جمال
08-01-2005, 01:36 AM
مجاهدو الأمس تحولوا إلى إرهابيين
دبي - فراج اسماعيل
يعتبر قرار الرئيس الباكستاني برويز مشرف بطرد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في المدارس الدينية، بمثابة اللكمة القاضية التي توجه لهذه الإمبراطورية الواسعة بعد جولات من "الملاكمة" بين الطرفين استمرت حوالي 4 سنوات عقب هجمات 11 سبتمبر وسقوط طالبان.
فبهذا القرار تفقد المدارس الدينية الباكستانية ميزة أكسبتها شهرة في كثير من دول العالم الإسلامي، جعلتها تتلقى تبرعات كثيرة من مؤسسات خيرية عالمية.. فهذه المدارس التي تميزت بأسلوبها الخاص في تحفيظها القرآن الكريم، يقصدها المئات سنويا من خارج باكستان، حتى من الدول العربية، حيث تحتضن أقسام داخلية حوالي نصف مليون طالب توفر لهم النوم والطعام والشراب ومصاريف المعيشة من التبرعات الخيرية.
زرت بعض هذه المدارس عندما تفجرت الاتهامات ضدها بعد 11 سبتمبر بأنها المحضن الذي قدم نموذج طالبان ليحكم أفغانستان بعقلية تعادي الحياة العصرية وجميع مظاهرها، وتحبس المرأة باعتباره كائنا لا يحق له الخروج من أبواب البيوت أو تلقي التعليم.
كانت الحملة على أشدها، وكان في الأفق ما يحمل الكثير من التصعيد ضد هذه المدارس، خاصة بعد بدء الهجوم الأمريكي لاقتلاع طالبان والقاعدة من أفغانستان. فهؤلاء الملالي الذين حكموا أفغانستان بفكر ما قبل العصور الوسطى، لم يخرج نبتهم من جبال ووديان هذا البلد، بل جاءوا في إطار ظاهرة عامة قادمة من الجارة الكبرى باكستان، أطلق عليها بعض المحللين ظاهرة "الطلبنة".
وكلمة "الملا" التي كانت تطلق على قادة طالبان تعني "طالب الدين".. والملا محمد عمر زعيم طالبان كان طالبا في إحدى هذه المدارس عندما بدأ ينشر دعوته في حلقات الدرس فيها، ثم انطلق بمن تحمسوا له من الطلاب إلى أفغانستان ليؤسس دولته.
في منتصف أكتوبر 2001 عدت من أفغانستان بعد تغطيتي الصحفية للأيام الأولى من الهجوم الأمريكي وأنا محمل بفكرة البحث عن جذور "الطلبنة"، وكانت خلفية الصورة تتمحور حول تلك المدارس، ماذا يجري فيها.. ما شكل القوم الذين يحبسون أنفسهم داخلها.. وإلى ماذا يقودهم ذلك التأهيل العلمي؟..
ثم لفت نظري صديق باكستاني أنني فعلا جئت إلى قلب المشكلة التي ستظل الشغل الشاغل للحكومة الباكستانية، لأنها ستكون مصدرا لضغوط خارجية مستمرة من أجل إغلاقها أو التدخل في مناهجها. والمشكلة ليست هينة، فنحن أمام إحصاء غير دقيق يقدر هذه المدارس بأكثر من 5 آلاف مدرسة، أكثرها تابع للمساجد، ومن الصعب إغلاقها أو التخلص منها، أو التفكير في تطويرها وإخضاعها لنفس نظرية التطوير التي طبقت على التعليم الأزهري في مطلع الستينيات، وهو النمط الذي تفكر فيه حاليا الحكومة الباكستانية.
فهناك فارق هائل بين التعليم الأزهري في مصر الذي كان قبل التطوير تعليما ممنهجا، يستند على خبرة مئات السنين، بدءا من الكتاتيب وانتهاء بأعمدة الجامع الأزهر وهي الحلقات التعليمية التي يبلغها الدارس للتعليم الديني بعد قطع أشواط طويلة يكون حفظ فيها القرآن الكريم كاملا ودرس علومه المختلفة وعلوم الحديث الشريف.
