هاشم
08-03-2005, 04:23 PM
محمد الأمين - طهران
حوار مع ممثل الطائفة الزرادتشية في البرلمان الإيراني السيد الموبد كوروش
http://www.elaph.com/elaphweb/Resources/images/Interview/2005/8/thumbnails/T_36c8cac0-98d5-43d1-8a81-17440d11a461.JPG
ولد الموبد كوروش نيكنام في مدينة يزد وسط ايران عام 1954، اجتاز المراحل التقليدية في الدراسات الزرادشتية في ايران ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة الزرادشتية من الهند، له العديد من المؤلفات يعمل أستاذا في اعدادية "فيروز بهرام"، كما يمثل الطائفة الزراتشتية في البرلمان الايراني. يعتبر نيكنام من المثقفين الزرادشتيين الذين أغنوا المكتبة الايرانية بالعديد من المؤلفات، كما ساهم في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن هذه الديانة الموحدة. في طهران كان لنا معه هذا الحوار:* حضرة الموبد في البدء أشكركم على اتاحة هذه الفرصة الطيبة، أود أن أبتدئ معكم الحوار بسؤال بسيط :ماذا يعني الدين والتدين بالنسبة لكم؟
- وردت مفردة الدين لأول مرة في كتاب "الأفستا"الدين هو "الدَيِنه"التي جاءت بمعنى القدرة على تشخيص الحسن من القبح، الضمير الواعي القادر على التمييز، واذا تبصّرنا في هذه الكلمة فسنلاحظ أن الإجابة تكمن في هبة العقل التي منحها الله للانسان، فعبر العلم والمعرفة يميّز الانسان الخير عن الشر، ان يقظة ملَكة الدينة في الانسان تجعل منه كائنا متدينا.
* وفق هذا التعريف هل ترون للدين بعدا باطنيا؟
- نعم الدين أمر شخصي داخلي، جاء الانبياء ليدلوا الناس على الرؤية الصواب واختيلر الطريق القويم، ويحذّروا الناس من الرؤى المغلوطة، المتدين هو من يستطيع قبول الخير بعقله وبصيرته.
* لكل دين جوهر أو نواة مركزية، في المسيحية مثلا هناك الرأفة والتسامح، وفي الاسلام التسليم والتقوى، ماهي السمة الرئيسية الغالبة في الديانة الزرادشتية؟
- برأيي أن أساس وعظمة تعاليم أشوزرتشت تتمثّل في الأتصال ب "أشه"(1). وهي كلمة يصعب أيجاد معادل لها بالفارسية. البعض يرى أنها: الصدق، الطهر، النظام الكوني، التناسق القائم بين أجزاء العالم. على الصعيد الا نساني يُطلق على من يتصل بالأشه" أشَوَن"(2) وهو أمر له علاقة وثيقة بالعرفان الوجودي للانسان، أي التواضع والتسامح والحب والحنان وسائر الخصال التي يستطيع الانسان أن يتحلّى بها ليحقق مكانته في هذا الوجود كانسان متسام. ان مفهوم أشه يقول لنا إن لكل انسان مكانته ودوره في الوجود. بكلمة أخرى وضمن المفهوم الزرادشتي أننا إذا شبّهنا الوجود بفرقة سمفونية كبيرة فان الله هو الذي نظّم أوتار كل الآلات فيها وعلى الانسان بوصفه صاحب القدرة على اختيار الحياة االحسنة وترجيحها على الحياة السيئة ان يسعى ليتناغم ويتناسق مع هذه الفرقة الكبيرة.. يقول الشاعر الايراني الشهير سعدي الشيرازي:
"الغيوم والرياح والشمس والقمر والأفلاك
تعمل كلها من أجل أن تأكل لقمة خبز ولاتظل مستمرا في غفلتك".
موسيقى الوجود الهادئة يعزفها الجميع دون انقطاع. يقول زرادشت : "ايها الانسان اعزف نغمتك على نحو يجعلها منسجمة مع موسيقى الوجود!"
أعتقد أن أساس دعوة زرادشت كانت تهدف الى دعوة البشر من كل الفئات والطبقات وبمعزل عن اللون والعنصر الى طريق الحياة. انه الطريق الاشوئي الذي يسلكه الانسان بمحض إرادته. وفي مواجهة الأشون هناك الـ"دِرِگونت" أي الكذب. اذن هناك طريقان: طريق العقل وتوظيفه وفقا لعلوم الزمان والمكان من اجل اثبات انسانية الانسان.
وطريق استخدام البعد السيئ للعقل وتكبيله بالطبائع الاهريمنية أي الشيطانية.
* هل هناك قاسم مشترك بين الاسلام والمسيحية والزرادشتية؟
يمكن القول انه العمل الصالح، اضافة الى العرفان.
* ذكرت أن الفلسفة الزرادشتية تنهض على "أشوئي" أي التناغم مع مجمل حقيقة الوجود، هلا حدثتنا أكثر عن العرفان الزرادشتي ونمط العلاقة بين الانسان والرب؟
- من أقوال زرادشت في "گاهان" نصل تحديدا الى الخلاصة المذكورة في الآية القرآنية "انا لله وانا اليه راجعون"ذلك أننا صدرنا من الحق وعائدون اليه، كلنا من أصل واحد ونتقرّب اليه وهو نور الحقيقة، اذن ثمة نور في وجود جميع البشر يُسمّى "فَروهَر"(3)، انه نور المعرفة التي من َّ "آهورا مزدا" الله بها علينا ويستوجب ان ننضّجها في دواخلنا الى ان يغمر أرواحنا بالكمال. هذا هو أصل العرفان الزرادشتي وله مراحل سبع تبدأ من هومن"بهمن" وتنهي بسروش.
رسالة زرادشت تتلخّص بضرورة التقرّب الى الله. يعتقد زرادشت أن لله اوصاف كثيرة ولكن ثمة من بينها ست خصال يمكن أن تتوفر في الانسان ايضا، بمعنى أن الانسان قادر على أن يتحلى بست من خصال الله وان يمر بست مراحل فيما تنحصر المرحلة السابعة بالله، والمراحل المشار اليها هي:
"هومن" أي الفكرة الحسنة ("هو" بمعنى الخيروالحُسن و"من" و تعني الفكرة أو النيّة)، يقول الشاعر حافظ الشيرازي:
على ألّاننطق بالسوء ولانقصد الباطل
ولانرى ثياب غيرنا سوداء وثيابنا زرقاء.
