كونتا كونتي
03-28-2020, 10:43 PM
https://pbs.twimg.com/media/BvmbmbbIYAA7udr.jpg
سنــوات صــدام مذكرات بقلم المترجم الخاص سامان عبد المجيد ـ الحلقة الاولى
سامان عبد المجيد - المترجم الخاص بصدام حسين
سلسلة من الأخطاء الفادحة والتصرفات الارتجالية في مؤسسة الرئاسة حتى آخر لحظة، ظننتُ أن الحرب قد لا تنشب، فبعد أن ظلّ لزمنٍ طويل يرفض تقديم أيَّ تنازلٍ.. قبل صدّام حسين في نهاية المطاف أن يخفّف من غُلوّه وعناده، فأمر بتدمير صواريخ «الصمود»، وسمح للطائرة الاستكشافية الأميركية من طراز «يو2» بأن تُحلّقِ في أجواء العراق. كنتُ على اقتناع بأن صدّام سيخرج من جعبته ورقته الأخيرة، وبأنّ الأزمة ستنتهي إلى مخرج نهائي على نحو ما انتهت الأزمات السابقة.
لقد ظللتُ أعمل إلى جانبه خلال الفترة التي تعقّدت فيها الأزمة، وكنت أعلم أنّ صدّام كان أقدر على التصرف بكثير من البراغماتية على الرغم من تصوره التقليدي للشرف والعزّة، وكنت أعرف أيضاً، بفضل المعلومات التي كنا ننقلها إليه، أنه كان يعي خطورة الوضع.. حق الوعي. في الغالب كان صدّام ينهض في حدود الخامسة صباحاً، وقد شعرنا حقاً خلال الشهور الستة التي سبقت الحرب أنه لم يذق طعم الراحة قط. كان يُرسل إلينا بريده بواسطة حرّاسه، في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار.
كان جهاز نقل الرسائل مُروّضاً ترويضاً مُتقناً، ففي الأوقات العادية كان رجلٌ من رجال الأمن يحمل رسائلنا إلى الرئيس فيسلّمها إلى مكتب الاستقبال في بناية سرّية تقع خارج القصر، فيتكفّل رجلٌ ثانٍ من الأمن بنقلها إلى سكرتير الرئيس الخاص، عبد حمود الذي كان يضطلع بفتحها، ولا شيء من كل هذا تغيّر أثناء الأزمة، فقد ظل صدّام يُمسك بزمام العراق حتى النهاية. أما نُهى زوجتي فقد كانت على اقتناع بأن المأساة قادمة لا محالة، ولذلك ما فتئت تذكّرني:
- يجب أن نفكر في جلب مخزون من المؤونة الغذائية.
كنت أراها عند كل عودةٍ من القصر، في ساعات الليل المتأخرة، تُعدّ العدّة تأهباً لأي طارئ، فأحاول في كل مرة لطمأنتها، فقد كنت على اقتناع بأنَّ الحرب لو قامت فعلاً فلن تكون إلا حرباً طفيفة وبعيدة. كنت أحدّث نفسي بأن الصّراع لو قدّر له أن ينفجر، فإن المقاومة العراقية سوف تصمد لأسابيع عديدة، فلا يمكن للنظام أن ينهار كما ينهار قصرٌ من ورق.
ولا أخفيكم أنني من الناحية العملية لم أستبق الأحداث بأي حال، فلم أكن قد أعددتُ أيّ شيء، حين طلب جورج بوش من الرئيس صدام مغادرة البلاد قبل بداية الصراع بأيام. ومع ذلك، فقد جعلني هذا الإنذار الأخير أدرك أن الحرب قائمة لا محالة، لكنّ الرئيس ما كان ليقبل بمثل هذا الإذلال ولا ليرضى بالمنفى بديلاً، وقد كان الأميركيون يدركون ذلك حين وضعوا السكين على رقبته.
أنا وزوجتي وأطفالي الثلاثة غادرنا الشقة الوظيفية التي أقمنا فيها منذ ما يقارب الأربع سنوات في شارع أبو نواس على طول نهر دجلة. كان ذلك قبل قيام الحرب بيومين فقط، كنا آخر من يهرب من سكان العمارة، وأقمنا عند أخت زوجتي في حي الضباط بالزيونة.
وقد تركت معظم أغراضي بالبيت، ما عدا التلفزيون والحاسوب، فلم نحمل معنا إلا الأشياء الضرورية. وقد حرصتْ زوجتي على أن تُتلف كل ما من شأنه أن يعرضنا للخطر.
لم أفهم في الحال السبب الذي جعلها تفكُّ من على الجدار الصّورَ التي كنت أرافق فيها الرئيس.
- لماذا تفعلين هذا؟
- لا ينبغي أن يعرف أحدٌ أنك كنت تعمل مع صدّام، سيعرّضنا ذلك لكثير من المتاعب!
قلتُ لها مؤكداً:
- اسمعي! الوضعُ على أيّ حال لن يتدهور إلى هذا الحدّ!
كانت نُهى تحسّ بما كان سيأتي من أحداث، من نهبٍ وتخريب وسرقة وعنف، كانت تعلم أنّ السكان سينتقمون من عملاء النظام القديم.
في المواقع البديلة
كانت رئاسة الجمهورية تمتلك العديد من المساكن والعمارة الفارغة في بغداد، وحتى يحبط القصف الأميركي الذي ما فتئ ينهال على العاصمة العراقية على مدى عشر سنوات، تعوّد النظام على ترحيل المكاتب في حالات الخطر، فكان تارة يستقر لبعض الوقت في بنايات عادية، وكان الموظفون وأهم أصحاب المقام يقيمون في عمارة عادية للغاية، مثلما كان الأمر أثناء القصف الذي تعرضت له بغداد في شهر ديسمبر عام 1998.
وكنا نسمّي تلك المساكن بالمواقع البديلة. لقد كان القادة يعون جيداً المخاطر التي كانت تحدق بهم، فحرصوا على أن ينظموا أنفسهم حتى لا يمسّهم أي أذى، كان ذلك على أي حال ما يمكن أن يعتقده أي مراقب خارج النظام، لكنّ الواقع كان مختلفاً كل الاختلاف.
في شهر أكتوبر 2002 تلقت الوزارات الأمر بالشروع في ترحيل أرشيفاتها، كان العراق قد قبل للتو عودة خبراء منظمة الأمم المتحدة في نزع السلاح، مبرزاً بذلك إرادته الطيبة ونيته الحسنة في تهدئة الأزمة القائمة بينه وبين الولايات المتحدة. كان علينا أن نخفي الملفات المهمة قبل وصول المفتشين إلى بغداد.
كنا نعلم أن معظم أولئك المفتشين كانوا جواسيس حقيقيين، فقد قدموا إلى العراق من أجل البحث عن عتاد محظور، ولكن أيضاً من أجل الاستحواذ على الوثائق.
لقد وضعنا إذن أرشيفنا في مكان آمنٍ، ليس من أجل إخفاء المعلومات التي من شأنها أن تعرضنا للخطر في مجال التسلح، ولكن لأننا لم نكن نرغب في أن يكتشف الأميركيون أسرار دواليب الرئاسة. وقد تلقينا الأمر أيضاً بإخفاء حواسيبنا للحيلولة دون حصول الأميركيين على نسخ من الأقراص الصلبة.