تشدد المدارس الدينية يتباين حسب مناطقها الجغرافية
أما المدارس الدينية في باكستان فهي مختلفة في مناهجها وطرق تدريسها حسب المذاهب والطوائف التي تتبعها، وهي تتبع أيضا جمعيات مختلفة، مسئولة عن تلقي هبات الصرف عليها، وعن اختيار مناهجها. وتتدرج هذه المدارس بين التشدد والمرونة وحسب المناطق الجغرافية التي تقع فيها، فمدارس روالبندي مثلا وهي قريبة من العاصمة "اسلام آباد" أقل تطرفا من مدارس بشاور وكويتا القريبتين من الحدود الأفغانية ومدارس لاهور، لكن المدارس الدينية في منطقة قبائل "وزيرستان" التي يعتقد أن زعماء القاعدة وطالبان مختبئون فيها هي الأكثر تشددا.
في روالبندي وبشاور.. رأيت صبية في بعض المدارس يتابعون مع شيخهم مبادئ حفظ القرآن على ألواح، ذكرتني بالطريقة القديمة التي كانت متبعة في الكتاتيب المصرية، قبل أن يقضي عليها التعليم الأزهري المطور، يحمل التلميذ لوحه الذي يكتب عليه الآيات القرآنية بنفس رسمها في المصحف. وليس غريبا أنك تجد في الفصل الأول تلاميذ يتباينون في مراحلهم الدراسية التي تقاس بحسب السورة القرآنية التي وصل إليها، ويستطيع الشيخ أن يتابع كلا منهم عبر اللوح الذي يحمله بكفاءة كبيرة.
أسلوبها في تحفيظ القرآن جعلها مقصدا للطلاب الأجانب
هذه الطريقة جعلت تلك المدارس تنال شهرتها العالمية في قدرتها على تحفيظ القرآن الكريم خلال وقت وجيز وبكفاءة عالية، مما جعلها مقصدا للطلاب الأجانب، والحقيقة أن هذه الطريقة لم يبتكرها المسؤولون عن هذه المدارس بل أخذوها من الكتاتيب المصرية القديمة التي تخرج فيها أساطين تلاوة وترتيل القرآن في مصر مثل الشيخ محمد رفعت والشيخ محمد صديق المنشاوي والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد.
وعندما اندثرت هذه الكتاتيب في مصر، اندثرت أيضا إمبراطورية مقرئي القرآن التي ميزت مصر في ذلك الحين وجعلتها مصدرا لأصواتهم إلى العالم الإسلامي، لكن المدارس الدينية الباكستانية احتفظت بها منذ ما يربو على قرنين من الزمان.
والمثير أن تلك المدارس لم تكن بمثل هذا التشدد قبل الحرب التي شنها "المجاهدون الأفغان" ضد الاحتلال الروسي لبلادهم.. كانت كل مهمتها فقط هو إخراج جيل من الحافظين للقرآن الكريم والدارسين لأحكامه.. إلا أنها استغلت لإيجاد بعد ايديولجي للجهاد الأفغاني وكان ذلك بتوجيه من المخابرات المركزية الأمريكية.
وبالفعل صارت حاضنة لبث "روح الجهاد لإنقاذ الإسلام من الشيوعية".. وكان غريبا أن ترى هذه الروح حتى في المناهج غير الدينية، ففي علوم الحساب مثلا يطالع الطفل الصغير الذي لا يتجاوز عمره 6 أعوام مسألة تقول: " معك 5 رصاصات، أطلقت منهم ثلاثة لقتل الجنود الشيوعيين الكفار، فكم يتبقى من الرصاص معك".
استغلت هذه المدارس لبث عقيدة القتال ضد الروس
وتلاحظ هنا أن العقيدة القتالية والحث على قتل الآخر لأنه كافر، كانت تبث في أطفال في هذه السن يكبرون بها ومعها، مع عقائد أخلاقية أخرى تتحدث عن الإباحية التي أحدثها الشيوعيون في أفغانستان، والاختلاط بين النساء والرجال في كابل، وكيف أن "الجهاد" من أهدافه حماية الدين من هذا الحرام.
