النسر
07-06-2020, 10:58 PM
يشكِّل نظام البريد في الإمبراطورية الفارسية نموذجا تحتذي به الهيئة المسؤولة عن الخدمات البريدية في الولايات المتحدة ونظيراتها في دول أخرى في العالم
https://ichef.bbci.co.uk/news/660/cpsprodpb/7812/production/_113183703_53254939.jpg
في فترة تشهد فيها عمليات تسليم المظاريف بالبريد في مختلف أنحاء العالم تأخيرات لا يُستهان بها، وتقف خلالها الهيئة المسؤولة عن تقديم الخدمات البريدية في الولايات المتحدة على شفا الإفلاس بسبب خسائرها المالية، جراء تبعات وباء كورونا، كما قالت وسائل إعلام أمريكية، بدأ كثيرون يدركون الدور الحيوي الذي يلعبه البريد في حياتنا اليومية.
رغم ذلك، ربما لا يعرف سوى عدد محدود من هؤلاء الأشخاص، كيف أخذت الخدمات البريدية شكلها في عالمنا اليوم، ولا يدري كثيرون شيئا عن نظام البريد الفارسي القديم الذي شكَّل نموذجا ومصدرا للإلهام، لهيئة البريد في الولايات المتحدة، ونظيراتها في دول العالم الأخرى.
فعلى الرغم مما يُقال إن الحضارتيْن الصينية والمصرية مثلا، كانتا من بين أولى الحضارات التي شهدت نظاما للخدمات البريدية، وإن الإمبراطوريتيْن الأشورية الحديثة والبابلية الحديثة – حيث يقع العراق الآن - كانتا تستخدمان شكلا من أشكال تسليم الخطابات والطرود بالبريد، قبل ظهور الإمبراطورية الفارسية إلى الوجود في القرن السادس قبل الميلاد، فإن تلك الإمبراطورية التي قامت حيث توجد إيران الحالية أوصلت فكرة ابتكار نظام للبريد إلى آفاق لم تكن معروفة من قبل في وقتها.
فقد استُخْدِمت لهذا الغرض شبكة مكثفة من الطرق، التي جابها فرسان محنكون، كانوا قادرين على تغطية مسافات شاسعة، امتدت عبر إمبراطورية هائلة ومتنوعة التضاريس، وذلك بسرعة مذهلة وعزيمة راسخة.
فباستخدام سعاة يمتطون ظهور الخيول؛ كان بوسع الإمبراطورية الأخمينية - التي ظهرت في بلاد فارس ومحيطها في الفترة ما بين عاميْ 550 و330 قبل الميلاد تقريبا - تسليم الرسائل في غضون أيام معدودات، برغم المسافة الكبيرة للغاية، التي تفصل بين صاحب الرسالة ومتلقيها.
فوفقا للباحثين، كان يمكن نقل رسالة من مدينة سوسة القديمة، العاصمة الإدارية للإمبراطورية، التي تقع غربي إيران الحالية، إلى مدينة سارد الواقعة غربي تركيا كما نعرفها حاليا، في غضون ما بين سبعة إلى تسعة أيام، وذلك عبر ما كان يُعرف بـ "الطريق الملكي"، وهو ضرب من ضروب الطرق السريعة التي كانت تصل بين المدينتيْن.
وفي كتاباته، أشار المؤرخ الإغريقي هيرودوت إلى أن هاتين المدينتين، كانتا تقعان على طرفيْ "الطريق الملكي"، البالغ طوله 2600 كيلومتر تقريبا. وفي كتابه الذي يحمل اسم "تاريخ هيرودوت"، قال المؤرخ الشهير إن قطع هذا الطريق بالكامل، كان يستغرق من المرء ثلاثة شهور سيرا على الأقدام.
ورغم المسافة الكبيرة التي كان يغطيها ذلك الطريق، فإن نظام البريد في الإمبراطورية الفارسية، كان أوسع نطاقا منه بكثير. ففي كتابه "من قورش إلى الإسكندر: جانب من تاريخ الإمبراطورية الفارسية"، قال أستاذ التاريخ الدكتور بيير بريانت إن "وصف هيرودوت هنا مجتزأ للأمر.. فـ 'الطريق الملكي ' الواصل بين سوسة وسارد، لم يكن سوى واحد من ضمن الكثير من الطرق المماثلة" التي كانت موجودة في الإمبراطورية الفارسية.