وأذكر أنني حاولت التدخل لدى أعضاء أمن القصر لثنيهم عن هذا الأمر، إيماناً مني بأن إخفاء الحواسيب قد يكون أكثر الأمور إثارة للشبهات من منظور المفتشين، فإن نحن وضعنا أنفسنا في حالة دفاع فإن ذلك يعني اعترافنا بالتهم الموجهة إلينا. بداية كلِّف شخصان بفرز الوثائق، وبعد مرور يومين نقل الرجلان كل الوثائق بلا تمييز إلى مكانٍ بديل، وهو المكان نفسه الذي لجأنا إليه أثناء القصف في ديسمبر 1998.
وقد ضمّت هذه الوثائق، على الخصوص، محاضر جلساتِ لقاءاتِ الرئيس بما فيها اللقاءات غير المسبوقة. ولم تتصل هذه الوثائق من قريب أو بعيد بأسلحة الدمار الشامل! ولذلك فقد حيّرني إخفاء هذا النوع من المعلومات. لقد كان الأمن كلما سألت سؤالاً في هذا الشأن ردّ قائلا:
- ولماذا نعطيهم هذه الوثائق؟
وقد أمر صدّام أيضاً بأن يلتزم موظفو الرئاسة كافة بتدريب عسكري صارم.
- نحن على وشك أن نواجه العدو!
علينا أن نعدّ أنفسنا، وأنتم الذين تلازمون الرئيس يجب أن تحاربوا حتى آخر رجل! هكذا كانوا يقولون لنا.
وهكذا شارك أعضاءٌ من أمن الرئيس الخاص في تدريبات فدائية جد قاسية. فقد كان عليهم أن يقطعوا مشياً على الأقدام مسافة تزيد على عشرة كيلو مترات كل يوم.... وأن يتدربوا على سائر أنواع الأسلحة: كلاشينكوف، قاذفات صاروخية من طراز ار. بي. جي وأسلحة الدفاع المضاد للطائرات الخ...
وإذا كان تكوين هؤلاء مكثفاً وفي غاية الجدية والصرامة، فلم يكن ذلك شأن موظفي القصر الآخرين. أما فيما يخصنا نحن، فقد كان مقرراً أن نتلقى على مدى ثلاثة أشهر ساعتين من التدريب العسكري صباحاً والقدر نفسه من التدريب عصراً، أما أنا فلم أحضر هذه الدروس إلا ثلاثة أيام فقط، فسرعان ما أعفي عدد كبير من الموظفين رفيعي المستوى من هذه التدريبات، فقد كان إعداد البرنامج سيّئاً.
وقد أضحت التمارين عديمة الجدوى: لقد علّمونا في الأسبوع الأول السير بخطى ثابتة، وفي الثاني تركيب الكلاشينكوف وتفكيكه، وفي الثالث لم نجد شيئاً نفعله، وقد كان مقرراً لنا درسٌ في تقنيات حرب العصابات داخل المدن، لكنّ حتى ضباط الصف كانوا يقرّون بأن في الأمر مضيعة للوقت، وكنا كلما ذهبنا إلى ميدان الرمي لم يكن في حوزة كل واحد منّا سوى ثلاث طلقات. قبل اندلاع العمليات العسكرية، كان الموظفون يعيشون في حالة من نفاد الصبر ومن القلق بسبب الخطر الوشيك، فكانوا يسألونني:
- لماذا لا نغادر مكاتبنا؟
بعد الإنذار الأخير الذي أطلقه جورج بوش في اتجاه صدّام، توجهتُ على الفور إلى علي عبدالله، سكرتير الرئيس الصحافي بذلك السؤال، فقال لي:
- لا يمكنكم أن تتخذوا قرار الإخلاء من طرف واحد، فسوف يقال عنكم إنكم جبناء..
فقلت له:
- لكن الأميركيين سوف يقصفون العراق وسوف نكون أهدافاً مميّزة!.
لكن عبد حمود، سكرتير صدّام الخاص ما لبث أن رخص لنا بنقل مكاتبنا في اليوم التالي لذلك الإنذار، أي قبل الحرب بيومين، فقد تلقينا في الأخير الأمر بالتراجع نحو الموقع البديل الذي أُعِدَّ لنا خصّيصاً في حي الحارثية الرئاسي، ليس بعيداً عن قصر السلام الرئاسي، الذي قصفه الأميركيون بعد ذلك نحو خمس أو ست مرات.
تصرفات ارتجالية
كنت قبل الحرب قد ذهبت للتعرف على المكان.
كان المكان عبارة عن فيلا واسعة من طابق واحد، طُليت جدرانها باللون الأمغر، تقع بشارع الزيتون، وهي بيت مجهول في حي ثري من أحياء العاصمة. كان هذا البيت في السابق ملكاً لصلاح عمر العلي التكريتي وهو قريب لصدام وسفير سابق في الولايات المتحدة حتى تاريخ ارتداده العام 1982، فبعد فراره قامت الدولة بمصادرة بيته.
وهنا أيضاً كم كانت التصرفات ارتجالية! قبل عمليات القصف الأميركية العام 1998 كنا ورثنا بيتاً في مجمّع الوزراء بحي المنصور حيث كان يُقيم أكثر من خمسين من مسؤولي العراق رفيعي المستوى. كان المكان غير لائق للاحتماء، فقد اكتشفنا بعد الازمة أن المساكن المجاورة كانت قد أُخليت من قبل سكانها لأنّ الحيّ كان يأوي معسكراً لتدريب الأمن الخاص بالرئيس!!.
لذلك لم ينجُ هذا الحيّ من القصف المكثف، فهذا الاختيار دليل على مدى حماقة القادة العراقيين في اتخاذ القرارات التي تقع على عاتقهم، كلّما كان الأمر لا يمت بصلة مباشرة بحياة الرئيس شخصياً. فحين جاء عابد حمود في شهر فبراير يقترح علينا الرجوع إلى المجمّع الوزاري بالمنصور، لم نتردّد في رفض هذا العرض، فلم يجد بداً من أن ينصحنا بالتوجه إلى مسؤول إدارة المواقع البديلة حتى يدلنا على مكان آخر نأوي إليه.
وقد بدا لنا حيّ الحارثية الذي لجأنا إليه في الأخير هادئاً ساكنا، فقد كان البيتُ متوارياً خلف أحد الأسوار ممّا يجعله خفياً عن الأنظار، لكن ما لبثنا أن علمنا بعد حين أن عدداً كبيراً من مسؤولي البعث - الحزب الوحيد في سلطة بغداد - ومنهم طه ياسين رمضان، الرجل الوفي لصدام، كانوا يُقيمون على بعد خمسين متراً فقط عن ذلك المكان.