أو:
أنا المشهور عند الناس بالعشق
أنا الذي لم ألوّث بصيرتي برؤية السيئات.
وعلى حد تعبير الشاعر الايراني المعاصر سهراب سبهري"
ينبغي غسل العيون والنظر بطريقة أخرى.
الخصلة الثانية هي"إشه" أي ترتيب الوجود على أساس الخير والطُهر والمحبة. أَََشه وهيشته يفرضان على الانسان التحلي بالصفات الاخلاقية ومن اجل بلوغ منزلة الانسان. ومن هنا جاءت تسمية ارديبهشت ثاني أشهر التقويم الايراني.
المرحلة الثالثة هي "خشتَرويريه" التي يُطلق عليها بالفارسية شهريور وهو آخر أشهر الصيف، ويرمز الى السيطرة على النفس والقدرة والارادة. ويُسمى الطور اللاحق "سپنت آرمئيتي" ويعادله بالفارسية "سبندارمذ" أو اسفند وهو آخر أشهر السنة الايرانية ويراد منه التوق الى الحب الطاهر وعشق المقدّس والأمل بالخير. في المرحلة التالية نصل الى "هورتات" أو مرداد الشهر الثالث من فصل الربيع، وهي مرحلة الخلود والأبدية المتأتية من التوحّد بالله ونكران الذات. ان المقام السابع هو مقام الالوهية ويدعى سربوشه أو سروش أي نداء الباطن. يقول حافظ الشيرازي:
ان لم تكن معروفا لن تطّلع على رمز من خلف الستار
نداءات سروش لا تصل الى مسامع الغرباء.
وثمة ما يعادل هذه المراحل السبع المتبعة في العرفان الزرادشتي في ديانة "مهر برستي" أي عبادة الشمس، وهي تبدأ من الغراب الرامز الى كتمان السر وتنتهي بالشيخ أو المرشد. ان الزرادشتية هي من أوائل الديانات التي تطرّقت لفكرة التحلي بالصفات الالهية كذلك فكرة التوحّد بالله.
* إسمح لي أن أسألك عن التثنية في الدين الزرادشتي. هناك تضارب في الآراء حول طبيعة التوحيد في الزرادشتية. ثمة من اعتبرها في مصاف الأديان الابراهيمية فيما رأى فريق آخر أنها ديانة تكرّس التثنية وتؤمن بوجود الهين؟
- ان بواكير نشاط النبي الايراني اشو زرتشت تبرهن على رفضه للدوياليزم أو التثنية. قبله كان الايرانيون يعبدون الهين في آن :أهورا ()[أسوره # في الهند]وفي مواجهته الاله ديف()[دايفا في الهند] انهما الهين الخير والشر وكان الايرانيون يعبدونهما ويقدمون لهما الذبائحوالنذور تجنبا للشر وطلبا للخير والبركة. وقد أطلق زرادشت حركته الاصلاحية حينما دعا لعبادة "مزدا"() الى جانب اهورا خالق الوجود الذي كان الايرانيون يؤمنون به كإله وأعلن للناس عن دعوته لإله واحد إسمه "اهورا مزدا" مز بمعنى الكبير، ودا()بمعنى العالم. يعتقد اشور زرتشت انه لايمكن لله ان يقف وراء الشرور في العالم. وبذلك شطب الشياطين من منزلة الآلهة، وتأسيسا على ذلك لامكان ولامعنى للتثنية في الديانة التي دعا اليها اشور زرتشت، بل لقد أشاع هذا النبي العظيم مبدأ التوحيد، أي الايمان بوجود إله واحد هو مصدر الخير والجمال. ويمكن القول ان اشورزرتشت هو من مؤسسي التوحيد في عصره.
أما سبب الاختلافات التي أشرتم اليها فمرده الى الفهم السطحي لاناشيد اشوزرتشت والتي تسمى بال"كاهان"والتي يتطرق فيها زرتشت لتوأمين متضادين ومتنافسين هما سپند مينيو الروح الطيب المنحاز للخير والعمل الصالح، وانغرا مينيوالروح الخبيث المثابر على فعل الشر، وقد اعتقد البعض خطأ أن هذين التوأمين هما إلهان والحال أن الأمر ليس كذلك فما هما إلا أول مخلوقين خلقهما الله (أهورا مزدا)ويمكن تشبيههما بالقطبين السالب والموجب أوبالفعل ورد الفعلوهما متكاملان من باب الضرورة كالليل والنهار او الابيض والأسود.
بعد الفقرة التي تشير الىالتوأمين المتنافسين، يقول اشوزرتشت ان الانسان العارف ينتفع من هذا الصراع ويحيله الى بناء طاهر ومقدّس يطلق عليه تسمية سبندمينو فيما يحوّله الانسان الشرير الى انغارا مينيو اي الهدم والتدمير، وانغارا مينيو هي التي تسمى بالفارسية الأهريمن أي الشيطان. ومثلما يقول أخواننا المسلمون(اعوذ بالله من الشيطان الرجيم)توخيا لطرد الشر عن أنفسهم، نردد في مناجاتنا اليومية عبارة (شكسته اهريمن باد)أي ليدحر الشيطان، من أجل إقصاء الافكار الشريرة عن اذهاننا.
ماأفهمه هو أن الدوياليزم في المعتقد الزرادشتي انما هو مسؤلية اخلاقية وممارسة سلوكية لايمكن عدها بأي وجه من الأوجه ثنوية لها مصداق في الوجود؟
نعم انه دوياليزم يحتل مكانة مهمة في المنظومة الاخلاقية الممثلة بالخير والصلاح. ان النظام الذي يلمّح اليه اشوزرتشت ينبثق نتيجة الصراع الطبيعي بين هذين التوأمين بمعنى أن ظهور عالم الوجودينجم عن هذه الافعال والردود المعاكسة، ويتحول هذان العنصران في الفكر الانساني الى خير وشر، أي أن الخير والشر لاوجود لهما الا في المجتمعات الانسانية.
