زهير
07-16-2005, 10:41 AM
تمارا الداغستاني تكشف لـ «الرأي العام»
http://www.alraialaam.com/16-07-2005/ie5/int1.jpg
موسكو ـ من سلام مسافر
تعتز السيدة تمارا الداغستاني بأصولها القوقازية، الا ان كريمة اللواء الركن غازي الداغستاني، معاون رئيس اركان الجيش العراقي في حكومة الملك فيصل الثاني، تفتخر بعراقيتها وتحلم «بعودة الاستقرار الى البلد الذي مزقته الانقلابات والحروب ويعيش محنة الاحتلال والتشظي الطائفي والسياسي», وكانت السيدة تمارا غادرت العراق بعد 14 يوليو 1958 بعام واحد وعمرها لم يتجاوز العاشرة بطلب من والدها الذي حكمت عليه وزارة عبد الكريم قاسم بالاعدام واودعته السجن مع مجموعة من رجالات العهد الملكي, وتقول: «كان والدي لايريد ان نشهد اعدامه، فأصر على ان نهاجر، والحمد لله لم ينفذ الانقلابيون حكم الاعدام وسمحوا لوالدي بمغادرة العراق، ليعيش في بريطانيا حتى مماته عام 1966 ولم يبلغ الثانية والخمسين من عمر حافل بالاحداث التي شارك في صنعها», وعادت اسرة الداغستاني الى بغداد في ذلك العام، لكنها ظلت تعيش الغربة في بلد تعصف به الانقلابات، ليستقر بها المقام اواسط السبعينات في العاصمة الاردنية, وتكشف تمارا بعد قرابة خمسة عقود من «جريمة تموز (يوليو)»، الوصف الذي تطلقه على «ثورة 14 تموز» (يوليو ) 1958، عن اسرار وتفاصيل الساعات الاخيرة من حياة الاسرة الملكية في العراق.
وفي حديث مع «الرأي العام» عن محاولة قيادة والدها من مقر اقامته في لندن، حركة عسكرية تطيح بالنظام الجمهوري عام 1966، لكن المنية عاجلته في يوم تنفيذ الخطة, وتسرد الداغستاني، بلهجة عراقية يشوبها خيط رفيع من لكنة اهل القوقاز، ذكرياتها عن آخر ليلة امضتها مع الاسرة الملكية في القصر، ليستفيق الجميع على «البيان رقم واحد» واقتحام الجنود لقصر الرحاب وبداية حقبة جديدة في تاريخ العراق لم يتوقف نزفها الى اليوم.
تقول الداغستاني: «في اغسطس من العام 1966، كان والدي يستعد لدخول العراق من الشمال بعد ان اتفق مع مجموعة من ضباط الجيش وعدد من السياسيين على قيادة انقلاب عسكري ضد حكومة عبد الرحمن عارف انذاك, واحتفظ الى الان بمجموعة من الاوراق كان والدي يدون عليها خطط الانقلاب باسماء مستعارة، ورموز مشفرة، تعكس الطابع السري للحركة التي كان يجب ان تنفذ في اليوم نفسه الذي تعرض فيه الوالد الى نزيف في الدماغ وفارق الحياة خلال ايام، وفشل المخطط, وكانت تلك المحاولة الثانية لعودة الملكية الى العراق خطط لها والدي, وانكشفت خيوط المحاولة الأولى قبل التنفيذ ببضعة اسابيع في بغداد».
وتشير الداغستاني الى ان من بين رموز الحركة الثانية، حسب ما تتذكر، برهان الدين باشا عيان، وزيد عثمان، والزعيم الكردي الملا مصطفى برزاني «الذي كان والدي يلتقيه في سفرات سرية الى شمال العراق، فيما كان يجتمع بالاخرين في لندن», وتضيف: «في العام 1962، احبطت محاولة انقلابية اعدها والدي، ما دفعه الى توخي السرية في اتصالاته واعداد الخطط من دون ذكر الاسماء الحقيقية لرفاقه حتى امامنا، وكان يتطلع باستمرار إلى عودة الملكية الى العراق», وتقول: «كان واثقا من نجاح حركة 66 لولا موته المفاجئ».
