yasmeen
07-15-2005, 07:36 AM
د. محمد حسين اليوسفي
alyusefi@taleea.com
أغرورقت عينا صدام حسين حينما أسرَّ لأحد سجانيه الأمريكان عن افتخاره بابنيه عدي وقصي "اللذين ماتا في سبيل الوطن"· يقول السجان: لم أدر ما أقول سوى تأسف أبديته مواساة لحاله، حسب ما رواه لجريدة التايمز اللندنية (21/6)· وبدا صدام حسين في ذلك المشهد بصورة مختلفة عما كنا نشاهده بها من عنجهية وتكبر، بدا أبا عطوفا حدبا على أبنائه كالسواد الأعظم من الآباء· وقبل عامين ونيف، وقف الشيخ جبار كريم حمزة، وهو شيخ جليل غزا الشيب شعر رأسه ولحيته، دامع العين أمام هيكل عظمي يؤكد أنه لابنه الذي فقده في انتفاضة الشعب العراقي في العام 1991·
وقال بصوت متهدج: "هذا هو ابني محيي جبار كريم، وقد عرفته من بقايا سرواله الأسود الذي كان يرتديه وكذلك قميصه وبطانيته"· وكان الشيخ جبار مع مجموعة من أهالي قرية قوام بكر جنوب مدينة بابل، حيث عثر على قبر جماعي· وانفعل الشيخ المسكين حين أشار بعض الحضور الذين كانوا معه يبحثون عن آثار مفقوديهم الى أن من الصعب التعرف على أصحاب هذه الهياكل العظمية، فقال وقد تفجرت فيه الأبوة الى كامل مداها: "أنتم تشوفون عظم وآنا أشوف دم ولحم"!!
لم أجد أبلغ من هاتين الصورتين تجسيدا للواقع العراقي على ما فيهما من تباين بين الشخصين في الجاه والسلطة والمسؤولية· فالأولى تمثل تلك الشريحة من الشعب العراقي التي فقدت امتيازاتها وتحن الى الماضي، وفي سبيل عودتها تفعل المستحيل بما فيه تخريب العملية الديمقراطية الجارية تحت شتى الذرائع· وهذه أصبحت الحاضنة للعمليات المسلحة وفصائلها المختلفة المتمركزة في مناطق معينة· أما الصورة المقابلة فتمثل تلك الشريحة من الشعب العراقي التي تعاني من مرارة الماضي ومآسيه وتطالب "بالقصاص" لكنها تريد أن تعاقب البريء بجريرة المذنب!! ولا شك أن بين الفريقين أناسا من العقلاء يحاولون بناء عراق ديمقراطي تعددي واتحادي، ولكن هؤلاء يمثلون أقلية وطريقهم مزروع بالأشواك·
وخطورة استمرار هذا النوع من التباين في التعامل مع الواقع ورؤية ما يجري فيه وطريق الخلاص منه أنه بات يتداخل مع التقسيم الطائفي للشعب العراقي، بحيث بتنا نسمع عن نزوح عن القرى والبلدات والمدن - بسبب الانتماء الطائفي - خوفا على النفس والمال والعرض، كما توثقها مراسلة النيويورك تايمز (4/7) من الواقع المعاش في مدينة أور والدورة على سبيل المثال· ويقابل اغتيال رجل دين شيعي كما حدث مع الشيخ كمال الدين الغريفي (أحد وكلاء السيستاني في بغداد) اختطاف عالم دين سني (الشيخ حسن التكريتي)!! ويخشى لو أن الوضع استمر على ما هو عليه أن تتجمد العملية السياسية وتزداد شقة الخلاف بين الأفرقاء أكثر مما هي عليه الآن· وهو الوضع الذي يصب في مصلحة الجماعات التكفيرية والمتطرفة وفلول النظام السابق·
