سياسى
08-10-2005, 04:48 PM
جاسم المطير
إنها لقضية هامة وحيوية للغاية معرفة الجاني في الجريمة الجماعية المرتكبة في مدينة النجف الأشرف ظهيرة يوم (الجمعة الدامية) قبل حوالي عامين. لا تظهر هذه الأهمية من الخسارة الوطنية الكبرى بفقدان الشخصية الوطنية الإسلامية، السيد محمد باقر الحكيم، بل تظهر أهميتها من اعتبارات أخرى تتحدد بكيف يعيش شعبنا في هذه المرحلة الصعبة وبماذا يفكر بشأن مستقبله وإلى أي هدف يسعى.
كانت جميع الشخصيات الوطنية، السياسية والدينية، المستقلة والحزبية، تدرك أن نشاطها الحالي يجب أن يتحدد بطابع حياة الشعب العراقي وتكوينه السياسي وثقافته العقلانية. من هنا ظهر المسعى الطبيعي لدى محمد باقر الحكيم لدراسة وضع البلد بعد خلاصه من حكم طغاة ٍ حمقى استمر طويلاً ولدراسة طموحات الشعب وحالته السياسية ونظراته واحتياجاته في المستقبل. لقد بدأت لديه مرحلة البحث الشامل والعميق بعيد عودته إلى الوطن في دراسة الظروف المستجدة في الساحة العراقية متوصلاً بنقاء نظرته إلى الواقع تجسدت في خطابه السياسي و الديني، مؤكداً بشكل خاص على ضرورة وأهمية تحطيم الرؤى المتزمتة والجامدة والمتطرفة التي لا تنسجم مع معطيات مرحلة سقوط نظام الفاشية، مما زاد وبنسبة هائلة من إعداد الجماهير الشعبية إعداداً وطنياً شاملاً لخوض معركة إعادة أعمار العراق كهدف أعلى وأسمى. وفد بعث هذا التوجه العقلي آمالاً جديدة لدى الجماهير العراقية كلها بالعمل من أجل وحدة العراق ووحدة شعبه بعد أن تخلص من النظام المشوه الدميم.
قابلت الجماهير الشعبية خطاب السيد الحكيم ونهجه العقلاني بالاهتمام والتعاطف الكبيرين فقد كان يعي أهمية " التصدي للواقع بعدم الانفصال عن الواقع " ولم يكن خطابه غائباً عن الفرضيات الأساسية باستخدام أساليب نضالية من دون أن ينفي النتاج المنطقي للتطور التاريخي الجاري في العراق والمنطقة والعالم ومن دون أن ينفي أهمية تطابق تلك الأساليب مع الشكل القادم إلى الجماهير من الأحزاب الوطنية الأخرى...
وقد قرأ المواطن العراقي، الشيعي والسني، المسيحي واليزيدي، ومن مختلف الطوائف والقوميات خطابات السيد الحكيم، وأعاد قراءتها واضعاً إياها في أساس برنامجه اليومي ونشاطه العملي كي لا يقف مصفداً أمام الأحداث التي لم تهدأ منذ أن خاب إلى الأبد أمل القوى المبادة في عودة نظامها القديم مهما عبثت بالأمن والاستقرار اللذين ينشدهما الشعب العراقي بكل فصائله وقواه وأحزابه الوطنية.
من قتل محمد باقر الحكيم.. لماذا.. من هو المنتفع من هذه الجريمة البشعة.. لماذا يندفع مرتكبو هذه الجريمة نحو وضع ضمائرهم وأنفسهم وإمكانياتهم بيد شيطان الجريمة اليومية، العشوائية والمنظمة، لإنجاز صفقات مخزية مناوئة لكل طموحات شعبنا ..؟ بذلك تحولت تراجيديا باب القبلة في مدينة النجف إلى أسئلة كثي رة وملعونة.
