زهير
07-16-2005, 11:12 AM
علاء بيومي
كتاب «النزعة العسكرية الأميركية الجديدة» لأستاذ العلاقات الدولية الأميركي اندروا باسفيتش الصادر في فبراير الماضي يحتوي على نظرة متميزة للمحافظين الجدد يصعب العثور عليها في كتابات أخرى، لسببين أولهما إيمان المؤلف بأن التحديات التي تتعرض لها السياسة الخارجية الأميركية في الوقت الراهن ليست نتاجا للمحافظين الجدد أو اليمينيين الأميركيين وحدهم، بل هي نتيجة لأزمة عامة بالنظام السياسي الأميركي شارك في صنعها اليسار واليمين الأميركيان معا خلال العقود الأخيرة، وهو ما يعطي أسلوب باسفيتش ومنهجه قدرا مهما من الحيادية.
السبب الثاني هو أن حياد المؤلف النسبي جعله أكثر تركيزا على تحليل الأفكار والأحداث المؤثرة على سياسة أميركا الخارجية والعسكرية في الوقت الراهن، مما جعله يقدم رؤية متميزة عن المحافظين الجدد وتاريخهم وتطورهم كجماعة والأفكار المحركة لهم, إذ ينادي باسفيتش بضرورة النظر للمحافظين الجدد على أنهم جيلان متميزان من المفكرين والمحللين السياسيين وليس كجيل واحد، الجيل الأول تبلور في الستينات من القرن العشرين وجاءت أفكاره كرد فعل للظروف الدولية والتحديات الداخلية التي تعرضت لها أميركا خلال الفترة الممتدة من الحرب العالمية الأولى حتى نهاية حرب فيتنام في منتصف السبعينات من القرن الماضي، أما الجيل الثاني فقد ظهر في التسعينات من القرن نفسه وجاءت أفكاره لتعبر عن الظروف الأميركية والدولية في هذه الفترة، لذا يؤمن باسفيتش بامكانية العثور على تناقضات في مواقف الجيل الأول مقارنة بالجيل الثاني من أجيال المحافظين الجدد نظرا لأن كل جيل نشأ في ظروف مختلفة مؤمنا بأفكار متميزة.
الجيل الأول وأفكاره
في البداية يؤكد باسفيتش على بعض القواسم المشتركة بين جيلي المحافظين الجدد مثل ايمانهم بدور الأفكار في تغيير الواقع، وسعيهم الدائم للتأثير على مسار الجدل الأميركي العام بخصوص القضايا التي تهمهم، وشهيتهم التي لا تنتهي للجدل وعرض أفكارهم ومهاجمة معارضيهم، وخطابهم الذي يتميز بالثقة والحماس والرضا الداخلي بشكل مبالغ فيه أحيانا.
بالنسبة للجيل الأول يرى باسفيتش أن أفكار وحركة هذا الجيل تقوم على أفكار ست رئيسية، الفكرة الأولى تتعلق بنظرة المحافظين الجدد للتاريخ وخاصة لأحداث الفترة الممتدة من الحرب العالمية الاولى وحتى الحرب العالمية الثانية وهي الفترة التي شهدت الكساد الكبير وصعود النازية وتراجع دور أميركا الدولي بعد الحرب العالمية الاولى ويقول باسفيتش ان هذه الفترة أكدت لدى المحافظين الجدد قناعتين مركزيتين أولهما ان الشر ظاهرة حقيقية واقعية موجودة لا يمكن إنكارها، وثانيهما ان صعود الشر مرهون بشرط بسيط وهو تواني اعدائه عن مقاومته، وهنا يرى المحافظون الجدد ان عزلة أميركا وانغلاقها على نفسها مثل سببا رئيسيا لصعود النازية وانتشارها وما قادت اليه من شرور.
الفكرة الثانية تتعلق بدور القوة العسكرية كأداة أساسية لمواجهة الشر، حيث يرى المحافظون الجدد ان القوة العسكرية وليست الديبلوماسية أو العدالة أو المجتمع الدولي - هي التي تمكنت من ايقاف الزحف النازي، لذا يكن المحافظون الجدد قدرا كبيرا من الرفض والتشاؤم فيما يتعلق بدور المنظمات الدولية والقانون الدولي وجهود الحد من التسلح، حيث يرون ان القوة العسكرية يجب ان تبقى أساسا رئيسيا للسياسة الخارجية الاميركية، كما عارضوا الانتقادات التي تعرض لها الجيش الأميركي ودوره بعد حرب فيتنام الفاشلة.
