستثمار الجيد لتلك الخطوة من أجل القفز على السلطة, وبالمثل فيما يخص وضع حركة "حماس" في الاراضي الفلسطينية.
والسؤال هل ستكون الولايات المتحدة سعيدة بنتائج رؤية القوى الاسلامية المتشددة في مقعد السلطة, أو القوى الاكثر هيمنة في النظام السياسي خاصة عندما يشير الرئيس الاميركي في أكثر من موضع عن استعداد أميركا للقبول بما ستسفر عنه العملية الديمقراطية بغض النظر عن الطرف الذي سيصل للحكم.لو قبلت الولايات المتحدة بذلك فأنه سيكون تحولا مهما في السياسة الاميركية.
ومن السابق لاوانه,قليلا, الجزم بان الولايات المتحدة قد اتخذت قرارها في هذا الشأن, ومن رؤيتي للوضع الحالي في الادارة الاميركية هناك كثيرون يأملون في التحول الديمقراطي التدريجي, فيمكن تشجيع المزيد من الانفتاح والاصلاح السياسي المتدرج بما يسمح للجماعات ذات الصبغة الدينية بالمشاركة دون ان تنتهز الفرصة للقفز على السلطة. فهناك تحول بالفعل في السياسة الاميركية ولكن حجم التحول هو ما ينبغي الانتظار بشأنه.
في تقرير المجموعة الرئاسية لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى لعام 2005 خرجت بتوصية مع الخبراء الاخرين تدعن فيها الى ممارسة الضغط على الحكومات في الشرق الاوسط باستغلال اللقاءات الرئاسية والرفيعة المستوى بين المسؤولين الاميركيين ونظرائهم في دول المنطقة لدفع الاصلاحات الديمقراطية والاقتصادية من أعلى. هل يحمل ذلك اقرارا بصعوبة تحرك الولايات المتحدة في أوساط المجتمع المدني العربي أو أن انتظار الاصلاح عبر الجماهير لم يعد مغريا?
لا توجد ستراتيجية عالمية موحدة فيما يخص الانفتاح الديمقراطي, ففي بعض الاحيان يحدث ذلك من أعلى الى أسفل, وفي حالات أخرى من اسفل الى أعلى. وفي العادة, من أجل أن تنجح هذه العمليات ينبغي ان تكون الاصلاحات أو التحولات في كلا الاتجاهين.
ففي حالات يكون تأثير النخب السياسية والفكرية أقوى في الاصلاح وفي أحيان اخرى ينبغي أن يأتي الاصلاح مدعوما من القاعدة الشعبية الاوسع والامثلة عديدة ما بين التحول الديمقراطي السلمي في كوريا الجنوبية طوال عقد الثمانينيات والثورة الشعبية في الفلبين في الفترة ذاتها.
فقد اقتضي الامر ممارسة ضغوط على الحكام لانها ببساطة لم يكن لتأتي من المجتمعات المدنية.. في الجانب الاخر في كل من اوكرانيا وجورجيا كان الضغط من أسفل,من القواعد الجماهيرية, مؤثرا جدا .. لذلك اعتقد استخدام الوسيلتين ضروري لانه لا توجد ستراتيجية واحدة يمكنها أن تضمن تحولا ديمقراطيا.
أنت ترى السياسات المضطربة والفاسدة وليست الثقافة وراء تخلف المجتمعات. هل هذا يعني أنه أذا جاءت الديمقراطية اولا فأن ذلك سوف يضع المنطقة العربية, مثلا, على الطريق الصحيح?
لا .. في مستهل الامر ما أعنيه عندما أذكر كلمة سياسة ليس الديمقراطية وحدها. ولكني أعني وجود مكونات عديدة للحكم الرشيد الى جانب المشاركة الديمقراطية. فعلى سبيل المثال بلد مثل سنغافورة لا يملك حكما رشيدا, وهو بلد يوجد به فساد الى حد كبير نسبيا, ويركز رغم ذلك على أهداف تنموية, ولا يقدم النموذج الامثل, لكنه يسعى لخلق دولة تنموية تستثمر في التعليم وجوانب التنمية الاصيلة الاخرى بدون تحقيق الديمقراطية.
