yasmeen
07-27-2005, 08:20 AM
الشيخ حسن الصفار
ما عاناه الشيخ ابن ادريس الحلي من بعض الوسط العلمي الديني بسبب جرأته في الاجتهاد، وممارسة حقه في التعبير عن الرأي، بل القيام بواجبه الشرعي في تبيين ما يدين الله به من رأي وصل إليه اجتهاده، وهو حالة متكررة ومعاناة متجددة يواجهها العلماء الاحرار في تكفيرهم ومواقفهم في مختلف العصور.
وقد تحدث الشهيد الشيخ مرتضى المطهري في عدد من خطاباته وكتاباته عن هذه المشكلة التي تعيق تطور الفكر والفقه الاسلامي، ونقل في حديث له بعنوان (المشكلة الاساس في جماعة علماء الدين) عن الإمام السيد حسين البروجردي شكواه من الضغوط التي تقيده في الوسط الديني من إعلان بعض آرائه وفتاواه، قائلاً: «إن التقية من اصحابنا أهم وأعلى».
وأشار الشيخ المطهري- في كتابه محاضرات في الدين والاجتماع- الى ان المسألة لا تقتصر على رفض طرح الرأي الجديد، وانما حتى التجديد في الوسائل والاساليب المتداولة في الحوزة العلمية يواجه عوائق وممانعة، فالشيخ عبدالكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم اضطر للتراجع عن فكرة تخصيص دروس لتعلم اللغة الانكليزية في الحوزة آنذاك، بسبب ضغط بعض الجهات التي أثارت زوابع وتشكيكات بعدم جواز صرف الحقوق الشرعية على تعلم لغة الكفار!! بالطبع تجاوزت الحوزة العلمية في قم اخيراً هذه المشكلة واصبح تدريس اللغات الاجنبية قائما.
وحين اعلن الامام السيد محسن الحكيم تغيير رأيه وأفتى بطهارة اهل الكتاب (اليهود والنصارى ومن الحق بهم) ثارت ضده زوبعة من بعض الاطراف الدينية، ويشير الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «فقه الامام الصادق» الى حساسية الاجواء الدينية من طرح مثل هذا الرأي الفقهي في مسألة جانبية فيقول:
«عاصرت ثلاثة مراجع كبار من اهل الفتيا والتقليد، الاول كان في النجف الاشرف، وهو الشيخ محمد رضا آل يس، والثاني في قم، وهو السيد صدر الدين الصدر، والثالث في لبنان، وهو السيد محسن الامين، وقد افتوا جميعا بالطهارة ـ طهارة اهل الكتاب ـ واسروا بذلك الى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفا من المهوّشين، على ان «الشيخ» يس كان اجرأ الجميع، وانا على يقين بان كثيرا من فقهاء اليوم والامس يقولون بالطهارة ولكنهم يخشون اهل الجهل، والله أحق ان يخشوه».
هذا كان قبل حوالي نصف قرن اما الآن فالرأي السائد بين الفقهاء هو القول بطهارة اهل الكتاب، بل هناك رأي بدأ يتبلور عند بعض الفقهاء بطهارة جميع الكفار فالانسان لا يكون نجسا بسبب دينه وعقيدته.
ومع قوة شخصية وموقعية الامام الخميني رحمه الله، فانه لما افتى ببعض المسائل المخالفة للرأي الفقهي السائد، كفتواه بجواز الشطرنج اذا لم يكن فيه قمار مالي، ثارت ضده بعض الزوابع، وكتب له بعض تلامذته ناصحين بان لا يصدر مثل هذه الآراء المخالفة للمشهور، لان البعض يستغلها لتشويه سمعته والتشكيك في نزاهته!