وكان الحي يأوي أيضاً مدرسة للحزب، وهو ما يعني أننا كنا محاطين بأهداف كامنة. وقد كان هذا البيت الذي أمكننا أن نقوم فيه بواجبنا حتى لحظة سقوط بغداد قد أُعِدَّ ملجأً لرئيس الديوان الذي رفض العودة إليه بسبب موقعه غير الآمن، فما دام الأمر كذلك فما الذي جعلهم يمنحوننا إياه؟ والسبب في ذلك بلا شك عدم كفاءة أحد مسؤولي الرئاسة ومتابعةٍ سيئة للملفات، فضلاً عن أن مكتب إعلامنا لم يكن بالأهمية ذاتها للأمن المقرب من الرئيس.
في الوقت ذاته نُقلت مصالح الرئاسة الأخرى إلى الضفة الأخرى من نهر دجلة، ليس بعيداً عن الحارثية، في أحياء اليرموك والمنصور، أما المصالح الأقل أهمية، المرتبطة أساساً بالشرطة فقد تم إخفاؤها في إحدى المدارس، ولم ننقل أيّ عتاد، وقد ظل الموظفون يتردّدون على مكاتبهم حتى تحت القصف.
ولم يتوقف الارتجال عند هذا الحدّ، فقد جاء سائقان مكلفان بنقل البريد إلى الرئيس يشكوان من أن هذه الترتيبات الأمنية لم تشملهما حيث لم يقترح عليهما أحدٌ أيّ موقع بديل يلجآن إليه، ولما كانا يعيشان على مقربة من القصر الجمهوري فقد خشيا كثيراً على حياتهما. كنتُ على استعداد لإيوائهما، لكنّ علي عبدالله لم يوافق على ذلك.
وعلى الرغم من أن عملهما كان وثيق الصلة بعملنا فقد ظل علي عبدالله يعتبر أنهما لا يمثلان جزءاً من مكتبنا. فلأسباب الأمن والسريّة لم يكن من حقّهما أن يعرفا من كان يدخل ويخرج من بيتنا في الحارثية، فلم يجد هؤلاء بدّاً من العودة إلى بناياتهم التي تعرضت للصواريخ الأميركية الأولى التي استهدفت القصر منذ بداية الحرب. وقد عاد إلينا أحد السائقين الذي تعرض لجروحٍ، معصوب الرأس، متوسلاً إلينا أن نأويه في محلاتنا، وأخيراً وضع السكرتير الصحافي تحت تصرفهما غرفة معزولة.
وقد استغرق ترحالنا الكثير من الوقت، غير أنه على الرغم ممّا أصابنا من قلق وجزع فلم نكن على عجلة من أمرنا، كنا نعتقد جميعاً أننا سنتحاشى الحرب، فلم ننقل إلا العتاد الضروري لعملنا، كالحواسيب مثلاً، أما الأسرة والكراسي والمكيفات وأفران الطبخ فقد استعادتها الرئاسة.
لم نتلق أي تعليمات خاصة حول ما كان ينبغي علينا أن ننقله بالضرورة، ومع ذلك فقد فكروا في الوقت ذاته في تفاصيل ثانوية، ومن ذلك إقامة نظام من صواني الأكل لموظفي الديوان الموزعين عبر العاصمة، لكن الإدارة نسيت أن تخبرنا بذلك، ولم نطّلع على هذا النظام إلا بعد بداية القصف بيومين أو ثلاثة أيام، فكنت كلّ يوم أرسل من ملجئنا أحد السائقين ليأتينا بنحو عشرين من هذه الصواني من الديوان الذي كان ينهال عليه وابلٌ من القنابل.
أخطاء فادحة
كان بحوزتنا جهاز لتوليد الكهرباء، لكنّ علي عبدالله لم يكن يرغب في أن نستعمله كثيراً، فقد أصابه الهذيان بسبب الأحداث حتى صار يخشى من أن يزعج صوتُ مولّد الكهرباء الجيران أو يكشف أمرنا للطائرات الأميركية. وهنا أيضاً كم من أخطاءٍ فادحة ارتكبت من قبل مصالح الرئاسة!
وفي ربيع عام 2002 حصلنا علي عبدالله وأنا على سيارة جديدة لكل واحد منّا، وكانت من نوع »نيسان سيدريك«. هذا النوع من السيارات كان محظوراً بيعه للشعب حيث كان مخصصاً للمسؤولين الكبار في الحزب وللمديرين العامين في الرئاسة. هذه الهدايا لم تكن خافية على الجمهور، لكنّ مأربنا في الحارثية لم يكن يتّسع إلاّ لسيارة واحدة، ولذلك لم أجد بدّاً من أن أركن سيارتي في الشارع.
وكان للسائقين سيارات من نوع »بيك أوب« المخصّصة أيضاً للمقربين من السلطة، فلم نكن إذاً كتومين جدّاً، فكوننا لم نكن قادرين على أن نوقف سياراتنا في مكان آمنٍ وبعيداً عن الأنظار فقد كنا معرضين لمخاطر حقيقية، فقد كنا نخشى أن يكشف أمرنا أحد الجيران، أما أنا شخصياً فقد كانت خشيتي أكثر وأكبر من الجماعات الإرهابية المرتبطة بالمعارضة في الخارج أكثر من خشيتي من القصف الأميركي، ولم يُعيّن المسؤولون أي حارس يحرسنا حول البيت.
وقد أحضرنا كمية من الشموع والمصابيح البترولية تحسّباً لأي انقطاع في الكهرباء، كما أعددنا مخزوناً من البطاريات لتأمين الاستماع للإذاعة، فقد كان الراديو آخر وسيلة إعلامية في متناولنا لإطلاع صدّام بما يطرأ من أخبار، لكننا في الليلة التي انقطعت فيها الكهرباء فوجئنا بعدم توفر المصابيح البترولية لأن العامل المكلّف بالعتاد كان قد نسيها في الرئاسة. وما إن تمكنا من الحصول على المصابيح حتى تعذّر الحصول على البترول، فلم أجد بداً من التوجه إلى بيتنا لأحضر زجاجات من البنزين.
كان الرئيس يلجأ إلى استخدام هذه »النّسخ« كوسائل للخداع، فحين كانت بعض المواكب تعبر المدينة، كانوا يوهمون الناس، من خلال أحد هؤلاء الأشباه، بأن صدّام متواجد في هذه المرسيدس أو تلك، والواقع أن الرئيس كان يتنقل في سيارة عادية لا تثير أي اهتمام، غير أن الرئيس، في المقابل، لم يكن يعهد بالمهمات الخاصة لهذه »النّسخ.
«لقد كان صدّام يحس أنه وحيد. وعلى الرغم من بعض مؤشرات التذبذب والحيرة، فقد ظل صدام يقود البلاد حتى النهاية، فقد كان يلتقي بانتظام بوزرائه ويطلع على بريده. وبينما كانت المعارك على أشدها، استمر صدّام في تجسيد الشخصية اللغز العصيّة الغامضة، التي ما فتئ يمثلها في أعيننننا جميعاً.
