زوربا
08-02-2005, 04:23 PM
نزار آغري
في اليوم الذي كان مقرراً أن يتم فيه تعيين السيد مسعود البرزاني رئيساً لإقليم كردستان العراق هبت عاصفة رملية منعت المسؤولين العراقيين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية جلال الطالباني، من القدوم من بغداد إلى أربيل، عاصمة الإقليم الكردي. ولهذا فقد أجلت المناسبة ليومين إضافيين.
بدا الأمر مثل واقعة قدرية في إحدى مسرحيات شكسبير. كان شأن العاصفة شأن ذلك الضباب الذي غلف عودة ماكبث من الحرب منتصراً فإذا بالساحرات الثلاث يخرجن إليه من الأثير ويعلمنه بالمصير الدموي الذي ينتظره.
غير أن إيحاء العاصفة البغدادية التي أجلت رئاسة مسعود البرزاني لاح في وجهة أخرى. فقد أرادت أن تقول إن امتلاء السيد مسعود البرزاني بفرح اعتلاء كرسي الرئاسة، أيّاً كان حجم الكرسي وقوامه، هو كسر لمحظور أسطوري ترسخ في تربة الزمن. فليس متاحاً للكردي أن يمسك بعصا السلطان وأن يصير سيداً لنفسه، دع عنك للآخرين.
تغضب الطبيعة ساعة تتعرض نواميسها للانتهاك. وغضب الطبيعة في المشهد الكردي الجديد هو غضب مضاعف: كردي يستحوذ على عرش السلطان في العراق كله وآخر على عرش كردستان التي أضحت شبه حرة.
ينطوي فعل تنصيب البرزاني رئيساً، وهو ما تحقق بعد انحسار العاصفة وقدوم جلال الطالباني وأركان حكومته العراقية إلى أربيل، على قيمة رمزية مصدرها التاريخ.
ففي التاريخ الكردي كله لم تكن ثمة مناسبة للاحتفال بالنصر. كانت هناك على الدوام هزائم. واللحظات القصيرة التي بدا فيها كما لو أن نصراً ما يلوح في الأفق سرعان ما انتهت بفواجع وخيانات وانكسارات مريرة.
كان الفرح مخادعاً في أكثر الأحيان إن لم يكن في كلها. لم يتعرف الأكراد إلى الفرح إلا كأمل بعيد المنال وحلم موعود بالتحقق تحت ظلال من الخوف - خوف من أن ينهار كل شيء في لحظة واحدة، وهو ما حصل عبر التاريخ الكردي. لقد خابت الظنون في الآخرين الذين وعدوا الأكراد بقليل من الأمل وقليل من الفرح. وسرعان ما كان الوعد ينقلب إلى وعيد يحمل القلق والحزن.
لم يدوّن التاريخ الكردي شيئاً مما يمكن أن يصبح مصدراً للزهو والشعور بالبهجة. وإزاء ذلك كانت الشجاعة العارية والعناد الراسخ يحضران لموازنة هذا الغياب. فالرغبة المتهورة في مقارعة الشدّة إلى حد الامتلاء بالموت كانت معادلاً نفسياً، وجسدياً، في دفع الفجيعة. ألم يطلق المقاتل الكردي على نفسه اسم البيشمركة، أي الذاهب إلى الموت؟
كان المضي إلى الموت، أي إلى الخسارة، تعويضاً عن نصر مؤجل على الدوام. ففي تلك الخطوة كان يراد القول، للذات وللآخرين، إن في مقدور الكردي أن يكون منتصراً من خلال الموت. وأنه مستعد لأن يجدد هذا الموت عاماً بعد عام وقرناً بعد قرن، وذلك من أجل أن يثمر تراكم الموت عن لحظة انبثاق لحياة واعدة بالفرح.
كان الاحتفال برئاسة مسعود البرزاني مناسبة لإطلاق العنان للفرح المكبوت جيلاً بعد جيل. ولولا العاصفة لكان في وسع الكردي أن يمتلك يقيناً في أن القدر قد كشف عن وجهه المبهج أخيراً (ظهر حدث الاحتفال بالرئاسة، في ضوء العاصفة وتأجيل المناسبة، وكأن القدر غير متيقن من تغيير رأيه. كانت العاصفة أشبه برسول ميثولوجي نهض ليقول: ليس من حق الأكراد أن يفرحوا).