وتسرد السيدة تمارا تفاصيل مثيرة عن الاسابيع التي سبقت نجاح تنظيم «الضباط الاحرار» في اطاحة الملكية وحكومة نوري السعيد, فتقول: «ترددت اشاعات كثيرة عن تآمر مجموعة من الضباط ضد العرش الهاشمي في العراق, واكد لي العاهل الاردني الملك حسين، بأنه توافرت لدى اجهزة الاستخبارات، معلومات تؤكد نية بعض الضباط القيام بانقلاب، وانه اتصل بابن عمه ملك العراق طالبا منه ان يبعث شخصا يثق به لاطلاعه على معلومات خطيرة, والتقى الملك برئيس اركان الجيش العراقي انذاك رفيق عارف والسياسي السوري اللاجىء في بغداد ميخائليان قرب الحدود الاردنية ـ العراقية في موقع (اتش 3)، وسلمهما الملك حسين قائمة باسماء الضباط الذين يعدون للانقلاب, فرد رفيق عارف على قلق العاهل الاردني بابتسامة هادئة قائلا للملك ان لاداعي للقلق على عرش العراق، بل نحن نخشى على الوضع في الاردن ونشك في ولاء الجيش الاردني للعرش، اما الضباط الواردة اسماؤهم في هذه القائمة فهم من اشد المخلصين للملك فيصل والامير عبد الاله ولنوري السعيد، ومطيعون مثل هذه العصا التي بيدي اوجهها حيثما اشاء», وتقول: «اخبرني الملك حسين انه شعر بالاحباط من رد رفيق عارف واستهانته بمعلومات على جانب كبيرمن الاهمية والخطورة، واتضح لاحقا انها صحيحة مئة في المئة ولكن بعد فوات الاوان».
وتقول: «لم يكتف الملك حسين بذلك بل بعث برئيس مخابراته انذاك محمد الجيلاني قبل اسبوعين من الانقلاب الدموي ليخطر الحكومة العراقية بقرب ساعة الصفر وتنفيذ الحركة العسكرية التي اعدتها مجموعة من الضباط المعروف عنهم الولاء للعرش ولنوري السعيد, ومع ذلك، لم يلتفت احد الى التحذير».
وتشير كريمة غازي الداغستاني الى ان بغداد «كانت تعج بالاشاعات، حتى ان نوري باشا السعيد استدعى والدي وسأله: هل تصدق ان عبد الكريم قاسم يتآمر لإسقاطي؟ وكان يقال عن قاسم بأنه جاسوس لنوري السعيد في الجيش ويسميه الباشا تحببا (كرومي), وطلب نوري باشا ملف عبد الكريم قاسم ولم يكتشف أي مؤشرات على استعداد لخيانة العرش وحكومة نوري السعيد, واخبرني والدي انه انزعج قليلا من التحقيق في ملف قاسم لان ذلك معناه التشكيك في قدرته بصفته معاونا لرئيس الاركان ومسؤولا عن الحركات العسكرية في ضبط الجيش, وقال لنوري السعيد ان قاسم من المع الضباط واذا قررت تسريحه فعليك ان تعلم بأن ذلك سيجر علينا المشاكل لان قرار الفصل لايستند الى ادلة جرمية وعليك يانوري باشا ان تتوقع استقالتي فورا».
وتقول الداغستاني: «كان رد نوري السعيد على ملاحظات والدي قاطعا، حيث طلب منه اغلاق القضية ووصف التحذيرات بانها مجرد اشاعات», وتضيف بأسى: «حين وقع الانقلاب وقتلت الاسرة واقتيد والدي الى المعتقل رأينا علامات الذهول الممزوج بالندم على محياه».
وتذكر السيدة تمارا انها كانت ليلة 13 يوليو مع والدتها وشقيقها في قصر الرحاب لحضور حفل اقامه ساحر استدعاه الوصي على عرش العراق عبد الاله للترفيه عن الملك الشاب فيصل والاسرة, وتقول: «جلسنا مع الملك فيصل والاميرة بديعة واولادها الثلاثة نتابع العاب الساحر في بهو قصر الرحاب، وكان المرحوم فيصل قربي مباشرة واثناء الحفل سمعنا صوت توقف سيارة في آسفل شرفة البهو المفتوحة على صيف بغداد القائظ، وصعد المراسل بعد لحظات يحمل ورقة صغيرة وسلمها الى الملك الذي كان مشغولا بمتابعة العاب الساحر، وفتح فيصل الورقة، ووقع نظري على بعض سطورها الانكليزية، فلمحت عبارة: كونوا شديدي الحذر هذه الليلة، فنهض الملك وسلم القصاصة الى الامير عبد الاله الذي كان واقفا على الشرفة، وسمعت الامير يقول لفيصل، اتصل بجسام وخليه يضع المروحية في الباحة الخلفية للقصر, وجسام هو الطيار الخاص للملك فيصل».
وتصف الداغستاني التي تتمتع بذاكرة نادرة تلتقط ادق التفاصيل «ما ان هم الملك بفتح باب الغرفة المجاورة، للاتصال على مايبدو بالطيار جسام، حتى سمعت الامير عبد الاله يهتف من مكانه: تعال، تعال يافيصل كم مرة ضحكوا علينا بمثل هذه الاشاعات، عد الى مكانك ولاتخلي الناس تضحك علينا مرة اخرى».
لاتعرف السيدة تمارا من ارسل القصاصة، الا ان الحروف الانكليزية الواضحة على «الورقة السر»، والشعار الذهبي في اعلاها يدفعها للاعتقاد بأنها من مصدر «غير عراقي», وفي تصورها، فان سفارة اجنبية أوصلت التحذير إلى الملك وليس بالضرورة ان تكون السفارة البريطانية التي لاتشير الابحاث التاريخية الى انها كانت تتوقع انقلابا عسكريا في بغداد صبيحة 14 يوليو 1958 او هكذا تتحدث الوثائق المنشورة على الاقل.
