2005ليلى
05-09-2021, 09:50 PM
https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2000/01/de2aa2d8-562a-4a41-a7f2-89de09052df9.png?resize=96%2C96
يوسف خضر
9/5/2021
https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2021/03/%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9.jpg?resize=570%2C380
(مواقع التواصل الإجتماعي)
كنت في مكتبتي حين دلفت فتاة في أوائل العشرينيات تمشي على استحياء بخطوات خجلة كأنما تمشي في بركة ماء، وقفت قريبا من المدخل كأنما تخشى أن تقترب أكثر فتغوص قدماها في البركة، وتساءلت في صوت خفيض مرتعش: عند حضرتك كتاب سكن؟
كنت منشغلا فلم أسمع جيدا، هتفت متسائلا "أفندم!".
بذلت جهدا كي ترفع صوتها قليلا وقد مالت بجذعها للأمام لعلي أسمع، دون أن تخطو خطوة واحدة نحوي كأنما التصقت قدماها بالأرض، قالت كتاب سكن.
لريهام حلمي.
نعم
لا، لكنه سيصل في غضون أسبوع.
حسن، سأمر على حضرتك خلال أسبوع.
راقبتها ببصري وهي تسرع خارجة وكأنها تهرب من مجهول، حتى اختفت وسط المارة، لكنها لم تغادر رأسي حتى نهاية اليوم، كان حياء الفتاة نادرا، وإني رجل يقع حياء الفتاة مني موقعا حسنا ويثير في نفسي الغبطة والحبور.
مرت بضعة أيام وصورتها لا تفتأ تلح على ذهني حتى ثار في نفسي العجب، فلم أقابل الفتاة إلا بعض دقيقة، حتى ملامحها غير مكتملة في رأسي، بدأت الصورة تخفت حتى كادت تنتهي، ثم فوجئت برسالة منها على التواصل الاجتماعي، لا أدري كيف وصلت إلى حسابي، هاجت في نفسي الخواطر، أتكون قد بحثت واستقصت حتى توصلت؟ هل حزت في نفسها اهتماما كما حازت؟ هل وهل!؟ غرقت في بحر من الأسئلة شغلني لدقائق عن قراءة الرسالة، ثم انتبهت فجأة، وكرت عيني الرسالة الطويلة في ثوان معدودات، ذكرتني بنفسها -وكأني قد نسيتها- وأنها قد وجدت صفحتي وعرفت أني مختص نفسي، وأنها تعمل متطوعة في عدة أماكن، وتعطي دروسا لطلاب الإعدادي والابتدائي، وأنها تصطدم بمشكلاتهم وتحار في إيجاد حلول، وتعجز عن مساعدتهم في تلبية احتياجاتهم، وتسألني أن أساعدها على ذلك إن كان لدي متسع من الوقت.
أعدت قراءة الرسالة، ثم رددت مرحبا، وتوثقت علاقتي بالفتاة بسرعة ثم بأهلها، وصرت خلال بضعة أسابيع كفرد من العائلة، وانتقل الحديث من مشكلات طلابها إلى مشكلات أخواتها ثم إلى مشكلاتها، واكتملت الصورة في ذهني، فما أكثر ما تتكرر في معظم البيوت.
إنه نوع من الحرمان والجوع العاطفي القاتل، مارسه الأهل على أبنائهم بقصد أو بدون قصد، حرمان لا أمل في إشباعه، ولا سبيل إلى فهمه واحتوائه، حرمان تئن الفتاة تحت ثقله، فتبحث عمن يملؤه، وسرعان ما تجد، وسرعان ما تقع الكارثة.
تقع تحت وطأة هذا الشعور المؤلم فريسة لأول وغد تقابله، تجد نفسها قد تم استغلال حاجتها، تظل تعطي وتتنازل وتتهاوى وتبذل من نفسها وكرامتها الكثير مقابل فتات من العاطفة لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم تنتقل من وغد إلى وغد آخر، ويحدث ما سبق وقد حدث، وتتكرر المأساة.
تدرك الفتاة أنها تبحث عن سراب يتلوه سراب، تعتقد أنها لا تستحق أن تنال ما تشتهي، فتصاب باليأس والمهانة والألم، ثم تبدأ مرحلة جديدة تماما تجف فيها تدريجيا كل آبار العاطفة داخلها حتى يصبح جفافا تاما كاملا، وهنا تفقد إنسانيتها أو تكاد.
كانت الفتاة تعاني ليس فقط من الجوع العاطفي، بل أيضا من قسوة مبالغة وتسفيه وإذلال وابتزاز عاطفي، غير أنها لم تسقط، ولقد كان خجلها المبالغ على الرغم من آفاته مانعا لها من السقوط.