الفكرة الثالثة هي رفض المحافظين الجدد المطلق لفكرة عزلة أميركا أو تراجع دورها الدولي، فهم يرون ان لأميركا دورا تاريخيا كقائدة للعالم الحر وحامية له وكناشرة للديموقراطية والحرية عبر العالم، كما يرون ان على أميركا والأميركيين القبول بهذا الدور وتحمل تكلفته مهما كانت، فهم يرون ان رغبة الأميركيين في العزلة هي رغبة أنانية.
الفكرة الرابعة هي بحث المحافظين الجدد الدائم عن مشاريع وأهداف خارجية كبيرة لأميركا، لذا عانى المحافظون الجدد كثيرا خلال السبعينات والثمانينات بسبب تبعات حرب فيتنام التي أثرت سلبا على تأييد الشعب الأميركي للجيش ودور أميركا الدولي، كما عانى المحافظون الجدد أيضا مع نهاية الحرب الباردة وتآكل الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات، لأن ذلك أفقد المحافظين الجدد المشروع الكبير الذي يمكنهم صياغة سياسة أميركا من خلاله.
الفكرة الخامسة هي إيمان المحافظين الجدد بدور القيادة السياسية، وسعيهم الدائم للعثور على قيادة سياسية حاسمة قادرة على صناعة التاريخ، ولذا كره المحافظون الجدد كارتر الذي ركز على دعاوى السلام والحد من الحروب في العالم، ولم يرضوا بشكل كامل عن ريغان، لأن خطاب ريغان القوي الرنان لم يطابق أفعاله في أغلب الأحيان.
الفكرة السادسة وهي داخلية فتعبر عن إيمان المحافظين الجدد بدور السلطات التقليدية كالآباء والجيش ومؤسسات تنفيذ القانون والأسرة داخل المجتمع الأميركي، فقد رفض المحافظون الجدد الثورة الثقافية التي اجتاحت أميركا في الستينات والتي نادت بالتعددية الثقافية وحقوق الاقليات والنساء والشواذ، إذ رأى المحافظون الجدد ان الهجوم على المؤسسات التقليدية من شأنه ان يضعف أميركا داخليا مما يضعفها خارجيا.
وقد ركز باسفيتش في وصفه للجيل الاول من المحافظين الجدد على نورمان بودهور يتز المحرر السابق لمجلة كومنتاري الصادرة عن اللجنة اليهودية الاميركية والذي يعد أحد أهم الآباء المؤسسين لتيار المحافظين الجدد، كما ركز بشكل أقل على أفكار ايرفينج كريستول مؤسس مجلة المصلحة العامة «ذا بابليك انتريست» والذي يصفه الكثيرون بأنه الأب الروحي للمحافظين الجدد.
أزمة الجيل الأول وصعود الجيل الثاني
يرى باسفيتش ان نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي مثلا تحديا كبيرا للجيل الأول من المحافظين الجدد على مستوى السياسة الخارجية، اذ أدى فشل المحافظين الجدد في العثور على عدو جديد الى صعود اصحاب التوجهات الواقعية وسيطرتهم على تيار المحافظين الجدد، حيث نادى الواقعيون بالتروي في اطلاق مشاريع أميركية كبرى وفي استخدام القوة العسكرية الاميركية وفي زيادة نفقات الجيش الاميركي، وقد دفعت الاسباب السابقة مجتمعة نورمان بودهريتز الى اعلان وفاة مشروع المحافظين الجدد في عام 1996.
وهنا يرى باسفيتش ان عام 1995 الذي شهد استقالة نورمان بودهوريتز من رئاسة تحرير مجلة كومنتاري وتأسيس ويليام كريستول نجل ايرفينج كريستول مجلة ذا ويكلي ستاندرد عاما فارقا في حياة تيار المحافظين الجدد، فهو العام الذي شهد أفول الجيل الأول وصعود الجيل الثاني.
