yasmeen
07-24-2005, 07:18 AM
محمد صادقي الحسيني
كاتب متخصص في الشؤون الإيرانية.
الحياة 24/7/2005
بعد ابحار مضطرب وأسفار مليئة بالغموض والأسرار، يبدو أن سفينة حكام العراق الجدد قررت أن تكون موانئ بلاد فارس محطتها الأكثر أمناً من بين محطات الرهان الاقليمية والدولية المتعددة.
فأن يتحول العراق «العدو» الذي خاض يوماً حرباً ضروساً ضد الحكم الإسلامي في طهران الى «الشقيق» الذي ينبغي وضع كل إمكانات بلاد فارس من أجل إعادة الرفاه والتقدم اليه، لا يمكن ايجاد أي تفسير له سوى أن طهران تعتبر نفسها بأنها انتصرت، ولو متأخراً، في حرب الثماني سنوات التي فرضت عليها في الثمانينات وهي لم تزل وليدة، بفضل صبرها و «تقيتها» السياسية الطويلة والقاسية مع قادة الحرب الحقيقيين، أي الأميركيين.
فالأميركيون، في نظر طهران، هم الذين أوعزوا لحكام بغداد آنذاك بإعلان الحرب ضد ثورتهم في محاولة لخنقها في المهد. وهم الذين كانوا وما زالوا يبيتون السوء للإيرانيين. فهل هناك أبلغ من أن يذيقوهم العلقم من الكأس نفسها التي أجبروهم على تجرعه في العام 1988 من دون أن يطلقوا طلقة واحدة؟!
هذه هي الرسالة التي أراد صنّاع القرار في طهران ارسالها الى الأميركيين من خلال استقبالهم الحافل للجعفري ونصف مجلس وزرائه تقريباً، مع كل ما رافق تلك الزيارة من اتفاقات استراتيجية في كل القضايا الحياتية والأساسية التي تتعلق في بناء العراق الجديد. عراق خال من صدام حسين وكل من يمت اليه بصلة، وان بعيدة، حتى وإن كان مثل اياد علاوي الذي حاول لعب دور «المناضل» و»المتعاون» في معركة بناء العراق الجديد.
عندما أبديت استغرابي يوماً وأنا أحاور أحد صنّاع القرار الإيراني على سياسة بلاده تجاه حكام العراق الجدد الذين حملهم الاحتلال الأميركي - البريطاني الى سدة مجلس الحكم الشهير، قال لي يومها: «استحلفك بالله كيف كان تصورك للتشكيلة الحاكمة لبغداد لو أن طهران هي التي اسقطت نظام صدام حسين، فهل كان شكلها سيختلف عما اختاره الأميركيون؟!».
إنها لعبة فن الممكن البراغماتية المسكونة بأعلى درجات «التقية» السياسية الممكنة، أليس كذلك؟ هذه هي أوراق اللعبة المتوفرة والمتداولة في بازار إعادة صوغ العراق الذي أدركت طهران مبكراً أنه افتتح مع قرار واشنطن المبكر، والأكيد على طريق إقامة مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفي خضم الحرب العالمية للسيطرة على الموارد، وفي طليعتها موارد البلاد العربية والإسلامية.
لقد دفعت طهران يومها بكل ثقلها من أجل أن تكون الحاضر الغائب في كل تفاصيل الأخذ والعطاء «البازاري» العراقي مع الاحتفاظ الدائم بأوراقها الخفية الخاصة بها. ولما كان، كما يقال: «من حضر السوق باع واشترى»، ها هي طهران تكسب الجولة الثانية بعد أن كسبت جولة إطاحة صدام حسين والانتصار في حرب الثماني سنوات من دون أن تطلق رصاصة إضافية واحدة بعد وقف اطلاق النار الرسمي العام 1988.
من يعرف طهران جيداً يستطيع التأكيد أنها لا يمكن أن تثق بالأميركيين بأي حال من الأحوال، حتى وإن كانوا هم الذين اتوا بأصدقائهم وحلفائهم الى السلطة في بغداد. ومن يعرف حكام العراق الجدد من «شيعة وأكراد» جيداً يستطيع التأكيد ايضاً بأن الطبقة السياسية العراقية الحالية ليست مجرد «عميلة» لإيران، كما يحاول البعض أن يصفها. كما أنها ليست بالضرورة ورقة سهلة ولينة بيد الأميركيين حتى يمكن المساومة معهم في لعبة الأسرار والغموض التي تحيط بمستقبل العراق الجديد.