يبقى السؤال الأكبر: هل يمكن قطع الأيدي المجرمة العابثة.. هل تتحول جهود المخلصين من رفاق وأصحاب ومؤيدي محمد باقر الحكيم إلى قوة منظمة متحدة مع جميع القوى الوطنية والأحزاب الأخرى لإيجاد مخرج عملي من المأزق الذي يحاول أعداء كثيرون أن يحبسوا شعبن ا فيه..؟
في مستوى الفكر الشريف والقلب النقي اللذين حملهما محمد باقر الحكيم يمكنني القول أن شعبنا قادر على الوفاء لشهدائه بالحفاظ على وحدته وإحباط مخططات الأعداء القاصدين إشعال فتنة طائفية مقيتة. هو الآن يدرك أن الموقف الحالي يتطلب أرقى أشكال الوعي والعقل واليقظة. فالذي ن أقدموا على ارتكاب جريمة النجف هم أنفسهم الذين ارتكبوا جريمة السفارة الأردنية وهم أنفسهم الذين ارتكبوا جريمة نسف مبنى إقامة موظفي الأمم المتحدة في العراق وهم أنفسهم وراء قتل جنود قوات الاحتلال وهم أنفسهم وراء جرائم السطو والسرقة وتخريب مؤسسات النفط والكهرباء والماء والتلفونات. يمكن القول: تعددت الأيدي والأهداف واحدة.
كثير من الآراء والأفكار الحيوية الجديرة بالانتباه حاولت الإجابة على سؤال: من قتل محمد باقر الحكيم غير أنها لم ترتبط بتحليل سياسي عميق فأهملت الفرق بين الجهة التي ارتكبت الجريمة والجهة المنتفعة أو المستفيدة. فالعنصر الدرامي في " فعل " الجريمة يشير إلى " موهبة " " مجموعة قليلة " من الشباب المعميين المتهورين المدفوعين بالمال أو بالعاطفة الدرامية أو بكليهما، بينما يشير دايلكتيك الحالة السياسية إلى أن المستفيدين من الجريمة هم " مجموعة كبيرة" من أعداء الشعب العراقي تقف وراءها قوى سياسية منظمة، داخلية وخارجية، ولا يمكن استبعاد طاقة بعض الدول في الاستفادة من نتائج العملية السياسية الفوضوية التي قد تؤدي إلى سلسلة من الأخطاء الفاضحة في العلاقات السياسية العراقية إن لم تقدم الحركة الوطنية العراقية، جميعها، نموذجاً يقتدى به من الوعي والوحدة لإيجاد موقف مشترك متنور يوقف تدهور الأوضاع الأمنية كما يريد أعداء الشعب العراقي.. بمعنى آخر نحن بحاجة إلى التفريق بين الحدث وتفسيره، فالمسألة التي نحتاج للتوصل إليها هي " مسألة حقائق " وليست " مسألة آراء " رغم أهمية كل الآراء التي تبقى تبريراً نظرياً لاستنتاجات تظهر من الهواء إن لم تكن مشروطة بتحقيق جنائي استخباري قدير وعميق لكشف ليس فقط مجموعة الجناة بل الشبكة الواسعة التي تحركوا في دائرتها لتنفيذ أطروحتها.
مع بعض الأستثناءات يمكن أن نجد صلة الخيوط المشتركة بما يلي:
تفجير السفارة الأردنية الذي كان هدفه إضعاف الجانب الدبلوماسي العربي في الوضع الأمني.. أعقب ذلك العديد من أعمال الاختطاف للدبلوماسيين العرب والاجانب حيث مقتل السفير المصري أيهاب الشريف ما زال في الاذهان طريا. وتفجير فندق القناة الذي استهدف الجانب الدولي في دور الأمم المتحدة وإضعافه في نصرة الشعب العراقي. كما كان تفجير باب القبلة محاولة ذات أبعاد خبيثة لخلق مواقف داخلية وإقليمية ملتهبة لأعاقة بناء دولة عراقية جديدة، ديمقراطية ومسالمة. هذه التفجيرات الثلاثة ضربت بعنف الأوهام الكسولة التي سادت في صفوف الواقع السياسي للقوى القيادية الجديدة التي تحاول تحريك ماكنة الدولة المعطلة والتي تجاهل خيالها الوطني، مع الأسف، دوي المطالبات الجماهيرية بتوفير مرتكزات الامن الحقيقي القائم على التعبئة الجماهيرية الواسعة..