ويمكنني القول أن العقبة الكبرى الدائمة هي السياسات الخاطئة, والديمقراطية, هي في بعض الاحيان, حل لكنها ليست كذلك دائما. لذلك أذا وسعنا من مفهوم السياسة ليشمل الابعاد الاخرى التي نشير اليها فأن التنمية الاقتصادية, على سبيل المثال, سوف تعتمد على وجود حكم جيد أو رشيد ونظام سياسي منضبط.
معارضتك لما سميته النظرة المثالية المنتهية الصلاحية من جانب المحافظين الجدد للوضع في الشرق الاوسط والتي تقول أن السياسة العربية اصيبت بالجمود, ومن ثم غزو العراق يخلق نموذجا بديلا (دولة تتمتع بالحرية وحكم القانون وديمقراطية واسعة), لكنك في الوقت نفسه لا تتفق مع تيار الواقعية التقليدية (يمثله وزير الدفاع دونالد رامسفيلد) الذي يؤمن بتحقيق المصالح الاميركية بالقوة واية وسائل تحقق التفوق .. كيف يمكن للولايات المتحدة الموازنة في سياساتها الخارجية?
من وجهة نظري, الولايات المتحدة لا يمكنها بناء الديمقراطية في الخارج. فالشعوب التي رغبت في خيار الديمقراطية تمكنت من بناء مؤسسات الديمقراطية بنفسها. وعليه لا يمكن للولايات المتحدة أن تقرر ببساطة انها تريد تحقيق الديمقراطية في هذا الجزء من العالم, فالامر يعتمد على الموقف الداخلي, على نحو كبير, من أجل دفع الاوضاع الى مسار الديمقراطية.
وهذا هو اعتراضي الرئيسي على الاساس أو الاحتمال النظري الذي بنت عليه الولايات المتحدة تدخلها في العراق حيث تخيل البعض أن كل شيء سوف ينهار في العراق وهو ما سوف يسهل من عملية بناء على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية بعد سقوط الشيوعية.
والولايات المتحدة عندما تدفع في هذا الاتجاه فهي تقدم على مخاطرة عظيمة. ولذلك, شعوري العام أننا يجب أن نشجع على المشاركة الاوسع في العملية الديمقراطية والاصلاح السياسي, واننا لا يجب أن ندعم الديكتاتوريات لمجرد انهم يحرسون وصول البترول الينا.
ورغم ضرورة مساهمة الولايات المتحدة في الدعم السياسي والتشجيع والمساندة للمجتمع المدني وجماعات حقوق الانسان التي تكافح من اجل الديمقراطية الا انني انصح بالتحلي بالصبر لانه أذا لم يأت نبض الديمقراطية من داخل المجتمعات المعنية فأن الوصول الى الديمقراطية سيكون مستبعدا.
كيف تنظر الى عملية الاصلاح الديني التي يتردد الحديث بشأنها في الدوائر الغربية عند التعامل مع افضل وسائل القضاء على الارهاب في العالم الاسلامي?
كان هذا هو النموذج الذي ظهر في القارة الاوروبية, فقد كانت هناك ديكتاتوريات في المجتمعات المسيحية هناك ساهمت في تمهيد الطريق لظهور نسخة أكثر ليبرالية من الثقافة المسيحية. ويمكن ان يكون ظهور شخصيات أصلاحية هو أحد طرق التطور في المجتمعات الاسلامية لكنه ليس المسار الوحيد الذي يمكن تدبره.
ففي تركيا, قام كمال الدين أتاتورك ببناء دولة عصرية وديمقراطية باستخدام وسائل سياسية ودون وجود سلطة دينية, فقد أعلن دولة علمانية واستخدم السلطة السياسية من أجل توفير الاجواء والشروط اللازمة لهذا النمط من التحديث.
لذلك يمكن إنجاز الكثير من خلال الوسائل السياسية ومن خلال الاصلاح الداخلي ولكن ما أريد التأكيد عليه أنه من دون تغيير على مستوى الافكار فلن تحدث المصالحة بين الاسلام والديمقراطية.