* تصدر هذه الافكار من قراءة فلسفية لتعاليم زراتشت، لكن هل الانسان الزرادشتي المتدين الثنوية على هذه الشاكلة؟وهل يؤمن عامة الزرادشتيين الإله اهورا مزدا والشيطان أهريمن وفق الصيغة التي ذكرتها؟
- من المؤسف ان نسبة كبيرة من الزرادشتيين متمسكون بتقاليد موروثة قد لاتكون من صلب المعتقد الزرادشتي وقلما يتمعنون في المضامين الفلسفية في ديانتهم كما يظنون خطأ أن أهريمن هو كائن موجود وقد يجاورهم ويكون قريبا منهم أحيانا ويجهدون من أجل الانتصار عليه وطرده على الأقل، والحال أننا حين نطل على القضية من شرفات الفلسفة سنتأكد من أن انغرا مينيو أي العقل المخرب الذي يعتبر مصدر الشرور ماهو إلا الطبع الشرير الذي يدفع الانسان الى الخراب والفساد وماعلينا إلا الابتعاد عن هذا الطبع، إذن لسنا ازاء شيطان له وجود حقيقي أو غول له أنياب ومخالب.
* يبدو أن موضوعة أهريمن وأهورا مزدا لم تطرح من قبلكم بهذا الوضوح حتى من قبل الضاعين في علم الكلام الزرادشتي. ففي بعض النصوص الپهلوية القديمة نطالع دفاعات جلية عن التثنية في عالم الخلقة ما رسّخت في الأذهان فكرة عبادة الهين في الديانة الزرادشتية هما أهورامزدا وأهريمن ولاجرم انه تصوّر خاطئ إذ لاتوجد في أية مناجاة زرادشتية قديمة أو حديثة مدائح لأهريمننلذلك قد تكون كلمة الثنوية غير صائية ولامتطابقة مع المعتقد الزرادشتي. أود أن أسألكم لماذا تحوّل موضوع أهورامزدا وأهريمن الى قضية خلافية غشكالية الى هذا الحد؟لماذا إعترى الغموض هذه الفكرة حتى في بدايات الدعوة الزرادشتية؟
- أتفقُ مع ما ألمحت إليه. قبل الديانة الزرادشتية كان الناس يتعاملون مع الظواهر المتعارضة الليل البارد المظلم والنهار الدافئ النير، الجفاف والخضرة، الحيوانات المفترسة والحيوانات الأليفة، الزهور والأشواك، كما سبقت أشوزرتشت معتقدات حول الديفات أي الآلهة الشريرة التي يتعّن إستمالتها وارضائها من أجل درأ شرورهم عن البشر. وقد أمن الناس بوجود إله لكل ظاهرة من الظواهر فثمة خالق الخير وخالق الشر. في الديانة الميترائية التي سبقت الزرادشتية، مثلايُلزم تقديم القرابين لكسب رضا العفاريت والغيلان بغية تجنّب الجفاف والأشواك. لقد رفض اشوزرتشت هذا النسق الفكري، وأراد للناس أن يدركوا أن لا طريق خال من الأشواك. وكان من الصعب آنذاك أن يدركوا مغزى كلامه لذا انحسرت افكاره الثورية في دائرة ضيقة من اتباعه، وكسائر الانبياء لم يؤخذ بكلامه في موطنه وانتظر 12 عاما كي يكون له 22 من الأتباع الخُلّص. وثمة روايات تدّعي أنه غضطر للهجرة بحثا عن مكان يستطيع أهله تقييم آرائه من ناحية فلسفية. لقد ظهرت الديانة الزرادشتية خلال حقبة خطيرة ومضطربة من تاريخ البشرية، ونتيجة لانحسار تعاليم اشوزرتشت في دائرة صغيرة توهّم البعض أن الزرادشتيين يعبدون إلهين ويؤمنون بهما وهما في صراع دائم وابدي، لكننا وكما ألمحتم لانعثر إطلاقا في سلوك الزرادشتيين تبجيلا لأهريمن أو الديفات (الشياطين) ولانصا يحض على عبادتهم.
* نستنتج من كلامكم أن الأفكار التي المتعلقة بوجود رؤية ثنوية في الديانة الزرادشتية نجمت عن أخطاء وقعت على مستويين : تحريف الديانة الزرادشتية في الفترات التي تلت أشوزرتشت والاستناجات المغلوطة والتشويه المتعمّد من قبل آخرين لاينتمون الى الدين الزرادشتي؟
- نعم بكل تأكيد.
* كما أستخلص من كلامكم أن المعتقدات الملرتبطة بالثنوية كانت سائدة بين الايرانيين قبل ظهور زرادشت؟، وكان تأثير التعاليم الزرادشتية حاسما إذ لم يعد الايرانيون الى الثنوية بمفهومها المطلق حتى في الفترات التي شهدت تراجعا للمد الزرادشتي ورغم التشويه الذي تعرّضت له المفاهيم التوحيدية في الديانة الزرادشتية. فالتحريف الذي طرأ على مسألة التوحيد تمثّل بتجسيد أهريمن وليس عبادته.
- نعم، هذه هي الرؤية الصائبة التي نحاول التركيز عليها. حينما أدرك أشوزرتشت عبر الالهام الباطني أن الله لايمكن أن يكون شرا أو خالقا للشر خلص الى أن الوجود كله خير وان "أشه" الاله الذي بشّر به زرتشت هو إله واحد ومن هنا كانت انطلاقة التوحيد وعبادة الاله الواحد عند الايرانيين. لقد ألغى عبادة آلهة الخير وآلهة الشر وتراجعت مكانة الاساطير والخرافات من بعده بين الناس فالدين الزرادشتي دين عصري اي ان مايحدث في الواقع يجب أن يكون له تفسير علمي.
* اذن المحور الأساس في رسالة زرتشت هو نسف الاساطير وتوجيه الناس نحو العقلانية والتعقّل؟
- نعم. يقول في أناشيده: من خلال العقل والعلم يمكن إكتشاف حقائق الوجود. وفي بعض الاناشيد يثير طائفة من الأسئلة عن حقائق الوجود ويتركها دون أجوبة، لايلجأ الى الظنون والتخمينات بل يعتقد أن تطور العلوم في الأزمنة القادمة سيجيب عنها تدريجيا.