من الفترة الأولى التي سقط فيها صنم صدام حسين، ازدرى " بعض " الناس، ابتداء من قياديي قوات الاحتلال الأمريكي ورجال مجلس الحكم الانتقالي وقوى الأمن العراقي، بأمكانية تحرك بعض قوى النظام السابق لاقتراف جرائم أشد فظاعة بعد سقوطها المريع والسريع، و حين أعتقد " كثير " من قادة الأحزاب الوطنية أن من السهل القضاء على البقايا المسلحة من قوى النظام الفاشي المدحور، ولم يميزوا بين قدراتهم التخريبية وبين أحلامهم الخيالية. صحيح أن أحلام عودة النظام البائد لن تتحقق فقد أنهاها واقع التطور التاريخي إلى الأبد، لكن المتعة في تخريب العراق، باقتصاده وإنسانه لن تزول بوقت قصير وسوف يتم ابتداع وسائل وأساليب جديدة لتطويل زمن القلق والمعاناة بين الجماهير الشعبية.
كثيرون حاولوا ويحاولون إلقاء الظلال على الجريمة وعلى دوافعها ومرتكبيها. بعضهم يعتبرون " الاحتلال الأميركي " بطلاً لزمان الفوضى والجريمة وتحولت شاشات الكثير من الفضائيات والصحف العربية إلى أمكنة ترتاح فيها النزوات والأمزجة والعواطف والميول كوسيلة لحرف الأنظار عن المجرمين الحقيقيين إضافة إلى أن بعض أجهزة الأعلام العربي وغيرها لا تتورع من دس السم بالعسل وتشجيع أيتام الفاشية على عمليات القتل والتخريب.
رغم ضآلة هذه المحاولات ولا أخلاقيتها وربما لجهالة بعض مروجيها غير أنها نجحت في التشويش على الواقع الأساسي للجريمة كي يبقى الجواب غامضاً على سؤال: من قتل محمد باقر الحكيم..؟
صحيح أن التكوين الفكري والسياسي والديني قد استهوى الجناة لتنفيذ جريمتهم , لكن الأفكار لا تكفي وحدها أن تكون سبباً وحيداً أو دافعاً وحيداً. أن لأفكار الحكيم علاقة مباشرة تماماً بعدد من قضايا الحركة الوطنية العراقية المعاصرة. بل أن الكثير منها يرتبط تماماً بالبعد الزمني لمستقبل العراق.
في هذه السطور لا أتوخى الوصول إلى تقويم لائق لأفكار هذا الرجل التي تبلورت بوضوح سياسي ــ ديني بعد سقوط النظام الفاشي إلى حد بالغ الأهمية في رفض الصيغ الشائعة بالموقف من قوات الاحتلال.. الرجل استمد وعيه ووحيه ومواقفه من رؤية وواقعية الإمكانات والاتجاهات الجديدة التي توفرت أمام الشعب العراقي بعد سقوط الصنم في ساحة الفردوس.
إذاً، فالقتلة هم أعداء مبادئ الكفاح الواقعي التي دعا إليها السيد الحكيم. لم يكن السيد الحكيم واقعياً فذاً في موقفه تجاه قوات الاحتلال بل كان قائداً سياسياً مرتبطاً وثيقاً مع الحركة الجماهيرية الناهضة التي تشهد حواراً واسعاً بطريقة قائمة على الحجج والمواهب الوطنية من أجل بناء دولة ديمقراطية حقة. وقد استطاع أن يجسد مادة الحركة الإسلامية من خلال ربطها بمادة الحركة الجماهيرية العامة مكملاً بذلك الشروط والمتطلبات الضرورية الفائقة والقادرة على ترسيخ وحدة ومطامح الشعب العراقي كله رغم ما تحيطه من أخطار وأخطاء.
هكذا فالذين قتلوه كانوا يريدون قتل الطموح الديمقراطي لدى شعبنا.. وهو الطموح الواسع المنتشر بين صفوف الجماهير الشعبية بشكل لم يسبق له مثيل حيث يلتقي في صف واحد الكثير من دعاة الديمقراطية وفي مقدمتهم الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب الإسلامية وفي أولها المجلس الأعلى وحزب الدعوة مثلما تقف الحركة الكردية وفي مقدمتها حزبا الاتحاد والديمقراطي الكرديان، وغيرها من أحزاب وطنية تتمسك ببرنامج ديمقراطي..