والواقع أن الشعب العراقي برمته بات أسيرا للجماعات التكفيرية والمتطرفة وفلول النظام السابق، ولعل أكثر فئاته تضررا من هذا الوضع هم العرب السنة· فقد حرم هؤلاء وبتهديد السلاح هذه الطائفة الأساسية من المشاركة في الانتخابات النيابية، وحينما دعا بعض رجال الدين فيها أبناء طائفتهم الى الانخراط في قوى الأمن الناشئة أصبحت تلك القوى هدفا لعملياتهم الانتحارية· ويبدو أن تأخر تسمية خمسة عشر عضوا من أعضاء لجنة صياغة الدستور إضافة الى عشرة مستشارين من هذه الفئة إنما كان مرجعه التخوف من عمليات اغتيال قد تطالهم كما حدث للدكتور جاسم العيثاوي، أحد الأعضاء في لجنة التفاوض للسنة العرب، والمهندس عبدالستار جبار الخزرجي العضو في الحزب الإسلامي·
ويبدو أن التأييد للجماعات المسلحة التكفيرية منها على وجه الخصوص آخذ في النقصان بين هذه الأوساط، رغم حالة الإحباط التي تعيشها· فبعض تلك الجماعات، وتمثل المقاومة الوطنية الشريفة قد دخلت في حوار من أجل انخراطها في العملية السياسية بآلياتها السلمية· أما التكفيريون بالذات من جماعة أبو مصعب الزرقاوي فقد باتوا يواجهون بقوة السلاح في بعض الأحيان كما حدث بين القبائل القاطنة في منطقة الحصيبة على الحدود السورية وفقا لجريدة الديلي تلغراف اللندندية (4/7)· فقد ثار هؤلاء على أبي مصعب الزرقاوي لأنه اغتال أحد شيوخ القبائل هناك بدعوى تعامله مع القوات الأمريكية· وتشير الجريدة الى أن الزرقاوي قد "طبق الشريعة" في تلك المنطقة بصورة متعسفة مما نفر الناس منه· وتشكك الجريدة في وجود تحالف بين هؤلاء التكفيريين وبين القوى القومية بدليل اغتيال ثلاثة من هؤلاء التكفيريين الأجانب على أيدي عناصر قومية مسلحة في منطقة الرمادي·
والظاهر أن ثمة قناعة أخذت تتبلور في الأوساط السنية وهي أن فشل العملية السياسية سيؤدي لا محالة الى تقسيم العراق، وهذا التقسيم وإن كان فيه ضرر بليغ على الشعب العراقي بجنوبه وشماله، إلا أن ضرره سيكون أكبر على المناطق الوسطى ذات الغالبية السنية· فخيرات العراق النفطية تقع خارج تلك المنطقة ناهيك عن موارد أخرى كالسياحة الدينية الى العتبات المقدسة والسياحة الترويحية في المصايف الكردية الجبلية الباردة، التي ستحرم منها الدولة العراقية الموحدة وبالتالي أهالي هذه المنطقة· إن بقاء العراق موحدا بات مرهونا الآن بنجاح العملية السياسية، وخروج القوات الأمريكية قبل اكتمال بناء قوات الأمن العراقية معناه حرب أهلية تغذيها تدخلات الجيران·
إن العراقيين بحاجة الى المصارحة قبل المصالحة، فسنوات الحكم الاستبدادي وثقافته التسلطية والموجة الأصولية (عند الطرفين) ذات النفس الطائفي والتكفيري قد قسمت المجتمع عميقا، وما جرى في الماضي وما يجري هذه الأيام قد ترك ويترك بصمات مهمة على نفسية هذا الشعب الذي ذاق الأمرين· وكما حدث في جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام التفرقة العنصري لا بد أن يحدث في العراق شيء شبيه له دون تهاون مع أولئك الذين تلطخت أيديهم بدماء الشعب العراقي شريطة أن يتم تحديد هؤلاء بالوسائل الحضارية وهي سلطة القانون وقوة العدل في بلد أرسى القوانين الأولى للبشرية·