وهنا يرى باسفيتش ان المقارنة بين كومنتاري - مجلة الجيل الأول - وذا ويكلي ستاندرد - مجلة الجيل الثاني - تكشف عددا كبيرا من الفروق الرئيسية بين الجيل الاول والثاني، فكومنتاري كانت صادرة عن اللجنة اليهودية الاميركية والتي تسعى لالتزام الحياد الحزبي، أما ذا ويكلي ستاندرد فهي ممولة من قبل روبرت موردوخ امبراطور الاعلام المعروف وصاحب الميول اليمينية القوية، كما ان كومنتاري كانت موجهة بالأساس للنخبة المثقفة أما ذا ويكلي ستاندرد فقد تميزت في مقالاتها ورسوماتها بنزعة أكثر جماهيرية، كما ان كومنتاري تصدر من نيويورك، أما ذا ويكلي ستاندرد فمكتبها لا يبعد كثيرا عن موقع البيت الابيض بالعاصمة الاميركية واشنطن.
بمعنى آخر الجيل الثاني من أجيال المحافظين الجدد تميز بنزعة ايدلوجية وحركية وجماهيرية أكبر من الجيل الاول، أضف الى ذلك فارقا أساسيا يشير له باسفيتش وهو ان الجيل الاول صعد في فترة خيم فيها على الرأي العام الاميركي شعور بعدم الثقة في القوة والسياسة الخارجية الاميركية نتيجة لما حدث في فيتنام، لذا سعى الجيل الاول بالاساس لاعادة الثقة المفقودة، أما الجيل الثاني فقد ظهر بعد فوز أميركا بالحرب الباردة وبعد ان أعاد ريغان وحرب عاصفة الصحراء ثقة الاميركيين في جيشهم، لذا تبنى الجيل الثاني هدفا مختلفا وهو كيفية استخدام اميركا قوتها وموقعها الدولي غير المسبوق كقطب العالم الاوحد في تحقيق اهداف اميركا وتشكيل العالم وفقا لرؤيتها.
وهنا يبرز باسفيتش خمس افكار اساسية كأعمدة لفكر الجيل الثاني من المحافظين الجدد, الفكرة الاولى هي ان سيطرة اميركا ونفوذها غير المسبوق على النظام العالمي هي قوة مازالت في بدايتها ينتظرها مستقبل طويل، وهي قوة يدركها العالم ويبحث عنها ويؤيدها، اذ يرى المحافظون الجدد ان العالم يبحث عن قائد، وان اميركا هي حتما هذا القائد، فسيطرة اميركا وسيادتها المطلقة على العالم - من وجهة نظرهم - هي مصدر استقرار النظام العالمي، لذا فهم يرون ان من الطبيعي ان يتوحد الغرب وغيره من دول العالم تحت القيادة الاميركية لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد.
ويترتب على القناعة السابقة فكرة ثانية وهي ان فشل اميركا في استغلال الفرصة الراهنة وعجزها عن قيادة العالم وتشكيله سوف يؤدي لانهيار النظام العالمي الراهن، فالفوضى هي البديل الوحيد المحتمل لفشل اميركا في قيادة النظام العالمي في الفترة الراهنة.
الفكرة الثالثة هي ان قوة اميركا العسكرية غير المسبوقة هي أداة رئيسية لحفاظ أميركا على مكانتها ولنجاحها في القيام بمهمتها كقائدة للعالم ومحافظة على السلام العالمي، وهنا يرى المحافظون الجدد ان وظيفة القوة العسكرية الاميركية الرئيسية ليست تجميع الاسلحة والقوات وكنزها ولكن استخدام هذه القوات في مشاريع طموحة وحاسمة لصناعة نظام عالمي قائم على السيطرة الاميركية ويدعمها.
وهنا يرى المحافظون الجدد ان القوة العسكرية لا يجب ان ينظر اليها كخيار أخير، فالحرب بالنسبة لهم هي أداة لخدمة أهداف كبرى مثالية، كما ان السلام الحقيقي هو السلام الذي يتبع النصر في المعركة.
الفكرة الرابعة هو التزام المحافظين الجدد المطلق بدعم القوة العسكرية الاميركية وجهود تسليح وتطوير وتحديث القوات العسكرية الاميركية.
أما الفكرة الخامسة والاخيرة فهي رفض المحافظين الجدد للساسة الواقعيين مثل هنري كيسنغر وللساسة المترددين في استخدام القوة مثل كولين باول، فالواقعية والتردد في استخدام القوة يمثلان للمحافظين الجدد مرضين خطيرين.