القتلة هم أعداء وحدة الصف الوطني، هم أعداء وحدة العرب والأكراد والتركمان والآشوريين، هم أعداء وحدة الشيوعيين والإسلاميين السائرين بخطى موحدة لبناء وطن جديد يقدس حرية الفرد والعقيدة.
أثار مقتله جدلاً واسعاً، جدلاً أمنياً وجدلاً سياسيا ًوجدلاً دينياً وجدلاً مذهبياً.بل يمكنني القول ان الجدل قد امتد إلى جميع جوانب وجود وحياة الشعب العراقي وتطلعاته من خلال مشاعر وأحاسيس الناس من مختلف الطوائف والأديان ولدى مختلف القوى الوطنية مما دفع الأمور إلى غير مجراها الذي أراده القاتلون. فقد تتوجت الظروف العرضية الناشئة في صفوف المسلمين وجميع الوطنيين العراقيين، بصورة فاجأت الأعداء والأصدقاء، منتظمة بالشكل والمضمون والمغزى حول إرادة الشعب في وحدته الوطنية وإبطال لغم الفتنة الطائفية من الساحة التي أرادت تفجيرها السيارة المفخخة بالنجف الاشرف. فقد أظهرت مشاعر ما بعد اغتيال محمد باقر الحكيم ليس فقط نتاجاً وطنياً وحدوياً بل أظهرت تغيراً كمياً في حدود العلاقة بين العراقيين جميعهم وبين الأحزاب الوطنية جميعها للنهوض بالدور المناسب في المسيرة التاريخية الجديدة للشعب العراقي.
ثمة جواب أخير على سؤال من قتل الحكيم..؟
أنهم أولئك الذين تنافروا، شذر مذر، من لوحة الحياة العراقية الجديدة التي من أهم ملامحها الحرية كميدالية موضوعة على صدر شعبنا وأرادها محمد باقر الحكيم أن تكون رمزاً لأخلاق وعقول الملايين العراقيين الخمسة والعشرين.. هم القتلة نبذهم التاريخ.. بينما روحه الآن، في عليائها، تشفق ولا تغضب على أولئك الذين لا يدركون الخير والشر واللامبالاة..
إنها لقضية هامة وحيوية للغاية معرفة الجاني في الجريمة الجماعية المرتكبة في مدينة النجف الأشرف ظهيرة يوم (الجمعة الدامية) قبل حوالي عامين. لا تظهر هذه الأهمية من الخسارة الوطنية الكبرى بفقدان الشخصية الوطنية الإسلامية، السيد محمد باقر الحكيم، بل تظهر أهميتها من اعتبارات أخرى تتحدد بكيف يعيش شعبنا في هذه المرحلة الصعبة وبماذا يفكر بشأن مستقبله وإلى أي هدف يسعى.
كانت جميع الشخصيات الوطنية، السياسية والدينية، المستقلة والحزبية، تدرك أن نشاطها الحالي يجب أن يتحدد بطابع حياة الشعب العراقي وتكوينه السياسي وثقافته العقلانية. من هنا ظهر المسعى الطبيعي لدى محمد باقر الحكيم لدراسة وضع البلد بعد خلاصه من حكم طغاة ٍ حمقى استمر طويلاً ولدراسة طموحات الشعب وحالته السياسية ونظراته واحتياجاته في المستقبل. لقد بدأت لديه مرحلة البحث الشامل والعميق بعيد عودته إلى الوطن في دراسة الظروف المستجدة في الساحة العراقية متوصلاً بنقاء نظرته إلى الواقع تجسدت في خطابه السياسي و الديني، مؤكداً بشكل خاص على ضرورة وأهمية تحطيم الرؤى المتزمتة والجامدة والمتطرفة التي لا تنسجم مع معطيات مرحلة سقوط نظام الفاشية، مما زاد وبنسبة هائلة من إعداد الجماهير الشعبية إعداداً وطنياً شاملاً لخوض معركة إعادة أعمار العراق كهدف أعلى وأسمى. وفد بعث هذا التوجه العقلي آمالاً جديدة لدى الجماهير العراقية كلها بالعمل من أجل وحدة العراق ووحدة شعبه بعد أن تخلص من النظام المشوه الدميم.
