جمال
07-13-2005, 04:51 PM
رشيد خيون
ما يجري على العراقيين اليوم غير منقطع عن الثلاثة عقود الماضية، فالمذابح التي كانت تُنَفذ بصمت وخفاء في ظل دولة البعث القومية، تُنَفذ اليوم علانية في ظل (المقاومة). كان القتل الجماعي، وما زال، سُنَّة دأب عليها البعثيون، نفذوها في الآخرين وبينهم البين، بل جعلوا للقتل الرفاقي درجات حزبية ونياشين وأنواطاً. يومها نشرت مجلتهم الداخلية «الثورة العربية»، أن القتل بسبب حزبي هو ضرب من صيانة الحزب والتربية الرفاقية!، فالعراقي البعثي محكوم بثلاثة عشر قانون إعدام من أجل حماية الشرف الحزبي. يُعدم: مَنْ يترك الحزب إلى حزب آخر. ومَنْ دخل الحزب من دون الإعلان عن صلته الحزبية السابقة. ومَنْ أغرى بعثياً لترك الحزب. ومَنْ أفشى سراً من أسرار الحزب. ومَنْ أخفى معلومات عن الحزب.. إلى آخره. ودليل صرامة التربية الحزبية مئات قبور المقتولين من التكريتيين والسامرائيين والموصليين والانباريين عموماً، وهذا بحد ذاته يرفع عن نظام صدام صفة الطائفية.
يريد أصحاب الخطاب العروبي، وهم يباركون الإرهاب المقاوم، من شعب عاش على حافة الهلاك، الذود عن مقدسات الأمة القومية، بينما كانوا هم لا يُفوِّتون مؤتمراً قومياً أو مربداً شعرياً تعرض فيهما انتصارات النظام على ضحاياه. لا، لم يولد العراقيون قرابين لأمجاد الأمة، وقد جُربت تلك الأمجاد في دمائهم، ولم يكن بمقدورهم الذود عن نظام لم يبق فيهم بقية. لا أبتعد عن الحق إذا قلت إن العراقيين كانوا في حرب يومية مع النظام. حاولوا بكل الطرق، وعلى مختلف تكويناتهم الدينية والمذهبية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ومَنْ يتفحص تاريخ محاولات الانقلابات، سيجد أغلبها جرت على يد ضباط من أهل السُنَّة، ومن بعثيين فاقوا من وهم السلطة، لكن ترسانة النظام المخابراتية كانت لا تُخترق. يحاول الخطاب العروبي إعادة أجواء الناصرية عبر توابيت العراقيين، لكن هل كان عبد الناصر مقاطعاً للأمريكان؟، لا أحد ينفي أن تجاوباً أمريكياً حدث مع ثورة يوليو بشكل ما، ولأمريكا دور في وقف العدوان الثلاثي على مصر. وأقول لو تجردنا قليلاً من شجون الحماس القومي، وحسبنا الواقع حساباً دقيقاً، وما حل من كوارث بالعراق، لوجدنا أن ما جرى على العراقيين في ظل النظام السابق (35 سنة)، كان أفدح وأقسى من أيام العدوان الثلاثي على مصر.
لم يحصل العراقيون من الهوس القومي العروبي، زمن الناصرية، غير المآسي. لقد أخذت مصر الناصرية تحفر تحت النظام الملكي العراقي، المستقر إلى حد ما، حتى سقط، فنادى عبد الناصر وأتباعه من العراقيين بالوحدة الفورية. وما ان امتنع العراق الجمهوري من تحقيق مطلب الوحدة حتى أخذ يحفر عبد الناصر تحته، وتعلن مجموعة فصلت الموصل عن العراق، بصوت مسموع: «هنا صوت الجمهورية العربية المتحدة»، وتدخل أسلحة قومية عبر الحدود مثلما تدخل اليوم ومن المكان نفسه. وقد لخص أحد الظرفاء البغاددة، حماسة المذيع أحمد سعيد، عندما بعث لإذاعة «صوت العرب» ببرقية تنعي مقتل واحدة من بنات الهوى وسمسارها، على أساس أنهما بطلان قوميان قتلا وهما يناضلان ضد الحكم القاسمي، فأخذ صوت المذيع يعربد عبر الأثير: كلنا فلان وفلانة. ولما سألت سفير مصر السابق (1963) بالعراق، على هامش مؤتمر للمعارضة اليمنية بلندن، حول العشرين ألف رشا ش«بورسعيد»، التي حملها صبيان الحرس القومي في طرقات المدن العراقية، وقتلت ما قتلت حتى من حامليها، قال: أُرسلت للقضاء على الأكراد!، ثم استدرك بالقول: أقصد التمرد الكردي. وقبل هذا، نكاية بعبد الكريم قاسم، تقرّبَ عبد الناصر من الكُرد.
ولم يسأله أحد حينها ماذا فعلت لكُرد سورية سنوات الوحدة؟ وأين كانت الغيرة على كُرد العراق يوم أعلن وزير دفاع الثامن من شباط 1963 إبادتهم؟. إنها لعبة المصالح، وعقدة العظمة، وثقافة خارجة من بين ظلمات الكهوف، يمارسها اليوم الجيل القومي الثاني، الذي يُريد محاربة أمريكا بتكثير توابيت العراقيين.