وهكذا، وبينما كنا نعيش ساعات مأساوية، دعاني لكي أترجم إلى العربية محاورة من خمس عشرة صفحة كان قد أدلى بها صهره السابق حسين كامل. ويعود تاريخ هذا الحديث لثمانية أعوام مضت، وكانت قد نشرت في الأردن التي كان قد لجأ إليها العام 1995 قبل أن تتم تصفيته في بغداد بعد ذلك بستة أشهر. لم يكن للحوار أي أهمية ولا أي صلة بما كان يحدث من حولنا، فقد كنت منهكاً كثيراً مع الراديو الذي كان علي أن أستمر في الاستماع إليه بلا انقطاع حتى أطلع صدام بما يجدّ من أخبار.
قلت لسكرتيره:
- إنها مضيعة للوقت!
- أنا موافق، ولكنها الأوامر.
تُرى لماذا الاهتمام بهذا الشيء في مثل هذا الوقت؟ لا أحد يدري...
لم يكن سكرتير الرئيس الصحافي الوحيد الذي اصابه الذعر، فبعد مرور أربعة أيام على بداية الحرب أصدر إلينا السكرتير الشخصي لصدام أمراً بعدم استعمال الحواسيب والانترنت، حتى لا يكشف الأميركيون أمرنا، ولذلك اضطررنا لأن نحرّر بخط اليد نشرات الأخبار المخصصة للرئيس، فكنا نستعمل ورق الكربون حتى تظل نسخة من النص في حوزتنا. قرارٌ لا معنى له! ففي بيتنا كنت أشتغل على الأنترنت، وكان ابني يمضي أيامه في السباحة على أمواج الأنترنت، فقلت ذلك للأمن:
- هناك على الأقل مائه ألف حاسوب في بغداد موصولة بالأنترنت، كيف يمكن للأميركيين أن يكشفوا أمرنا؟
- إنها الأوامر، لا داعي للنقاش!
وأعدنا ترتيب أمورنا من جديد، فهيأت نظاماً للعمل بالفريق المحدود، حتى نحدّ من الخسائر في الأرواح البشرية إنْ نحن تعرضنا لأي قصف.كان ستة أو سبعة من الموظفين موجودين بشكل دائم على مدار الساعة، وقد تضاعف عملنا خلال الحرب، لأن الرئيس كان قد اشترط منّا أن نرسل إليه ضعفي أو ثلاثة أضعافٍ من ملخصات الأخبار التي كنا نرسلها في الفترات العادية. كان الجميع يحضر إلى العمل باستثناء موظف في الطباعة كان اضطر لمغادرة بيته الذي كان يتعرض للقصف المتواصل بجانب وزارة الإعلام.
كان قد تأجرّ شقة بالقرب من بيت حماه في بعقوبة الواقعة على بعد ستين كيلو متراً من بغداد، فقد كان يصعب عليه المجيء إلى المكتب، وقد ألححت عليه بأن يواصل العمل معنا، فقد كان قطع المسافة يعرضه للقدر نفسه من المخاطر التي كان يعرضه لها تخليه عن منصبه، ناهيك عن أننا كنّا نخضع لمراقبة مستمرة.
والحق أقول إننا حتى في الأيام التي سبقت سقوط بغداد يوم التاسع من أبريل كنّا أكثر تفاؤلاً. فقد كان العمّال صامدين باستثناء عاملين أو ثلاثة. وكان أكثرهم وجلاً الجاسوس الذي كان يعمل لحساب أمن الرئيس، أما مساعداي فلم يباليا بالأمر كثيراً، فعلى عكس حرب عام 1991 فقد كان القصف متواصلا أناء الليل وأطراف النهار، وكنتُ أخشى عليهم كثيراً.
أثناء الحرب اختيرت فيلتنا كنقطة لالتقاء الشخصيات المدعوة من قبل الرئيس، وكان رسولٌ خاص ينقل لنا الاستدعاءات، وكنا نتصل عن طريق الهاتف بالشخص المعني، وبعد أن دمّر المركز الهاتفي المركزي لماعون قبل انتهاء المعارك بعشرة أيام أرسلنا مُراسلينا لإخبارهم بذلك.
فكانوا كلما وصلوا إلى الحارثية اقتيدوا نحو مكان سريّ، وهناك يغيرون السائق قبل الوصول إلى مكان ثالث حيث يختبئ الرئيس. وقد جاء لزيارتنا مرات عديدة محمد الصحّاف وزير الإعلام المعروف بغليانه، ولطيف نصيف جاسم نائب مدير المكتب العسكري لحزب البعث قبل ان يلتحقا بصدام حسين.
تنقل بلا انقطاع
كان الرئيس يتنقّل بلا انقطاع. في الأيام الأولى أقام في بيت قريب من بيتنا، فقد عرفتُ ذلك لأنّ علي عبدالله كان يقطع المسافة إلى الرئيس في سيارة الأمن في وقت وجيز، وقد كان كثير التردّد على ذلك المكان، حيث كان الرئيس يجتمع بلا انقطاع بأعضاء قيادة الحزب ومسؤولي الجيش.
وأكثر من ذلك، فقد انعقد في الأيام الأولى للحرب اجتماعان في مكان لا يصدّق، في بيت يقع عند مدخل القصر الجمهوري الذي كان قد تعرض للقصف ليلة ذلك اللقاء، وهو ما يؤكد أن نقاط اللقاءات كان يتم اختيارها يوماً بيوم تبعاً للضربات الأميركية.
وكان صدّام بعد ذلك قد قضى أياماً عديدة في فيلا المنصور بالقرب من مطعم الساعة. وقد قام الأميركيون الذين اعتقدوا العثور عليه بذلك المكان بقصف المنطقة يوم السابع من أبريل. وقد كادوا أن يصيبوه في ذلك القصف لأنه لم يكن بعيداً عن ذلك المكان كثيراً.
لقد تعوّد صدام منذ العام 1990 أن يقيم بشكل سريّ في عدد من البيوت العادية في العاصمة، وأذكر أنني توجهتُ العام 1991 عن غير قصد بالقرب من أحد تلك البيوت. فذات مساء، وأنا عائد إلى البيت، أخبرني السائق بأنه سيعرّج على الرئيس حتى يسلّمه بريداً مهماً، فدخلنا في شارع هادئ بحي اليرموك لم نلمس أي إجراء أمنيّ واضح فيه.
فقد كانت الإقامة بعيدة عن الأنظار، غير أنه حين اقتربنا من باب المدخل فوجئنا بحارسين يطلان علينا من وراء إحدى الأشجار. ولم يستغرق تسليمهما البريد الموجّه للرئيس سوى ثوان! قيل مراراً إن صدّام يعتصم في داخل غرف حصينة تحت الأرض. أجل لقد وجدت هذه الحصون بالفعل، لكنّ صدّام لم يتقهقر إليها أثناء الحرب، فقد كان في الواقع يتخفى بين صفوف شعبه.
وكانت وسائل الإعلام الغربية قد أفرطت كثيراً في تصور »نُسخ« الرئيس، مدّعيةً بأنه كان محاطاً بأشخاص مشابهين له، فأنا لم ألتق قط بأي واحد منهم. ويبدو أن أحد أطباء صدّام الفرنسيين قد استقبل يوماً من طرف أحد هؤلاء الأشباه، لكنّ الطبيب لم يتعرّف عليه، بطبيعة الحال.