إن الاسلام يمكن ان يفسر على أوجه عدة, فيمكن أن نرى الرؤي المتشددة مثلما هو الحال مع افكار أسامة بن لادن ويمكن أيضا رصد الافكار الاكثر تحررا.
واذا لم تأت شعوب العالم الاسلامي معا لتنتصر لمسألة أن الوجه الليبرالي للدين يستمد مشروعية من التعاليم الاسلامية والقرآن فسوف تصادف الدول ذات الغالبية المسلمة صعوبة في تبني ديمقراطية أصيلة في المدى الطويل. ومن وجهة نظري الشخصية يمكن على نحو كبير خوض معركة من هذا النوع.
البعض يشير الى فشل المجتمع الدولي في عمليات بناء الدول في الشرق الاوسط, بمعنى المسؤولية المشتركة للمنظمات الدولية مع الحكومات في حرمان المتطرفين من أسباب النجاح على مستوى الافكار بتحسين الظروف التي تدفع الشباب للتطرف?
لا اعتقد في مسؤولية المجتمع الدولي في المقام الاول عن تعثر مشاريع بناء الدول, لاني أري أن هناك سببا مجتمعيا. وما أعنيه اننا عندما ننظر الى حوادث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة وبالتأكيد الاشخاص الذين نفذوا تفجيرات لندن الاخيرة نجد أنهم أشخاص وفدوا من مجتمعات مسلمة لكنهم استقروا في القارة الاوروبية.
فاذا كانت الراديكالية قد وقعت على الارض الغربية فأنه ينبغي تفسيرها في ضوء ظاهرة سوسيولوجية تعرف بالاغتراب. لم يكن منفذي الهجمات من الفقراء بل جاءوا من أسر ميسورة وناجحة نسبيا الا انهم فشلوا في الاندماج في المجتمع الاوسع وهو ما ساهم في أنفتاح هؤلاء على تلك الايديولوجية أو التفسير المتشدد للاسلام.
من المخطيء هنا?
اعتقد أن الامر معقد للغاية حتى نضع ايادينا على السبب.. فالمسؤولية تقع,جزئيا على عاتق المجتمعات الاسلامية التي سمحت للايدولوجيات المتطرفة بالخروج عن السيطرة.. وهناك مسؤولية اخرى تتحملها المجتمعات الاوروبية التي فشلت في امتصاص المسلمين باعتبارهم شركاء حقيقيين في المجتمعات الغربية. كما أن ما يحدث هو بمثابة فشل لانماط أخرى من التقدم الاجتماعي. ولو حدث تقدم في حياة الافراد وتعاظمت الفرص أمام المواطنين فان الايديولوجيات المتشددة لن تجد لها مكانا.
والامر الاخير أن هناك مشكلة عالمية تتمثل في وجود شبكة دولية من المنظمات التي تروج للارهاب وتسمح له بالازدهار.. ولذلك لا يوجد سبب واحد يتحمل المسؤولية.
كيف ترون التطورات الاخيرة على المسرح السياسي في العالم العربي?
أتمنى الا يكون ما يحدث من تحولات ليبرالية وديمقراطية في العالم العربي من النوع الشكلي لان البعض قد يرى في الانفتاح السياسي خطرا, وبعد فترة من الوقت يوعز للحكام بالعودة الى الانغلاق مجددا.
"الولايات المتحدة تسرع بالضغط على الزناد عندما ياتي الامر للتدخل العسكري, ولكنها بطيئة جدا في تنفيذ التزامات إعادة البناء وفرض القانون والنظام" .. هذا رأيك بعد التجربة الصعبة في العراق.. هل تعتقد أن الولايات المتحدة ترتكب الخطأ القاتل?
من الصعب الجزم, بشكل مطلق, بان العراق قد تحول الى خطأ قاتل للولايات المتحدة, ورهاني الشخصي أن الاجيال القادمة ستنظر الى حرب العراق باعتبارها خطأ! فاذا كان المحتمل أن تؤدي عملية غزو العراق الى عمليات متوالية من التحول الديمقراطي والاصلاح السياسي في العالم العربي, فلو أحدثت حرب العراق هذا الأثر فلعلها كانت تستحق المخاطرة. لكن تقويمي الشخصي ان الحرب في العراق لا تؤدي الى تحولات من هذا النوع, بل أن أميركا خلقت مزيدا من المشكلات لنفسها لان العراق قد تحول الى أفغانستان الجديدة حيث أصبح مركزا لتدريب وتصدير الارهابيين وهي مشكلة لمنطقة الشرق الاوسط والعالم باسره. ومرة اخرى من المبكر جدا الحديث عن الفشل الكامل في العراق.