ويعبر باسفيتش عن اعتقاده في نجاح المحافظين الجدد في ترك بصمات قوية على الجدل الاميركي العام الخاص بسياسة أميركا الخارجية، ويرى ان هذا النجاح هو نتاج لنشاطهم الفكري الواضح، فالمحافظون الجدد يملكون مجلة ذا ويكلي ستاندرد وتظهر كتاباتهم باستمرار في مجلة فورين أفاريز المعروفة ويسيطرون على معهد اميركان انتربرايز للابحاث، كما يكتبون بشكل دوري في ثلاث من أكبر الجرائد الاميركية، حيث يكتب ماكس باوت لصحيفة لوس انجلوس تايمز، ويكتب دايفيد بروكس لنيويورك تايمز، ويكتب روبرت كاجن وتشارلز كروتهمز للواشنطن بوست، هذا اضافة الى سيطرتهم على مقالات الرأي بصحيفة والـ «ستريت جورنال»، كما يرى باسفيتش ان جزءا كبيرا من نجاح المحافظين الجدد في السنوات الاخيرة يعود الى أحداث الحادي عشر من سبتمبر على السياسة الاميركية، ولتحقق الحلم في العثور على قائد سياسي يتبنى افكارهم وهو جورج دبليو بوش.
خاتمة
وفي النهاية يجب ان نؤكد مرة أخرى على تميز عرض أندرو باسفيتش لأفكار المحافظين الجدد الرئيسية، والتي يمكن ان تمثل اطارا فكريا لفهم سياسات المحافظين الجدد ومواقفهم، حيث خصص لها الفصل الثالث من كتابه «النزعة العسكرية الاميركية الجديدة»، كما يجب ايضا الاشارة الى احتواء الكتاب بفصوله الثمانية على افكار اخرى متميزة - لا يتسع المجال هنا لطرحها - فالكتاب يقوم على فكرة ان ميل الأميركيين الزائد لاستخدام قوتهم العسكرية في الفترة الراهنة هو نتاج لمشاكل عديدة ساهمت في صنعها مؤسسات متعددة داخل المجتمع الاميركي كالمفكرين والجيش والساسة وغيرهم، مما يجعل الكتاب مصدرا لأفكار تحليلية مهمة لمؤسسات المجتمع الاميركي المختلفة في تشكيل سياسة اميركا الخارجية والعسكرية الراهنة.
مدير الشؤون العربية في مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) والمقال وزعه المجلس
كتاب «النزعة العسكرية الأميركية الجديدة» لأستاذ العلاقات الدولية الأميركي اندروا باسفيتش الصادر في فبراير الماضي يحتوي على نظرة متميزة للمحافظين الجدد يصعب العثور عليها في كتابات أخرى، لسببين أولهما إيمان المؤلف بأن التحديات التي تتعرض لها السياسة الخارجية الأميركية في الوقت الراهن ليست نتاجا للمحافظين الجدد أو اليمينيين الأميركيين وحدهم، بل هي نتيجة لأزمة عامة بالنظام السياسي الأميركي شارك في صنعها اليسار واليمين الأميركيان معا خلال العقود الأخيرة، وهو ما يعطي أسلوب باسفيتش ومنهجه قدرا مهما من الحيادية.
السبب الثاني هو أن حياد المؤلف النسبي جعله أكثر تركيزا على تحليل الأفكار والأحداث المؤثرة على سياسة أميركا الخارجية والعسكرية في الوقت الراهن، مما جعله يقدم رؤية متميزة عن المحافظين الجدد وتاريخهم وتطورهم كجماعة والأفكار المحركة لهم, إذ ينادي باسفيتش بضرورة النظر للمحافظين الجدد على أنهم جيلان متميزان من المفكرين والمحللين السياسيين وليس كجيل واحد، الجيل الأول تبلور في الستينات من القرن العشرين وجاءت أفكاره كرد فعل للظروف الدولية والتحديات الداخلية التي تعرضت لها أميركا خلال الفترة الممتدة من الحرب العالمية الأولى حتى نهاية حرب فيتنام في منتصف السبعينات من القرن الماضي، أما الجيل الثاني فقد ظهر في التسعينات من القرن نفسه وجاءت أفكاره لتعبر عن الظروف الأميركية والدولية في هذه الفترة، لذا يؤمن باسفيتش بامكانية العثور على تناقضات في مواقف الجيل الأول مقارنة بالجيل الثاني من أجيال المحافظين الجدد نظرا لأن كل جيل نشأ في ظروف مختلفة مؤمنا بأفكار متميزة.