انسحب الروس وسقط نظام نجيب الله، وبقيت هذه المناهج التعليمية الايديولجية على حالها، فكانت محضنا لظاهرة "الطلبنة" التي رحلت إلى أفغانستان لتؤسس دولة طالبان، وتجد فكرا مشابها متمثلا في المقاتلين العرب الذين اختاروا البقاء خوفا من العودة إلى بلادهم.
ومنذ مطلع العام 2002 والحكومة الباكستانية منهمكة في وضع قوانين جديدة لتلك المدارس، رغم المواجهة القوية من الجمعيات المشرفة عليها، حتى أن فضل الرحمن أمير جمعية علماء الإسلام التي تتولى إدارة عدد كبير منها قال بكلمات قاطعة إنهم لن يسمحوا بالقضاء على هذا النظام التعليمي لنشر العلوم الإسلامية في باكستان.
وتتنوع هذه المدارس بين الديوبندية التي تنتمي للأحناف التقليديين، والسلفية، والبريلويين وهم المتصوفة، والشيعة.. وأول قانون سنته الحكومة الباكستانية استهدف مراقبة الحسابات المالية، ومصادر التمويل للمدارس الدينية. وقد أزعج ذلك القائمين عليها، إذ أنهم باتوا لا يستطيعون بعد ذلك الحصول على المساعدات المالية من الشخصيات والمؤسسات والحكومات الأجنبية دون إذن مسبق من الحكومة الباكستانية.
واعتبر ذلك القانون أيضا أن التدريب العسكري في المدارس الدينية يعتبر جرمًا قانونيًا، وحظر استخدام التدريب العسكري كمادة في المناهج التعليمية. ومن الضغوط التي مارستها الحكومة أيضا، إجبار تلك المدارس على الخضوع لإشراف وزارة الشئون الدينية، عن طريق عدم الاعتراف بأية شهادة لا تمنحها تلك المدارس.
ووجهة النظر الحكومية في ذلك أن هناك عددا كبيرا من المدارس تعمل في طول البلاد وعرضها دون إذن الحكومة، وتغذي الطلاب بأفكارها المتشددة، ولا تعلم الحكومة عن مصادر تمويلها، كما لا تعلم عن طلابها الأجانب شيئًا. وشكل موضوع الطلاب الأجانب هاجسا مقلقا طوال السنوات الماضية للحكومة الباكستانية، مع نمو المقاومة لظاهرة الأفغنة التي أطل بها الأجانب لا سيما من العرب، الذين وفدوا بالآلاف خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات للانضمام للمجاهدين الأفغان.
115 مدرسة دينية تتلقى تمويلا من بريطانيا ودول شرق أوسطية
وفي آخر عام 2001 وضعت الحكومة خطة تتضمن التحقيق حول الطلاب الدارسين فيها، وترحيل الأجانب المشتبه فيهم، وأيضا دمج تلك المدارس بالمؤسسات التعليمية الرسمية.. وحينها قيل إن التحقيقات كشفت أن هناك حوالي 115 مدرسة دينية على الأقل في جميع أنحاء البلاد تتلقى تمويلا أجنبيا من السعودية، والكويت، وإيران، وليبيا، والعراق، وبريطانيا.
وتدير جمعية علماء الإسلام التي يرأسها فضل الرحمن 830 مدرسة في أنحاء باكستان، بينما يدير حزب "سباه الصحابة" 177 مدرسة، و"جمعية علماء باكستان" 140 مدرسة، وجمعية "تحريك الجفرية 135 مدرسة. ورغم التنوع الطائفي والمذهبي لهذه المدارس إلا أنها تخضع لنقابة أو مؤسسة تعليمية واحدة تدافع عنها، وترعى مصالحها.
وقد عادت الحملة على المدارس الدينية في باكستان على اثر تفجيرات لندن قبل عدة أسابيع، والتصريحات البريطانية بوجود صلة محتملة بين المنفذين وبين متطرفين موجودين في باكستان، ثم المخاوف التي أبداها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو من احتمال وجود صلات بينهم وبين المدارس الإسلامية الباكستانية، في ضوء وجود ثلاثة بريطانيين من أصول باكستانية ضمن المنفذين وهم شهرزاد تنوير (22 عاما)، وحسيب حسين (19 عاما)، ومحمد صديق خان (30 عاما)..