لا يحتمل العراقيون، على مختلف مشاربهم القومية والدينية والمذهبية، خطاباً يرى في كثرة توابيتهم طريقاً إلى النصر في المعركة (القومية) مع أمريكا. ولا يحتمل العراقيون أن يوصف أبو مصعب الزرقاوي، بأمل الأمة، مثلما وصفه أحد الخطباء القومجيين أخيراً بلندن، لا يحتمل العراقيون بعد لعبة الشعارات بدمائهم وأعراضهم. فمن مآثر العروبة أن توصف جرائم كبرى بالمقاومة الشريفة، مثل مجزرتي الحلة، ومذابح المدائن، وقتل علماء الدين.
على هذه الخلفية، أخذ العديد من العرب العراقيين يعلقون ولاءهم القومي، ويصدون عن المحيط العربي، وهم يشعرون أن عبثاً بدمائهم يجري على ألسنة الخطباء العروبيين، بل يشعرون أن هناك بهجة في إيذائهم، ووضع العقبات أمام بناء دولتهم واستقرارهم. فالقبور الجماعية، حسب العُرف العروبي، هي من فعل الضحية لا من فعل الجلاد، أو أنها لجنود عراقيين قتلوا في غمار الحرب العراقية الإيرانية.
وأن تجفيف الأهوار، والقضاء على عالمها الطبيعي الموغل بالقِدم، كان بفعل رأفة الدولة بأهلها، لتخليصهم من البعوض، لكن أصحاب مثل هذه الفتاوى لم يسألوا أنفسهم كيف ترك صدام جنده في قبور جماعية مجهولة، وهو القائل «الشهداء أكرم منا جميعاً»؟. هذا هو التفسير القومي لفواجع كبرى عاشها العراقيون بالطول والعرض، حتى تظاهروا مذهولين خلف الدبابات، ليطمئنوا أن التمثال قد سقط، وأن صاحبه غادر مذهولاً أيضاً إلى الحفرة، ليصحو وهو بين القضبان مقيداً يقف أمام قاضٍ كان طفلاً يوم اعتلى هو السلطة. وما لا يقر به الخطاب العروبي، المروج لتوابيت العراقيين، أن مثله الأعلى صدام حسين هو الغانم الأول والأكبر من ثمار الديمقراطية وحقوق الإنسان بالعراق.
ما يجري على العراقيين اليوم غير منقطع عن الثلاثة عقود الماضية، فالمذابح التي كانت تُنَفذ بصمت وخفاء في ظل دولة البعث القومية، تُنَفذ اليوم علانية في ظل (المقاومة). كان القتل الجماعي، وما زال، سُنَّة دأب عليها البعثيون، نفذوها في الآخرين وبينهم البين، بل جعلوا للقتل الرفاقي درجات حزبية ونياشين وأنواطاً. يومها نشرت مجلتهم الداخلية «الثورة العربية»، أن القتل بسبب حزبي هو ضرب من صيانة الحزب والتربية الرفاقية!، فالعراقي البعثي محكوم بثلاثة عشر قانون إعدام من أجل حماية الشرف الحزبي. يُعدم: مَنْ يترك الحزب إلى حزب آخر. ومَنْ دخل الحزب من دون الإعلان عن صلته الحزبية السابقة. ومَنْ أغرى بعثياً لترك الحزب. ومَنْ أفشى سراً من أسرار الحزب. ومَنْ أخفى معلومات عن الحزب.. إلى آخره. ودليل صرامة التربية الحزبية مئات قبور المقتولين من التكريتيين والسامرائيين والموصليين والانباريين عموماً، وهذا بحد ذاته يرفع عن نظام صدام صفة الطائفية.
يريد أصحاب الخطاب العروبي، وهم يباركون الإرهاب المقاوم، من شعب عاش على حافة الهلاك، الذود عن مقدسات الأمة القومية، بينما كانوا هم لا يُفوِّتون مؤتمراً قومياً أو مربداً شعرياً تعرض فيهما انتصارات النظام على ضحاياه. لا، لم يولد العراقيون قرابين لأمجاد الأمة، وقد جُربت تلك الأمجاد في دمائهم، ولم يكن بمقدورهم الذود عن نظام لم يبق فيهم بقية. لا أبتعد عن الحق إذا قلت إن العراقيين كانوا في حرب يومية مع النظام. حاولوا بكل الطرق، وعلى مختلف تكويناتهم الدينية والمذهبية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. ومَنْ يتفحص تاريخ محاولات الانقلابات، سيجد أغلبها جرت على يد ضباط من أهل السُنَّة، ومن بعثيين فاقوا من وهم السلطة، لكن ترسانة النظام المخابراتية كانت لا تُخترق. يحاول الخطاب العروبي إعادة أجواء الناصرية عبر توابيت العراقيين، لكن هل كان عبد الناصر مقاطعاً للأمريكان؟، لا أحد ينفي أن تجاوباً أمريكياً حدث مع ثورة يوليو بشكل ما، ولأمريكا دور في وقف العدوان الثلاثي على مصر. وأقول لو تجردنا قليلاً من شجون الحماس القومي، وحسبنا الواقع حساباً دقيقاً، وما حل من كوارث بالعراق، لوجدنا أن ما جرى على العراقيين في ظل النظام السابق (35 سنة)، كان أفدح وأقسى من أيام العدوان الثلاثي على مصر.