* حسنا، إسمح لي أن أتطرّق بعض الشئ لمكانة النار في المعتقد الزرادشتي، لفد تم اعتبار الزرادشتيبين وعلى مدار التاريخ من عبدة النار، من التفاسير القرآنية وفي مقدمتها التفسير الطبري الى الماكنة الاعلامية لنظام صدام حسين أبان الحرب العراقية الايرانية... وربما يمكن اعتبار تفسير الميزان للعلامة محمد حسين طباطبائي من الاستثناءات النادرة في هذا المجال فقد فنّد هذه الافكار الخاطئة...
- النار عنصر عظيم القيمة وتفيد أسطورة "هوشنگ" ان الايراننين هم من اكتشفوا النار. ولاعلاقة لها بزرادشت فقد تعلم الايرانيون قبل ولادة هذا النبي العظيم كيف يروّضون النار التي كانوا يفرون منها سابقا كبقية الحيوانات. كان الانسان يخاف من النار المشتعلة في الغابات ,مع ذلك كان يطمح أن يجاور شعلة صغيرة منها في الكهوف خلال فصل الشتاء. حينما عرف الانسان كيف يوقد النار أدرك أنها بحاجة للرعاية كي لاتخمد. عبدة النار ظهروا في الفترة التي تم فيها اكتشاف النار فكانوا يمدونها بالحطب كي لاتنطفئ وحينما شاهدوا ان الرياح والأمطار تطفئها بنوا لها غرفا وأمكنة خاصة لها، وهكذا ولدت المعابد. ومن هنا بدأت مرحلة التحضّر في الحياة الانسانية إذ لم يعد الانسان مرغما على السكن في الكهوف بل وفد الى السهل وأقام فيه وصار مواظبا على حراسة العناصر الأربعة وقد إستعاض عن نور الشمس بالنار وراح يحافظ عليها جوار الينابيع في بيوت النار التي شيّدها من اجل عبادة العناصر الأربعة والتي رأى من مهامه أن يرعى هذه العناصر نقية خالصة. دائما كانت معابد النار تجاور الينابيع والعيون سواء في ايران او الهندولما كان للنار ظهور وحضور أبرز من حيث النور والحرارة وطهي الطعام كان الناس يتوافدون للمعابد لأخذ قسطا منها الى بيوتهم ولذا اكتسب هذا العنصر قدسية أكثر بالمقارنة مع العناصر الاخرى. من المحتمل أن أشوزرتشت كان يذهب في صباه الى المعابد كي يجلب النار الى بيت والدته. وحينما بلغ مرحلة النبوة واكتشف سر الوجود اعتبر الضياء مقام حضور الاله وتجليه، وهذا ما يشبه قول القرأن الكريم"الله نور السموات والأرض"، اننا نناجي الله ونحن متجهون صوب النور ومن هذا النور ضوء الشمس والقمر اما نور القلب فهو الأكثر أهمية، يقول حافظ الشيرازي:
يكرمونني في معابدهم
لأن التي لاتموت أبدا، مخبوءة في القلب.
علينا الاهتمام بنور قلوبنا وارواحنا ونتذكّرها ونحن نلهج بالأذكار والمناجاة. على أن هذه الرؤية لم تسلم من بعض التحريف. فزرادشيوا الهند(وهم من الايرانيين الذين نزحوا الى الهند لاسباب عديدة) وبسبب نوع من التواصل مع الافكار الهندوسية صاروا يقدّسون مجامر النار مثلما يقدّس الهندوس آلهتهم ويقبّلون عتبة وأرض المعبد ويضعون أيديهم على صدورهم أثناء اقترابهم من المجمرة، ولاتعني كل هذه التفاصيل الطقسية عبادة النار. أن الشئ الوحيد الذي أوصى به اشوزرتشت عن النار هو أن نلهج بالذكر والدعوات اثناء السير نحو مصدرها.
* ماذا عن أسلوب التخلّص من الموتى؟ في فترات معينة كان يتم وضع اجسادهم في اقفاص تتواجد فيها حيوانات مفترسة، ويذهب زينر في كتابه "ظهور وأفول الزرادشتية" ان هذه الطريقة هي من بِدع المغان (رجال الدين الزرادشتيين) وليست من صلب التعاليم الزرادشتية؟
- للزمان والمكان دور في هذا الموضوع. من باب المثال لو توفي أحد على ظهر السفينة سيفسد جثمانه وتنتشر منه رائحة كريهة ولابد آنذاك من رميه في البحر اذ لاخيار آخر، ان طريقة دفن الموتى منوطة بالزمان والمكان. للجسد وفق تعاليم اشوزرتشت منزلة خاصة وأهمية كبيرة مثلما للجانب الروحي لكن الاهتمام بهما معا لايكون الا حينما يجتمعان اي أن يكون ثمة نفس داخل الجسد، أما حينما ينفصلان فان الروح هي التي سيكون لها موعد مع مصيرها سيفقد الجسد أهميته، ماقيمة قفص خال من الطيور؟كان الايرانيوون القدامى يحرقون أجساد موتاهم حسب ماورد في الشاهنامة. واحيانها يضعونها على مرتفعات شاهقة لتأكلها طيور الرخم. واحيانا لم تكن هناك الفرصة الكافية لدفن الموتى بسبب الابادات الجماعية او الحروب، ففي معركة يشارك فيها 5000 مقاتل ويقتل فيها 4000 منهم كيق سيتسنى لألف شخص دفن اربعة أضعاف تعدادهم؟ على الطريقة الدارجة؟! لكن هذه الأمور لاصلة لها بمعتقداتنا ولانصادف في تعاليم زرادشت أوامر ترتبط بطريقة الدفن. المسألة المثيرة للجدل هي لماذا تحوّل الزرادشتيون من مراسيم الاقفاص الى طريقة الدفن في التراب، رغم التعاليم التي تحضّهم على عدم تلويثه؟ علما اننا نواظب على عدم تلويث العناصر الأربعة إذ نعتقد أنها مطهِرة وكان لوضع الجثث في الاقفاص ميزة واحدة انها ستصير طعما لطيور الرخم ولن تشغل مساحات من الأرض يمكن استثمارها للزراعة والعمران. وكلما اراد الناس أن يحيوا ذكرى موتاهم فانهم كانوا يقصدون هذه الأقفاص التي نُسميها "هماروانان".