alyusefi@taleea.com
alyusefi@taleea.com
أغرورقت عينا صدام حسين حينما أسرَّ لأحد سجانيه الأمريكان عن افتخاره بابنيه عدي وقصي "اللذين ماتا في سبيل الوطن"· يقول السجان: لم أدر ما أقول سوى تأسف أبديته مواساة لحاله، حسب ما رواه لجريدة التايمز اللندنية (21/6)· وبدا صدام حسين في ذلك المشهد بصورة مختلفة عما كنا نشاهده بها من عنجهية وتكبر، بدا أبا عطوفا حدبا على أبنائه كالسواد الأعظم من الآباء· وقبل عامين ونيف، وقف الشيخ جبار كريم حمزة، وهو شيخ جليل غزا الشيب شعر رأسه ولحيته، دامع العين أمام هيكل عظمي يؤكد أنه لابنه الذي فقده في انتفاضة الشعب العراقي في العام 1991·
وقال بصوت متهدج: "هذا هو ابني محيي جبار كريم، وقد عرفته من بقايا سرواله الأسود الذي كان يرتديه وكذلك قميصه وبطانيته"· وكان الشيخ جبار مع مجموعة من أهالي قرية قوام بكر جنوب مدينة بابل، حيث عثر على قبر جماعي· وانفعل الشيخ المسكين حين أشار بعض الحضور الذين كانوا معه يبحثون عن آثار مفقوديهم الى أن من الصعب التعرف على أصحاب هذه الهياكل العظمية، فقال وقد تفجرت فيه الأبوة الى كامل مداها: "أنتم تشوفون عظم وآنا أشوف دم ولحم"!!
لم أجد أبلغ من هاتين الصورتين تجسيدا للواقع العراقي على ما فيهما من تباين بين الشخصين في الجاه والسلطة والمسؤولية· فالأولى تمثل تلك الشريحة من الشعب العراقي التي فقدت امتيازاتها وتحن الى الماضي، وفي سبيل عودتها تفعل المستحيل بما فيه تخريب العملية الديمقراطية الجارية تحت شتى الذرائع· وهذه أصبحت الحاضنة للعمليات المسلحة وفصائلها المختلفة المتمركزة في مناطق معينة· أما الصورة المقابلة فتمثل تلك الشريحة من الشعب العراقي التي تعاني من مرارة الماضي ومآسيه وتطالب "بالقصاص" لكنها تريد أن تعاقب البريء بجريرة المذنب!! ولا شك أن بين الفريقين أناسا من العقلاء يحاولون بناء عراق ديمقراطي تعددي واتحادي، ولكن هؤلاء يمثلون أقلية وطريقهم مزروع بالأشواك·
وخطورة استمرار هذا النوع من التباين في التعامل مع الواقع ورؤية ما يجري فيه وطريق الخلاص منه أنه بات يتداخل مع التقسيم الطائفي للشعب العراقي، بحيث بتنا نسمع عن نزوح عن القرى والبلدات والمدن - بسبب الانتماء الطائفي - خوفا على النفس والمال والعرض، كما توثقها مراسلة النيويورك تايمز (4/7) من الواقع المعاش في مدينة أور والدورة على سبيل المثال· ويقابل اغتيال رجل دين شيعي كما حدث مع الشيخ كمال الدين الغريفي (أحد وكلاء السيستاني في بغداد) اختطاف عالم دين سني (الشيخ حسن التكريتي)!! ويخشى لو أن الوضع استمر على ما هو عليه أن تتجمد العملية السياسية وتزداد شقة الخلاف بين الأفرقاء أكثر مما هي عليه الآن· وهو الوضع الذي يصب في مصلحة الجماعات التكفيرية والمتطرفة وفلول النظام السابق·