الجيل الأول وأفكاره
في البداية يؤكد باسفيتش على بعض القواسم المشتركة بين جيلي المحافظين الجدد مثل ايمانهم بدور الأفكار في تغيير الواقع، وسعيهم الدائم للتأثير على مسار الجدل الأميركي العام بخصوص القضايا التي تهمهم، وشهيتهم التي لا تنتهي للجدل وعرض أفكارهم ومهاجمة معارضيهم، وخطابهم الذي يتميز بالثقة والحماس والرضا الداخلي بشكل مبالغ فيه أحيانا.
بالنسبة للجيل الأول يرى باسفيتش أن أفكار وحركة هذا الجيل تقوم على أفكار ست رئيسية، الفكرة الأولى تتعلق بنظرة المحافظين الجدد للتاريخ وخاصة لأحداث الفترة الممتدة من الحرب العالمية الاولى وحتى الحرب العالمية الثانية وهي الفترة التي شهدت الكساد الكبير وصعود النازية وتراجع دور أميركا الدولي بعد الحرب العالمية الاولى ويقول باسفيتش ان هذه الفترة أكدت لدى المحافظين الجدد قناعتين مركزيتين أولهما ان الشر ظاهرة حقيقية واقعية موجودة لا يمكن إنكارها، وثانيهما ان صعود الشر مرهون بشرط بسيط وهو تواني اعدائه عن مقاومته، وهنا يرى المحافظون الجدد ان عزلة أميركا وانغلاقها على نفسها مثل سببا رئيسيا لصعود النازية وانتشارها وما قادت اليه من شرور.
الفكرة الثانية تتعلق بدور القوة العسكرية كأداة أساسية لمواجهة الشر، حيث يرى المحافظون الجدد ان القوة العسكرية وليست الديبلوماسية أو العدالة أو المجتمع الدولي - هي التي تمكنت من ايقاف الزحف النازي، لذا يكن المحافظون الجدد قدرا كبيرا من الرفض والتشاؤم فيما يتعلق بدور المنظمات الدولية والقانون الدولي وجهود الحد من التسلح، حيث يرون ان القوة العسكرية يجب ان تبقى أساسا رئيسيا للسياسة الخارجية الاميركية، كما عارضوا الانتقادات التي تعرض لها الجيش الأميركي ودوره بعد حرب فيتنام الفاشلة.
الفكرة الثالثة هي رفض المحافظين الجدد المطلق لفكرة عزلة أميركا أو تراجع دورها الدولي، فهم يرون ان لأميركا دورا تاريخيا كقائدة للعالم الحر وحامية له وكناشرة للديموقراطية والحرية عبر العالم، كما يرون ان على أميركا والأميركيين القبول بهذا الدور وتحمل تكلفته مهما كانت، فهم يرون ان رغبة الأميركيين في العزلة هي رغبة أنانية.
الفكرة الرابعة هي بحث المحافظين الجدد الدائم عن مشاريع وأهداف خارجية كبيرة لأميركا، لذا عانى المحافظون الجدد كثيرا خلال السبعينات والثمانينات بسبب تبعات حرب فيتنام التي أثرت سلبا على تأييد الشعب الأميركي للجيش ودور أميركا الدولي، كما عانى المحافظون الجدد أيضا مع نهاية الحرب الباردة وتآكل الاتحاد السوفياتي في نهاية الثمانينات، لأن ذلك أفقد المحافظين الجدد المشروع الكبير الذي يمكنهم صياغة سياسة أميركا من خلاله.
الفكرة الخامسة هي إيمان المحافظين الجدد بدور القيادة السياسية، وسعيهم الدائم للعثور على قيادة سياسية حاسمة قادرة على صناعة التاريخ، ولذا كره المحافظون الجدد كارتر الذي ركز على دعاوى السلام والحد من الحروب في العالم، ولم يرضوا بشكل كامل عن ريغان، لأن خطاب ريغان القوي الرنان لم يطابق أفعاله في أغلب الأحيان.
الفكرة السادسة وهي داخلية فتعبر عن إيمان المحافظين الجدد بدور السلطات التقليدية كالآباء والجيش ومؤسسات تنفيذ القانون والأسرة داخل المجتمع الأميركي، فقد رفض المحافظون الجدد الثورة الثقافية التي اجتاحت أميركا في الستينات والتي نادت بالتعددية الثقافية وحقوق الاقليات والنساء والشواذ، إذ رأى المحافظون الجدد ان الهجوم على المؤسسات التقليدية من شأنه ان يضعف أميركا داخليا مما يضعفها خارجيا.