المراجعة التي قمت بها في العامين الاخيرين انتهت الى ابتعادك عن إدارة بوش قليلا ومنح صوتك للمرشح الديمقراطي في انتخابات نوفمبر الماضي. ما يعنينا ما ذكرته أن غياب " المسألة العامة" أو الشفافية هو السبب في تحولك عن مساندة المحافظين الجدد .. كيف تحدث أزمة مصداقية في أقوى الديمقراطيات?
انا لا اتعاطف مع المرشح الديمقراطي الاسبق السيناتور جون كيري كسياسي, ولكني منحته صوتي لاني اعتقد أن الرئيس بوش يحكم البلاد في وقت تبنت واشنطن سياسات غير ناجحة بشأن الحرب في العراق ولا يجب أن يكافيء على سياسته الخطأ.
لكن النسبة الغالبة من الاميركيين لم يتفقوا معي في هذا الرأي ومنحوه أصواتهم. اليوم, لا أعتقد أن المسألة العراقية كانت المحرك الرئيسي للتصويت لبوش, فقد كانت هناك جملة من القضايا على بطاقة الاقتراع لم تسمح بابعاده من البيت الابيض. لكن عدم خروج بوش من منصبه لا يعني بالضرورة غيابا تاما للمحاسبة والمسؤولية في الديمقراطية الاميركية.
ان طبيعة الية المحاسبة تأخذ وقتا أطول وأذا الت السياسات الحالية للادارة الاميركية الى فشل كامل في السنوات الثلاث المقبلة فانني اعتقد أن الجمهوريين, وليس الرئيس بوش وحده, سوف يدفعون ثمنا باهظا جدا جدا.
أين تكمن مشكلات الديمقراطية الاميركية اليوم?
اذا سألتني عن العيوب العامة التي تكتنف الديمقراطية الاميركية فأن هنالك الكثير منها. وأعتقد ان واحدة من مشكلات الممارسة الديمقراطية في الولايات المتحدة هو نظام المجمع الانتخابي, بالاضافة الى الطبيعة الحزبية المتزايدة التي صارت تحكم مجلس النواب الاميركي.
والانقسام الواضح بين الديمقراطيين والجمهوريين يبدو أكثر وضوحا في واشنطن منه في سائر الولايات الاميركية, حيث الناس أكثر اعتدالا وليسوا منقسمين حول الكثير من القضايا مثلما هو الحال في الكونغرس.
كيف يمكن الارتياح للقيادة الاميركية للشؤون الدولية أذا لم يكن هناك وضوح في السياسة الداخلية.. وما هي مشكلات سمعة أميركا على الصعيد العالمي?
قيادة الولايات المتحدة للعالم مهمة للغاية. وأميركا هي البلد الوحيد الذي يمكنه, باعتباره القوي العظمي الوحيدة, حل الكثير من المشكلات العالمية. وفي أعتقادي أن الثقة في هذه القيادة سواء من حيث التأثير والحكمة والشرعية هي مسألة بالغة الاهمية.
ونحن نواجه مشكلة حقيقية على الصعيد الدولي اليوم حيث لا يعتبر كثير من الناس أن الولايات المتحدة تملك الشرعية, ومصداقية السياسات الاميركية خاصة في الشرق الاوسط في أدني مستوياتها في الوقت الراهن. والقيادة لا تعني القدرة على نشر القوات ببساطة في أي وقت .. فهي ليست قيادة مادية بالمعنى الحرفي.. والنموذج الذي تقدمه الولايات المتحدة محط أنظار الشعوب الاخرى لذلك علينا الاسراع باصلاح الامر لانني لا أري الامر مستحيلا أو مشكلة دائمة مع الاعتراف بوجود مشكلة حقيقية.