حوار مع ممثل الطائفة الزرادتشية في البرلمان الإيراني السيد الموبد كوروش
http://www.elaph.com/elaphweb/Resources/images/Interview/2005/8/thumbnails/T_36c8cac0-98d5-43d1-8a81-17440d11a461.JPG
ولد الموبد كوروش نيكنام في مدينة يزد وسط ايران عام 1954، اجتاز المراحل التقليدية في الدراسات الزرادشتية في ايران ونال درجة الدكتوراه في الفلسفة الزرادشتية من الهند، له العديد من المؤلفات يعمل أستاذا في اعدادية "فيروز بهرام"، كما يمثل الطائفة الزراتشتية في البرلمان الايراني. يعتبر نيكنام من المثقفين الزرادشتيين الذين أغنوا المكتبة الايرانية بالعديد من المؤلفات، كما ساهم في تصحيح المفاهيم المغلوطة عن هذه الديانة الموحدة. في طهران كان لنا معه هذا الحوار:* حضرة الموبد في البدء أشكركم على اتاحة هذه الفرصة الطيبة، أود أن أبتدئ معكم الحوار بسؤال بسيط :ماذا يعني الدين والتدين بالنسبة لكم؟
- وردت مفردة الدين لأول مرة في كتاب "الأفستا"الدين هو "الدَيِنه"التي جاءت بمعنى القدرة على تشخيص الحسن من القبح، الضمير الواعي القادر على التمييز، واذا تبصّرنا في هذه الكلمة فسنلاحظ أن الإجابة تكمن في هبة العقل التي منحها الله للانسان، فعبر العلم والمعرفة يميّز الانسان الخير عن الشر، ان يقظة ملَكة الدينة في الانسان تجعل منه كائنا متدينا.
* وفق هذا التعريف هل ترون للدين بعدا باطنيا؟
- نعم الدين أمر شخصي داخلي، جاء الانبياء ليدلوا الناس على الرؤية الصواب واختيلر الطريق القويم، ويحذّروا الناس من الرؤى المغلوطة، المتدين هو من يستطيع قبول الخير بعقله وبصيرته.
* لكل دين جوهر أو نواة مركزية، في المسيحية مثلا هناك الرأفة والتسامح، وفي الاسلام التسليم والتقوى، ماهي السمة الرئيسية الغالبة في الديانة الزرادشتية؟
- برأيي أن أساس وعظمة تعاليم أشوزرتشت تتمثّل في الأتصال ب "أشه"(1). وهي كلمة يصعب أيجاد معادل لها بالفارسية. البعض يرى أنها: الصدق، الطهر، النظام الكوني، التناسق القائم بين أجزاء العالم. على الصعيد الا نساني يُطلق على من يتصل بالأشه" أشَوَن"(2) وهو أمر له علاقة وثيقة بالعرفان الوجودي للانسان، أي التواضع والتسامح والحب والحنان وسائر الخصال التي يستطيع الانسان أن يتحلّى بها ليحقق مكانته في هذا الوجود كانسان متسام. ان مفهوم أشه يقول لنا إن لكل انسان مكانته ودوره في الوجود. بكلمة أخرى وضمن المفهوم الزرادشتي أننا إذا شبّهنا الوجود بفرقة سمفونية كبيرة فان الله هو الذي نظّم أوتار كل الآلات فيها وعلى الانسان بوصفه صاحب القدرة على اختيار الحياة االحسنة وترجيحها على الحياة السيئة ان يسعى ليتناغم ويتناسق مع هذه الفرقة الكبيرة.. يقول الشاعر الايراني الشهير سعدي الشيرازي:
"الغيوم والرياح والشمس والقمر والأفلاك
تعمل كلها من أجل أن تأكل لقمة خبز ولاتظل مستمرا في غفلتك".
موسيقى الوجود الهادئة يعزفها الجميع دون انقطاع. يقول زرادشت : "ايها الانسان اعزف نغمتك على نحو يجعلها منسجمة مع موسيقى الوجود!"
أعتقد أن أساس دعوة زرادشت كانت تهدف الى دعوة البشر من كل الفئات والطبقات وبمعزل عن اللون والعنصر الى طريق الحياة. انه الطريق الاشوئي الذي يسلكه الانسان بمحض إرادته. وفي مواجهة الأشون هناك الـ"دِرِگونت" أي الكذب. اذن هناك طريقان: طريق العقل وتوظيفه وفقا لعلوم الزمان والمكان من اجل اثبات انسانية الانسان.
وطريق استخدام البعد السيئ للعقل وتكبيله بالطبائع الاهريمنية أي الشيطانية.
* هل هناك قاسم مشترك بين الاسلام والمسيحية والزرادشتية؟
يمكن القول انه العمل الصالح، اضافة الى العرفان.
* ذكرت أن الفلسفة الزرادشتية تنهض على "أشوئي" أي التناغم مع مجمل حقيقة الوجود، هلا حدثتنا أكثر عن العرفان الزرادشتي ونمط العلاقة بين الانسان والرب؟
- من أقوال زرادشت في "گاهان" نصل تحديدا الى الخلاصة المذكورة في الآية القرآنية "انا لله وانا اليه راجعون"ذلك أننا صدرنا من الحق وعائدون اليه، كلنا من أصل واحد ونتقرّب اليه وهو نور الحقيقة، اذن ثمة نور في وجود جميع البشر يُسمّى "فَروهَر"(3)، انه نور المعرفة التي من َّ "آهورا مزدا" الله بها علينا ويستوجب ان ننضّجها في دواخلنا الى ان يغمر أرواحنا بالكمال. هذا هو أصل العرفان الزرادشتي وله مراحل سبع تبدأ من هومن"بهمن" وتنهي بسروش.
رسالة زرادشت تتلخّص بضرورة التقرّب الى الله. يعتقد زرادشت أن لله اوصاف كثيرة ولكن ثمة من بينها ست خصال يمكن أن تتوفر في الانسان ايضا، بمعنى أن الانسان قادر على أن يتحلى بست من خصال الله وان يمر بست مراحل فيما تنحصر المرحلة السابعة بالله، والمراحل المشار اليها هي:
"هومن" أي الفكرة الحسنة ("هو" بمعنى الخيروالحُسن و"من" و تعني الفكرة أو النيّة)، يقول الشاعر حافظ الشيرازي:
على ألّاننطق بالسوء ولانقصد الباطل
ولانرى ثياب غيرنا سوداء وثيابنا زرقاء.