وقيل إن الثلاثة قاموا بزيارات قصيرة لباكستان، وأنه من المعتقد أن شهر زاد تنوير بالذات تلقى دروسا بمدرسة دينية في لاهور خلال العام الحالي. ويتوقع بعض علماء الدين في باكستان إجراءات صارمة ضد الآلاف من تلك المدارس بسبب الفهم الخارجي الخاطئ لمفهوم الجهاد في الإسلام الذي تتضمنه مناهجها، لكنهم يقولون إن ذلك لا يعني تأييد الإرهاب، بل أن كل المناهج ترفض أي نوع من الإرهاب، ولا تحث على الكراهية والعمل المسلح.
لكن الواقع أنه مثلما يساء الآن مفهوم الجهاد، فان المخابرات المركزية الأمريكية والحكومة الباكستانية في عهد الرئيس الأسبق ضياء الحق استغلاه في الماضي لتجنيد المسلمين لقتال الاحتلال الروسي لأفغانستان في الثمانينيات.
ويتهم الرئيس برويز مشرف جماعات متطرفة في باكستان بالسعي لفرض أفكارها على الآخرين من خلال المدارس الدينية التي تمتلكها بما يعني توجيه أصابع الاتهام للجمعيات والأحزاب الإسلامية المشرفة عليها، رغم النفي الباكستاني لاتهامات بريطانية بأن عملية "غسيل مخ" تمت لمرتكبي هجمات لندن ذوي الأصول الباكستانية داخل تلك المدارس.
وخلال كلمة ألقاها مشرف في مؤتمر للشباب بإسلام آباد الاثنين 18-7-2005 هاجم المدارس الدينية الباكستانية، وقال: "نعم.. اليوم بعض المدارس ضالعة في التطرف والإرهاب".
وهاجم أيضا جماعات محظورة مثل جماعة "جند الصحابة" بأنها تفرض أفكارها على الآخرين من خلال المدارس الدينية التي تمتلكها، وكانت 7 جماعات تضم تلك الجماعة حظرتها الحكومة الباكستانية بعد هجمات 11 سبتمبر.
دبي - فراج اسماعيل
يعتبر قرار الرئيس الباكستاني برويز مشرف بطرد الطلاب الأجانب الذين يدرسون في المدارس الدينية، بمثابة اللكمة القاضية التي توجه لهذه الإمبراطورية الواسعة بعد جولات من "الملاكمة" بين الطرفين استمرت حوالي 4 سنوات عقب هجمات 11 سبتمبر وسقوط طالبان.
فبهذا القرار تفقد المدارس الدينية الباكستانية ميزة أكسبتها شهرة في كثير من دول العالم الإسلامي، جعلتها تتلقى تبرعات كثيرة من مؤسسات خيرية عالمية.. فهذه المدارس التي تميزت بأسلوبها الخاص في تحفيظها القرآن الكريم، يقصدها المئات سنويا من خارج باكستان، حتى من الدول العربية، حيث تحتضن أقسام داخلية حوالي نصف مليون طالب توفر لهم النوم والطعام والشراب ومصاريف المعيشة من التبرعات الخيرية.
زرت بعض هذه المدارس عندما تفجرت الاتهامات ضدها بعد 11 سبتمبر بأنها المحضن الذي قدم نموذج طالبان ليحكم أفغانستان بعقلية تعادي الحياة العصرية وجميع مظاهرها، وتحبس المرأة باعتباره كائنا لا يحق له الخروج من أبواب البيوت أو تلقي التعليم.
كانت الحملة على أشدها، وكان في الأفق ما يحمل الكثير من التصعيد ضد هذه المدارس، خاصة بعد بدء الهجوم الأمريكي لاقتلاع طالبان والقاعدة من أفغانستان. فهؤلاء الملالي الذين حكموا أفغانستان بفكر ما قبل العصور الوسطى، لم يخرج نبتهم من جبال ووديان هذا البلد، بل جاءوا في إطار ظاهرة عامة قادمة من الجارة الكبرى باكستان، أطلق عليها بعض المحللين ظاهرة "الطلبنة".