قابلت الجماهير الشعبية خطاب السيد الحكيم ونهجه العقلاني بالاهتمام والتعاطف الكبيرين فقد كان يعي أهمية " التصدي للواقع بعدم الانفصال عن الواقع " ولم يكن خطابه غائباً عن الفرضيات الأساسية باستخدام أساليب نضالية من دون أن ينفي النتاج المنطقي للتطور التاريخي الجاري في العراق والمنطقة والعالم ومن دون أن ينفي أهمية تطابق تلك الأساليب مع الشكل القادم إلى الجماهير من الأحزاب الوطنية الأخرى...
وقد قرأ المواطن العراقي، الشيعي والسني، المسيحي واليزيدي، ومن مختلف الطوائف والقوميات خطابات السيد الحكيم، وأعاد قراءتها واضعاً إياها في أساس برنامجه اليومي ونشاطه العملي كي لا يقف مصفداً أمام الأحداث التي لم تهدأ منذ أن خاب إلى الأبد أمل القوى المبادة في عودة نظامها القديم مهما عبثت بالأمن والاستقرار اللذين ينشدهما الشعب العراقي بكل فصائله وقواه وأحزابه الوطنية.
من قتل محمد باقر الحكيم.. لماذا.. من هو المنتفع من هذه الجريمة البشعة.. لماذا يندفع مرتكبو هذه الجريمة نحو وضع ضمائرهم وأنفسهم وإمكانياتهم بيد شيطان الجريمة اليومية، العشوائية والمنظمة، لإنجاز صفقات مخزية مناوئة لكل طموحات شعبنا ..؟ بذلك تحولت تراجيديا باب القبلة في مدينة النجف إلى أسئلة كثي رة وملعونة.
يبقى السؤال الأكبر: هل يمكن قطع الأيدي المجرمة العابثة.. هل تتحول جهود المخلصين من رفاق وأصحاب ومؤيدي محمد باقر الحكيم إلى قوة منظمة متحدة مع جميع القوى الوطنية والأحزاب الأخرى لإيجاد مخرج عملي من المأزق الذي يحاول أعداء كثيرون أن يحبسوا شعبن ا فيه..؟
في مستوى الفكر الشريف والقلب النقي اللذين حملهما محمد باقر الحكيم يمكنني القول أن شعبنا قادر على الوفاء لشهدائه بالحفاظ على وحدته وإحباط مخططات الأعداء القاصدين إشعال فتنة طائفية مقيتة. هو الآن يدرك أن الموقف الحالي يتطلب أرقى أشكال الوعي والعقل واليقظة. فالذي ن أقدموا على ارتكاب جريمة النجف هم أنفسهم الذين ارتكبوا جريمة السفارة الأردنية وهم أنفسهم الذين ارتكبوا جريمة نسف مبنى إقامة موظفي الأمم المتحدة في العراق وهم أنفسهم وراء قتل جنود قوات الاحتلال وهم أنفسهم وراء جرائم السطو والسرقة وتخريب مؤسسات النفط والكهرباء والماء والتلفونات. يمكن القول: تعددت الأيدي والأهداف واحدة.
كثير من الآراء والأفكار الحيوية الجديرة بالانتباه حاولت الإجابة على سؤال: من قتل محمد باقر الحكيم غير أنها لم ترتبط بتحليل سياسي عميق فأهملت الفرق بين الجهة التي ارتكبت الجريمة والجهة المنتفعة أو المستفيدة. فالعنصر الدرامي في " فعل " الجريمة يشير إلى " موهبة " " مجموعة قليلة " من الشباب المعميين المتهورين المدفوعين بالمال أو بالعاطفة الدرامية أو بكليهما، بينما يشير دايلكتيك الحالة السياسية إلى أن المستفيدين من الجريمة هم " مجموعة كبيرة" من أعداء الشعب العراقي تقف وراءها قوى سياسية منظمة، داخلية وخارجية، ولا يمكن استبعاد طاقة بعض الدول في الاستفادة من نتائج العملية السياسية الفوضوية التي قد تؤدي إلى سلسلة من الأخطاء الفاضحة في العلاقات السياسية العراقية إن لم تقدم الحركة الوطنية العراقية، جميعها، نموذجاً يقتدى به من الوعي والوحدة لإيجاد موقف مشترك متنور يوقف تدهور الأوضاع الأمنية كما يريد أعداء الشعب العراقي.. بمعنى آخر نحن بحاجة إلى التفريق بين الحدث وتفسيره، فالمسألة التي نحتاج للتوصل إليها هي " مسألة حقائق " وليست " مسألة آراء " رغم أهمية كل الآراء التي تبقى تبريراً نظرياً لاستنتاجات تظهر من الهواء إن لم تكن مشروطة بتحقيق جنائي استخباري قدير وعميق لكشف ليس فقط مجموعة الجناة بل الشبكة الواسعة التي تحركوا في دائرتها لتنفيذ أطروحتها.