الدكتور سامان عبد المجيد - المترجم الخاص بصدام حسين
سنــوات صــدام مذكرات بقلم المترجم الخاص سامان عبد المجيد ـ الحلقة الاولى
سامان عبد المجيد - المترجم الخاص بصدام حسين
سلسلة من الأخطاء الفادحة والتصرفات الارتجالية في مؤسسة الرئاسة حتى آخر لحظة، ظننتُ أن الحرب قد لا تنشب، فبعد أن ظلّ لزمنٍ طويل يرفض تقديم أيَّ تنازلٍ.. قبل صدّام حسين في نهاية المطاف أن يخفّف من غُلوّه وعناده، فأمر بتدمير صواريخ «الصمود»، وسمح للطائرة الاستكشافية الأميركية من طراز «يو2» بأن تُحلّقِ في أجواء العراق. كنتُ على اقتناع بأن صدّام سيخرج من جعبته ورقته الأخيرة، وبأنّ الأزمة ستنتهي إلى مخرج نهائي على نحو ما انتهت الأزمات السابقة.
لقد ظللتُ أعمل إلى جانبه خلال الفترة التي تعقّدت فيها الأزمة، وكنت أعلم أنّ صدّام كان أقدر على التصرف بكثير من البراغماتية على الرغم من تصوره التقليدي للشرف والعزّة، وكنت أعرف أيضاً، بفضل المعلومات التي كنا ننقلها إليه، أنه كان يعي خطورة الوضع.. حق الوعي. في الغالب كان صدّام ينهض في حدود الخامسة صباحاً، وقد شعرنا حقاً خلال الشهور الستة التي سبقت الحرب أنه لم يذق طعم الراحة قط. كان يُرسل إلينا بريده بواسطة حرّاسه، في أي ساعة من ساعات الليل أو النهار.
كان جهاز نقل الرسائل مُروّضاً ترويضاً مُتقناً، ففي الأوقات العادية كان رجلٌ من رجال الأمن يحمل رسائلنا إلى الرئيس فيسلّمها إلى مكتب الاستقبال في بناية سرّية تقع خارج القصر، فيتكفّل رجلٌ ثانٍ من الأمن بنقلها إلى سكرتير الرئيس الخاص، عبد حمود الذي كان يضطلع بفتحها، ولا شيء من كل هذا تغيّر أثناء الأزمة، فقد ظل صدّام يُمسك بزمام العراق حتى النهاية. أما نُهى زوجتي فقد كانت على اقتناع بأن المأساة قادمة لا محالة، ولذلك ما فتئت تذكّرني:
- يجب أن نفكر في جلب مخزون من المؤونة الغذائية.
كنت أراها عند كل عودةٍ من القصر، في ساعات الليل المتأخرة، تُعدّ العدّة تأهباً لأي طارئ، فأحاول في كل مرة لطمأنتها، فقد كنت على اقتناع بأنَّ الحرب لو قامت فعلاً فلن تكون إلا حرباً طفيفة وبعيدة. كنت أحدّث نفسي بأن الصّراع لو قدّر له أن ينفجر، فإن المقاومة العراقية سوف تصمد لأسابيع عديدة، فلا يمكن للنظام أن ينهار كما ينهار قصرٌ من ورق.
ولا أخفيكم أنني من الناحية العملية لم أستبق الأحداث بأي حال، فلم أكن قد أعددتُ أيّ شيء، حين طلب جورج بوش من الرئيس صدام مغادرة البلاد قبل بداية الصراع بأيام. ومع ذلك، فقد جعلني هذا الإنذار الأخير أدرك أن الحرب قائمة لا محالة، لكنّ الرئيس ما كان ليقبل بمثل هذا الإذلال ولا ليرضى بالمنفى بديلاً، وقد كان الأميركيون يدركون ذلك حين وضعوا السكين على رقبته.
أنا وزوجتي وأطفالي الثلاثة غادرنا الشقة الوظيفية التي أقمنا فيها منذ ما يقارب الأربع سنوات في شارع أبو نواس على طول نهر دجلة. كان ذلك قبل قيام الحرب بيومين فقط، كنا آخر من يهرب من سكان العمارة، وأقمنا عند أخت زوجتي في حي الضباط بالزيونة.
وقد تركت معظم أغراضي بالبيت، ما عدا التلفزيون والحاسوب، فلم نحمل معنا إلا الأشياء الضرورية. وقد حرصتْ زوجتي على أن تُتلف كل ما من شأنه أن يعرضنا للخطر.
لم أفهم في الحال السبب الذي جعلها تفكُّ من على الجدار الصّورَ التي كنت أرافق فيها الرئيس.
- لماذا تفعلين هذا؟
- لا ينبغي أن يعرف أحدٌ أنك كنت تعمل مع صدّام، سيعرّضنا ذلك لكثير من المتاعب!
قلتُ لها مؤكداً:
- اسمعي! الوضعُ على أيّ حال لن يتدهور إلى هذا الحدّ!
كانت نُهى تحسّ بما كان سيأتي من أحداث، من نهبٍ وتخريب وسرقة وعنف، كانت تعلم أنّ السكان سينتقمون من عملاء النظام القديم.
في المواقع البديلة
كانت رئاسة الجمهورية تمتلك العديد من المساكن والعمارة الفارغة في بغداد، وحتى يحبط القصف الأميركي الذي ما فتئ ينهال على العاصمة العراقية على مدى عشر سنوات، تعوّد النظام على ترحيل المكاتب في حالات الخطر، فكان تارة يستقر لبعض الوقت في بنايات عادية، وكان الموظفون وأهم أصحاب المقام يقيمون في عمارة عادية للغاية، مثلما كان الأمر أثناء القصف الذي تعرضت له بغداد في شهر ديسمبر عام 1998.
وكنا نسمّي تلك المساكن بالمواقع البديلة. لقد كان القادة يعون جيداً المخاطر التي كانت تحدق بهم، فحرصوا على أن ينظموا أنفسهم حتى لا يمسّهم أي أذى، كان ذلك على أي حال ما يمكن أن يعتقده أي مراقب خارج النظام، لكنّ الواقع كان مختلفاً كل الاختلاف.
في شهر أكتوبر 2002 تلقت الوزارات الأمر بالشروع في ترحيل أرشيفاتها، كان العراق قد قبل للتو عودة خبراء منظمة الأمم المتحدة في نزع السلاح، مبرزاً بذلك إرادته الطيبة ونيته الحسنة في تهدئة الأزمة القائمة بينه وبين الولايات المتحدة. كان علينا أن نخفي الملفات المهمة قبل وصول المفتشين إلى بغداد.
كنا نعلم أن معظم أولئك المفتشين كانوا جواسيس حقيقيين، فقد قدموا إلى العراق من أجل البحث عن عتاد محظور، ولكن أيضاً من أجل الاستحواذ على الوثائق.
لقد وضعنا إذن أرشيفنا في مكان آمنٍ، ليس من أجل إخفاء المعلومات التي من شأنها أن تعرضنا للخطر في مجال التسلح، ولكن لأننا لم نكن نرغب في أن يكتشف الأميركيون أسرار دواليب الرئاسة. وقد تلقينا الأمر أيضاً بإخفاء حواسيبنا للحيلولة دون حصول الأميركيين على نسخ من الأقراص الصلبة.