منذ تلك اللحظة سميت فتاتي "الباحثة عن سكن" فلم تكن تبحث عن كتاب بقدر ما كانت تبحث عن معنى، وليست فتاتي وحدها تبحث عن سكنها، بل إن معظم فتيات هذا الجيل باحثات، فسكن بيوتهن متهدم متصدع لا عاطفة ولا حب فيها، فالآباء -تحت ضغط متطلبات الحياة المادية- منشغلون بتهيئة مطالب الأبناء الجسدية، وهم -في غمرة هذا الصراع اليومي على لقمة العيش وتوفير كل الكماليات- نسوا مطالب الروح، وصاروا أشبه بآلات ليس لها سوى هدف واحد تعمل من أجله ليل نهار لا تلتفت إلى سواه، حتى إلى متطلبات أرواحهم هم أنفسهم فضلا عن متطلبات أبنائهم، لا يلتفتون إلى ما يحفظ إنسانيتهم، فقط يهتمون بما يحفظ أجسادهم.
ويوشك هذا الخطر أن يستفحل، وأن يتحول إلى أزمة مجتمعية حقيقية سيصير لها تداعيات كارثية على مستقبل هؤلاء الفتيات والفتية على السواء، وما يسرّع وقوع الكارثة وسائل الإعلام وشبكة المعلومات ووسائل التواصل والوضع الاقتصادي الطاحن، وما ابتلينا به من استبداد سياسي واجتماعي وانغلاق فكري وغياب ديني وأزمة أخلاقية، وكلها عوامل تتضافر لخلق المصيبة.
الكارثة واقعة بالفعل، ولسنا قادرين على منع السقوط الذي بدأ فعلا، فقط نحاول أن نخفف آثاره، ونحمي من نستطيع من الضحايا في الأجيال القادمة.
وأول ما ينبغي البدء به -في نظري- هو التوعية، توعية الآباء والأمهات بحاجات أبنائهم النفسية والروحية، وباحتياجهم من العاطفة والحب والرؤية والتقدير، وأثر ذلك كله في بناء شخصياتهم، وفي نشأتهم نشأة سوية كريمة، ذلك لأن من نشأ مكتفيا من العاطفة، مشبع الروح، فإن السبل إلى استغلاله والعبث بمشاعره تنعدم أو تكاد، أما من افتقد ذلك صار لقمة سائغة.
صارت فتاتي اليوم قوية، صارت تغزل خيوطا تنسج منها بناء قويا لحاضر تتمناه، صارت تشرع في بناء حلمها لما اكتفت، صرت أنظر إليها من بعيد فأتيه فخرا، فأنا قد شاركت في هذا البناء، وما أصعبه من بناء.
https://www.aljazeera.net/blogs/2021/5/9/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%AB%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D8%B3%D9%83%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%82%D9%88%D8%AF-%D9%81%D9%8A
يوسف خضر
9/5/2021
https://www.aljazeera.net/wp-content/uploads/2021/03/%D8%B1%D8%A7%D8%A8%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9.jpg?resize=570%2C380
(مواقع التواصل الإجتماعي)
كنت في مكتبتي حين دلفت فتاة في أوائل العشرينيات تمشي على استحياء بخطوات خجلة كأنما تمشي في بركة ماء، وقفت قريبا من المدخل كأنما تخشى أن تقترب أكثر فتغوص قدماها في البركة، وتساءلت في صوت خفيض مرتعش: عند حضرتك كتاب سكن؟
كنت منشغلا فلم أسمع جيدا، هتفت متسائلا "أفندم!".
بذلت جهدا كي ترفع صوتها قليلا وقد مالت بجذعها للأمام لعلي أسمع، دون أن تخطو خطوة واحدة نحوي كأنما التصقت قدماها بالأرض، قالت كتاب سكن.
لريهام حلمي.
نعم
لا، لكنه سيصل في غضون أسبوع.
حسن، سأمر على حضرتك خلال أسبوع.
راقبتها ببصري وهي تسرع خارجة وكأنها تهرب من مجهول، حتى اختفت وسط المارة، لكنها لم تغادر رأسي حتى نهاية اليوم، كان حياء الفتاة نادرا، وإني رجل يقع حياء الفتاة مني موقعا حسنا ويثير في نفسي الغبطة والحبور.
مرت بضعة أيام وصورتها لا تفتأ تلح على ذهني حتى ثار في نفسي العجب، فلم أقابل الفتاة إلا بعض دقيقة، حتى ملامحها غير مكتملة في رأسي، بدأت الصورة تخفت حتى كادت تنتهي، ثم فوجئت برسالة منها على التواصل الاجتماعي، لا أدري كيف وصلت إلى حسابي، هاجت في نفسي الخواطر، أتكون قد بحثت واستقصت حتى توصلت؟ هل حزت في نفسها اهتماما كما حازت؟ هل وهل!؟ غرقت في بحر من الأسئلة شغلني لدقائق عن قراءة الرسالة، ثم انتبهت فجأة، وكرت عيني الرسالة الطويلة في ثوان معدودات، ذكرتني بنفسها -وكأني قد نسيتها- وأنها قد وجدت صفحتي وعرفت أني مختص نفسي، وأنها تعمل متطوعة في عدة أماكن، وتعطي دروسا لطلاب الإعدادي والابتدائي، وأنها تصطدم بمشكلاتهم وتحار في إيجاد حلول، وتعجز عن مساعدتهم في تلبية احتياجاتهم، وتسألني أن أساعدها على ذلك إن كان لدي متسع من الوقت.