«لن انسى تلك الليلة»,,, تهمس الداغستاني بصوت متهدج وتقول: «كان فيصل طوال الامسية سعيدا للغاية وهو يحدثنا عن البيت الجديد الذي يشيده لاستقباله مع عروسه, وفي انتظار ان يكتمل بناء المسكن في الكرادة، كان الملك الشاب الذي يعاني من الربو، لايصدق انه سيدخل عش الزوجية, وكان يردد تلك الليلة: هل حقا سأتزوج وأعيش مع فاضلة في بيت خاص بنا ؟ والمفارقة ان البيت الذي انتظره فيصل بصبر نافد، تحول الى القصر الجمهوري بعد ان توسعت ردهاته عقب الانقلاب», وتقول: «كلما مررت بالمبنى المشؤوم رنت في أذني كلمات فيصل الذي لم يتوقف، تلك الليلة عن التحدث الينا حول زواجه المرتقب وعن شغفه بخطيبته، حتى نسي العشاء، وفي كل مرة كانت خالته الاميرة تطلب منه ان يكرر عبارة ان شاء الله، ويقول مازحا، ان شاء الله، ان شاء الله ولكن لماذا هذا الالحاح وكأننا سنموت غدا؟»
وفي تلك الليلة كانت الاسرة المالكة تتهيأ للسفر الى اسطنبول «ولكن ذلك لم يمنع الملك والوصي من السهر مع ضيوفه الى ساعة متأخرة، وشعرت بالنعاس وسألت والدتي العودة الى المنزل، لكن الامير عبدالاله طلب من والدتي ان نبيت عندهم, وكان والدي في مقر الفرقة الثالثة المرابطة في بعقوبة، واعتذرت والدتي وقالت للامير عبد الاله ستغادرون في الصباح مبكرين وليس من المناسب ان تنشغلوا معنا, فكرر الامير الطلب بان أبات عندهم لان الملك يشعر بالوحشة ويستأنس معي في الحديث، فاعتذرت الوالدة ثانية لعدم وجود ملابس النوم معي، فانبرى الملك فيصل لاقناع والدتي السماح لي بالمبيت في القصر وقال منشرحا:
تمارا ليست اطول مني واستطيع ان اتنازل لها عن بيجامة النوم, ومع الالحاح وافقت على المبيت، ولكن وفي اللحظة الاخيرة وقبل ان يصعد شقيقي الى السيارة لتعود به الى منزلنا في شارع السعدون، صعدت معه معتذرة من الملك الذي نزل الى باحة قصر الرحاب لتوديعنا على امل اللقاء بعد العودة من سفرة اسطنبول وكان الوقت حوالى العاشرة او اكثر، وظلت والدتي وخالتي في القصر لاكمال السهرة والعشاء مع الامير, وقالت والدتي انها اثناء خروجها، لاحظت مدرعات مرابطة في الشوارع القريبة وكانت الساعة تقارب الثانية بعد منتصف الليل ولم تهتم كثيرا للمشهد المريب، اذ لم يتوقع احد ان الانقلابيين كانوا نزلوا الى الشارع مع ساعات الفجر الاولى».
وتقول: «الى الان اشعر بالندم لاني لم امكث مع الملك فيصل في قصر الرحاب تلك الليلة المشؤومة, وربما كنت في عداد القتلى مع افراد الاسرة، لكن الاحساس بذنب من نوع خاص يثقل خاطري كلما استعدت شريط الاحداث المؤلمة».
وتتذكر: «استيقظت خالتي كعادتها مبكرة، فجر 14 تموز (يوليو) وسمعت بيانات غريبة من الاذاعة، فأيقظتنا بهدوء ولم يظهر انها كانت تصدق ما يدور حولنا وقالت بنبرة ساخرة، اسمعوا هذه الاذاعة السرية تتحدث عن ثورة وعن قتل الملك والاسرة, فاتصلت والدتي بقصر الرحاب وكانت التلفونات ترن لكن لا احد يجيب, ولم نكن نعلم ان الامر انتهى وان سكان قصر الرحاب الذي كنا فيه قبل بضع ساعات، قد ابيدوا، ومع ذلك ظلت والدتي وخالتي لا تصدقان بيانات الاذاعة التي كانت تكرر الدعوة بإلقاء القبض على رجالات العهد ومن بينهم والدي, وكررت خالتي المحاولة مع القصر وكانت الخطوط مقطوعة هذه المرة, وحوالى السابعة جاء سائق والدي العريف خزعل مهرولا، ودخل البيت شاحب الوجه، فسألته امي وهي تبتسم، هل سمعت الاذاعة السرية، فرد خزعل بصوت مرتجف، اي اذاعة سرية خانم، الشوارع ملتهبة والثورة مشتعلة وقتلوا الملك والوصي وكل من في قصر الرحاب واعتقلوا الباشا وكان يقصد والدي».