وأذكر أنني حاولت التدخل لدى أعضاء أمن القصر لثنيهم عن هذا الأمر، إيماناً مني بأن إخفاء الحواسيب قد يكون أكثر الأمور إثارة للشبهات من منظور المفتشين، فإن نحن وضعنا أنفسنا في حالة دفاع فإن ذلك يعني اعترافنا بالتهم الموجهة إلينا. بداية كلِّف شخصان بفرز الوثائق، وبعد مرور يومين نقل الرجلان كل الوثائق بلا تمييز إلى مكانٍ بديل، وهو المكان نفسه الذي لجأنا إليه أثناء القصف في ديسمبر 1998.
وقد ضمّت هذه الوثائق، على الخصوص، محاضر جلساتِ لقاءاتِ الرئيس بما فيها اللقاءات غير المسبوقة. ولم تتصل هذه الوثائق من قريب أو بعيد بأسلحة الدمار الشامل! ولذلك فقد حيّرني إخفاء هذا النوع من المعلومات. لقد كان الأمن كلما سألت سؤالاً في هذا الشأن ردّ قائلا:
- ولماذا نعطيهم هذه الوثائق؟
وقد أمر صدّام أيضاً بأن يلتزم موظفو الرئاسة كافة بتدريب عسكري صارم.
- نحن على وشك أن نواجه العدو!
علينا أن نعدّ أنفسنا، وأنتم الذين تلازمون الرئيس يجب أن تحاربوا حتى آخر رجل! هكذا كانوا يقولون لنا.
وهكذا شارك أعضاءٌ من أمن الرئيس الخاص في تدريبات فدائية جد قاسية. فقد كان عليهم أن يقطعوا مشياً على الأقدام مسافة تزيد على عشرة كيلو مترات كل يوم.... وأن يتدربوا على سائر أنواع الأسلحة: كلاشينكوف، قاذفات صاروخية من طراز ار. بي. جي وأسلحة الدفاع المضاد للطائرات الخ...
وإذا كان تكوين هؤلاء مكثفاً وفي غاية الجدية والصرامة، فلم يكن ذلك شأن موظفي القصر الآخرين. أما فيما يخصنا نحن، فقد كان مقرراً أن نتلقى على مدى ثلاثة أشهر ساعتين من التدريب العسكري صباحاً والقدر نفسه من التدريب عصراً، أما أنا فلم أحضر هذه الدروس إلا ثلاثة أيام فقط، فسرعان ما أعفي عدد كبير من الموظفين رفيعي المستوى من هذه التدريبات، فقد كان إعداد البرنامج سيّئاً.
وقد أضحت التمارين عديمة الجدوى: لقد علّمونا في الأسبوع الأول السير بخطى ثابتة، وفي الثاني تركيب الكلاشينكوف وتفكيكه، وفي الثالث لم نجد شيئاً نفعله، وقد كان مقرراً لنا درسٌ في تقنيات حرب العصابات داخل المدن، لكنّ حتى ضباط الصف كانوا يقرّون بأن في الأمر مضيعة للوقت، وكنا كلما ذهبنا إلى ميدان الرمي لم يكن في حوزة كل واحد منّا سوى ثلاث طلقات. قبل اندلاع العمليات العسكرية، كان الموظفون يعيشون في حالة من نفاد الصبر ومن القلق بسبب الخطر الوشيك، فكانوا يسألونني:
- لماذا لا نغادر مكاتبنا؟
بعد الإنذار الأخير الذي أطلقه جورج بوش في اتجاه صدّام، توجهتُ على الفور إلى علي عبدالله، سكرتير الرئيس الصحافي بذلك السؤال، فقال لي:
- لا يمكنكم أن تتخذوا قرار الإخلاء من طرف واحد، فسوف يقال عنكم إنكم جبناء..
فقلت له:
- لكن الأميركيين سوف يقصفون العراق وسوف نكون أهدافاً مميّزة!.
لكن عبد حمود، سكرتير صدّام الخاص ما لبث أن رخص لنا بنقل مكاتبنا في اليوم التالي لذلك الإنذار، أي قبل الحرب بيومين، فقد تلقينا في الأخير الأمر بالتراجع نحو الموقع البديل الذي أُعِدَّ لنا خصّيصاً في حي الحارثية الرئاسي، ليس بعيداً عن قصر السلام الرئاسي، الذي قصفه الأميركيون بعد ذلك نحو خمس أو ست مرات.
تصرفات ارتجالية
كنت قبل الحرب قد ذهبت للتعرف على المكان.
كان المكان عبارة عن فيلا واسعة من طابق واحد، طُليت جدرانها باللون الأمغر، تقع بشارع الزيتون، وهي بيت مجهول في حي ثري من أحياء العاصمة. كان هذا البيت في السابق ملكاً لصلاح عمر العلي التكريتي وهو قريب لصدام وسفير سابق في الولايات المتحدة حتى تاريخ ارتداده العام 1982، فبعد فراره قامت الدولة بمصادرة بيته.
وهنا أيضاً كم كانت التصرفات ارتجالية! قبل عمليات القصف الأميركية العام 1998 كنا ورثنا بيتاً في مجمّع الوزراء بحي المنصور حيث كان يُقيم أكثر من خمسين من مسؤولي العراق رفيعي المستوى. كان المكان غير لائق للاحتماء، فقد اكتشفنا بعد الازمة أن المساكن المجاورة كانت قد أُخليت من قبل سكانها لأنّ الحيّ كان يأوي معسكراً لتدريب الأمن الخاص بالرئيس!!.
لذلك لم ينجُ هذا الحيّ من القصف المكثف، فهذا الاختيار دليل على مدى حماقة القادة العراقيين في اتخاذ القرارات التي تقع على عاتقهم، كلّما كان الأمر لا يمت بصلة مباشرة بحياة الرئيس شخصياً. فحين جاء عابد حمود في شهر فبراير يقترح علينا الرجوع إلى المجمّع الوزاري بالمنصور، لم نتردّد في رفض هذا العرض، فلم يجد بداً من أن ينصحنا بالتوجه إلى مسؤول إدارة المواقع البديلة حتى يدلنا على مكان آخر نأوي إليه.
وقد بدا لنا حيّ الحارثية الذي لجأنا إليه في الأخير هادئاً ساكنا، فقد كان البيتُ متوارياً خلف أحد الأسوار ممّا يجعله خفياً عن الأنظار، لكن ما لبثنا أن علمنا بعد حين أن عدداً كبيراً من مسؤولي البعث - الحزب الوحيد في سلطة بغداد - ومنهم طه ياسين رمضان، الرجل الوفي لصدام، كانوا يُقيمون على بعد خمسين متراً فقط عن ذلك المكان.