أو:
أنا المشهور عند الناس بالعشق
أنا الذي لم ألوّث بصيرتي برؤية السيئات.
وعلى حد تعبير الشاعر الايراني المعاصر سهراب سبهري"
ينبغي غسل العيون والنظر بطريقة أخرى.
الخصلة الثانية هي"إشه" أي ترتيب الوجود على أساس الخير والطُهر والمحبة. أَََشه وهيشته يفرضان على الانسان التحلي بالصفات الاخلاقية ومن اجل بلوغ منزلة الانسان. ومن هنا جاءت تسمية ارديبهشت ثاني أشهر التقويم الايراني.
المرحلة الثالثة هي "خشتَرويريه" التي يُطلق عليها بالفارسية شهريور وهو آخر أشهر الصيف، ويرمز الى السيطرة على النفس والقدرة والارادة. ويُسمى الطور اللاحق "سپنت آرمئيتي" ويعادله بالفارسية "سبندارمذ" أو اسفند وهو آخر أشهر السنة الايرانية ويراد منه التوق الى الحب الطاهر وعشق المقدّس والأمل بالخير. في المرحلة التالية نصل الى "هورتات" أو مرداد الشهر الثالث من فصل الربيع، وهي مرحلة الخلود والأبدية المتأتية من التوحّد بالله ونكران الذات. ان المقام السابع هو مقام الالوهية ويدعى سربوشه أو سروش أي نداء الباطن. يقول حافظ الشيرازي:
ان لم تكن معروفا لن تطّلع على رمز من خلف الستار
نداءات سروش لا تصل الى مسامع الغرباء.
وثمة ما يعادل هذه المراحل السبع المتبعة في العرفان الزرادشتي في ديانة "مهر برستي" أي عبادة الشمس، وهي تبدأ من الغراب الرامز الى كتمان السر وتنتهي بالشيخ أو المرشد. ان الزرادشتية هي من أوائل الديانات التي تطرّقت لفكرة التحلي بالصفات الالهية كذلك فكرة التوحّد بالله.
* إسمح لي أن أسألك عن التثنية في الدين الزرادشتي. هناك تضارب في الآراء حول طبيعة التوحيد في الزرادشتية. ثمة من اعتبرها في مصاف الأديان الابراهيمية فيما رأى فريق آخر أنها ديانة تكرّس التثنية وتؤمن بوجود الهين؟
- ان بواكير نشاط النبي الايراني اشو زرتشت تبرهن على رفضه للدوياليزم أو التثنية. قبله كان الايرانيون يعبدون الهين في آن :أهورا ()[أسوره # في الهند]وفي مواجهته الاله ديف()[دايفا في الهند] انهما الهين الخير والشر وكان الايرانيون يعبدونهما ويقدمون لهما الذبائحوالنذور تجنبا للشر وطلبا للخير والبركة. وقد أطلق زرادشت حركته الاصلاحية حينما دعا لعبادة "مزدا"() الى جانب اهورا خالق الوجود الذي كان الايرانيون يؤمنون به كإله وأعلن للناس عن دعوته لإله واحد إسمه "اهورا مزدا" مز بمعنى الكبير، ودا()بمعنى العالم. يعتقد اشور زرتشت انه لايمكن لله ان يقف وراء الشرور في العالم. وبذلك شطب الشياطين من منزلة الآلهة، وتأسيسا على ذلك لامكان ولامعنى للتثنية في الديانة التي دعا اليها اشور زرتشت، بل لقد أشاع هذا النبي العظيم مبدأ التوحيد، أي الايمان بوجود إله واحد هو مصدر الخير والجمال. ويمكن القول ان اشورزرتشت هو من مؤسسي التوحيد في عصره.
أما سبب الاختلافات التي أشرتم اليها فمرده الى الفهم السطحي لاناشيد اشوزرتشت والتي تسمى بال"كاهان"والتي يتطرق فيها زرتشت لتوأمين متضادين ومتنافسين هما سپند مينيو الروح الطيب المنحاز للخير والعمل الصالح، وانغرا مينيوالروح الخبيث المثابر على فعل الشر، وقد اعتقد البعض خطأ أن هذين التوأمين هما إلهان والحال أن الأمر ليس كذلك فما هما إلا أول مخلوقين خلقهما الله (أهورا مزدا)ويمكن تشبيههما بالقطبين السالب والموجب أوبالفعل ورد الفعلوهما متكاملان من باب الضرورة كالليل والنهار او الابيض والأسود.
بعد الفقرة التي تشير الىالتوأمين المتنافسين، يقول اشوزرتشت ان الانسان العارف ينتفع من هذا الصراع ويحيله الى بناء طاهر ومقدّس يطلق عليه تسمية سبندمينو فيما يحوّله الانسان الشرير الى انغارا مينيو اي الهدم والتدمير، وانغارا مينيو هي التي تسمى بالفارسية الأهريمن أي الشيطان. ومثلما يقول أخواننا المسلمون(اعوذ بالله من الشيطان الرجيم)توخيا لطرد الشر عن أنفسهم، نردد في مناجاتنا اليومية عبارة (شكسته اهريمن باد)أي ليدحر الشيطان، من أجل إقصاء الافكار الشريرة عن اذهاننا.
ماأفهمه هو أن الدوياليزم في المعتقد الزرادشتي انما هو مسؤلية اخلاقية وممارسة سلوكية لايمكن عدها بأي وجه من الأوجه ثنوية لها مصداق في الوجود؟
نعم انه دوياليزم يحتل مكانة مهمة في المنظومة الاخلاقية الممثلة بالخير والصلاح. ان النظام الذي يلمّح اليه اشوزرتشت ينبثق نتيجة الصراع الطبيعي بين هذين التوأمين بمعنى أن ظهور عالم الوجودينجم عن هذه الافعال والردود المعاكسة، ويتحول هذان العنصران في الفكر الانساني الى خير وشر، أي أن الخير والشر لاوجود لهما الا في المجتمعات الانسانية.