واشار الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي الى ان كثيرا من العلماء يحملون رأيهم في صدورهم، ولا يبوحون به خشية الوقوع في الخلاف والاختلاف، وضرب مثلا على ذلك بقول الشيخ محمد ابو زهرة في احد المؤتمرات: انه عنده رأي كتمه عشرين عاما ويريد ان يبوح به الآن، وقال الشيخ القرضاوي: انني كتمت بعض الفتاوي لسنين طويلة خشية ان يهاجمني المهاجمون ثم بدأت افصح عن هذه الفتاوي وانشرها، (جريدة الشرق الاوسط 30/1/2001م).
ان الاستسلام لهذه المشكلة والخضوع لها، يكلف الاسلام والامة ثمنا باهظا، فتشريع الاجتهاد ليس امرا عبثيا، وليس مسألة ترفيه، وانما لأن طبيعة الحياة والانسان تقتضي ذلك، والاجتهاد يظهر حيوية الفكر والفقه الاسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان.
لكن الجمود والركود والوقوف عند آراء السلف والفتاوى المشهورة على حساب الدليل والبرهان، يفرغ الاجتهاد من محتواه، ويجعله عنوانا شكليا، حينما يجد الفقيه والمفكر نفسه مقيدا بالرأي السائد والمتداول.
والامة الاسلامية تواجه اليوم تحديات كبيرة على مختلف الاصعدة الفكرية والسياسية والاجتماعية، فلا بد وان يجتهد علماؤها ومفكروها لتلمس طريق الخلاص، والارتقاء الى مستوى التحدي، وذلك يستدعي استنهاض الفكر واستثارة الرأي، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه للاكفاء والمؤهلين، دون قيود سياسية او اجتماعية.
ان حرية الفكر وحق التعبير عن الرأي مطلب انساني، تتطلع اليه كل الشعوب، فهل يصح ان يحرم منه العلماء والمفكرون داخل اوساطهم؟
واذا كان هناك من يتحدث عن بعض سلبيات حرية الرأي والفكر، فان مواجهة تلك السلبيات لا يكون بالقمع والحصار، وانما بالمنازلة العلمية، والطروحات المنهجية التي ترشد المسار، فسلبيات الجمود والارهاب الفكري اكثر ضررا واشد خطرا.
واود ان اركز في نهاية حديثي على النقاط التالية:
1 ـ ان ممارسة الاجتهاد واعطاء الرأي والفتوى في مسائل الفقه هو حق للمجتهد الفقيه دون من لا يمتلك هذه الكفاءة، كما ان للاجتهاد ضوابطه المقررة.
2 ـ ان حرية البحث والنظر ومجال التعبير عن الرأي هي من الاجواء الطبيعية للاجتهاد وتنمية القدرات والطاقات، وبلورة الآراء وانضاج الافكار وتكامل النظريات.
3 ـ ان الساحة العلمية الدينية بحاجة ماسة الى وجود الفقهاء المتوفرين على الجرأة والشجاعة لمواجهة التحديات الخطيرة.
4 ـ ادارة الصراع الفكري والاختلاف العلمي يجب ان تتم وفق آداب الاسلام واخلاقيات العلم والمعرفة، ولا يجوز استخدام الاساليب الخاطئة في اسقاط الاشخاص والتشكيك في النوايا، وتحشيد عواطف الجمهور.
5 ـ آن ان تنبثق داخل الاجواء العلمية والدينية جهات تتبنى الدفاع عن حرية الفكر وحق التعبير عن الرأي، فهناك شريحة واسعة في الوسط الديني تؤمن بذلك، لكنها لم تأخذ مبادرة لخدمة هذا التوجه، مما ترك الساحة فارغة لضغوط الاطراف المحافظة والممانعة للتغيير والتطوير، ان مستوى الوعي عند الجمهور قد تقدم، والاحساس بضرورة التجديد قد اتسعت رقعته، لكن العناصر الواعية في الوسط العلمي والديني بحاجة لتكثيف جهودها من اجل الدفاع عن حرية الفكر وحق التعبير عن الرأي.