وكان الحي يأوي أيضاً مدرسة للحزب، وهو ما يعني أننا كنا محاطين بأهداف كامنة. وقد كان هذا البيت الذي أمكننا أن نقوم فيه بواجبنا حتى لحظة سقوط بغداد قد أُعِدَّ ملجأً لرئيس الديوان الذي رفض العودة إليه بسبب موقعه غير الآمن، فما دام الأمر كذلك فما الذي جعلهم يمنحوننا إياه؟ والسبب في ذلك بلا شك عدم كفاءة أحد مسؤولي الرئاسة ومتابعةٍ سيئة للملفات، فضلاً عن أن مكتب إعلامنا لم يكن بالأهمية ذاتها للأمن المقرب من الرئيس.
في الوقت ذاته نُقلت مصالح الرئاسة الأخرى إلى الضفة الأخرى من نهر دجلة، ليس بعيداً عن الحارثية، في أحياء اليرموك والمنصور، أما المصالح الأقل أهمية، المرتبطة أساساً بالشرطة فقد تم إخفاؤها في إحدى المدارس، ولم ننقل أيّ عتاد، وقد ظل الموظفون يتردّدون على مكاتبهم حتى تحت القصف.
ولم يتوقف الارتجال عند هذا الحدّ، فقد جاء سائقان مكلفان بنقل البريد إلى الرئيس يشكوان من أن هذه الترتيبات الأمنية لم تشملهما حيث لم يقترح عليهما أحدٌ أيّ موقع بديل يلجآن إليه، ولما كانا يعيشان على مقربة من القصر الجمهوري فقد خشيا كثيراً على حياتهما. كنتُ على استعداد لإيوائهما، لكنّ علي عبدالله لم يوافق على ذلك.
وعلى الرغم من أن عملهما كان وثيق الصلة بعملنا فقد ظل علي عبدالله يعتبر أنهما لا يمثلان جزءاً من مكتبنا. فلأسباب الأمن والسريّة لم يكن من حقّهما أن يعرفا من كان يدخل ويخرج من بيتنا في الحارثية، فلم يجد هؤلاء بدّاً من العودة إلى بناياتهم التي تعرضت للصواريخ الأميركية الأولى التي استهدفت القصر منذ بداية الحرب. وقد عاد إلينا أحد السائقين الذي تعرض لجروحٍ، معصوب الرأس، متوسلاً إلينا أن نأويه في محلاتنا، وأخيراً وضع السكرتير الصحافي تحت تصرفهما غرفة معزولة.
وقد استغرق ترحالنا الكثير من الوقت، غير أنه على الرغم ممّا أصابنا من قلق وجزع فلم نكن على عجلة من أمرنا، كنا نعتقد جميعاً أننا سنتحاشى الحرب، فلم ننقل إلا العتاد الضروري لعملنا، كالحواسيب مثلاً، أما الأسرة والكراسي والمكيفات وأفران الطبخ فقد استعادتها الرئاسة.
لم نتلق أي تعليمات خاصة حول ما كان ينبغي علينا أن ننقله بالضرورة، ومع ذلك فقد فكروا في الوقت ذاته في تفاصيل ثانوية، ومن ذلك إقامة نظام من صواني الأكل لموظفي الديوان الموزعين عبر العاصمة، لكن الإدارة نسيت أن تخبرنا بذلك، ولم نطّلع على هذا النظام إلا بعد بداية القصف بيومين أو ثلاثة أيام، فكنت كلّ يوم أرسل من ملجئنا أحد السائقين ليأتينا بنحو عشرين من هذه الصواني من الديوان الذي كان ينهال عليه وابلٌ من القنابل.
أخطاء فادحة
كان بحوزتنا جهاز لتوليد الكهرباء، لكنّ علي عبدالله لم يكن يرغب في أن نستعمله كثيراً، فقد أصابه الهذيان بسبب الأحداث حتى صار يخشى من أن يزعج صوتُ مولّد الكهرباء الجيران أو يكشف أمرنا للطائرات الأميركية. وهنا أيضاً كم من أخطاءٍ فادحة ارتكبت من قبل مصالح الرئاسة!
وفي ربيع عام 2002 حصلنا علي عبدالله وأنا على سيارة جديدة لكل واحد منّا، وكانت من نوع »نيسان سيدريك«. هذا النوع من السيارات كان محظوراً بيعه للشعب حيث كان مخصصاً للمسؤولين الكبار في الحزب وللمديرين العامين في الرئاسة. هذه الهدايا لم تكن خافية على الجمهور، لكنّ مأربنا في الحارثية لم يكن يتّسع إلاّ لسيارة واحدة، ولذلك لم أجد بدّاً من أن أركن سيارتي في الشارع.
وكان للسائقين سيارات من نوع »بيك أوب« المخصّصة أيضاً للمقربين من السلطة، فلم نكن إذاً كتومين جدّاً، فكوننا لم نكن قادرين على أن نوقف سياراتنا في مكان آمنٍ وبعيداً عن الأنظار فقد كنا معرضين لمخاطر حقيقية، فقد كنا نخشى أن يكشف أمرنا أحد الجيران، أما أنا شخصياً فقد كانت خشيتي أكثر وأكبر من الجماعات الإرهابية المرتبطة بالمعارضة في الخارج أكثر من خشيتي من القصف الأميركي، ولم يُعيّن المسؤولون أي حارس يحرسنا حول البيت.
وقد أحضرنا كمية من الشموع والمصابيح البترولية تحسّباً لأي انقطاع في الكهرباء، كما أعددنا مخزوناً من البطاريات لتأمين الاستماع للإذاعة، فقد كان الراديو آخر وسيلة إعلامية في متناولنا لإطلاع صدّام بما يطرأ من أخبار، لكننا في الليلة التي انقطعت فيها الكهرباء فوجئنا بعدم توفر المصابيح البترولية لأن العامل المكلّف بالعتاد كان قد نسيها في الرئاسة. وما إن تمكنا من الحصول على المصابيح حتى تعذّر الحصول على البترول، فلم أجد بداً من التوجه إلى بيتنا لأحضر زجاجات من البنزين.
كان الرئيس يلجأ إلى استخدام هذه »النّسخ« كوسائل للخداع، فحين كانت بعض المواكب تعبر المدينة، كانوا يوهمون الناس، من خلال أحد هؤلاء الأشباه، بأن صدّام متواجد في هذه المرسيدس أو تلك، والواقع أن الرئيس كان يتنقل في سيارة عادية لا تثير أي اهتمام، غير أن الرئيس، في المقابل، لم يكن يعهد بالمهمات الخاصة لهذه »النّسخ.
«لقد كان صدّام يحس أنه وحيد. وعلى الرغم من بعض مؤشرات التذبذب والحيرة، فقد ظل صدام يقود البلاد حتى النهاية، فقد كان يلتقي بانتظام بوزرائه ويطلع على بريده. وبينما كانت المعارك على أشدها، استمر صدّام في تجسيد الشخصية اللغز العصيّة الغامضة، التي ما فتئ يمثلها في أعيننننا جميعاً.
