المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجهاديون بين البداوة الثقافية والحداثة التقنية .....حسن شامي



زوربا
08-02-2005, 04:27 PM
حسن شامي

لم يعد هناك أدنى شك في الطابع العالمي (بالأحرى العولمي أو المعولم) للإرهاب الأصولي الزاعم لنفسه الحيازة المطلقة على الصفة الإسلامية وعلى هوية الجماعة العالمية الحاملة لهذه الصفة، بهذا القدر أو ذاك. فجغرافية التفجيرات الإرهابية وتنقلها بين بالي والدار البيضاء في المغرب الأقصى، ومدريد ولندن وشرم الشيخ والعربية السعودية وبعض مناطق أفريقيا السوداء، من دون أن ننسى بالطبع الولايات المتحدة الأميركية، ناهيك عن البؤر الساخنة مثل العراق وأفغانستان وفلسطين، هذه الجغرافية باتت من الاتساع بمكان الى حد يجيز الانطباع بوجود شبكة معولمة تسعى الى القاء شباك عنفها على جملة هذه المناطق والبلدان.

والعنف هنا يغلب عليه في أحيان كثيرة استهداف المدنيين وطالبي الرزق وعابري السبيل باعتبار انهم يقيمون في أرض حرب، وبأنهم الدروع المدنية التي يحتمي خلفها أهل سياسات جائرة أو متواطئة مع جور عالمي أو معولم مسكون بهاجس إذلال أمة الإسلام المفترضة واستباحة أراضيها وأقاليمها. وقد ذهب الكثير من خبراء الاسلاموية الجذرية الى ترجيح الظن بأن يكون تنظيم «القاعدة» مجرد اسم لفيديرالية من المجموعات ذات المشارب المختلفة والمستقلة عن بعضها بعضاً، أي انها لا تنضوي في هيئة أو هيكلية ذات طابع حزبي أو تنظيمي من طراز الأحزاب والحركات التي ازدهرت أيام الحرب الباردة. ويحملنا هذا القول على تقدير أن يكون المثال العصري والحديث لهذه الشبكة هنو الشركة المتعددة الجنسيات التي كان مقرها الأول في أفغانستان حيث تشكّلت «أمة» الأفغان العرب، وترسخت ملامحها على نحو خاص في ظل حكومة حركة «طالبان». ومن نافل القول ان المثال المذكور يعزز من حظوظ خصخصة الإسلام السياسي الجذري بحيث يمكن أن تزدهر في كنفها حركات تعتبر نفسها فروعاً تنتمي الى أصل واحد.

يُخيّل للوهلة الأولى ان ما يجمع بين المجموعات الموصوفة هو انخراطها العنيف في انتاج عولمة اسلامية تكون نقيضاً للعولمة الجارية بقيادة الولايات المتحدة. على ان التدقيق في بعض الوقائع وفي لغة وعبارات الخطاب السلفي الجهادي، من شأنه أن يلقي الضوء على النصف الآخر للمثال الذي يصطنعه الجهاديون لأنفسهم ويسعون لفرضه على الآخرين. فلنقل بسرعة، وان بشيء من الاختزال، إن الوجه الآخر هذا وهو الأكثر اتصالاً بالنسيج الاجتماعي، القائم والمتخيل في آن معاً، للجهاديين السلفيين إنما هو البداوة. والبداوة، ههنا، ليست محمولة على المعنى الذي ترطن به ألسنة حداثويين حديثي النعمة بالحضارة وفنونها بحيث يكافئون اضطراب حداثتهم بإطلاق حكم إجمالي ذي طابع أخلاقي وجمالي يستقبح البداوة جملة وتفصيلاً.

سيكون أقرب للغرض أن نتناول البداوة في المعنى الخلدوني (نسبة الى صاحب المقدمة ابن خلدون) للكلمة التي أصبحت بفضله تمتلك كثافة المفهوم السوسيولوجي لهذا الطور من أطوار العمران البشري.

فلنسرد، في هذا السياق، بعض الوقائع. فغداة المذبحة التي أوقعت 88 قتيلاً في شرم الشيخ، ذكرت الصحف ان تحقيقات أجهزة الأمن المصرية ومطارداتها للقبض على الجناة أفضت الى اعتقالات في سيناء، وأن المسؤولين المصريين التقوا زعماء عشائر وقبائل في سيناء للاتفاق معهم على معاونة الشرطة. وأفادت مصادر أمنية مصرية ان اللقاء كان طيباً وان الهدف منه اقناعهم بأن خطر الإرهاب يضر الجميع وان تسليم المطلوبين يساهم في تفادي اعتقال من ليس لهم صلة بالأحداث.