لكن الشيء الأكيد والقدر المتيقن حتى الآن هو أن لا أحد من هذه الأطراف الثلاثة قرر أن يكشف أوراقه ورهاناته الحقيقية بعد. فأميركا ترى نفسها اليوم مجبرة بعد تخبطها وتعثر حظها مع العراقيين، أن تدفع ثمن ذلك كله بالإقرار لدور مركزي لطهران في مستقبل العراق. والنخب العراقية السياسية الجديدة ترى نفسها أمام قدرها الذي لا مهرب منه. فبعد أن خسرت في كسب رهان «العرب»، عليها، وهي ترى حظها المتعثر في رمال بلاد الرافدين المتحركة مع حلفائها من حلف الأطلسي، لم يبقَ أمامها إلا أن ترسو مراكبها في الخليج الفارسي.
وأما طهران، التي كانت تتمنى أن تكون «كربلاء» المحررة على يدها هي الممهدة لحرب تحرير القدس، فإنها تجد نفسها اليوم «قانعة»، ولو الى حين، بعراق أقل ما يقال عنه إنه غير قادر على منعها من الاستمرار في مهمتها المفضلة تلك، ناهيك عن أن يكون في أمس الحاجة إليها كصديق إن لم يكن بمثابة الشقيق المستقبلي الذي يمكن أن تراهن عليه في معركة خيارات الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الإسلامي!
والى حين، انقشاع السحابة الداكنة التي تخيم على العراق الجديد، والتي بدأت تجلب الارق لكل اللاعبين على أرضه بسبب سياسة «الفوضى الخلاقة» أو البناءة، التي اتخذتها إدارة المحافظين الجدد كميدان اختبار أول في بغداد، فإن طهران تبقى هي الرابح الأكبر حتى الآن من دون أن يمنع ذلك أن الجميع صار مسكوناً بقانون التقية القائل: «احفظ ذهابك وذهبك ومذهبك».
كاتب متخصص في الشؤون الإيرانية.
الحياة 24/7/2005
بعد ابحار مضطرب وأسفار مليئة بالغموض والأسرار، يبدو أن سفينة حكام العراق الجدد قررت أن تكون موانئ بلاد فارس محطتها الأكثر أمناً من بين محطات الرهان الاقليمية والدولية المتعددة.
فأن يتحول العراق «العدو» الذي خاض يوماً حرباً ضروساً ضد الحكم الإسلامي في طهران الى «الشقيق» الذي ينبغي وضع كل إمكانات بلاد فارس من أجل إعادة الرفاه والتقدم اليه، لا يمكن ايجاد أي تفسير له سوى أن طهران تعتبر نفسها بأنها انتصرت، ولو متأخراً، في حرب الثماني سنوات التي فرضت عليها في الثمانينات وهي لم تزل وليدة، بفضل صبرها و «تقيتها» السياسية الطويلة والقاسية مع قادة الحرب الحقيقيين، أي الأميركيين.
فالأميركيون، في نظر طهران، هم الذين أوعزوا لحكام بغداد آنذاك بإعلان الحرب ضد ثورتهم في محاولة لخنقها في المهد. وهم الذين كانوا وما زالوا يبيتون السوء للإيرانيين. فهل هناك أبلغ من أن يذيقوهم العلقم من الكأس نفسها التي أجبروهم على تجرعه في العام 1988 من دون أن يطلقوا طلقة واحدة؟!
هذه هي الرسالة التي أراد صنّاع القرار في طهران ارسالها الى الأميركيين من خلال استقبالهم الحافل للجعفري ونصف مجلس وزرائه تقريباً، مع كل ما رافق تلك الزيارة من اتفاقات استراتيجية في كل القضايا الحياتية والأساسية التي تتعلق في بناء العراق الجديد. عراق خال من صدام حسين وكل من يمت اليه بصلة، وان بعيدة، حتى وإن كان مثل اياد علاوي الذي حاول لعب دور «المناضل» و»المتعاون» في معركة بناء العراق الجديد.
