المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جيش المهدي.. من الكيسانية والقرمطية.. إلى مقتدى الصدر



جمال
07-12-2005, 07:39 PM
رشيد الخيون

جيش المهدي، المهيمن مسلحوه على الحضرة العلوية وأزقة النجف ومدينة الثورة حالياً، ليس هو الأول ولا الأخير المتسربل بفكرة المهدي الموعود، وإنما ظهرت عبر التاريخ حركات وشخصيات لا تحصى أدعت المهدوية، منها مَنْ نجح في تأسيس دولتها، ومنها مَنْ فشل حال إشهار دعوته، وما أكثرهم. إن أول مبررات اللجوء إلى تقمص شخصية المهدي المنتظر هو قدرتها على التأثير في العامة، وتجييش الجيوش بها، فهي الفكرة الأقرب والأسهل فهماً من قبل سواد الناس، وفيها ما يغري بتحقيق دولة العدل والقسِط، لا سيما وأن هؤلاء هم الأكثر عرضة للمظالم، وتصديقاً للشعارات.

لهذا رفد صاحب رسالة «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» الشيخ محمد حسين النائيني كتابه في عام 1909، في إسناد المشروطة ضد المستبدة، بمؤثر في نفوس العامة، كي

يستميلها ولا يؤذى بها. فالسواد الأعظم من العامة هم الأقرب إلى نص أو فتوى محرضة منه إلى رأي وجدل.

ذهب النائيني عن طريق المنامات إلى تأكيد موافقة المهدي على المشروطة، فكتب ما رأى في المنام: أن شخصاً قابل المهدي وأبلغه بالقول: «إن كان لفظ المشروطة جديداً فالمطلب قديم».

إن فكرة الخلاص على يد إمام عادل فكرة قديمة، يكاد لا يخلو منها دين أو مذهب، فمثلما كان عند القدماء الإله مردوخ البابلي والملاك هيبل زيوا الصابئي هما مبيدي الشرور والظلمة، تأنسنت الفكرة فيما بعد، فأصبح المنتظر إنساناً لا زال ينتظره اليهود وهو المسيح المخلص، وكم شخص خرج متسربلاً قميصه حتى هلك، أو نجح بتأسيس فرقة جديدة. والمسيحيون ينتظرون خروج المسيح ليعيد العدالة والصلاح المفقودين.

وتحدث تاريخ الملل والنحل الإسلامية أن أول متقمص لفكرة المهدي هم جماعة الكيسانية، التي آمنت بمحمد بن الحنفية مهدياً، لكن عند التحقيق في مقالات هذه الفرقة وجد أن ابن الحنفية لم يدعِ المهدوية، وتساكن مع عبد الملك بن مروان، وأن المقالات لا تتعدى أشعار شاعرهم كُثير عزَّة، أو ما نُسب إليه، فمما قاله في مهديه:

تغيب لا يرى فيهم زمـاناً

برضوى عنده عسل ومـاء

ونجد في ديوان السيد الحميري (ت173هـ)، وهو من شعراء العقيدة عند الشيعة، ما يشير إلى ملله من الانتظار، فقال فيه:

حتى مـتى وإلى مـتى وكم المدى

يا ابن الوصي وأنت حيٌ ترزق

بعد ما شاع حول مهدوية ابن الحنفية ظهر محمد النفس الزكية مهدياً في حربه ضد الأمويين ثم العباسيين، ويقال له مهدي العلويين، ويذكر أن أبا جعفر المنصور أيده في هذه الدعوة قبل خلافته. بعدها خُص العباسيين بمهديهم أيضاً، ووضعت الأحاديث للتبشير به، فهو محمد بن عبد الله بن المنصور، وقد لقبه والده بالمهدي، ليكون مقابل المهديين: العلوي المتمثل بالنفس الزكية، والسفياني الأموي. وقيل كانت فكرة الأخير من إبداع خالد بن يزيد، مع نفي صاحب الأغاني لهذه الرواية. بيد أن الحديث التالي «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» (ابن قيم، المنار المنيف) جعل بعض المحدثين يشيرون إلى المهدي العباسي من جملة هؤلاء المهديين، وليس من الذين سيخرجون في آخر الزمان، وكذلك الحال بالنسبة إلى مهدوية عمر بن عبد العزيز.

ثم كان للإسماعيليين مهديهم. فقالت جماعة «إن إسماعيل لا يموت حتى يملك الأرض». وقد ظهر عدة مهديين من بعده، أقاموا دولاً بالمغرب ومصر. وتحايل مهدي قرامطة البحرين أبو سعيد الجنابي على المتربصين بسلطان أولاده، وطلب منهم امتحانه بعد رجعته من الموت مهدياً «حين أعود ولا تعرفونني أضربوا عنقي بسيفي، فإذا كنت أنا حييت في الحال» (ناصر خسرو، سفرنامة). وحتى تبقى الفكرة حاضرة في أذهان الأتباع أمر بترك فرسه بعد وفاته بباب القصر، مهيئاً لامتطائه من بعد الظهور.

ومَنْ ينظر في كتاب «فرقة الشيعة» للحسن النوبختي سيجد ما مِنْ جماعة تحلقت حول إمام، أو شخص ما، وقتل أو مات، إلا وجعلته مهدياً، وإن كان من خارج الأئمة الاثني عشر، مثل عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب، وأبي هاشم بن محمد بن الحنفية، ومن خارج البيت العلوي، وخارج قريش والعرب مثل أبي مسلم الخراساني، فبعد قتله بالمدائن ادعى جماعته أنه لا زال حياً وسيعود.