لم يحصل العراقيون من الهوس القومي العروبي، زمن الناصرية، غير المآسي. لقد أخذت مصر الناصرية تحفر تحت النظام الملكي العراقي، المستقر إلى حد ما، حتى سقط، فنادى عبد الناصر وأتباعه من العراقيين بالوحدة الفورية. وما ان امتنع العراق الجمهوري من تحقيق مطلب الوحدة حتى أخذ يحفر عبد الناصر تحته، وتعلن مجموعة فصلت الموصل عن العراق، بصوت مسموع: «هنا صوت الجمهورية العربية المتحدة»، وتدخل أسلحة قومية عبر الحدود مثلما تدخل اليوم ومن المكان نفسه. وقد لخص أحد الظرفاء البغاددة، حماسة المذيع أحمد سعيد، عندما بعث لإذاعة «صوت العرب» ببرقية تنعي مقتل واحدة من بنات الهوى وسمسارها، على أساس أنهما بطلان قوميان قتلا وهما يناضلان ضد الحكم القاسمي، فأخذ صوت المذيع يعربد عبر الأثير: كلنا فلان وفلانة. ولما سألت سفير مصر السابق (1963) بالعراق، على هامش مؤتمر للمعارضة اليمنية بلندن، حول العشرين ألف رشا ش«بورسعيد»، التي حملها صبيان الحرس القومي في طرقات المدن العراقية، وقتلت ما قتلت حتى من حامليها، قال: أُرسلت للقضاء على الأكراد!، ثم استدرك بالقول: أقصد التمرد الكردي. وقبل هذا، نكاية بعبد الكريم قاسم، تقرّبَ عبد الناصر من الكُرد.
ولم يسأله أحد حينها ماذا فعلت لكُرد سورية سنوات الوحدة؟ وأين كانت الغيرة على كُرد العراق يوم أعلن وزير دفاع الثامن من شباط 1963 إبادتهم؟. إنها لعبة المصالح، وعقدة العظمة، وثقافة خارجة من بين ظلمات الكهوف، يمارسها اليوم الجيل القومي الثاني، الذي يُريد محاربة أمريكا بتكثير توابيت العراقيين.
لا يحتمل العراقيون، على مختلف مشاربهم القومية والدينية والمذهبية، خطاباً يرى في كثرة توابيتهم طريقاً إلى النصر في المعركة (القومية) مع أمريكا. ولا يحتمل العراقيون أن يوصف أبو مصعب الزرقاوي، بأمل الأمة، مثلما وصفه أحد الخطباء القومجيين أخيراً بلندن، لا يحتمل العراقيون بعد لعبة الشعارات بدمائهم وأعراضهم. فمن مآثر العروبة أن توصف جرائم كبرى بالمقاومة الشريفة، مثل مجزرتي الحلة، ومذابح المدائن، وقتل علماء الدين.
على هذه الخلفية، أخذ العديد من العرب العراقيين يعلقون ولاءهم القومي، ويصدون عن المحيط العربي، وهم يشعرون أن عبثاً بدمائهم يجري على ألسنة الخطباء العروبيين، بل يشعرون أن هناك بهجة في إيذائهم، ووضع العقبات أمام بناء دولتهم واستقرارهم. فالقبور الجماعية، حسب العُرف العروبي، هي من فعل الضحية لا من فعل الجلاد، أو أنها لجنود عراقيين قتلوا في غمار الحرب العراقية الإيرانية.
وأن تجفيف الأهوار، والقضاء على عالمها الطبيعي الموغل بالقِدم، كان بفعل رأفة الدولة بأهلها، لتخليصهم من البعوض، لكن أصحاب مثل هذه الفتاوى لم يسألوا أنفسهم كيف ترك صدام جنده في قبور جماعية مجهولة، وهو القائل «الشهداء أكرم منا جميعاً»؟. هذا هو التفسير القومي لفواجع كبرى عاشها العراقيون بالطول والعرض، حتى تظاهروا مذهولين خلف الدبابات، ليطمئنوا أن التمثال قد سقط، وأن صاحبه غادر مذهولاً أيضاً إلى الحفرة، ليصحو وهو بين القضبان مقيداً يقف أمام قاضٍ كان طفلاً يوم اعتلى هو السلطة. وما لا يقر به الخطاب العروبي، المروج لتوابيت العراقيين، أن مثله الأعلى صدام حسين هو الغانم الأول والأكبر من ثمار الديمقراطية وحقوق الإنسان بالعراق.