وكلمة "الملا" التي كانت تطلق على قادة طالبان تعني "طالب الدين".. والملا محمد عمر زعيم طالبان كان طالبا في إحدى هذه المدارس عندما بدأ ينشر دعوته في حلقات الدرس فيها، ثم انطلق بمن تحمسوا له من الطلاب إلى أفغانستان ليؤسس دولته.
في منتصف أكتوبر 2001 عدت من أفغانستان بعد تغطيتي الصحفية للأيام الأولى من الهجوم الأمريكي وأنا محمل بفكرة البحث عن جذور "الطلبنة"، وكانت خلفية الصورة تتمحور حول تلك المدارس، ماذا يجري فيها.. ما شكل القوم الذين يحبسون أنفسهم داخلها.. وإلى ماذا يقودهم ذلك التأهيل العلمي؟..
ثم لفت نظري صديق باكستاني أنني فعلا جئت إلى قلب المشكلة التي ستظل الشغل الشاغل للحكومة الباكستانية، لأنها ستكون مصدرا لضغوط خارجية مستمرة من أجل إغلاقها أو التدخل في مناهجها. والمشكلة ليست هينة، فنحن أمام إحصاء غير دقيق يقدر هذه المدارس بأكثر من 5 آلاف مدرسة، أكثرها تابع للمساجد، ومن الصعب إغلاقها أو التخلص منها، أو التفكير في تطويرها وإخضاعها لنفس نظرية التطوير التي طبقت على التعليم الأزهري في مطلع الستينيات، وهو النمط الذي تفكر فيه حاليا الحكومة الباكستانية.
فهناك فارق هائل بين التعليم الأزهري في مصر الذي كان قبل التطوير تعليما ممنهجا، يستند على خبرة مئات السنين، بدءا من الكتاتيب وانتهاء بأعمدة الجامع الأزهر وهي الحلقات التعليمية التي يبلغها الدارس للتعليم الديني بعد قطع أشواط طويلة يكون حفظ فيها القرآن الكريم كاملا ودرس علومه المختلفة وعلوم الحديث الشريف.
تشدد المدارس الدينية يتباين حسب مناطقها الجغرافية
أما المدارس الدينية في باكستان فهي مختلفة في مناهجها وطرق تدريسها حسب المذاهب والطوائف التي تتبعها، وهي تتبع أيضا جمعيات مختلفة، مسئولة عن تلقي هبات الصرف عليها، وعن اختيار مناهجها. وتتدرج هذه المدارس بين التشدد والمرونة وحسب المناطق الجغرافية التي تقع فيها، فمدارس روالبندي مثلا وهي قريبة من العاصمة "اسلام آباد" أقل تطرفا من مدارس بشاور وكويتا القريبتين من الحدود الأفغانية ومدارس لاهور، لكن المدارس الدينية في منطقة قبائل "وزيرستان" التي يعتقد أن زعماء القاعدة وطالبان مختبئون فيها هي الأكثر تشددا.
في روالبندي وبشاور.. رأيت صبية في بعض المدارس يتابعون مع شيخهم مبادئ حفظ القرآن على ألواح، ذكرتني بالطريقة القديمة التي كانت متبعة في الكتاتيب المصرية، قبل أن يقضي عليها التعليم الأزهري المطور، يحمل التلميذ لوحه الذي يكتب عليه الآيات القرآنية بنفس رسمها في المصحف. وليس غريبا أنك تجد في الفصل الأول تلاميذ يتباينون في مراحلهم الدراسية التي تقاس بحسب السورة القرآنية التي وصل إليها، ويستطيع الشيخ أن يتابع كلا منهم عبر اللوح الذي يحمله بكفاءة كبيرة.
أسلوبها في تحفيظ القرآن جعلها مقصدا للطلاب الأجانب
هذه الطريقة جعلت تلك المدارس تنال شهرتها العالمية في قدرتها على تحفيظ القرآن الكريم خلال وقت وجيز وبكفاءة عالية، مما جعلها مقصدا للطلاب الأجانب، والحقيقة أن هذه الطريقة لم يبتكرها المسؤولون عن هذه المدارس بل أخذوها من الكتاتيب المصرية القديمة التي تخرج فيها أساطين تلاوة وترتيل القرآن في مصر مثل الشيخ محمد رفعت والشيخ محمد صديق المنشاوي والشيخ مصطفى إسماعيل والشيخ عبد الباسط عبد الصمد.
