المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عالم الجواهري الشعري وجدل حياته الصاخب



زوربا
08-07-2005, 12:12 AM
*عبدالرزاق الربيعي / مسقط


قليلة هي الدراسات التي تناولت الجواهري قياسا الى تجربته الشعرية الطويلة ذلك لان " الاقتراب من الجواهري يوشك ان يكون مغامرة يصعب التكهن بنتائجها – كما يقول الدكتور عبداللطيف اطيمش – ليس بصفته عالما شعريا خاصا متشابكا عصفت به احداث مضطربة ولكن ايضا على المستوى الشخصي لكينونة الجواهري وطبيعته البالغة الحساسية.

وحتى الدكتور عبدالحسين شعبان الذي وضع كتاب ( الجواهري جدل الشعر والحياة ) الصادر عن دار الكنوز الادبية ببيروت وهو الباحث والمتتبع لحياة الجواهري وابن مدينته ( النجف الاشرف ) والذي ربطته به علاقة اسرية وصداقة حميمة امتدت لسنوات في بغداد وبراغ ودمشق لم يخفِ خوفه من دخول عالم الجواهري ذلك لانه وجد نفسه "يتحرك في منطقة شائكة , وعلى ارض مزدحمة بالشعر والهم العام " فلم يقف امام شاعر فحسب بل امام حالة شعرية –كما اوضح في تمهيد الكتاب .

واكاد اجزم بالقول ان الجواهري حالة عراقية ليست على المستوى الشعري بل على المستوى الاجتماعي والسياسي لانه دخل في مفاصل الحياة العراقية على امتداد سبعة عقود في القرن الماضي ولاتستطيع ان تجد عراقيا –حتى لو كان اميا- لايحفظ بيتا للجواهري , وبهذا الصدد يقول الدكتور شعبان "كانت قصائد الجواهري ودواوينه , تزين مكتبة العائلة ,حيث كان اعمامي , من مريديه والمتغنين بشعره وتحوي مكتبة الاخوال الكثير من القصاصات والصحف التي تتابع اخباره ونشاطاته الابداعية مثلما كانت دواوينه تتصدرها , وكانوا مع بقية من مثقفين وادباء , لاينفكون يتجادلون بما نظمه الجواهري وما كتبه" وهكذا اصبحت قصائدالجواهري احدى الروافد الروحية واهم ركائز حياة المؤلف وعلامات مضيئة في طريقه –كما يشير الى ذلك في الفصل الاول من الكتاب الذي حمل عنوان " الذاكرة تتشكل :قصيدة وصورة " –

الذي قلب صفحات من ذاكرته الجواهرية موضحا المكانة الرفيعة التي احتلها الجواهري في نفوس العراقيين, ذلك لانه التحم بالحياة السياسية في العراق وكان صوت الناس المدافع عن حقوقهم امام الحكام وحتى عندما غادر العراق وعاش خارجه في الغربة نحو ثلاثة عقود ونصف –كما يقول

المؤلف – الاانه ظل مشدودا الى تلك الجذور بل مستغرقا بالبيئة الاولى ومتحرقا اليها مملوءا بالحيرة والشك والاسئلة والضعف الانساني الباهر ,موظفا كل ذلك في ابداعه وكانه يعيش في صميم الوطن رغم انه كان مغتربا وهو في وطنه , رحالة يجوب الحواضر والبوادي والارياف متنقلا من مدينة الى مدينة ومن حي الى حي ومن دار الى دار لاتعرف روحه الاستقرار ولم يعرف الاستكانة".

لذلك لم يهدأ صراعه مع السلطة متكئا على " سلطته الثقافية " وكثيرا ماحصل اصطدام بين السلطتين , فخرج من البلاط الملكي بعد ثلاث سنوات من العمل فيه واصطدم بعبدالكريم قاسم بعد نشر مقالته " ماذا يجري في الميمونة؟" التي نشرها في صحيفته " الرأي العام " فانفجر الزعيم بوجهه أثناء مقابلة خاصة له باسم اتحاد الادباء العراقيين ، وقد روى لي الشاعر محمد صالح بحر العلوم في اواخر الثمانينات عن لقاء عاصف جرى بين الجواهري والزعيم عبدالكريم قاسم وكان بحر العلوم حاضر هذا اللقاء مع وفد من الادباء وسبب ذلك ان الزعيم اعترض على اختيار الادباء الجواهري رئيسا لهم قائلا :" لانريد في عهد الثورة رئيسا للادباء كان يمدح الملك " فقال الجواهري :" صحيح انني امتدحت الملك لكنني لم اكن اخذ التحية له " مذكرا الزعيم بانه كان ضابطا في البلاط وياخذ التحية للملك , وبلغ سهم الجواهري مقصده فانفجر الزعيم غاضبا "صحيح ان البعض كان ياخذ التحية للملك لكن هذا البعض ناضل حتى اسقطه " وهكذا احتدم الموقف بين الرجلين : الشاعر بسلطته الثقافية ,والحاكم بسلطته السياسية , وكان يحدثه من موقع الند للند متسلحا بمكانته الكبيرة في نفوس العراقيين وكان الحكام يدركوا هذه المكانة جيدا وكان الطريق الى حكم العراق يمر عبر الجواهري , حتى ان الزعيم عبدالكريم قاسم نفسه زار بيت الجواهري في بداية ثورة 14/7/1958–التي يصر الجواهري على تسميتها بالانقلاب كما جاء في حوارات المؤلف معه-