عندها ـ تقول السيدة تمارا ـ «ادركت والدتي هول الفاجعة، وخرجنا الى حديقة المنزل لنشاهد جارنا محمد علي الجلبي يسرع مع اولاده وبناته الى السيارة، فسألته والدتي ماذا يجري، فرد والرعب باد عليه: ام تيمور اتركوا البيت لان الاذاعة توجه الناس باقتحام البيوت وقتل من فيها, فصعدنا الى سيارة جار آخر، وتوجهنا الى بيت حكمت سليمان زوج عمتي في منطقة الصليخ، واذكر ان الشوارع تحولت الى بحر متلاطم من البشر الموتورين الذين كانوا يحدقون في وجوهنا من خلف زجاج السيارة عسى ان يتعرفوا على وجه معروف فيقتلوه، وبقدرة قادر تمكنا من الوصول الى بيت حكمت سليمان، وبعد ساعة تقريبا مرت سيارة مزدحمة بحشد من الناس من امام المنزل، واخرج احدهم قطعة لحم وصرخ هذا اصبع الوصي عبد الاله, في تلك اللحظة ايقنا بان الاسرة المالكة ذبحت على يد الدهماء».
اعتقل غازي الداغستاني واحيل الى «محكمة الشعب», وكان اول من مثل امام محكمة المهداوي، وصدر على الضابط المتحدر من القوقاز حكم بالاعدام مع تسعة آخرين من رجالات العهد الملكي, لكن عبد الكريم قاسم وضمن شعاره الشهير «عفا الله عما سلف»، خفف الحكم الى السجن، ثم امر باطلاق سراح المعاون السابق لرئيس اركان الجيش العراقي قبل ان يكمل عامه الثالث في السجن، وسمحت حكومة الزعيم قاسم لسليل الامام شميل بطل حرب القوقاز ضد الامبراطورية الروسية، اللواء المتقاعد غازي محمد فاضل الداغستاني، بالسفر الى بريطانيا مع اسرته حيث عاش الى ان وافته المنية في اغسطس 1966، في اليوم نفسه الذي حدده مع ضباط داخل العراق موعدا لساعة الصفر واطاحة حكومة عارف, وخلال شهور سجنه في بغداد، كانت تمارا وشقيقها تيمور ووالدتها واقاربهم يقومون بزيارته كل خميس.
وتقول الداغستاني: «زرته مع والدتي قبل سفرنا وشقيقي الى لندن، لم يكن بملابس السجن, انيقا كعادته يرتدي طقما مائلا الى الزرقة مع ربطة عنق فاخرة, واصطحينا الحارس الى مكتب مدير السجن وتركنا مع والدي لوحدنا, واثناء انشغالنا مع شقيقي سمعته يقول لابن عمي الذي كان بصحبتنا، حرصت اليوم على خلع ملابس السجن حتى تبقى صورتي في اذهان الاطفال مثلما كانت في حياتي على الدوام، فربما ينفذون حكم الاعدام في اي وقت».
لكن الداغستاني الذي لايزال شيوخ العشائر الشيشانية العريقة يعلقون صورته على انه احد ابطال القوقاز التاريخيين، نجا من حبل المشنقة بقرار من قاسم، فالتحق باسرته في لندن وبقي يسعى لاسقاط النظام الجمهوري الذي تعتقد كريمته تمارا بأنه سبب دمار العراق الى ان وصل الحكم الى صدام حسين «فأحرق الاخضر واليابس ولم يبق على شيء».
وتقول السيدة المفعمة حيوية رغم السنوات العجاف وفقدان الاب وذاكرة معذبة لاتغيب عنها مشاهد العشاء الاخير مع ملك العراق الصغير في قصر الرحاب الذي شهد نهاية الاسرة المالكة، «يسبح العراق منذ مقتل الاسرة المالكة في بحر من الدماء وآمل ان يتوقف النزيف، فقد تعذب شعبنا بمافيه الكفاية».
ولاتفارق مخيلة السيدة تمارا مشاهد الساعات الاخيرة من حياة فيصل الثاني وخاله عبد الاله وسكنة قصر الرحاب، الذين ادهشتهم وأضحكتهم العاب ساحر خفيف الظل، استدعاه الامير عبد الاله للترويح عن الملك الشاب وضيوفه، في ما كانت دبابات عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف تزحف نحو بغداد في ليلة صيف بغدادي قائظ منتصف يوليو 1958. وتقول: «رغم المرح الذي اشاعه الساحر، لكن الجو كان ثقيلا في قصر الرحاب تلك الليلة، حتى ان الكلاب كانت تعوي في الخارج مثلما لم تعوِ من قبل, وربما يفسر إلحاح الامير على امي بالمبيت معهم في القصر بأن الوصي كان يشعر بالكآبة التي انتقلت عدواها الى الملك, فقد كان يلح في ان نبقى معه تلك الليلة ولاحظت، عند الوداع، سحابة الحزن تغلف نظرة الملك الصغير الحزين اصلا، لنفتح عيوننا في الصباح التالي على انهار من الدماء غطت شوارع بغداد».