ما عاناه الشيخ ابن ادريس الحلي من بعض الوسط العلمي الديني بسبب جرأته في الاجتهاد، وممارسة حقه في التعبير عن الرأي، بل القيام بواجبه الشرعي في تبيين ما يدين الله به من رأي وصل إليه اجتهاده، وهو حالة متكررة ومعاناة متجددة يواجهها العلماء الاحرار في تكفيرهم ومواقفهم في مختلف العصور.
وقد تحدث الشهيد الشيخ مرتضى المطهري في عدد من خطاباته وكتاباته عن هذه المشكلة التي تعيق تطور الفكر والفقه الاسلامي، ونقل في حديث له بعنوان (المشكلة الاساس في جماعة علماء الدين) عن الإمام السيد حسين البروجردي شكواه من الضغوط التي تقيده في الوسط الديني من إعلان بعض آرائه وفتاواه، قائلاً: «إن التقية من اصحابنا أهم وأعلى».
وأشار الشيخ المطهري- في كتابه محاضرات في الدين والاجتماع- الى ان المسألة لا تقتصر على رفض طرح الرأي الجديد، وانما حتى التجديد في الوسائل والاساليب المتداولة في الحوزة العلمية يواجه عوائق وممانعة، فالشيخ عبدالكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم اضطر للتراجع عن فكرة تخصيص دروس لتعلم اللغة الانكليزية في الحوزة آنذاك، بسبب ضغط بعض الجهات التي أثارت زوابع وتشكيكات بعدم جواز صرف الحقوق الشرعية على تعلم لغة الكفار!! بالطبع تجاوزت الحوزة العلمية في قم اخيراً هذه المشكلة واصبح تدريس اللغات الاجنبية قائما.
وحين اعلن الامام السيد محسن الحكيم تغيير رأيه وأفتى بطهارة اهل الكتاب (اليهود والنصارى ومن الحق بهم) ثارت ضده زوبعة من بعض الاطراف الدينية، ويشير الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «فقه الامام الصادق» الى حساسية الاجواء الدينية من طرح مثل هذا الرأي الفقهي في مسألة جانبية فيقول:
«عاصرت ثلاثة مراجع كبار من اهل الفتيا والتقليد، الاول كان في النجف الاشرف، وهو الشيخ محمد رضا آل يس، والثاني في قم، وهو السيد صدر الدين الصدر، والثالث في لبنان، وهو السيد محسن الامين، وقد افتوا جميعا بالطهارة ـ طهارة اهل الكتاب ـ واسروا بذلك الى من يثقون به، ولم يعلنوا خوفا من المهوّشين، على ان «الشيخ» يس كان اجرأ الجميع، وانا على يقين بان كثيرا من فقهاء اليوم والامس يقولون بالطهارة ولكنهم يخشون اهل الجهل، والله أحق ان يخشوه».
هذا كان قبل حوالي نصف قرن اما الآن فالرأي السائد بين الفقهاء هو القول بطهارة اهل الكتاب، بل هناك رأي بدأ يتبلور عند بعض الفقهاء بطهارة جميع الكفار فالانسان لا يكون نجسا بسبب دينه وعقيدته.
ومع قوة شخصية وموقعية الامام الخميني رحمه الله، فانه لما افتى ببعض المسائل المخالفة للرأي الفقهي السائد، كفتواه بجواز الشطرنج اذا لم يكن فيه قمار مالي، ثارت ضده بعض الزوابع، وكتب له بعض تلامذته ناصحين بان لا يصدر مثل هذه الآراء المخالفة للمشهور، لان البعض يستغلها لتشويه سمعته والتشكيك في نزاهته!