وقد ركز باسفيتش في وصفه للجيل الاول من المحافظين الجدد على نورمان بودهور يتز المحرر السابق لمجلة كومنتاري الصادرة عن اللجنة اليهودية الاميركية والذي يعد أحد أهم الآباء المؤسسين لتيار المحافظين الجدد، كما ركز بشكل أقل على أفكار ايرفينج كريستول مؤسس مجلة المصلحة العامة «ذا بابليك انتريست» والذي يصفه الكثيرون بأنه الأب الروحي للمحافظين الجدد.
أزمة الجيل الأول وصعود الجيل الثاني
يرى باسفيتش ان نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي مثلا تحديا كبيرا للجيل الأول من المحافظين الجدد على مستوى السياسة الخارجية، اذ أدى فشل المحافظين الجدد في العثور على عدو جديد الى صعود اصحاب التوجهات الواقعية وسيطرتهم على تيار المحافظين الجدد، حيث نادى الواقعيون بالتروي في اطلاق مشاريع أميركية كبرى وفي استخدام القوة العسكرية الاميركية وفي زيادة نفقات الجيش الاميركي، وقد دفعت الاسباب السابقة مجتمعة نورمان بودهريتز الى اعلان وفاة مشروع المحافظين الجدد في عام 1996.
وهنا يرى باسفيتش ان عام 1995 الذي شهد استقالة نورمان بودهوريتز من رئاسة تحرير مجلة كومنتاري وتأسيس ويليام كريستول نجل ايرفينج كريستول مجلة ذا ويكلي ستاندرد عاما فارقا في حياة تيار المحافظين الجدد، فهو العام الذي شهد أفول الجيل الأول وصعود الجيل الثاني.
وهنا يرى باسفيتش ان المقارنة بين كومنتاري - مجلة الجيل الأول - وذا ويكلي ستاندرد - مجلة الجيل الثاني - تكشف عددا كبيرا من الفروق الرئيسية بين الجيل الاول والثاني، فكومنتاري كانت صادرة عن اللجنة اليهودية الاميركية والتي تسعى لالتزام الحياد الحزبي، أما ذا ويكلي ستاندرد فهي ممولة من قبل روبرت موردوخ امبراطور الاعلام المعروف وصاحب الميول اليمينية القوية، كما ان كومنتاري كانت موجهة بالأساس للنخبة المثقفة أما ذا ويكلي ستاندرد فقد تميزت في مقالاتها ورسوماتها بنزعة أكثر جماهيرية، كما ان كومنتاري تصدر من نيويورك، أما ذا ويكلي ستاندرد فمكتبها لا يبعد كثيرا عن موقع البيت الابيض بالعاصمة الاميركية واشنطن.
بمعنى آخر الجيل الثاني من أجيال المحافظين الجدد تميز بنزعة ايدلوجية وحركية وجماهيرية أكبر من الجيل الاول، أضف الى ذلك فارقا أساسيا يشير له باسفيتش وهو ان الجيل الاول صعد في فترة خيم فيها على الرأي العام الاميركي شعور بعدم الثقة في القوة والسياسة الخارجية الاميركية نتيجة لما حدث في فيتنام، لذا سعى الجيل الاول بالاساس لاعادة الثقة المفقودة، أما الجيل الثاني فقد ظهر بعد فوز أميركا بالحرب الباردة وبعد ان أعاد ريغان وحرب عاصفة الصحراء ثقة الاميركيين في جيشهم، لذا تبنى الجيل الثاني هدفا مختلفا وهو كيفية استخدام اميركا قوتها وموقعها الدولي غير المسبوق كقطب العالم الاوحد في تحقيق اهداف اميركا وتشكيل العالم وفقا لرؤيتها.
وهنا يبرز باسفيتش خمس افكار اساسية كأعمدة لفكر الجيل الثاني من المحافظين الجدد, الفكرة الاولى هي ان سيطرة اميركا ونفوذها غير المسبوق على النظام العالمي هي قوة مازالت في بدايتها ينتظرها مستقبل طويل، وهي قوة يدركها العالم ويبحث عنها ويؤيدها، اذ يرى المحافظون الجدد ان العالم يبحث عن قائد، وان اميركا هي حتما هذا القائد، فسيطرة اميركا وسيادتها المطلقة على العالم - من وجهة نظرهم - هي مصدر استقرار النظام العالمي، لذا فهم يرون ان من الطبيعي ان يتوحد الغرب وغيره من دول العالم تحت القيادة الاميركية لإعادة تشكيل النظام العالمي الجديد.