http://www.alraialaam.com/16-07-2005/ie5/int1.jpg
موسكو ـ من سلام مسافر
تعتز السيدة تمارا الداغستاني بأصولها القوقازية، الا ان كريمة اللواء الركن غازي الداغستاني، معاون رئيس اركان الجيش العراقي في حكومة الملك فيصل الثاني، تفتخر بعراقيتها وتحلم «بعودة الاستقرار الى البلد الذي مزقته الانقلابات والحروب ويعيش محنة الاحتلال والتشظي الطائفي والسياسي», وكانت السيدة تمارا غادرت العراق بعد 14 يوليو 1958 بعام واحد وعمرها لم يتجاوز العاشرة بطلب من والدها الذي حكمت عليه وزارة عبد الكريم قاسم بالاعدام واودعته السجن مع مجموعة من رجالات العهد الملكي, وتقول: «كان والدي لايريد ان نشهد اعدامه، فأصر على ان نهاجر، والحمد لله لم ينفذ الانقلابيون حكم الاعدام وسمحوا لوالدي بمغادرة العراق، ليعيش في بريطانيا حتى مماته عام 1966 ولم يبلغ الثانية والخمسين من عمر حافل بالاحداث التي شارك في صنعها», وعادت اسرة الداغستاني الى بغداد في ذلك العام، لكنها ظلت تعيش الغربة في بلد تعصف به الانقلابات، ليستقر بها المقام اواسط السبعينات في العاصمة الاردنية, وتكشف تمارا بعد قرابة خمسة عقود من «جريمة تموز (يوليو)»، الوصف الذي تطلقه على «ثورة 14 تموز» (يوليو ) 1958، عن اسرار وتفاصيل الساعات الاخيرة من حياة الاسرة الملكية في العراق.
وفي حديث مع «الرأي العام» عن محاولة قيادة والدها من مقر اقامته في لندن، حركة عسكرية تطيح بالنظام الجمهوري عام 1966، لكن المنية عاجلته في يوم تنفيذ الخطة, وتسرد الداغستاني، بلهجة عراقية يشوبها خيط رفيع من لكنة اهل القوقاز، ذكرياتها عن آخر ليلة امضتها مع الاسرة الملكية في القصر، ليستفيق الجميع على «البيان رقم واحد» واقتحام الجنود لقصر الرحاب وبداية حقبة جديدة في تاريخ العراق لم يتوقف نزفها الى اليوم.
تقول الداغستاني: «في اغسطس من العام 1966، كان والدي يستعد لدخول العراق من الشمال بعد ان اتفق مع مجموعة من ضباط الجيش وعدد من السياسيين على قيادة انقلاب عسكري ضد حكومة عبد الرحمن عارف انذاك, واحتفظ الى الان بمجموعة من الاوراق كان والدي يدون عليها خطط الانقلاب باسماء مستعارة، ورموز مشفرة، تعكس الطابع السري للحركة التي كان يجب ان تنفذ في اليوم نفسه الذي تعرض فيه الوالد الى نزيف في الدماغ وفارق الحياة خلال ايام، وفشل المخطط, وكانت تلك المحاولة الثانية لعودة الملكية الى العراق خطط لها والدي, وانكشفت خيوط المحاولة الأولى قبل التنفيذ ببضعة اسابيع في بغداد».
وتشير الداغستاني الى ان من بين رموز الحركة الثانية، حسب ما تتذكر، برهان الدين باشا عيان، وزيد عثمان، والزعيم الكردي الملا مصطفى برزاني «الذي كان والدي يلتقيه في سفرات سرية الى شمال العراق، فيما كان يجتمع بالاخرين في لندن», وتضيف: «في العام 1962، احبطت محاولة انقلابية اعدها والدي، ما دفعه الى توخي السرية في اتصالاته واعداد الخطط من دون ذكر الاسماء الحقيقية لرفاقه حتى امامنا، وكان يتطلع باستمرار إلى عودة الملكية الى العراق», وتقول: «كان واثقا من نجاح حركة 66 لولا موته المفاجئ».
وتسرد السيدة تمارا تفاصيل مثيرة عن الاسابيع التي سبقت نجاح تنظيم «الضباط الاحرار» في اطاحة الملكية وحكومة نوري السعيد, فتقول: «ترددت اشاعات كثيرة عن تآمر مجموعة من الضباط ضد العرش الهاشمي في العراق, واكد لي العاهل الاردني الملك حسين، بأنه توافرت لدى اجهزة الاستخبارات، معلومات تؤكد نية بعض الضباط القيام بانقلاب، وانه اتصل بابن عمه ملك العراق طالبا منه ان يبعث شخصا يثق به لاطلاعه على معلومات خطيرة, والتقى الملك برئيس اركان الجيش العراقي انذاك رفيق عارف والسياسي السوري اللاجىء في بغداد ميخائليان قرب الحدود الاردنية ـ العراقية في موقع (اتش 3)، وسلمهما الملك حسين قائمة باسماء الضباط الذين يعدون للانقلاب, فرد رفيق عارف على قلق العاهل الاردني بابتسامة هادئة قائلا للملك ان لاداعي للقلق على عرش العراق، بل نحن نخشى على الوضع في الاردن ونشك في ولاء الجيش الاردني للعرش، اما الضباط الواردة اسماؤهم في هذه القائمة فهم من اشد المخلصين للملك فيصل والامير عبد الاله ولنوري السعيد، ومطيعون مثل هذه العصا التي بيدي اوجهها حيثما اشاء», وتقول: «اخبرني الملك حسين انه شعر بالاحباط من رد رفيق عارف واستهانته بمعلومات على جانب كبيرمن الاهمية والخطورة، واتضح لاحقا انها صحيحة مئة في المئة ولكن بعد فوات الاوان».