ربما لهذا أراد مسعود البرزاني أن يكون احتفاؤه بالحدث جليلاً وفخماً. رفض القدوم إلى مبنى البرلمان الكردي في يوم العاصفة. شاء أن يقول إنه لن ينحني ولن يستسلم للمصير المرسوم منذ سنين غابرة.
في يوم التنصيب دخل مسعود البرزاني القاعة جنباً إلى جنب جلال الطالباني الذي بدا كرجل يمسك بيد ابنه ويأخذه إلى حفل الزفاف.
أجمع الحاضرون على أن الحدث أشبه بعرس تاريخي. ها هو البيشمركة يطرد من نفسه الرغبة في الموت ويمضي لعقد القران على الحياة.
غير أن مسعود البرزاني لم يكن يكتنز ذلك البعد التراجيدي الذي بقي مختبئاً تحت ستار الحدث. كان حضوره وسط حشد سياسي معبأ بالشعارات حضوراً ما بعد حداثي بامتياز. كان خجولاً ومندفعاً في آن معاً. وهو بدا في اللحظة ذاتها نبيلاً إقطاعياً من القرن الماضي وديبلوماسياً متحمساً للسياسة من هذا القرن.
والحال أن الاحتفال كان مناسبة لمزج الماضي والحاضر. لم يغب عن بال الرئيس الجديد للإقليم الكردي صورة والده الذي حارب من أجل ذلك الإقليم كما أنه لم ينس أن يشكر الرئيس الأميركي الذي لولا قراره بالإطاحة بحاكم العراق السابق لربما كان الإقليم ومن يسكنونه في خبر من أخبار حملات الأنفال.
كان مسعود البرزاني ينبه الآخرين إلى أنه قادم إلى الرئاسة هو الذي يحمل روح البيشمركة الذاهب إلى الموت، وكان ينبههم في الوقت نفسه إلى أنه يتهيأ، مثله مثل الأكراد في جمعهم، إلى استقبال بعض الفرح في هيئة مناصب ومقامات يتراقص من حولها المتزلفون والنصابون الذين كانوا حتى وقت قريب يرون في الإقليم «مرتعاً للعمالة للإمبريالية» ويضعون يدهم في يد «القائد المهيب صدام حسين» وينددون معه بـ «الجيب العميل».
في اليوم الذي كان مقرراً أن يتم فيه تعيين السيد مسعود البرزاني رئيساً لإقليم كردستان العراق هبت عاصفة رملية منعت المسؤولين العراقيين، وعلى رأسهم رئيس الجمهورية جلال الطالباني، من القدوم من بغداد إلى أربيل، عاصمة الإقليم الكردي. ولهذا فقد أجلت المناسبة ليومين إضافيين.
بدا الأمر مثل واقعة قدرية في إحدى مسرحيات شكسبير. كان شأن العاصفة شأن ذلك الضباب الذي غلف عودة ماكبث من الحرب منتصراً فإذا بالساحرات الثلاث يخرجن إليه من الأثير ويعلمنه بالمصير الدموي الذي ينتظره.
غير أن إيحاء العاصفة البغدادية التي أجلت رئاسة مسعود البرزاني لاح في وجهة أخرى. فقد أرادت أن تقول إن امتلاء السيد مسعود البرزاني بفرح اعتلاء كرسي الرئاسة، أيّاً كان حجم الكرسي وقوامه، هو كسر لمحظور أسطوري ترسخ في تربة الزمن. فليس متاحاً للكردي أن يمسك بعصا السلطان وأن يصير سيداً لنفسه، دع عنك للآخرين.
تغضب الطبيعة ساعة تتعرض نواميسها للانتهاك. وغضب الطبيعة في المشهد الكردي الجديد هو غضب مضاعف: كردي يستحوذ على عرش السلطان في العراق كله وآخر على عرش كردستان التي أضحت شبه حرة.
ينطوي فعل تنصيب البرزاني رئيساً، وهو ما تحقق بعد انحسار العاصفة وقدوم جلال الطالباني وأركان حكومته العراقية إلى أربيل، على قيمة رمزية مصدرها التاريخ.
ففي التاريخ الكردي كله لم تكن ثمة مناسبة للاحتفال بالنصر. كانت هناك على الدوام هزائم. واللحظات القصيرة التي بدا فيها كما لو أن نصراً ما يلوح في الأفق سرعان ما انتهت بفواجع وخيانات وانكسارات مريرة.