* تصدر هذه الافكار من قراءة فلسفية لتعاليم زراتشت، لكن هل الانسان الزرادشتي المتدين الثنوية على هذه الشاكلة؟وهل يؤمن عامة الزرادشتيين الإله اهورا مزدا والشيطان أهريمن وفق الصيغة التي ذكرتها؟
- من المؤسف ان نسبة كبيرة من الزرادشتيين متمسكون بتقاليد موروثة قد لاتكون من صلب المعتقد الزرادشتي وقلما يتمعنون في المضامين الفلسفية في ديانتهم كما يظنون خطأ أن أهريمن هو كائن موجود وقد يجاورهم ويكون قريبا منهم أحيانا ويجهدون من أجل الانتصار عليه وطرده على الأقل، والحال أننا حين نطل على القضية من شرفات الفلسفة سنتأكد من أن انغرا مينيو أي العقل المخرب الذي يعتبر مصدر الشرور ماهو إلا الطبع الشرير الذي يدفع الانسان الى الخراب والفساد وماعلينا إلا الابتعاد عن هذا الطبع، إذن لسنا ازاء شيطان له وجود حقيقي أو غول له أنياب ومخالب.
* يبدو أن موضوعة أهريمن وأهورا مزدا لم تطرح من قبلكم بهذا الوضوح حتى من قبل الضاعين في علم الكلام الزرادشتي. ففي بعض النصوص الپهلوية القديمة نطالع دفاعات جلية عن التثنية في عالم الخلقة ما رسّخت في الأذهان فكرة عبادة الهين في الديانة الزرادشتية هما أهورامزدا وأهريمن ولاجرم انه تصوّر خاطئ إذ لاتوجد في أية مناجاة زرادشتية قديمة أو حديثة مدائح لأهريمننلذلك قد تكون كلمة الثنوية غير صائية ولامتطابقة مع المعتقد الزرادشتي. أود أن أسألكم لماذا تحوّل موضوع أهورامزدا وأهريمن الى قضية خلافية غشكالية الى هذا الحد؟لماذا إعترى الغموض هذه الفكرة حتى في بدايات الدعوة الزرادشتية؟
- أتفقُ مع ما ألمحت إليه. قبل الديانة الزرادشتية كان الناس يتعاملون مع الظواهر المتعارضة الليل البارد المظلم والنهار الدافئ النير، الجفاف والخضرة، الحيوانات المفترسة والحيوانات الأليفة، الزهور والأشواك، كما سبقت أشوزرتشت معتقدات حول الديفات أي الآلهة الشريرة التي يتعّن إستمالتها وارضائها من أجل درأ شرورهم عن البشر. وقد أمن الناس بوجود إله لكل ظاهرة من الظواهر فثمة خالق الخير وخالق الشر. في الديانة الميترائية التي سبقت الزرادشتية، مثلايُلزم تقديم القرابين لكسب رضا العفاريت والغيلان بغية تجنّب الجفاف والأشواك. لقد رفض اشوزرتشت هذا النسق الفكري، وأراد للناس أن يدركوا أن لا طريق خال من الأشواك. وكان من الصعب آنذاك أن يدركوا مغزى كلامه لذا انحسرت افكاره الثورية في دائرة ضيقة من اتباعه، وكسائر الانبياء لم يؤخذ بكلامه في موطنه وانتظر 12 عاما كي يكون له 22 من الأتباع الخُلّص. وثمة روايات تدّعي أنه غضطر للهجرة بحثا عن مكان يستطيع أهله تقييم آرائه من ناحية فلسفية. لقد ظهرت الديانة الزرادشتية خلال حقبة خطيرة ومضطربة من تاريخ البشرية، ونتيجة لانحسار تعاليم اشوزرتشت في دائرة صغيرة توهّم البعض أن الزرادشتيين يعبدون إلهين ويؤمنون بهما وهما في صراع دائم وابدي، لكننا وكما ألمحتم لانعثر إطلاقا في سلوك الزرادشتيين تبجيلا لأهريمن أو الديفات (الشياطين) ولانصا يحض على عبادتهم.
* نستنتج من كلامكم أن الأفكار التي المتعلقة بوجود رؤية ثنوية في الديانة الزرادشتية نجمت عن أخطاء وقعت على مستويين : تحريف الديانة الزرادشتية في الفترات التي تلت أشوزرتشت والاستناجات المغلوطة والتشويه المتعمّد من قبل آخرين لاينتمون الى الدين الزرادشتي؟
- نعم بكل تأكيد.
* كما أستخلص من كلامكم أن المعتقدات الملرتبطة بالثنوية كانت سائدة بين الايرانيين قبل ظهور زرادشت؟، وكان تأثير التعاليم الزرادشتية حاسما إذ لم يعد الايرانيون الى الثنوية بمفهومها المطلق حتى في الفترات التي شهدت تراجعا للمد الزرادشتي ورغم التشويه الذي تعرّضت له المفاهيم التوحيدية في الديانة الزرادشتية. فالتحريف الذي طرأ على مسألة التوحيد تمثّل بتجسيد أهريمن وليس عبادته.
- نعم، هذه هي الرؤية الصائبة التي نحاول التركيز عليها. حينما أدرك أشوزرتشت عبر الالهام الباطني أن الله لايمكن أن يكون شرا أو خالقا للشر خلص الى أن الوجود كله خير وان "أشه" الاله الذي بشّر به زرتشت هو إله واحد ومن هنا كانت انطلاقة التوحيد وعبادة الاله الواحد عند الايرانيين. لقد ألغى عبادة آلهة الخير وآلهة الشر وتراجعت مكانة الاساطير والخرافات من بعده بين الناس فالدين الزرادشتي دين عصري اي ان مايحدث في الواقع يجب أن يكون له تفسير علمي.
* اذن المحور الأساس في رسالة زرتشت هو نسف الاساطير وتوجيه الناس نحو العقلانية والتعقّل؟
- نعم. يقول في أناشيده: من خلال العقل والعلم يمكن إكتشاف حقائق الوجود. وفي بعض الاناشيد يثير طائفة من الأسئلة عن حقائق الوجود ويتركها دون أجوبة، لايلجأ الى الظنون والتخمينات بل يعتقد أن تطور العلوم في الأزمنة القادمة سيجيب عنها تدريجيا.