وتقول: «لم يكتف الملك حسين بذلك بل بعث برئيس مخابراته انذاك محمد الجيلاني قبل اسبوعين من الانقلاب الدموي ليخطر الحكومة العراقية بقرب ساعة الصفر وتنفيذ الحركة العسكرية التي اعدتها مجموعة من الضباط المعروف عنهم الولاء للعرش ولنوري السعيد, ومع ذلك، لم يلتفت احد الى التحذير».
وتشير كريمة غازي الداغستاني الى ان بغداد «كانت تعج بالاشاعات، حتى ان نوري باشا السعيد استدعى والدي وسأله: هل تصدق ان عبد الكريم قاسم يتآمر لإسقاطي؟ وكان يقال عن قاسم بأنه جاسوس لنوري السعيد في الجيش ويسميه الباشا تحببا (كرومي), وطلب نوري باشا ملف عبد الكريم قاسم ولم يكتشف أي مؤشرات على استعداد لخيانة العرش وحكومة نوري السعيد, واخبرني والدي انه انزعج قليلا من التحقيق في ملف قاسم لان ذلك معناه التشكيك في قدرته بصفته معاونا لرئيس الاركان ومسؤولا عن الحركات العسكرية في ضبط الجيش, وقال لنوري السعيد ان قاسم من المع الضباط واذا قررت تسريحه فعليك ان تعلم بأن ذلك سيجر علينا المشاكل لان قرار الفصل لايستند الى ادلة جرمية وعليك يانوري باشا ان تتوقع استقالتي فورا».
وتقول الداغستاني: «كان رد نوري السعيد على ملاحظات والدي قاطعا، حيث طلب منه اغلاق القضية ووصف التحذيرات بانها مجرد اشاعات», وتضيف بأسى: «حين وقع الانقلاب وقتلت الاسرة واقتيد والدي الى المعتقل رأينا علامات الذهول الممزوج بالندم على محياه».
وتذكر السيدة تمارا انها كانت ليلة 13 يوليو مع والدتها وشقيقها في قصر الرحاب لحضور حفل اقامه ساحر استدعاه الوصي على عرش العراق عبد الاله للترفيه عن الملك الشاب فيصل والاسرة, وتقول: «جلسنا مع الملك فيصل والاميرة بديعة واولادها الثلاثة نتابع العاب الساحر في بهو قصر الرحاب، وكان المرحوم فيصل قربي مباشرة واثناء الحفل سمعنا صوت توقف سيارة في آسفل شرفة البهو المفتوحة على صيف بغداد القائظ، وصعد المراسل بعد لحظات يحمل ورقة صغيرة وسلمها الى الملك الذي كان مشغولا بمتابعة العاب الساحر، وفتح فيصل الورقة، ووقع نظري على بعض سطورها الانكليزية، فلمحت عبارة: كونوا شديدي الحذر هذه الليلة، فنهض الملك وسلم القصاصة الى الامير عبد الاله الذي كان واقفا على الشرفة، وسمعت الامير يقول لفيصل، اتصل بجسام وخليه يضع المروحية في الباحة الخلفية للقصر, وجسام هو الطيار الخاص للملك فيصل».
وتصف الداغستاني التي تتمتع بذاكرة نادرة تلتقط ادق التفاصيل «ما ان هم الملك بفتح باب الغرفة المجاورة، للاتصال على مايبدو بالطيار جسام، حتى سمعت الامير عبد الاله يهتف من مكانه: تعال، تعال يافيصل كم مرة ضحكوا علينا بمثل هذه الاشاعات، عد الى مكانك ولاتخلي الناس تضحك علينا مرة اخرى».
لاتعرف السيدة تمارا من ارسل القصاصة، الا ان الحروف الانكليزية الواضحة على «الورقة السر»، والشعار الذهبي في اعلاها يدفعها للاعتقاد بأنها من مصدر «غير عراقي», وفي تصورها، فان سفارة اجنبية أوصلت التحذير إلى الملك وليس بالضرورة ان تكون السفارة البريطانية التي لاتشير الابحاث التاريخية الى انها كانت تتوقع انقلابا عسكريا في بغداد صبيحة 14 يوليو 1958 او هكذا تتحدث الوثائق المنشورة على الاقل.