https://ichef.bbci.co.uk/news/624/cpsprodpb/9F22/production/_113183704_53254939.jpg
منطقة في مدينة سارد التركية تشكل جزءا من "الطريق الملكي" الذي كانت تُنقل عبره الخطابات في الإمبراطورية الفارسية
ففي ذروة ازدهارها تحت حكم داريوش الكبير، الذي يُعرف كذلك بـ "دارا الأول"، كانت الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، تمتد من الهند شرقا إلى اليونان غربا. ويشرح بريانت في كتابه كيف كشفت لوحات تذكارية، عُثِرَ عليها في مدينة برسبوليس العاصمة الرسمية لهذه الإمبراطورية، عن أن الخطابات كانت تُرْسل إلى تلك المدينة من بقاع مثل مصر والهند والعكس. وتشير هذه اللوحات أيضا، إلى أن المؤرخ القديم كتسياس، سبق أن أشار إلى أن مدينة أفسس الإغريقية القديمة كانت إحدى المدن التي كان البريد يُرسل إليها أو يصل منها. ويعني ذلك وفقا لـ "بريانت"، أن كل مساحة الإمبراطورية "كانت مغطاة" في ذلك الوقت بنظام البريد القديم.
وبالفعل كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ، التي تُنقل فيها الخطابات بالبريد على هذا النطاق الواسع للغاية. وقد كان نظام البريد المتبع في الإمبراطورية الفارسية، يعتمد آنذاك على الخيول التي تنتقل فيها الخطابات، من ساعٍ لآخر بأسلوب التتابع، ما يجعل عملية النقل هذه سريعة وفعالة.
ومن المؤكد، أنه لم يكن بوسع الفرس تغطية هذه المسافات الطويلة التي تصل بينها طرق وعرة، ما لم يكونوا في الأصل، فرسانا مهرة ومحنكين. وتفيد وقائع التاريخ بأن الإيرانيين القدماء، الذين يشكل الفرس أحد الشعوب الكثيرة المؤلفة لأمتهم، كانوا شديدي المهارة في الفروسية. فبعيدا حتى عن نظام البريد الذي برعوا فيه؛ كان الإيرانيون القدماء هم من ألهموا الإغريق – مثلا - استحداث سلاح الفرسان في الحروب، كما كانوا أصحاب الفضل في ابتكار لعبة البولو.
وفي كتاب "تاريخ العالم الحضري: من منظور اقتصادي وجغرافي"، يقول الدكتور لوك-نورمان تيلير إن "الطريق الملكي الفارسي، يشكل من الوجهة التاريخية" أول طريق من نوعه صُمم "بهدف الاستفادة الكاملة من عملية نقل الأشياء على متن الخيول، من خلال أشخاص يتحركون بنظام التتابع" الذي تنتقل في إطاره الخطابات والطرود من يد ليد.
https://ichef.bbci.co.uk/news/660/cpsprodpb/7812/production/_113183703_53254939.jpg
في فترة تشهد فيها عمليات تسليم المظاريف بالبريد في مختلف أنحاء العالم تأخيرات لا يُستهان بها، وتقف خلالها الهيئة المسؤولة عن تقديم الخدمات البريدية في الولايات المتحدة على شفا الإفلاس بسبب خسائرها المالية، جراء تبعات وباء كورونا، كما قالت وسائل إعلام أمريكية، بدأ كثيرون يدركون الدور الحيوي الذي يلعبه البريد في حياتنا اليومية.
رغم ذلك، ربما لا يعرف سوى عدد محدود من هؤلاء الأشخاص، كيف أخذت الخدمات البريدية شكلها في عالمنا اليوم، ولا يدري كثيرون شيئا عن نظام البريد الفارسي القديم الذي شكَّل نموذجا ومصدرا للإلهام، لهيئة البريد في الولايات المتحدة، ونظيراتها في دول العالم الأخرى.
فعلى الرغم مما يُقال إن الحضارتيْن الصينية والمصرية مثلا، كانتا من بين أولى الحضارات التي شهدت نظاما للخدمات البريدية، وإن الإمبراطوريتيْن الأشورية الحديثة والبابلية الحديثة – حيث يقع العراق الآن - كانتا تستخدمان شكلا من أشكال تسليم الخطابات والطرود بالبريد، قبل ظهور الإمبراطورية الفارسية إلى الوجود في القرن السادس قبل الميلاد، فإن تلك الإمبراطورية التي قامت حيث توجد إيران الحالية أوصلت فكرة ابتكار نظام للبريد إلى آفاق لم تكن معروفة من قبل في وقتها.
فقد استُخْدِمت لهذا الغرض شبكة مكثفة من الطرق، التي جابها فرسان محنكون، كانوا قادرين على تغطية مسافات شاسعة، امتدت عبر إمبراطورية هائلة ومتنوعة التضاريس، وذلك بسرعة مذهلة وعزيمة راسخة.