وعندما اندثرت هذه الكتاتيب في مصر، اندثرت أيضا إمبراطورية مقرئي القرآن التي ميزت مصر في ذلك الحين وجعلتها مصدرا لأصواتهم إلى العالم الإسلامي، لكن المدارس الدينية الباكستانية احتفظت بها منذ ما يربو على قرنين من الزمان.
والمثير أن تلك المدارس لم تكن بمثل هذا التشدد قبل الحرب التي شنها "المجاهدون الأفغان" ضد الاحتلال الروسي لبلادهم.. كانت كل مهمتها فقط هو إخراج جيل من الحافظين للقرآن الكريم والدارسين لأحكامه.. إلا أنها استغلت لإيجاد بعد ايديولجي للجهاد الأفغاني وكان ذلك بتوجيه من المخابرات المركزية الأمريكية.
وبالفعل صارت حاضنة لبث "روح الجهاد لإنقاذ الإسلام من الشيوعية".. وكان غريبا أن ترى هذه الروح حتى في المناهج غير الدينية، ففي علوم الحساب مثلا يطالع الطفل الصغير الذي لا يتجاوز عمره 6 أعوام مسألة تقول: " معك 5 رصاصات، أطلقت منهم ثلاثة لقتل الجنود الشيوعيين الكفار، فكم يتبقى من الرصاص معك".
استغلت هذه المدارس لبث عقيدة القتال ضد الروس
وتلاحظ هنا أن العقيدة القتالية والحث على قتل الآخر لأنه كافر، كانت تبث في أطفال في هذه السن يكبرون بها ومعها، مع عقائد أخلاقية أخرى تتحدث عن الإباحية التي أحدثها الشيوعيون في أفغانستان، والاختلاط بين النساء والرجال في كابل، وكيف أن "الجهاد" من أهدافه حماية الدين من هذا الحرام.
انسحب الروس وسقط نظام نجيب الله، وبقيت هذه المناهج التعليمية الايديولجية على حالها، فكانت محضنا لظاهرة "الطلبنة" التي رحلت إلى أفغانستان لتؤسس دولة طالبان، وتجد فكرا مشابها متمثلا في المقاتلين العرب الذين اختاروا البقاء خوفا من العودة إلى بلادهم.
ومنذ مطلع العام 2002 والحكومة الباكستانية منهمكة في وضع قوانين جديدة لتلك المدارس، رغم المواجهة القوية من الجمعيات المشرفة عليها، حتى أن فضل الرحمن أمير جمعية علماء الإسلام التي تتولى إدارة عدد كبير منها قال بكلمات قاطعة إنهم لن يسمحوا بالقضاء على هذا النظام التعليمي لنشر العلوم الإسلامية في باكستان.
وتتنوع هذه المدارس بين الديوبندية التي تنتمي للأحناف التقليديين، والسلفية، والبريلويين وهم المتصوفة، والشيعة.. وأول قانون سنته الحكومة الباكستانية استهدف مراقبة الحسابات المالية، ومصادر التمويل للمدارس الدينية. وقد أزعج ذلك القائمين عليها، إذ أنهم باتوا لا يستطيعون بعد ذلك الحصول على المساعدات المالية من الشخصيات والمؤسسات والحكومات الأجنبية دون إذن مسبق من الحكومة الباكستانية.
واعتبر ذلك القانون أيضا أن التدريب العسكري في المدارس الدينية يعتبر جرمًا قانونيًا، وحظر استخدام التدريب العسكري كمادة في المناهج التعليمية. ومن الضغوط التي مارستها الحكومة أيضا، إجبار تلك المدارس على الخضوع لإشراف وزارة الشئون الدينية، عن طريق عدم الاعتراف بأية شهادة لا تمنحها تلك المدارس.
ووجهة النظر الحكومية في ذلك أن هناك عددا كبيرا من المدارس تعمل في طول البلاد وعرضها دون إذن الحكومة، وتغذي الطلاب بأفكارها المتشددة، ولا تعلم الحكومة عن مصادر تمويلها، كما لا تعلم عن طلابها الأجانب شيئًا. وشكل موضوع الطلاب الأجانب هاجسا مقلقا طوال السنوات الماضية للحكومة الباكستانية، مع نمو المقاومة لظاهرة الأفغنة التي أطل بها الأجانب لا سيما من العرب، الذين وفدوا بالآلاف خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات للانضمام للمجاهدين الأفغان.