«لن انسى تلك الليلة»,,, تهمس الداغستاني بصوت متهدج وتقول: «كان فيصل طوال الامسية سعيدا للغاية وهو يحدثنا عن البيت الجديد الذي يشيده لاستقباله مع عروسه, وفي انتظار ان يكتمل بناء المسكن في الكرادة، كان الملك الشاب الذي يعاني من الربو، لايصدق انه سيدخل عش الزوجية, وكان يردد تلك الليلة: هل حقا سأتزوج وأعيش مع فاضلة في بيت خاص بنا ؟ والمفارقة ان البيت الذي انتظره فيصل بصبر نافد، تحول الى القصر الجمهوري بعد ان توسعت ردهاته عقب الانقلاب», وتقول: «كلما مررت بالمبنى المشؤوم رنت في أذني كلمات فيصل الذي لم يتوقف، تلك الليلة عن التحدث الينا حول زواجه المرتقب وعن شغفه بخطيبته، حتى نسي العشاء، وفي كل مرة كانت خالته الاميرة تطلب منه ان يكرر عبارة ان شاء الله، ويقول مازحا، ان شاء الله، ان شاء الله ولكن لماذا هذا الالحاح وكأننا سنموت غدا؟»
وفي تلك الليلة كانت الاسرة المالكة تتهيأ للسفر الى اسطنبول «ولكن ذلك لم يمنع الملك والوصي من السهر مع ضيوفه الى ساعة متأخرة، وشعرت بالنعاس وسألت والدتي العودة الى المنزل، لكن الامير عبدالاله طلب من والدتي ان نبيت عندهم, وكان والدي في مقر الفرقة الثالثة المرابطة في بعقوبة، واعتذرت والدتي وقالت للامير عبد الاله ستغادرون في الصباح مبكرين وليس من المناسب ان تنشغلوا معنا, فكرر الامير الطلب بان أبات عندهم لان الملك يشعر بالوحشة ويستأنس معي في الحديث، فاعتذرت الوالدة ثانية لعدم وجود ملابس النوم معي، فانبرى الملك فيصل لاقناع والدتي السماح لي بالمبيت في القصر وقال منشرحا:
تمارا ليست اطول مني واستطيع ان اتنازل لها عن بيجامة النوم, ومع الالحاح وافقت على المبيت، ولكن وفي اللحظة الاخيرة وقبل ان يصعد شقيقي الى السيارة لتعود به الى منزلنا في شارع السعدون، صعدت معه معتذرة من الملك الذي نزل الى باحة قصر الرحاب لتوديعنا على امل اللقاء بعد العودة من سفرة اسطنبول وكان الوقت حوالى العاشرة او اكثر، وظلت والدتي وخالتي في القصر لاكمال السهرة والعشاء مع الامير, وقالت والدتي انها اثناء خروجها، لاحظت مدرعات مرابطة في الشوارع القريبة وكانت الساعة تقارب الثانية بعد منتصف الليل ولم تهتم كثيرا للمشهد المريب، اذ لم يتوقع احد ان الانقلابيين كانوا نزلوا الى الشارع مع ساعات الفجر الاولى».
وتقول: «الى الان اشعر بالندم لاني لم امكث مع الملك فيصل في قصر الرحاب تلك الليلة المشؤومة, وربما كنت في عداد القتلى مع افراد الاسرة، لكن الاحساس بذنب من نوع خاص يثقل خاطري كلما استعدت شريط الاحداث المؤلمة».
وتتذكر: «استيقظت خالتي كعادتها مبكرة، فجر 14 تموز (يوليو) وسمعت بيانات غريبة من الاذاعة، فأيقظتنا بهدوء ولم يظهر انها كانت تصدق ما يدور حولنا وقالت بنبرة ساخرة، اسمعوا هذه الاذاعة السرية تتحدث عن ثورة وعن قتل الملك والاسرة, فاتصلت والدتي بقصر الرحاب وكانت التلفونات ترن لكن لا احد يجيب, ولم نكن نعلم ان الامر انتهى وان سكان قصر الرحاب الذي كنا فيه قبل بضع ساعات، قد ابيدوا، ومع ذلك ظلت والدتي وخالتي لا تصدقان بيانات الاذاعة التي كانت تكرر الدعوة بإلقاء القبض على رجالات العهد ومن بينهم والدي, وكررت خالتي المحاولة مع القصر وكانت الخطوط مقطوعة هذه المرة, وحوالى السابعة جاء سائق والدي العريف خزعل مهرولا، ودخل البيت شاحب الوجه، فسألته امي وهي تبتسم، هل سمعت الاذاعة السرية، فرد خزعل بصوت مرتجف، اي اذاعة سرية خانم، الشوارع ملتهبة والثورة مشتعلة وقتلوا الملك والوصي وكل من في قصر الرحاب واعتقلوا الباشا وكان يقصد والدي».