مع بعض الأستثناءات يمكن أن نجد صلة الخيوط المشتركة بما يلي:
تفجير السفارة الأردنية الذي كان هدفه إضعاف الجانب الدبلوماسي العربي في الوضع الأمني.. أعقب ذلك العديد من أعمال الاختطاف للدبلوماسيين العرب والاجانب حيث مقتل السفير المصري أيهاب الشريف ما زال في الاذهان طريا. وتفجير فندق القناة الذي استهدف الجانب الدولي في دور الأمم المتحدة وإضعافه في نصرة الشعب العراقي. كما كان تفجير باب القبلة محاولة ذات أبعاد خبيثة لخلق مواقف داخلية وإقليمية ملتهبة لأعاقة بناء دولة عراقية جديدة، ديمقراطية ومسالمة. هذه التفجيرات الثلاثة ضربت بعنف الأوهام الكسولة التي سادت في صفوف الواقع السياسي للقوى القيادية الجديدة التي تحاول تحريك ماكنة الدولة المعطلة والتي تجاهل خيالها الوطني، مع الأسف، دوي المطالبات الجماهيرية بتوفير مرتكزات الامن الحقيقي القائم على التعبئة الجماهيرية الواسعة..
من الفترة الأولى التي سقط فيها صنم صدام حسين، ازدرى " بعض " الناس، ابتداء من قياديي قوات الاحتلال الأمريكي ورجال مجلس الحكم الانتقالي وقوى الأمن العراقي، بأمكانية تحرك بعض قوى النظام السابق لاقتراف جرائم أشد فظاعة بعد سقوطها المريع والسريع، و حين أعتقد " كثير " من قادة الأحزاب الوطنية أن من السهل القضاء على البقايا المسلحة من قوى النظام الفاشي المدحور، ولم يميزوا بين قدراتهم التخريبية وبين أحلامهم الخيالية. صحيح أن أحلام عودة النظام البائد لن تتحقق فقد أنهاها واقع التطور التاريخي إلى الأبد، لكن المتعة في تخريب العراق، باقتصاده وإنسانه لن تزول بوقت قصير وسوف يتم ابتداع وسائل وأساليب جديدة لتطويل زمن القلق والمعاناة بين الجماهير الشعبية.
كثيرون حاولوا ويحاولون إلقاء الظلال على الجريمة وعلى دوافعها ومرتكبيها. بعضهم يعتبرون " الاحتلال الأميركي " بطلاً لزمان الفوضى والجريمة وتحولت شاشات الكثير من الفضائيات والصحف العربية إلى أمكنة ترتاح فيها النزوات والأمزجة والعواطف والميول كوسيلة لحرف الأنظار عن المجرمين الحقيقيين إضافة إلى أن بعض أجهزة الأعلام العربي وغيرها لا تتورع من دس السم بالعسل وتشجيع أيتام الفاشية على عمليات القتل والتخريب.
رغم ضآلة هذه المحاولات ولا أخلاقيتها وربما لجهالة بعض مروجيها غير أنها نجحت في التشويش على الواقع الأساسي للجريمة كي يبقى الجواب غامضاً على سؤال: من قتل محمد باقر الحكيم..؟
صحيح أن التكوين الفكري والسياسي والديني قد استهوى الجناة لتنفيذ جريمتهم , لكن الأفكار لا تكفي وحدها أن تكون سبباً وحيداً أو دافعاً وحيداً. أن لأفكار الحكيم علاقة مباشرة تماماً بعدد من قضايا الحركة الوطنية العراقية المعاصرة. بل أن الكثير منها يرتبط تماماً بالبعد الزمني لمستقبل العراق.