واشار الدكتور الشيخ يوسف القرضاوي الى ان كثيرا من العلماء يحملون رأيهم في صدورهم، ولا يبوحون به خشية الوقوع في الخلاف والاختلاف، وضرب مثلا على ذلك بقول الشيخ محمد ابو زهرة في احد المؤتمرات: انه عنده رأي كتمه عشرين عاما ويريد ان يبوح به الآن، وقال الشيخ القرضاوي: انني كتمت بعض الفتاوي لسنين طويلة خشية ان يهاجمني المهاجمون ثم بدأت افصح عن هذه الفتاوي وانشرها، (جريدة الشرق الاوسط 30/1/2001م).
ان الاستسلام لهذه المشكلة والخضوع لها، يكلف الاسلام والامة ثمنا باهظا، فتشريع الاجتهاد ليس امرا عبثيا، وليس مسألة ترفيه، وانما لأن طبيعة الحياة والانسان تقتضي ذلك، والاجتهاد يظهر حيوية الفكر والفقه الاسلامي وصلاحيته لكل زمان ومكان.
لكن الجمود والركود والوقوف عند آراء السلف والفتاوى المشهورة على حساب الدليل والبرهان، يفرغ الاجتهاد من محتواه، ويجعله عنوانا شكليا، حينما يجد الفقيه والمفكر نفسه مقيدا بالرأي السائد والمتداول.
والامة الاسلامية تواجه اليوم تحديات كبيرة على مختلف الاصعدة الفكرية والسياسية والاجتماعية، فلا بد وان يجتهد علماؤها ومفكروها لتلمس طريق الخلاص، والارتقاء الى مستوى التحدي، وذلك يستدعي استنهاض الفكر واستثارة الرأي، وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه للاكفاء والمؤهلين، دون قيود سياسية او اجتماعية.
ان حرية الفكر وحق التعبير عن الرأي مطلب انساني، تتطلع اليه كل الشعوب، فهل يصح ان يحرم منه العلماء والمفكرون داخل اوساطهم؟
واذا كان هناك من يتحدث عن بعض سلبيات حرية الرأي والفكر، فان مواجهة تلك السلبيات لا يكون بالقمع والحصار، وانما بالمنازلة العلمية، والطروحات المنهجية التي ترشد المسار، فسلبيات الجمود والارهاب الفكري اكثر ضررا واشد خطرا.
واود ان اركز في نهاية حديثي على النقاط التالية:
1 ـ ان ممارسة الاجتهاد واعطاء الرأي والفتوى في مسائل الفقه هو حق للمجتهد الفقيه دون من لا يمتلك هذه الكفاءة، كما ان للاجتهاد ضوابطه المقررة.
2 ـ ان حرية البحث والنظر ومجال التعبير عن الرأي هي من الاجواء الطبيعية للاجتهاد وتنمية القدرات والطاقات، وبلورة الآراء وانضاج الافكار وتكامل النظريات.
3 ـ ان الساحة العلمية الدينية بحاجة ماسة الى وجود الفقهاء المتوفرين على الجرأة والشجاعة لمواجهة التحديات الخطيرة.
4 ـ ادارة الصراع الفكري والاختلاف العلمي يجب ان تتم وفق آداب الاسلام واخلاقيات العلم والمعرفة، ولا يجوز استخدام الاساليب الخاطئة في اسقاط الاشخاص والتشكيك في النوايا، وتحشيد عواطف الجمهور.
5 ـ آن ان تنبثق داخل الاجواء العلمية والدينية جهات تتبنى الدفاع عن حرية الفكر وحق التعبير عن الرأي، فهناك شريحة واسعة في الوسط الديني تؤمن بذلك، لكنها لم تأخذ مبادرة لخدمة هذا التوجه، مما ترك الساحة فارغة لضغوط الاطراف المحافظة والممانعة للتغيير والتطوير، ان مستوى الوعي عند الجمهور قد تقدم، والاحساس بضرورة التجديد قد اتسعت رقعته، لكن العناصر الواعية في الوسط العلمي والديني بحاجة لتكثيف جهودها من اجل الدفاع عن حرية الفكر وحق التعبير عن الرأي.