عندها ـ تقول السيدة تمارا ـ «ادركت والدتي هول الفاجعة، وخرجنا الى حديقة المنزل لنشاهد جارنا محمد علي الجلبي يسرع مع اولاده وبناته الى السيارة، فسألته والدتي ماذا يجري، فرد والرعب باد عليه: ام تيمور اتركوا البيت لان الاذاعة توجه الناس باقتحام البيوت وقتل من فيها, فصعدنا الى سيارة جار آخر، وتوجهنا الى بيت حكمت سليمان زوج عمتي في منطقة الصليخ، واذكر ان الشوارع تحولت الى بحر متلاطم من البشر الموتورين الذين كانوا يحدقون في وجوهنا من خلف زجاج السيارة عسى ان يتعرفوا على وجه معروف فيقتلوه، وبقدرة قادر تمكنا من الوصول الى بيت حكمت سليمان، وبعد ساعة تقريبا مرت سيارة مزدحمة بحشد من الناس من امام المنزل، واخرج احدهم قطعة لحم وصرخ هذا اصبع الوصي عبد الاله, في تلك اللحظة ايقنا بان الاسرة المالكة ذبحت على يد الدهماء».
اعتقل غازي الداغستاني واحيل الى «محكمة الشعب», وكان اول من مثل امام محكمة المهداوي، وصدر على الضابط المتحدر من القوقاز حكم بالاعدام مع تسعة آخرين من رجالات العهد الملكي, لكن عبد الكريم قاسم وضمن شعاره الشهير «عفا الله عما سلف»، خفف الحكم الى السجن، ثم امر باطلاق سراح المعاون السابق لرئيس اركان الجيش العراقي قبل ان يكمل عامه الثالث في السجن، وسمحت حكومة الزعيم قاسم لسليل الامام شميل بطل حرب القوقاز ضد الامبراطورية الروسية، اللواء المتقاعد غازي محمد فاضل الداغستاني، بالسفر الى بريطانيا مع اسرته حيث عاش الى ان وافته المنية في اغسطس 1966، في اليوم نفسه الذي حدده مع ضباط داخل العراق موعدا لساعة الصفر واطاحة حكومة عارف, وخلال شهور سجنه في بغداد، كانت تمارا وشقيقها تيمور ووالدتها واقاربهم يقومون بزيارته كل خميس.
وتقول الداغستاني: «زرته مع والدتي قبل سفرنا وشقيقي الى لندن، لم يكن بملابس السجن, انيقا كعادته يرتدي طقما مائلا الى الزرقة مع ربطة عنق فاخرة, واصطحينا الحارس الى مكتب مدير السجن وتركنا مع والدي لوحدنا, واثناء انشغالنا مع شقيقي سمعته يقول لابن عمي الذي كان بصحبتنا، حرصت اليوم على خلع ملابس السجن حتى تبقى صورتي في اذهان الاطفال مثلما كانت في حياتي على الدوام، فربما ينفذون حكم الاعدام في اي وقت».
لكن الداغستاني الذي لايزال شيوخ العشائر الشيشانية العريقة يعلقون صورته على انه احد ابطال القوقاز التاريخيين، نجا من حبل المشنقة بقرار من قاسم، فالتحق باسرته في لندن وبقي يسعى لاسقاط النظام الجمهوري الذي تعتقد كريمته تمارا بأنه سبب دمار العراق الى ان وصل الحكم الى صدام حسين «فأحرق الاخضر واليابس ولم يبق على شيء».
وتقول السيدة المفعمة حيوية رغم السنوات العجاف وفقدان الاب وذاكرة معذبة لاتغيب عنها مشاهد العشاء الاخير مع ملك العراق الصغير في قصر الرحاب الذي شهد نهاية الاسرة المالكة، «يسبح العراق منذ مقتل الاسرة المالكة في بحر من الدماء وآمل ان يتوقف النزيف، فقد تعذب شعبنا بمافيه الكفاية».
ولاتفارق مخيلة السيدة تمارا مشاهد الساعات الاخيرة من حياة فيصل الثاني وخاله عبد الاله وسكنة قصر الرحاب، الذين ادهشتهم وأضحكتهم العاب ساحر خفيف الظل، استدعاه الامير عبد الاله للترويح عن الملك الشاب وضيوفه، في ما كانت دبابات عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف تزحف نحو بغداد في ليلة صيف بغدادي قائظ منتصف يوليو 1958. وتقول: «رغم المرح الذي اشاعه الساحر، لكن الجو كان ثقيلا في قصر الرحاب تلك الليلة، حتى ان الكلاب كانت تعوي في الخارج مثلما لم تعوِ من قبل, وربما يفسر إلحاح الامير على امي بالمبيت معهم في القصر بأن الوصي كان يشعر بالكآبة التي انتقلت عدواها الى الملك, فقد كان يلح في ان نبقى معه تلك الليلة ولاحظت، عند الوداع، سحابة الحزن تغلف نظرة الملك الصغير الحزين اصلا، لنفتح عيوننا في الصباح التالي على انهار من الدماء غطت شوارع بغداد».