أعدت قراءة الرسالة، ثم رددت مرحبا، وتوثقت علاقتي بالفتاة بسرعة ثم بأهلها، وصرت خلال بضعة أسابيع كفرد من العائلة، وانتقل الحديث من مشكلات طلابها إلى مشكلات أخواتها ثم إلى مشكلاتها، واكتملت الصورة في ذهني، فما أكثر ما تتكرر في معظم البيوت.
إنه نوع من الحرمان والجوع العاطفي القاتل، مارسه الأهل على أبنائهم بقصد أو بدون قصد، حرمان لا أمل في إشباعه، ولا سبيل إلى فهمه واحتوائه، حرمان تئن الفتاة تحت ثقله، فتبحث عمن يملؤه، وسرعان ما تجد، وسرعان ما تقع الكارثة.
تقع تحت وطأة هذا الشعور المؤلم فريسة لأول وغد تقابله، تجد نفسها قد تم استغلال حاجتها، تظل تعطي وتتنازل وتتهاوى وتبذل من نفسها وكرامتها الكثير مقابل فتات من العاطفة لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم تنتقل من وغد إلى وغد آخر، ويحدث ما سبق وقد حدث، وتتكرر المأساة.
تدرك الفتاة أنها تبحث عن سراب يتلوه سراب، تعتقد أنها لا تستحق أن تنال ما تشتهي، فتصاب باليأس والمهانة والألم، ثم تبدأ مرحلة جديدة تماما تجف فيها تدريجيا كل آبار العاطفة داخلها حتى يصبح جفافا تاما كاملا، وهنا تفقد إنسانيتها أو تكاد.
كانت الفتاة تعاني ليس فقط من الجوع العاطفي، بل أيضا من قسوة مبالغة وتسفيه وإذلال وابتزاز عاطفي، غير أنها لم تسقط، ولقد كان خجلها المبالغ على الرغم من آفاته مانعا لها من السقوط.
منذ تلك اللحظة سميت فتاتي "الباحثة عن سكن" فلم تكن تبحث عن كتاب بقدر ما كانت تبحث عن معنى، وليست فتاتي وحدها تبحث عن سكنها، بل إن معظم فتيات هذا الجيل باحثات، فسكن بيوتهن متهدم متصدع لا عاطفة ولا حب فيها، فالآباء -تحت ضغط متطلبات الحياة المادية- منشغلون بتهيئة مطالب الأبناء الجسدية، وهم -في غمرة هذا الصراع اليومي على لقمة العيش وتوفير كل الكماليات- نسوا مطالب الروح، وصاروا أشبه بآلات ليس لها سوى هدف واحد تعمل من أجله ليل نهار لا تلتفت إلى سواه، حتى إلى متطلبات أرواحهم هم أنفسهم فضلا عن متطلبات أبنائهم، لا يلتفتون إلى ما يحفظ إنسانيتهم، فقط يهتمون بما يحفظ أجسادهم.
ويوشك هذا الخطر أن يستفحل، وأن يتحول إلى أزمة مجتمعية حقيقية سيصير لها تداعيات كارثية على مستقبل هؤلاء الفتيات والفتية على السواء، وما يسرّع وقوع الكارثة وسائل الإعلام وشبكة المعلومات ووسائل التواصل والوضع الاقتصادي الطاحن، وما ابتلينا به من استبداد سياسي واجتماعي وانغلاق فكري وغياب ديني وأزمة أخلاقية، وكلها عوامل تتضافر لخلق المصيبة.
الكارثة واقعة بالفعل، ولسنا قادرين على منع السقوط الذي بدأ فعلا، فقط نحاول أن نخفف آثاره، ونحمي من نستطيع من الضحايا في الأجيال القادمة.
وأول ما ينبغي البدء به -في نظري- هو التوعية، توعية الآباء والأمهات بحاجات أبنائهم النفسية والروحية، وباحتياجهم من العاطفة والحب والرؤية والتقدير، وأثر ذلك كله في بناء شخصياتهم، وفي نشأتهم نشأة سوية كريمة، ذلك لأن من نشأ مكتفيا من العاطفة، مشبع الروح، فإن السبل إلى استغلاله والعبث بمشاعره تنعدم أو تكاد، أما من افتقد ذلك صار لقمة سائغة.
صارت فتاتي اليوم قوية، صارت تغزل خيوطا تنسج منها بناء قويا لحاضر تتمناه، صارت تشرع في بناء حلمها لما اكتفت، صرت أنظر إليها من بعيد فأتيه فخرا، فأنا قد شاركت في هذا البناء، وما أصعبه من بناء.
https://www.aljazeera.net/blogs/2021/5/9/%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D8%AD%D8%AB%D8%A9-%D8%B9%D9%86-%D8%B3%D9%83%D9%86-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%81%D9%82%D9%88%D8%AF-%D9%81%D9%8A