في هذه السطور لا أتوخى الوصول إلى تقويم لائق لأفكار هذا الرجل التي تبلورت بوضوح سياسي ــ ديني بعد سقوط النظام الفاشي إلى حد بالغ الأهمية في رفض الصيغ الشائعة بالموقف من قوات الاحتلال.. الرجل استمد وعيه ووحيه ومواقفه من رؤية وواقعية الإمكانات والاتجاهات الجديدة التي توفرت أمام الشعب العراقي بعد سقوط الصنم في ساحة الفردوس.
إذاً، فالقتلة هم أعداء مبادئ الكفاح الواقعي التي دعا إليها السيد الحكيم. لم يكن السيد الحكيم واقعياً فذاً في موقفه تجاه قوات الاحتلال بل كان قائداً سياسياً مرتبطاً وثيقاً مع الحركة الجماهيرية الناهضة التي تشهد حواراً واسعاً بطريقة قائمة على الحجج والمواهب الوطنية من أجل بناء دولة ديمقراطية حقة. وقد استطاع أن يجسد مادة الحركة الإسلامية من خلال ربطها بمادة الحركة الجماهيرية العامة مكملاً بذلك الشروط والمتطلبات الضرورية الفائقة والقادرة على ترسيخ وحدة ومطامح الشعب العراقي كله رغم ما تحيطه من أخطار وأخطاء.
هكذا فالذين قتلوه كانوا يريدون قتل الطموح الديمقراطي لدى شعبنا.. وهو الطموح الواسع المنتشر بين صفوف الجماهير الشعبية بشكل لم يسبق له مثيل حيث يلتقي في صف واحد الكثير من دعاة الديمقراطية وفي مقدمتهم الحزب الشيوعي العراقي والأحزاب الإسلامية وفي أولها المجلس الأعلى وحزب الدعوة مثلما تقف الحركة الكردية وفي مقدمتها حزبا الاتحاد والديمقراطي الكرديان، وغيرها من أحزاب وطنية تتمسك ببرنامج ديمقراطي..
القتلة هم أعداء وحدة الصف الوطني، هم أعداء وحدة العرب والأكراد والتركمان والآشوريين، هم أعداء وحدة الشيوعيين والإسلاميين السائرين بخطى موحدة لبناء وطن جديد يقدس حرية الفرد والعقيدة.
أثار مقتله جدلاً واسعاً، جدلاً أمنياً وجدلاً سياسيا ًوجدلاً دينياً وجدلاً مذهبياً.بل يمكنني القول ان الجدل قد امتد إلى جميع جوانب وجود وحياة الشعب العراقي وتطلعاته من خلال مشاعر وأحاسيس الناس من مختلف الطوائف والأديان ولدى مختلف القوى الوطنية مما دفع الأمور إلى غير مجراها الذي أراده القاتلون. فقد تتوجت الظروف العرضية الناشئة في صفوف المسلمين وجميع الوطنيين العراقيين، بصورة فاجأت الأعداء والأصدقاء، منتظمة بالشكل والمضمون والمغزى حول إرادة الشعب في وحدته الوطنية وإبطال لغم الفتنة الطائفية من الساحة التي أرادت تفجيرها السيارة المفخخة بالنجف الاشرف. فقد أظهرت مشاعر ما بعد اغتيال محمد باقر الحكيم ليس فقط نتاجاً وطنياً وحدوياً بل أظهرت تغيراً كمياً في حدود العلاقة بين العراقيين جميعهم وبين الأحزاب الوطنية جميعها للنهوض بالدور المناسب في المسيرة التاريخية الجديدة للشعب العراقي.
ثمة جواب أخير على سؤال من قتل الحكيم..؟
أنهم أولئك الذين تنافروا، شذر مذر، من لوحة الحياة العراقية الجديدة التي من أهم ملامحها الحرية كميدالية موضوعة على صدر شعبنا وأرادها محمد باقر الحكيم أن تكون رمزاً لأخلاق وعقول الملايين العراقيين الخمسة والعشرين.. هم القتلة نبذهم التاريخ.. بينما روحه الآن، في عليائها، تشفق ولا تغضب على أولئك الذين لا يدركون الخير والشر واللامبالاة..