ويترتب على القناعة السابقة فكرة ثانية وهي ان فشل اميركا في استغلال الفرصة الراهنة وعجزها عن قيادة العالم وتشكيله سوف يؤدي لانهيار النظام العالمي الراهن، فالفوضى هي البديل الوحيد المحتمل لفشل اميركا في قيادة النظام العالمي في الفترة الراهنة.
الفكرة الثالثة هي ان قوة اميركا العسكرية غير المسبوقة هي أداة رئيسية لحفاظ أميركا على مكانتها ولنجاحها في القيام بمهمتها كقائدة للعالم ومحافظة على السلام العالمي، وهنا يرى المحافظون الجدد ان وظيفة القوة العسكرية الاميركية الرئيسية ليست تجميع الاسلحة والقوات وكنزها ولكن استخدام هذه القوات في مشاريع طموحة وحاسمة لصناعة نظام عالمي قائم على السيطرة الاميركية ويدعمها.
وهنا يرى المحافظون الجدد ان القوة العسكرية لا يجب ان ينظر اليها كخيار أخير، فالحرب بالنسبة لهم هي أداة لخدمة أهداف كبرى مثالية، كما ان السلام الحقيقي هو السلام الذي يتبع النصر في المعركة.
الفكرة الرابعة هو التزام المحافظين الجدد المطلق بدعم القوة العسكرية الاميركية وجهود تسليح وتطوير وتحديث القوات العسكرية الاميركية.
أما الفكرة الخامسة والاخيرة فهي رفض المحافظين الجدد للساسة الواقعيين مثل هنري كيسنغر وللساسة المترددين في استخدام القوة مثل كولين باول، فالواقعية والتردد في استخدام القوة يمثلان للمحافظين الجدد مرضين خطيرين.
ويعبر باسفيتش عن اعتقاده في نجاح المحافظين الجدد في ترك بصمات قوية على الجدل الاميركي العام الخاص بسياسة أميركا الخارجية، ويرى ان هذا النجاح هو نتاج لنشاطهم الفكري الواضح، فالمحافظون الجدد يملكون مجلة ذا ويكلي ستاندرد وتظهر كتاباتهم باستمرار في مجلة فورين أفاريز المعروفة ويسيطرون على معهد اميركان انتربرايز للابحاث، كما يكتبون بشكل دوري في ثلاث من أكبر الجرائد الاميركية، حيث يكتب ماكس باوت لصحيفة لوس انجلوس تايمز، ويكتب دايفيد بروكس لنيويورك تايمز، ويكتب روبرت كاجن وتشارلز كروتهمز للواشنطن بوست، هذا اضافة الى سيطرتهم على مقالات الرأي بصحيفة والـ «ستريت جورنال»، كما يرى باسفيتش ان جزءا كبيرا من نجاح المحافظين الجدد في السنوات الاخيرة يعود الى أحداث الحادي عشر من سبتمبر على السياسة الاميركية، ولتحقق الحلم في العثور على قائد سياسي يتبنى افكارهم وهو جورج دبليو بوش.
خاتمة
وفي النهاية يجب ان نؤكد مرة أخرى على تميز عرض أندرو باسفيتش لأفكار المحافظين الجدد الرئيسية، والتي يمكن ان تمثل اطارا فكريا لفهم سياسات المحافظين الجدد ومواقفهم، حيث خصص لها الفصل الثالث من كتابه «النزعة العسكرية الاميركية الجديدة»، كما يجب ايضا الاشارة الى احتواء الكتاب بفصوله الثمانية على افكار اخرى متميزة - لا يتسع المجال هنا لطرحها - فالكتاب يقوم على فكرة ان ميل الأميركيين الزائد لاستخدام قوتهم العسكرية في الفترة الراهنة هو نتاج لمشاكل عديدة ساهمت في صنعها مؤسسات متعددة داخل المجتمع الاميركي كالمفكرين والجيش والساسة وغيرهم، مما يجعل الكتاب مصدرا لأفكار تحليلية مهمة لمؤسسات المجتمع الاميركي المختلفة في تشكيل سياسة اميركا الخارجية والعسكرية الراهنة.
مدير الشؤون العربية في مجلس العلاقات الإسلامية الأميركية (كير) والمقال وزعه المجلس