كان الفرح مخادعاً في أكثر الأحيان إن لم يكن في كلها. لم يتعرف الأكراد إلى الفرح إلا كأمل بعيد المنال وحلم موعود بالتحقق تحت ظلال من الخوف - خوف من أن ينهار كل شيء في لحظة واحدة، وهو ما حصل عبر التاريخ الكردي. لقد خابت الظنون في الآخرين الذين وعدوا الأكراد بقليل من الأمل وقليل من الفرح. وسرعان ما كان الوعد ينقلب إلى وعيد يحمل القلق والحزن.
لم يدوّن التاريخ الكردي شيئاً مما يمكن أن يصبح مصدراً للزهو والشعور بالبهجة. وإزاء ذلك كانت الشجاعة العارية والعناد الراسخ يحضران لموازنة هذا الغياب. فالرغبة المتهورة في مقارعة الشدّة إلى حد الامتلاء بالموت كانت معادلاً نفسياً، وجسدياً، في دفع الفجيعة. ألم يطلق المقاتل الكردي على نفسه اسم البيشمركة، أي الذاهب إلى الموت؟
كان المضي إلى الموت، أي إلى الخسارة، تعويضاً عن نصر مؤجل على الدوام. ففي تلك الخطوة كان يراد القول، للذات وللآخرين، إن في مقدور الكردي أن يكون منتصراً من خلال الموت. وأنه مستعد لأن يجدد هذا الموت عاماً بعد عام وقرناً بعد قرن، وذلك من أجل أن يثمر تراكم الموت عن لحظة انبثاق لحياة واعدة بالفرح.
كان الاحتفال برئاسة مسعود البرزاني مناسبة لإطلاق العنان للفرح المكبوت جيلاً بعد جيل. ولولا العاصفة لكان في وسع الكردي أن يمتلك يقيناً في أن القدر قد كشف عن وجهه المبهج أخيراً (ظهر حدث الاحتفال بالرئاسة، في ضوء العاصفة وتأجيل المناسبة، وكأن القدر غير متيقن من تغيير رأيه. كانت العاصفة أشبه برسول ميثولوجي نهض ليقول: ليس من حق الأكراد أن يفرحوا).
ربما لهذا أراد مسعود البرزاني أن يكون احتفاؤه بالحدث جليلاً وفخماً. رفض القدوم إلى مبنى البرلمان الكردي في يوم العاصفة. شاء أن يقول إنه لن ينحني ولن يستسلم للمصير المرسوم منذ سنين غابرة.
في يوم التنصيب دخل مسعود البرزاني القاعة جنباً إلى جنب جلال الطالباني الذي بدا كرجل يمسك بيد ابنه ويأخذه إلى حفل الزفاف.
أجمع الحاضرون على أن الحدث أشبه بعرس تاريخي. ها هو البيشمركة يطرد من نفسه الرغبة في الموت ويمضي لعقد القران على الحياة.
غير أن مسعود البرزاني لم يكن يكتنز ذلك البعد التراجيدي الذي بقي مختبئاً تحت ستار الحدث. كان حضوره وسط حشد سياسي معبأ بالشعارات حضوراً ما بعد حداثي بامتياز. كان خجولاً ومندفعاً في آن معاً. وهو بدا في اللحظة ذاتها نبيلاً إقطاعياً من القرن الماضي وديبلوماسياً متحمساً للسياسة من هذا القرن.
والحال أن الاحتفال كان مناسبة لمزج الماضي والحاضر. لم يغب عن بال الرئيس الجديد للإقليم الكردي صورة والده الذي حارب من أجل ذلك الإقليم كما أنه لم ينس أن يشكر الرئيس الأميركي الذي لولا قراره بالإطاحة بحاكم العراق السابق لربما كان الإقليم ومن يسكنونه في خبر من أخبار حملات الأنفال.
كان مسعود البرزاني ينبه الآخرين إلى أنه قادم إلى الرئاسة هو الذي يحمل روح البيشمركة الذاهب إلى الموت، وكان ينبههم في الوقت نفسه إلى أنه يتهيأ، مثله مثل الأكراد في جمعهم، إلى استقبال بعض الفرح في هيئة مناصب ومقامات يتراقص من حولها المتزلفون والنصابون الذين كانوا حتى وقت قريب يرون في الإقليم «مرتعاً للعمالة للإمبريالية» ويضعون يدهم في يد «القائد المهيب صدام حسين» وينددون معه بـ «الجيب العميل».