وهكذا، وبينما كنا نعيش ساعات مأساوية، دعاني لكي أترجم إلى العربية محاورة من خمس عشرة صفحة كان قد أدلى بها صهره السابق حسين كامل. ويعود تاريخ هذا الحديث لثمانية أعوام مضت، وكانت قد نشرت في الأردن التي كان قد لجأ إليها العام 1995 قبل أن تتم تصفيته في بغداد بعد ذلك بستة أشهر. لم يكن للحوار أي أهمية ولا أي صلة بما كان يحدث من حولنا، فقد كنت منهكاً كثيراً مع الراديو الذي كان علي أن أستمر في الاستماع إليه بلا انقطاع حتى أطلع صدام بما يجدّ من أخبار.
قلت لسكرتيره:
- إنها مضيعة للوقت!
- أنا موافق، ولكنها الأوامر.
تُرى لماذا الاهتمام بهذا الشيء في مثل هذا الوقت؟ لا أحد يدري...
لم يكن سكرتير الرئيس الصحافي الوحيد الذي اصابه الذعر، فبعد مرور أربعة أيام على بداية الحرب أصدر إلينا السكرتير الشخصي لصدام أمراً بعدم استعمال الحواسيب والانترنت، حتى لا يكشف الأميركيون أمرنا، ولذلك اضطررنا لأن نحرّر بخط اليد نشرات الأخبار المخصصة للرئيس، فكنا نستعمل ورق الكربون حتى تظل نسخة من النص في حوزتنا. قرارٌ لا معنى له! ففي بيتنا كنت أشتغل على الأنترنت، وكان ابني يمضي أيامه في السباحة على أمواج الأنترنت، فقلت ذلك للأمن:
- هناك على الأقل مائه ألف حاسوب في بغداد موصولة بالأنترنت، كيف يمكن للأميركيين أن يكشفوا أمرنا؟
- إنها الأوامر، لا داعي للنقاش!
وأعدنا ترتيب أمورنا من جديد، فهيأت نظاماً للعمل بالفريق المحدود، حتى نحدّ من الخسائر في الأرواح البشرية إنْ نحن تعرضنا لأي قصف.كان ستة أو سبعة من الموظفين موجودين بشكل دائم على مدار الساعة، وقد تضاعف عملنا خلال الحرب، لأن الرئيس كان قد اشترط منّا أن نرسل إليه ضعفي أو ثلاثة أضعافٍ من ملخصات الأخبار التي كنا نرسلها في الفترات العادية. كان الجميع يحضر إلى العمل باستثناء موظف في الطباعة كان اضطر لمغادرة بيته الذي كان يتعرض للقصف المتواصل بجانب وزارة الإعلام.
كان قد تأجرّ شقة بالقرب من بيت حماه في بعقوبة الواقعة على بعد ستين كيلو متراً من بغداد، فقد كان يصعب عليه المجيء إلى المكتب، وقد ألححت عليه بأن يواصل العمل معنا، فقد كان قطع المسافة يعرضه للقدر نفسه من المخاطر التي كان يعرضه لها تخليه عن منصبه، ناهيك عن أننا كنّا نخضع لمراقبة مستمرة.
والحق أقول إننا حتى في الأيام التي سبقت سقوط بغداد يوم التاسع من أبريل كنّا أكثر تفاؤلاً. فقد كان العمّال صامدين باستثناء عاملين أو ثلاثة. وكان أكثرهم وجلاً الجاسوس الذي كان يعمل لحساب أمن الرئيس، أما مساعداي فلم يباليا بالأمر كثيراً، فعلى عكس حرب عام 1991 فقد كان القصف متواصلا أناء الليل وأطراف النهار، وكنتُ أخشى عليهم كثيراً.
أثناء الحرب اختيرت فيلتنا كنقطة لالتقاء الشخصيات المدعوة من قبل الرئيس، وكان رسولٌ خاص ينقل لنا الاستدعاءات، وكنا نتصل عن طريق الهاتف بالشخص المعني، وبعد أن دمّر المركز الهاتفي المركزي لماعون قبل انتهاء المعارك بعشرة أيام أرسلنا مُراسلينا لإخبارهم بذلك.
فكانوا كلما وصلوا إلى الحارثية اقتيدوا نحو مكان سريّ، وهناك يغيرون السائق قبل الوصول إلى مكان ثالث حيث يختبئ الرئيس. وقد جاء لزيارتنا مرات عديدة محمد الصحّاف وزير الإعلام المعروف بغليانه، ولطيف نصيف جاسم نائب مدير المكتب العسكري لحزب البعث قبل ان يلتحقا بصدام حسين.
تنقل بلا انقطاع
كان الرئيس يتنقّل بلا انقطاع. في الأيام الأولى أقام في بيت قريب من بيتنا، فقد عرفتُ ذلك لأنّ علي عبدالله كان يقطع المسافة إلى الرئيس في سيارة الأمن في وقت وجيز، وقد كان كثير التردّد على ذلك المكان، حيث كان الرئيس يجتمع بلا انقطاع بأعضاء قيادة الحزب ومسؤولي الجيش.
وأكثر من ذلك، فقد انعقد في الأيام الأولى للحرب اجتماعان في مكان لا يصدّق، في بيت يقع عند مدخل القصر الجمهوري الذي كان قد تعرض للقصف ليلة ذلك اللقاء، وهو ما يؤكد أن نقاط اللقاءات كان يتم اختيارها يوماً بيوم تبعاً للضربات الأميركية.
وكان صدّام بعد ذلك قد قضى أياماً عديدة في فيلا المنصور بالقرب من مطعم الساعة. وقد قام الأميركيون الذين اعتقدوا العثور عليه بذلك المكان بقصف المنطقة يوم السابع من أبريل. وقد كادوا أن يصيبوه في ذلك القصف لأنه لم يكن بعيداً عن ذلك المكان كثيراً.
لقد تعوّد صدام منذ العام 1990 أن يقيم بشكل سريّ في عدد من البيوت العادية في العاصمة، وأذكر أنني توجهتُ العام 1991 عن غير قصد بالقرب من أحد تلك البيوت. فذات مساء، وأنا عائد إلى البيت، أخبرني السائق بأنه سيعرّج على الرئيس حتى يسلّمه بريداً مهماً، فدخلنا في شارع هادئ بحي اليرموك لم نلمس أي إجراء أمنيّ واضح فيه.
فقد كانت الإقامة بعيدة عن الأنظار، غير أنه حين اقتربنا من باب المدخل فوجئنا بحارسين يطلان علينا من وراء إحدى الأشجار. ولم يستغرق تسليمهما البريد الموجّه للرئيس سوى ثوان! قيل مراراً إن صدّام يعتصم في داخل غرف حصينة تحت الأرض. أجل لقد وجدت هذه الحصون بالفعل، لكنّ صدّام لم يتقهقر إليها أثناء الحرب، فقد كان في الواقع يتخفى بين صفوف شعبه.
وكانت وسائل الإعلام الغربية قد أفرطت كثيراً في تصور »نُسخ« الرئيس، مدّعيةً بأنه كان محاطاً بأشخاص مشابهين له، فأنا لم ألتق قط بأي واحد منهم. ويبدو أن أحد أطباء صدّام الفرنسيين قد استقبل يوماً من طرف أحد هؤلاء الأشباه، لكنّ الطبيب لم يتعرّف عليه، بطبيعة الحال.
الدكتور سامان عبد المجيد - المترجم الخاص بصدام حسين