عندما أبديت استغرابي يوماً وأنا أحاور أحد صنّاع القرار الإيراني على سياسة بلاده تجاه حكام العراق الجدد الذين حملهم الاحتلال الأميركي - البريطاني الى سدة مجلس الحكم الشهير، قال لي يومها: «استحلفك بالله كيف كان تصورك للتشكيلة الحاكمة لبغداد لو أن طهران هي التي اسقطت نظام صدام حسين، فهل كان شكلها سيختلف عما اختاره الأميركيون؟!».
إنها لعبة فن الممكن البراغماتية المسكونة بأعلى درجات «التقية» السياسية الممكنة، أليس كذلك؟ هذه هي أوراق اللعبة المتوفرة والمتداولة في بازار إعادة صوغ العراق الذي أدركت طهران مبكراً أنه افتتح مع قرار واشنطن المبكر، والأكيد على طريق إقامة مشروع الشرق الأوسط الكبير، وفي خضم الحرب العالمية للسيطرة على الموارد، وفي طليعتها موارد البلاد العربية والإسلامية.
لقد دفعت طهران يومها بكل ثقلها من أجل أن تكون الحاضر الغائب في كل تفاصيل الأخذ والعطاء «البازاري» العراقي مع الاحتفاظ الدائم بأوراقها الخفية الخاصة بها. ولما كان، كما يقال: «من حضر السوق باع واشترى»، ها هي طهران تكسب الجولة الثانية بعد أن كسبت جولة إطاحة صدام حسين والانتصار في حرب الثماني سنوات من دون أن تطلق رصاصة إضافية واحدة بعد وقف اطلاق النار الرسمي العام 1988.
من يعرف طهران جيداً يستطيع التأكيد أنها لا يمكن أن تثق بالأميركيين بأي حال من الأحوال، حتى وإن كانوا هم الذين اتوا بأصدقائهم وحلفائهم الى السلطة في بغداد. ومن يعرف حكام العراق الجدد من «شيعة وأكراد» جيداً يستطيع التأكيد ايضاً بأن الطبقة السياسية العراقية الحالية ليست مجرد «عميلة» لإيران، كما يحاول البعض أن يصفها. كما أنها ليست بالضرورة ورقة سهلة ولينة بيد الأميركيين حتى يمكن المساومة معهم في لعبة الأسرار والغموض التي تحيط بمستقبل العراق الجديد.
لكن الشيء الأكيد والقدر المتيقن حتى الآن هو أن لا أحد من هذه الأطراف الثلاثة قرر أن يكشف أوراقه ورهاناته الحقيقية بعد. فأميركا ترى نفسها اليوم مجبرة بعد تخبطها وتعثر حظها مع العراقيين، أن تدفع ثمن ذلك كله بالإقرار لدور مركزي لطهران في مستقبل العراق. والنخب العراقية السياسية الجديدة ترى نفسها أمام قدرها الذي لا مهرب منه. فبعد أن خسرت في كسب رهان «العرب»، عليها، وهي ترى حظها المتعثر في رمال بلاد الرافدين المتحركة مع حلفائها من حلف الأطلسي، لم يبقَ أمامها إلا أن ترسو مراكبها في الخليج الفارسي.
وأما طهران، التي كانت تتمنى أن تكون «كربلاء» المحررة على يدها هي الممهدة لحرب تحرير القدس، فإنها تجد نفسها اليوم «قانعة»، ولو الى حين، بعراق أقل ما يقال عنه إنه غير قادر على منعها من الاستمرار في مهمتها المفضلة تلك، ناهيك عن أن يكون في أمس الحاجة إليها كصديق إن لم يكن بمثابة الشقيق المستقبلي الذي يمكن أن تراهن عليه في معركة خيارات الشرق الأوسط الكبير والشرق الأوسط الإسلامي!
والى حين، انقشاع السحابة الداكنة التي تخيم على العراق الجديد، والتي بدأت تجلب الارق لكل اللاعبين على أرضه بسبب سياسة «الفوضى الخلاقة» أو البناءة، التي اتخذتها إدارة المحافظين الجدد كميدان اختبار أول في بغداد، فإن طهران تبقى هي الرابح الأكبر حتى الآن من دون أن يمنع ذلك أن الجميع صار مسكوناً بقانون التقية القائل: «احفظ ذهابك وذهبك ومذهبك».