فباستخدام سعاة يمتطون ظهور الخيول؛ كان بوسع الإمبراطورية الأخمينية - التي ظهرت في بلاد فارس ومحيطها في الفترة ما بين عاميْ 550 و330 قبل الميلاد تقريبا - تسليم الرسائل في غضون أيام معدودات، برغم المسافة الكبيرة للغاية، التي تفصل بين صاحب الرسالة ومتلقيها.
فوفقا للباحثين، كان يمكن نقل رسالة من مدينة سوسة القديمة، العاصمة الإدارية للإمبراطورية، التي تقع غربي إيران الحالية، إلى مدينة سارد الواقعة غربي تركيا كما نعرفها حاليا، في غضون ما بين سبعة إلى تسعة أيام، وذلك عبر ما كان يُعرف بـ "الطريق الملكي"، وهو ضرب من ضروب الطرق السريعة التي كانت تصل بين المدينتيْن.
وفي كتاباته، أشار المؤرخ الإغريقي هيرودوت إلى أن هاتين المدينتين، كانتا تقعان على طرفيْ "الطريق الملكي"، البالغ طوله 2600 كيلومتر تقريبا. وفي كتابه الذي يحمل اسم "تاريخ هيرودوت"، قال المؤرخ الشهير إن قطع هذا الطريق بالكامل، كان يستغرق من المرء ثلاثة شهور سيرا على الأقدام.
ورغم المسافة الكبيرة التي كان يغطيها ذلك الطريق، فإن نظام البريد في الإمبراطورية الفارسية، كان أوسع نطاقا منه بكثير. ففي كتابه "من قورش إلى الإسكندر: جانب من تاريخ الإمبراطورية الفارسية"، قال أستاذ التاريخ الدكتور بيير بريانت إن "وصف هيرودوت هنا مجتزأ للأمر.. فـ 'الطريق الملكي ' الواصل بين سوسة وسارد، لم يكن سوى واحد من ضمن الكثير من الطرق المماثلة" التي كانت موجودة في الإمبراطورية الفارسية.
https://ichef.bbci.co.uk/news/624/cpsprodpb/9F22/production/_113183704_53254939.jpg
منطقة في مدينة سارد التركية تشكل جزءا من "الطريق الملكي" الذي كانت تُنقل عبره الخطابات في الإمبراطورية الفارسية
ففي ذروة ازدهارها تحت حكم داريوش الكبير، الذي يُعرف كذلك بـ "دارا الأول"، كانت الإمبراطورية الأخمينية الفارسية، تمتد من الهند شرقا إلى اليونان غربا. ويشرح بريانت في كتابه كيف كشفت لوحات تذكارية، عُثِرَ عليها في مدينة برسبوليس العاصمة الرسمية لهذه الإمبراطورية، عن أن الخطابات كانت تُرْسل إلى تلك المدينة من بقاع مثل مصر والهند والعكس. وتشير هذه اللوحات أيضا، إلى أن المؤرخ القديم كتسياس، سبق أن أشار إلى أن مدينة أفسس الإغريقية القديمة كانت إحدى المدن التي كان البريد يُرسل إليها أو يصل منها. ويعني ذلك وفقا لـ "بريانت"، أن كل مساحة الإمبراطورية "كانت مغطاة" في ذلك الوقت بنظام البريد القديم.
وبالفعل كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ، التي تُنقل فيها الخطابات بالبريد على هذا النطاق الواسع للغاية. وقد كان نظام البريد المتبع في الإمبراطورية الفارسية، يعتمد آنذاك على الخيول التي تنتقل فيها الخطابات، من ساعٍ لآخر بأسلوب التتابع، ما يجعل عملية النقل هذه سريعة وفعالة.
ومن المؤكد، أنه لم يكن بوسع الفرس تغطية هذه المسافات الطويلة التي تصل بينها طرق وعرة، ما لم يكونوا في الأصل، فرسانا مهرة ومحنكين. وتفيد وقائع التاريخ بأن الإيرانيين القدماء، الذين يشكل الفرس أحد الشعوب الكثيرة المؤلفة لأمتهم، كانوا شديدي المهارة في الفروسية. فبعيدا حتى عن نظام البريد الذي برعوا فيه؛ كان الإيرانيون القدماء هم من ألهموا الإغريق – مثلا - استحداث سلاح الفرسان في الحروب، كما كانوا أصحاب الفضل في ابتكار لعبة البولو.
وفي كتاب "تاريخ العالم الحضري: من منظور اقتصادي وجغرافي"، يقول الدكتور لوك-نورمان تيلير إن "الطريق الملكي الفارسي، يشكل من الوجهة التاريخية" أول طريق من نوعه صُمم "بهدف الاستفادة الكاملة من عملية نقل الأشياء على متن الخيول، من خلال أشخاص يتحركون بنظام التتابع" الذي تنتقل في إطاره الخطابات والطرود من يد ليد.