التي احتلت مساحة الفصل الرابع كله على امتداد مائة صفحة من القطع الكبير, هذه الحوارات تصلح ان تكون كتابا منفصلا ولعل ماجاء بها يعد اهم مافي الكتاب الغزير بالمعلومات الشاملة عن الجواهري والنصوص

وهي من اطول الحوارات التي اجريت مع الجواهري واهمهاحيث تضمنت وقفات مهمة في حياته وتجربته الشعرية موضحا الكثير من المواقف المتعلقة بكثير من المواقف الملتبسة تاريخيا , فتاريخ الجواهري هو جزء من تاريخ العراق ككل , ولم تكن تظهر بهذه الصورة لولا ان هذه الحوارات اجريت خلال جلسات طويلة عديدة ابتدات في دمشق اوائل الثمانينات وسجلت على اشرطة ( كاسيت ) في اواسط عام 1985 وكان حينها الجواهري مايزال متقد الذاكرة , وبعد ذلك التاريخ لم تجر احداث مهمة في حياته –سوى قضية اسقاط الجنسية العراقية عام 1994اثر مشاركته مع الشاعر عبدالوهاب البياتي والكاتب سعد البزاز في مهرجان الجنادرية – لذلك جاءت الحوارات لتغطي مساحة مهمة من حياته زاخرة بالاحداث .

والملاحظ ان المؤلف الدكتور عبدالحسين شعبان لم يمس تجربة الجواهري الشعرية بناءً واسلوبا الا مسا خفيفا لالقصور في ادواته النقدية , بل نظر الى عالم الجواهري الشعري نظرة هيبة واحترام , حيث يقول " لقد بات البحث في شعر الجواهري وادبه ,من الامور المعقدة نظرا لغنى التجربة وتنوعها وتعدد صورها الفنية ,فهو يمسك بالريشة ليرسم باللغة اجمل الالحان وتكاد موسيقاه تعزف بانفعالات القصيدة وانتقالاتها الداخلية , وتتوزع في دروب الفن خصوصا انه يتقن حرفة الشاعر ويتطلع نحو الشفق مبحرا ضد التيار ومعه احيانا متمكنا من ادواته مطوعا اللغة لتستجيب لجمالية القصيدة حتى بلغت اللغة على يده مستوى وبعدا راقيين مرهفة ,مشذبة , مصقولة وبالغة الدلالات والتحديد ,وذات ايقاع درامي جديد وخاص وانعكاس ميثولوجي " مضيفا " ويعود مثل هذا الاسلوب الشعري الجمالي الاخاذ الى قدرة الجواهري على استنطاق مكنونات اللغة العربية وتفجير ينابيعها بناء وتركيبا " تاركا لقصائد الجواهري ان تعلن عن نفسها , وقد اتضح حس المؤلف النقدي من خلال مختاراته الشعرية التي جعلها ملحقا بالكتاب محاولا تغطية العمر الابداعي للجواهري " والذي زاد على سبعة عقود ونصف فقد تم اختيار 25قصيدة ومقطوعة كنماذج من عيون شعر الجواهري " وقد اختارها وفقا لمعايير ابداعية وجمالية لتغطي تاريخيا كل عشر سنوات وفي موضوعات منوعة , فمن العشرينات اختار قصيدته الشهيرة ( جربيني ) التي اثارت غضب الملك فيصل الاول عليه والتي يقول بمطلعها :

جربيني من قبل ان تزدريني واذا ماذممتني فاهجريني

ومن الثلاثينيات اختار ( عريانة ) ومن الاربعينيات ( بنت بيروت ) و (ستالينغراد ) و (ابو العلاء المعري ) التي القاها الشاعر في مهرجان (ذكرى ابو العلاء المعري ) الذي اقامه المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1944 والتي يقول في مطلعها :