115 مدرسة دينية تتلقى تمويلا من بريطانيا ودول شرق أوسطية
وفي آخر عام 2001 وضعت الحكومة خطة تتضمن التحقيق حول الطلاب الدارسين فيها، وترحيل الأجانب المشتبه فيهم، وأيضا دمج تلك المدارس بالمؤسسات التعليمية الرسمية.. وحينها قيل إن التحقيقات كشفت أن هناك حوالي 115 مدرسة دينية على الأقل في جميع أنحاء البلاد تتلقى تمويلا أجنبيا من السعودية، والكويت، وإيران، وليبيا، والعراق، وبريطانيا.
وتدير جمعية علماء الإسلام التي يرأسها فضل الرحمن 830 مدرسة في أنحاء باكستان، بينما يدير حزب "سباه الصحابة" 177 مدرسة، و"جمعية علماء باكستان" 140 مدرسة، وجمعية "تحريك الجفرية 135 مدرسة. ورغم التنوع الطائفي والمذهبي لهذه المدارس إلا أنها تخضع لنقابة أو مؤسسة تعليمية واحدة تدافع عنها، وترعى مصالحها.
وقد عادت الحملة على المدارس الدينية في باكستان على اثر تفجيرات لندن قبل عدة أسابيع، والتصريحات البريطانية بوجود صلة محتملة بين المنفذين وبين متطرفين موجودين في باكستان، ثم المخاوف التي أبداها وزير الخارجية البريطاني جاك سترو من احتمال وجود صلات بينهم وبين المدارس الإسلامية الباكستانية، في ضوء وجود ثلاثة بريطانيين من أصول باكستانية ضمن المنفذين وهم شهرزاد تنوير (22 عاما)، وحسيب حسين (19 عاما)، ومحمد صديق خان (30 عاما)..
وقيل إن الثلاثة قاموا بزيارات قصيرة لباكستان، وأنه من المعتقد أن شهر زاد تنوير بالذات تلقى دروسا بمدرسة دينية في لاهور خلال العام الحالي. ويتوقع بعض علماء الدين في باكستان إجراءات صارمة ضد الآلاف من تلك المدارس بسبب الفهم الخارجي الخاطئ لمفهوم الجهاد في الإسلام الذي تتضمنه مناهجها، لكنهم يقولون إن ذلك لا يعني تأييد الإرهاب، بل أن كل المناهج ترفض أي نوع من الإرهاب، ولا تحث على الكراهية والعمل المسلح.
لكن الواقع أنه مثلما يساء الآن مفهوم الجهاد، فان المخابرات المركزية الأمريكية والحكومة الباكستانية في عهد الرئيس الأسبق ضياء الحق استغلاه في الماضي لتجنيد المسلمين لقتال الاحتلال الروسي لأفغانستان في الثمانينيات.
ويتهم الرئيس برويز مشرف جماعات متطرفة في باكستان بالسعي لفرض أفكارها على الآخرين من خلال المدارس الدينية التي تمتلكها بما يعني توجيه أصابع الاتهام للجمعيات والأحزاب الإسلامية المشرفة عليها، رغم النفي الباكستاني لاتهامات بريطانية بأن عملية "غسيل مخ" تمت لمرتكبي هجمات لندن ذوي الأصول الباكستانية داخل تلك المدارس.
وخلال كلمة ألقاها مشرف في مؤتمر للشباب بإسلام آباد الاثنين 18-7-2005 هاجم المدارس الدينية الباكستانية، وقال: "نعم.. اليوم بعض المدارس ضالعة في التطرف والإرهاب".
وهاجم أيضا جماعات محظورة مثل جماعة "جند الصحابة" بأنها تفرض أفكارها على الآخرين من خلال المدارس الدينية التي تمتلكها، وكانت 7 جماعات تضم تلك الجماعة حظرتها الحكومة الباكستانية بعد هجمات 11 سبتمبر.