* حسنا، إسمح لي أن أتطرّق بعض الشئ لمكانة النار في المعتقد الزرادشتي، لفد تم اعتبار الزرادشتيبين وعلى مدار التاريخ من عبدة النار، من التفاسير القرآنية وفي مقدمتها التفسير الطبري الى الماكنة الاعلامية لنظام صدام حسين أبان الحرب العراقية الايرانية... وربما يمكن اعتبار تفسير الميزان للعلامة محمد حسين طباطبائي من الاستثناءات النادرة في هذا المجال فقد فنّد هذه الافكار الخاطئة...
- النار عنصر عظيم القيمة وتفيد أسطورة "هوشنگ" ان الايراننين هم من اكتشفوا النار. ولاعلاقة لها بزرادشت فقد تعلم الايرانيون قبل ولادة هذا النبي العظيم كيف يروّضون النار التي كانوا يفرون منها سابقا كبقية الحيوانات. كان الانسان يخاف من النار المشتعلة في الغابات ,مع ذلك كان يطمح أن يجاور شعلة صغيرة منها في الكهوف خلال فصل الشتاء. حينما عرف الانسان كيف يوقد النار أدرك أنها بحاجة للرعاية كي لاتخمد. عبدة النار ظهروا في الفترة التي تم فيها اكتشاف النار فكانوا يمدونها بالحطب كي لاتنطفئ وحينما شاهدوا ان الرياح والأمطار تطفئها بنوا لها غرفا وأمكنة خاصة لها، وهكذا ولدت المعابد. ومن هنا بدأت مرحلة التحضّر في الحياة الانسانية إذ لم يعد الانسان مرغما على السكن في الكهوف بل وفد الى السهل وأقام فيه وصار مواظبا على حراسة العناصر الأربعة وقد إستعاض عن نور الشمس بالنار وراح يحافظ عليها جوار الينابيع في بيوت النار التي شيّدها من اجل عبادة العناصر الأربعة والتي رأى من مهامه أن يرعى هذه العناصر نقية خالصة. دائما كانت معابد النار تجاور الينابيع والعيون سواء في ايران او الهندولما كان للنار ظهور وحضور أبرز من حيث النور والحرارة وطهي الطعام كان الناس يتوافدون للمعابد لأخذ قسطا منها الى بيوتهم ولذا اكتسب هذا العنصر قدسية أكثر بالمقارنة مع العناصر الاخرى. من المحتمل أن أشوزرتشت كان يذهب في صباه الى المعابد كي يجلب النار الى بيت والدته. وحينما بلغ مرحلة النبوة واكتشف سر الوجود اعتبر الضياء مقام حضور الاله وتجليه، وهذا ما يشبه قول القرأن الكريم"الله نور السموات والأرض"، اننا نناجي الله ونحن متجهون صوب النور ومن هذا النور ضوء الشمس والقمر اما نور القلب فهو الأكثر أهمية، يقول حافظ الشيرازي:
يكرمونني في معابدهم
لأن التي لاتموت أبدا، مخبوءة في القلب.
علينا الاهتمام بنور قلوبنا وارواحنا ونتذكّرها ونحن نلهج بالأذكار والمناجاة. على أن هذه الرؤية لم تسلم من بعض التحريف. فزرادشيوا الهند(وهم من الايرانيين الذين نزحوا الى الهند لاسباب عديدة) وبسبب نوع من التواصل مع الافكار الهندوسية صاروا يقدّسون مجامر النار مثلما يقدّس الهندوس آلهتهم ويقبّلون عتبة وأرض المعبد ويضعون أيديهم على صدورهم أثناء اقترابهم من المجمرة، ولاتعني كل هذه التفاصيل الطقسية عبادة النار. أن الشئ الوحيد الذي أوصى به اشوزرتشت عن النار هو أن نلهج بالذكر والدعوات اثناء السير نحو مصدرها.
* ماذا عن أسلوب التخلّص من الموتى؟ في فترات معينة كان يتم وضع اجسادهم في اقفاص تتواجد فيها حيوانات مفترسة، ويذهب زينر في كتابه "ظهور وأفول الزرادشتية" ان هذه الطريقة هي من بِدع المغان (رجال الدين الزرادشتيين) وليست من صلب التعاليم الزرادشتية؟
- للزمان والمكان دور في هذا الموضوع. من باب المثال لو توفي أحد على ظهر السفينة سيفسد جثمانه وتنتشر منه رائحة كريهة ولابد آنذاك من رميه في البحر اذ لاخيار آخر، ان طريقة دفن الموتى منوطة بالزمان والمكان. للجسد وفق تعاليم اشوزرتشت منزلة خاصة وأهمية كبيرة مثلما للجانب الروحي لكن الاهتمام بهما معا لايكون الا حينما يجتمعان اي أن يكون ثمة نفس داخل الجسد، أما حينما ينفصلان فان الروح هي التي سيكون لها موعد مع مصيرها سيفقد الجسد أهميته، ماقيمة قفص خال من الطيور؟كان الايرانيوون القدامى يحرقون أجساد موتاهم حسب ماورد في الشاهنامة. واحيانها يضعونها على مرتفعات شاهقة لتأكلها طيور الرخم. واحيانا لم تكن هناك الفرصة الكافية لدفن الموتى بسبب الابادات الجماعية او الحروب، ففي معركة يشارك فيها 5000 مقاتل ويقتل فيها 4000 منهم كيق سيتسنى لألف شخص دفن اربعة أضعاف تعدادهم؟ على الطريقة الدارجة؟! لكن هذه الأمور لاصلة لها بمعتقداتنا ولانصادف في تعاليم زرادشت أوامر ترتبط بطريقة الدفن. المسألة المثيرة للجدل هي لماذا تحوّل الزرادشتيون من مراسيم الاقفاص الى طريقة الدفن في التراب، رغم التعاليم التي تحضّهم على عدم تلويثه؟ علما اننا نواظب على عدم تلويث العناصر الأربعة إذ نعتقد أنها مطهِرة وكان لوضع الجثث في الاقفاص ميزة واحدة انها ستصير طعما لطيور الرخم ولن تشغل مساحات من الأرض يمكن استثمارها للزراعة والعمران. وكلما اراد الناس أن يحيوا ذكرى موتاهم فانهم كانوا يقصدون هذه الأقفاص التي نُسميها "هماروانان".