على ان الصحف تحدثت، في اليوم التالي للقاء الطيب، عن وقوع معارك بين قوات الأمن وبدو في سيناء عند قريتي الرويسات وخروم القريبتين من شرم الشيخ. كما تحدثت عن إعلان مجموعتين غير معروفتين مسؤوليتهما عن التفجيرات. المجموعة الأولى أطلقت على نفسها اسم «مجاهدو مصر». أما المجموعة الثانية، وهي تسترعي الانتباه، فقد أطلقت على نفسها اسم «كتائب شهداء سيناء» وقالت في بيانها ان «النظام الحاكم في مصر أوغل في حق أهل سيناء وتمادى في العدوان عليهم بعد هجمات طابا المباركة»، وانها اختارت «شرم الشيخ بالذات لما لها من قيمة كأكبر مصدر للدخل السياحي لهذا النظام». ننتقل آلاف الكيلومترات لنشير الى أن منطقة الاحتماء المفضلة لرجال «القاعدة» و»طالبان» في أفغانستان، هي بالضبط المنطقة الحدودية ذات السيطرة القبلية بين أفغانستان وباكستان.

ونشير كذلك الى أن الكثير من الجهاديين الزرقاويين والسعوديين يتحدرون من أصول قبلية بدوية. وإذا أضفنا الى اللوحة هذه عبارات الجهاديين السلفيين عن «غزوة لندن» وقبلها «غزوة مانهاتن» وحرص البيانات القتالية على انشاء شجرة أنساب لمجموعاتها تحمل أسماء القادة والدعاة مثل عبدالله عزام وأبو حفص المصري والزرقاوي وغيرهم، يصبح واضحاً أن مثال الأمة الاسلامية المتخيلة، لدى الجهاديين بالطبع، مشتق من صورة ونموذج القرابة ولحمتها وأنسابها التي هي أمر وهمي ولا وظيفة لها سوى إحداث الوصلة والنعرة، على قول صاحبنا ابن خلدون.

سيكون هذا التشخيص ناقصاً ومنتقصاً اذا لم نلتفت الى الرافد الآخر والمهم لصناعة صورة الأمة على مثال القرابة البدوية الحاملة أكثر من غيرها على التغلب والحفاظ على شدة اليأس والارتكان الى بداوة فطرية، كما هي حال «الأمم الوحشية» على ما قال مؤرخنا. هذا الرافد الآخر هو ما يمكن أن نصفه بالبداوة الحديثة وهو يطاول أفراداً معولمين في المعنى الحديث للكلمة، ارتضوا تصوير هجرتهم الطوعية أو المتوارثة في بلدان الغرب الصناعي، في صورة بداوة ثقافية تخلو من اكزوتيكية أدبيات رومنطيقية تتغنى بالبداوة الفعلية والرمزية في الأزمنة الحديثة. وما يجيز هذا الارتضاء العصابي هو الاعتقاد بأن زمانية هذه البداوة تحتوي، بل تستولي دفعة واحدة، على الماضي والحاضر والمستقبل، ولا تعرف بالتالي لا النسبية ولا التاريخية.

ومن المؤكد ان استحضار الماضي الاستعماري بصفته غزوة استكبارية مطلقة يغذي الشعور بالضرورة المطلقة لمكافأة هامشية بدو الحداثة الغربية برد الصاع صاعين للتشفي من تاريخ مركّب ومعقد يختصره الجهاديون في صورة لطخة عار تحتاج الى عنف كبير لتطهيرها. وينطبق هذا على أبناء فئات وسطى ميسورة ومدينية، وحديثة في معنى ما، مثل بن لادن وأيمن الظواهري ومحمد عطا وسواهم. وحداثة هؤلاء تقتصر على التقنية والتحكم بها، وهم يعتقدون بلا شك ان سر القوة الغربية يكمن في التقنية ليس إغلا. وفي مسار هؤلاء الرومنطيقيين الجدد شيء من الغيفارية الاسلامية وشيء من حكاية روبنسون كروزو الذي أراد بناء حياته انطلاقاً من لا شيء فيما كان يمتلك في الحقيقة كل المفاهيم والتقنيات الموصلة للحضارة كأسلوب عيش.

بدو الحداثة الجهاديون يريدون العودة الى اسلام فطري وغريب وبسيط وساذج بحيث لا يكون لهم من الحداثة سوى وسائلها التقنية. أما الاجتماع البشري فهو يحذو حذو العصبية القرابية. غير ان هذه الأخيرة، كما يعلم القاصي والداني، تحمل منطق تنافساتها وتصدعاتها في حروب لا تبقي ولا تذر. ومعنى هذا ان مشروع الجهاديين يحمل من الآن معالم حروب أهلية لا تحتمل التوسط والمهادنة إلا بعد التعب من القتل والاقتتال. والصراع ليس بين حضارات مختلفة، كما يحسب البعض، بل داخل حضارة عالمية واحدة، مشتركة ومركبة، وهو صراع داخل الاسلام بالدرجة الأولى.