ظهر مهديون مدعون كثيرون، لكن بعضهم تمكن من تجييش الجيوش والنجاح في جذب العامة، مثل مؤسس دولة الموحدين بالمغرب محمد بن عبد الله المعروف بابن تومرت (ت524هـ). ولا ندري، هل طابق اسم ابن تومرت مصادفة إحدى صيغ الأحاديث الخاصة بالمهدي «لا تذهب الدنيا ولا تنقضي حتى يملك رجلٌ من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي»، أم أنه جُعل فيما بعد من أجل تصديق مهدويته؟

ومنهم علي بن محمد بن فلاح المشعشع، الذي ظهر في العهد الجلائري بالأهواز، منتصف القرن التاسع الهجري. فضاق علماء النجف من هيمنته وأتباعه المشعشعين على الحضرة العلوية، الذين نهبوا نفائس الهدايا منها، مثل التيجان والسيوف الذهبية. كذلك ضاقت حوزة النجف من عبارته المخالفة لرأي الإمامية في المهدي «سأظهر، أنا المهدي الموعود». ولما ألقي القبض عليه قال: «أنا سني صوفي، وهؤلاء الشيعة أعدائي، يتطلبون قتلي».

كذلك من آثار المهدوية المتأخرة والمخالفة للإمامية ظهور ما عُرف بالبابية في منتصف القرن التاسع عشر، عندما أعلن محمد علي الشيرازي نفسه باباً أو نائباً للمهدي، ذلك منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. ظهرت البابية من داخل فرقة الشيخية، إحدى فرق الشيعة المعاصرة، وقول الركنية منهم بالبحث عن نائب للإمام المهدي، وهو الركن الرابع، فوقع الاختيار على الشيرازي نائباً. ما نلاحظه أنه بعد غياب الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر في القرن الثالث الهجري، ومن ألقابه صاحب الزمان والحجة وصاحب الأمر والإمام الغائب، لم يظهر بين الشيعة مَنْ يدعي أنه المهدي، بل كثر الادعاء بالنيابة أو البابية أو الوكالة، لأنه شخص معروف النسب حسب الرواية الشيعية.

تبقى الإشارة إلى ما أثاره عبد الغني الملاح العام 1974 في كتابه «المتنبي يسترد أباه» باحثاً عن والد أبي الطيب المتنبي أنه المهدي المنتظر، فشعره يوحي أنه من نسب كريم، فهو القائل:

سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا

بأنني خير مَنْ تسعى لـه قدم

وقوله مخاطباً جدته السيدة نرجس، التي أخفت اسم أبيه عنه وعن المحيطين به خشية عليه من القتل:

ولـو لم تكـوني بنت أكرم والد

لكان أباك الضخم كونك لي أماً

غير أن إهداء محمود الملاح الكتاب إلى ولده عمار بعد موته المفاجئ، وتلقيبه له بنجم هوى، أوهمني أمراً، مفاده أنه أيضاً من فرط المحبة وشدة الوجد تخيل ولده مهدياً يعود إليه بعد غياب مؤقت.

اختلفت مذاهب الأتباع في الاستعداد للظهور الكبير وتقمص الأدوار، فإن صرح مقتدى الصدر أنه لن يحل جيش المهدي لأنه جيش الإمام، ولا أمر لديه من الإمام بحله، ظهرت بقم الإيرانية جماعة تدعى الحجتية، مهمتها التعجيل بالظهور، ذلك من خلال إلغاء مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمهدي لا يظهر إلا بعد أن تملأ الأرض جوراً وفساداً ليملأها هو عدلاً. وكتب الشيخ شمران العجلي في «الخريطة السياسية للمعارضة العراقية»، أن مهمة جماعة «جند الإمام» هي «تهيئة المناخ والظروف السياسية لظهور الإمام المهدي (ع) من خلال إيجاد مناصرين للإمام، وإيجاد مؤسسات، وأطر ينجز من خلالها الإمام مهمته».

لم ينقطع الجدل حول شكل دولة المهدي الموعودة بين المتدينين، من الذين وجدوا ببلدان أوروبا ملاذاً آمناً، ووضعاً حياتياً مريحاً. سمعت حواراً على هامش مجلس عزاء حسيني بلندن بين عضوين في حزب إسلامي اصل عقيدته المهدي المنتظر، قال الأول: «نحن نعيش في دولة المهدي، فوالدي الأعمى تصرف له مساعدة المعاقين السخية، وتتفقده ممرضة خاصة، وصرفت له بطاقة نقل مجانية، وقبل أيام خصصوا له فتاة تقرأ له الصحف بالعربية، كل هذا ولم يسأله أحد عن دينه أو مذهبه أو حتى معتقده السياسي أبداً». وأردف قائلاً: «أما أنا فتسلمتُ بطاقة وقوف لسيارتي بسببه، مع إعفائي من زيارة مكتب العمل. فإذا وجد الناس في دولة المهدي مثل هذه العناية فلا أظن أن أحداً من المسلمين سيتأخر عن تأييدها»!

أجابه الثاني بحدة، «هذا طعن في دولة المهدي المنتظرة! فلا يجوز تشبيه دول علمانية وكافرة بتلك الدولة الطاهرة! فمن شروط دولة المهدي أن يكون أهلها مسلمين كافة، ولا يقبل فيها مَنْ ناصب آل البيت العداء». انتهى الجدل بين الاثنين من دون أن يؤثر خلافهما حول المهدي في صلتهما بحزبهما. حينها شلت ذهني فكرة الحاجز بين الاثنين، وهما من حزب إسلامي واحد، ومن بلد واحد، ومن مذهب واحد، وكلاهما ينعمان بفضائل إعاقة قريب لهما، فكل ينتظر المهدي على مقاس منطقه. وعلي وجدت الأول أقرب إلى واقعية انتظار الفكرة، وتجليها في وعد يمكن التحقيق بدولة عدل وقسِط.