قف بالمعرة وامسح خدها التربا واستوح من طوق الدنيا بما وهبا

واستوح من طبب الدنيا بحكمته ومن على جرحها من جرحه سكبا

وكذلك اختار ( طرطرا ) القصيدة الساخرة التي حاكت في الوزن القصيدة الدبدبية المشهورة في العهد العباسي و( ذكرى ابو التمن ) التي القيت في الحفل الاربعيني الذي اقيم لذكرى محمد جعفر ابو التمن في 1946و( المقصورة )التي نظمها اواسط عام 1947 و( امنت بالحسين ) التي كتب خمسة عشر بيتا منها بالذهب على الباب الرئيسي الذي يؤدي الى الروق الحسيني , وهذا يعيد لنا امجاد القصيدة العربية في العصر الجاهلي ومايروى عن كتابة (المعلقات ) بماء الذهب وليس من عجب في ذلك فالجواهري ينتمي الى تلك الدوحة الشعرية العظيمة ,و(هاشم الوتري ) التي القاها الجواهري في الحفل التكريمي الذي اقيم للدكتور هاشم الوتري عميد الكلية الطبية والتي كانت نتيجتها اعتقال الشاعر في مديرية التحقيقات الجنائية ورغم انه مزقها بعد الانتهاء من القائها لمحو اثار الدليل الاانعددا من الشباب قام بجمع قصاصات القصيدة الممزقة. ومن مرحلة الخمسينيات اختار المؤلف ( خلفت غاشية الخنوع ورائي) التي القاها في حفل تابين عدنان المالكي عام 1956بدمشق وقد اضطرته هذه القصيدة الى الاقامة في سوريا قرابة عام ونصف بسبب حنق الحكومة العراقية انذاك على الشاعرو(ياام عوف ) التي قالها في راعية غنم نزل ضيفا عندها في ( علي الغربي ) فلقي منها حسن ضيافة فبثها لواعجه , و( كفارة وندم ) التي قالها بعد قصيدته ( ته ياربيع ) التي قالها في حفل تتويج الملك فيصل الثاني وندم على قولها ووصف ذلك انه بهذه القصيدة ( اغتصب ضميره ) حسب تعبيره في الحوار الذي اجراه المؤلف ,ومن الستينيات اختار عبدالحسين شعبان ( لبنان ياخمري وطيبي ) و( يادجلة الخير ) التي كتبها في براغ عام 1962و ( كردستان ياموطن الابطال ) و( ارح ركابك ) التي القاها ببغداد عام 1969 اثر عودته من مغتربه في جيكوسلوفاكيا بعد غياب طال اكثر من سبع سنوات , و( رسالة مملحة ) التي ارسلها الى صالح مهدي عماشو

ومن السبعينات اختار ( لمي لهاتيك لما.....) و ( ازح عن صدرك الزبدا ) التي القاها بمناسبة تكريمه بمنحه جائزة لوتس عام 1975, و( ذكرى عبدالناصر ) ومن مرحلة الثمانينات اختار المؤلف للجواهري اربع قصائد هي (ماذا اغني ) التي ارسلها الى جلال الطالباني رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني , و( ياابن الثمانين ) و( اابا مهند ) التي اهداها الى الدكتور صابر فلحوط نقيب الصحفيين السوريين ,و( ااخي ابا سعد ) التي اهداها الى الدكتور صلاح خالص .

الكتاب بمجمله رحلة ممتعة وشائكة في عالم الجواهري الذي خصه الدكتور طه حسين بلقب " شاعر العرب الاكبر " وقد بذل به المؤلف جهدا كبيرا من اجل الاحاطة بعالمه الزاخر وتاريخه الذي لاينفصل عن تاريخ العراق فالجواهري ذاكرة العراق في احتداماته السياسية ,وصراعاته , وتقلباته , وعنفوانه , وكبريائه , ولم يستطع المؤلف الالمام بجغرافية هذا الطود الشعري الشامخ لو لم يكن قريبا من نبضه ,منصهرا في تجربته الشعرية , معاصرا بعض اشواط حياته ,متحسسا اوجاعه ,مرتبطا معه بعلاقة حميمة .

كل هذه الاسباب جعلت هذا الكتاب متميزا بطرحه غزيرا بمادته ولذلك احتل مكانا واضحا في مكتبة الادب العربي المعاصر.



عبدالرزاق الربيعي
مسقط 6/4/2002