والواقع أن الشعب العراقي برمته بات أسيرا للجماعات التكفيرية والمتطرفة وفلول النظام السابق، ولعل أكثر فئاته تضررا من هذا الوضع هم العرب السنة· فقد حرم هؤلاء وبتهديد السلاح هذه الطائفة الأساسية من المشاركة في الانتخابات النيابية، وحينما دعا بعض رجال الدين فيها أبناء طائفتهم الى الانخراط في قوى الأمن الناشئة أصبحت تلك القوى هدفا لعملياتهم الانتحارية· ويبدو أن تأخر تسمية خمسة عشر عضوا من أعضاء لجنة صياغة الدستور إضافة الى عشرة مستشارين من هذه الفئة إنما كان مرجعه التخوف من عمليات اغتيال قد تطالهم كما حدث للدكتور جاسم العيثاوي، أحد الأعضاء في لجنة التفاوض للسنة العرب، والمهندس عبدالستار جبار الخزرجي العضو في الحزب الإسلامي·
ويبدو أن التأييد للجماعات المسلحة التكفيرية منها على وجه الخصوص آخذ في النقصان بين هذه الأوساط، رغم حالة الإحباط التي تعيشها· فبعض تلك الجماعات، وتمثل المقاومة الوطنية الشريفة قد دخلت في حوار من أجل انخراطها في العملية السياسية بآلياتها السلمية· أما التكفيريون بالذات من جماعة أبو مصعب الزرقاوي فقد باتوا يواجهون بقوة السلاح في بعض الأحيان كما حدث بين القبائل القاطنة في منطقة الحصيبة على الحدود السورية وفقا لجريدة الديلي تلغراف اللندندية (4/7)· فقد ثار هؤلاء على أبي مصعب الزرقاوي لأنه اغتال أحد شيوخ القبائل هناك بدعوى تعامله مع القوات الأمريكية· وتشير الجريدة الى أن الزرقاوي قد "طبق الشريعة" في تلك المنطقة بصورة متعسفة مما نفر الناس منه· وتشكك الجريدة في وجود تحالف بين هؤلاء التكفيريين وبين القوى القومية بدليل اغتيال ثلاثة من هؤلاء التكفيريين الأجانب على أيدي عناصر قومية مسلحة في منطقة الرمادي·
والظاهر أن ثمة قناعة أخذت تتبلور في الأوساط السنية وهي أن فشل العملية السياسية سيؤدي لا محالة الى تقسيم العراق، وهذا التقسيم وإن كان فيه ضرر بليغ على الشعب العراقي بجنوبه وشماله، إلا أن ضرره سيكون أكبر على المناطق الوسطى ذات الغالبية السنية· فخيرات العراق النفطية تقع خارج تلك المنطقة ناهيك عن موارد أخرى كالسياحة الدينية الى العتبات المقدسة والسياحة الترويحية في المصايف الكردية الجبلية الباردة، التي ستحرم منها الدولة العراقية الموحدة وبالتالي أهالي هذه المنطقة· إن بقاء العراق موحدا بات مرهونا الآن بنجاح العملية السياسية، وخروج القوات الأمريكية قبل اكتمال بناء قوات الأمن العراقية معناه حرب أهلية تغذيها تدخلات الجيران·
إن العراقيين بحاجة الى المصارحة قبل المصالحة، فسنوات الحكم الاستبدادي وثقافته التسلطية والموجة الأصولية (عند الطرفين) ذات النفس الطائفي والتكفيري قد قسمت المجتمع عميقا، وما جرى في الماضي وما يجري هذه الأيام قد ترك ويترك بصمات مهمة على نفسية هذا الشعب الذي ذاق الأمرين· وكما حدث في جنوب أفريقيا بعد سقوط نظام التفرقة العنصري لا بد أن يحدث في العراق شيء شبيه له دون تهاون مع أولئك الذين تلطخت أيديهم بدماء الشعب العراقي شريطة أن يتم تحديد هؤلاء بالوسائل الحضارية وهي سلطة القانون وقوة العدل في بلد أرسى القوانين الأولى للبشرية·
alyusefi@taleea.com