هل يمكن أرجاع هيمنة الولايات المتحدة على الشؤون الدولية الى غياب نظام جماعي دولي قوي?
نعم, غياب المؤسسات القوية القادرة على قيادة العمل الجماعي الدولي وراء تكريس الدور الاميركي الحالي.. وحرب العراق برهنت على ضعف التنظيم الدولي..والحل هو بناء منظمات دولية متقاطعة في عملها ولديها شرعية المحاسبة على المستوى الدولي. الأمم المتحدة مهمة للتنظيم الدولي لكنها لا تساعد في عولمة الديمقراطية.
لكن هناك جهودا حثيثة لاصلاح مجلس الامن الدولي ?
مع احترامي الشديد للدول الراغبة في الحصول على مقاعد دائمة أو غير دائمة في مجلس الامن, جميع المقترحات الرامية الى اصلاح أو توسيع المجلس سوف تضع العمل الجماعي الدولي في وضع اسوأ مما هو عليه اليوم.
سمعة نظرية "نهاية التاريخ" ليست طيبة في انحاء كثيرة من العالم لان خلاصتها انتصار للديمقراطية الليبرالية وفقا للنسق الاميركي دون مراعاة الثقافات الاخرى?!
هناك فارق كبير بين الليبرالية الديمقراطية وأميركا. ومن الضروري جدا للقارئ أن يفهم انني عندما تحدثت عن نهاية التاريخ وانتصار الديمقراطية الليبرالية لم أكن اروج للنموذج الاميركي للتحديث على وجه التحديد.. ولكنني تناولت مشروع التحديث الذي يأتي من التنوير والنهضة الليبرالية وكثير من دول أوروبا الغربية لديها نموذجا أفضل من نظيره في الولايات المتحدة, ونظرية نهاية التاريخ تقوم على الاعتقاد في أن الديمقراطية الحقيقية هي "الشرعية الأساسية المؤتمنة" التي تنال ثقة المواطنين. وكثير من أزمات الشرق الأوسط تعود الى قصور في الديمقراطية السليمة, وأعتقد أن الناس في هذه المنطقة يريدون بحق الوصول إلى الديمقراطية النموذجية.
لكن هناك مشكلة في تقبل الليبرالية في مناطق من العالم الاسلامي .. بل أن الترويج لها يمكن أن ينقلب الى صراع حضارات في المدى الطويل?
الاسلام يحمل مكونا ليبراليا واضحا. والليبرالية تحتاج الى تعددية وبرلمان. وهناك فرق اسلامية تتوافق مع متطلبات الليبرالية, وهناك البعض الاخر ممن لا يؤمنون بالليبرالية السياسية. لذلك هناك اشكال اكثر تطرفا في التعامل مع التعاليم الاسلامية والتي ترى انها في واقع الامر مهددة من قبل الليبرالية والعكس بالعكس. ولا يجب ان نقلل من حقيقة وجود صراع أفكار في الوقت الراهن لكنه ليس مع الاسلام كدين ولكن مع تفسيرات للدين الاسلامي.
بعد قرابة أربعة أعوام على حوادث 11 سبتمبر .. كيف ترى التقدم الذي أحرزته الولايات المتحدة, رسميا وشعبيا, في دراسة ومعرفة العالمين العربي والاسلامي?
مازالت الدراسات المتصلة بالاسلام والعالم العربي, من خبراتي والواقع العملي الذي نعيشه, فقيرة جدا لاننا لا نستثمر بطريقة تليق بالولايات المتحدة في مجالات البحث والمعرفة مثلما فعلنا في بدايات الحرب الباردة مع الروس. فقد أنفقت الولايات المتحدة أموالا طائلة على دراسة الاتحاد السوفياتي وتعلم اللغة الروسية ودراسة كل قطاع وجماعة في الدولة السوفياتية. وللاسف الولايات المتحدة لم تفعل الشيء نفسه لدراسة ومعرفة العالم الاسلامي لتجنب الممارسات الخاطئة واتمنى أن نفعل ذلك.
ينشر بالتزامن مع وكالة الأهرام للصحافة