فاطمي
07-11-2005, 11:23 AM
الشيخ حسن الصفار
يرى الفقهاء أن الاجتهاد واجب على الأمة وجوباً كفائياً، فلابد ان يكون في كل عصر وجيل من أبناء الأمة من يبلغون رتبة الاجتهاد، ويقومون باستنباط الأحكام الشرعية.
بعض الفقهاء ربط هذا الحكم بمسألة أخرى، وهي مسألة جواز تقليد المجتهد الميت ابتداءً، وهي مسألة خلافية بين الفقهاء، حيث يتفق الفقهاء على صحة تقليد الميت استمراراً، على خلاف في التفاصيل، أما تقليد الميت ابتداء فأكثر المعاصرين يرى عدم صحته.
إن هناك رأياً يقول: إذا قلنا بأن تقليد الميت ابتداء جائز، يسقط وجوب الاجتهاد على الأمة، أما إذا قلنا بعدم الجواز عندها يكون واجباً على الأمة أن تنجب مجتهدين أحياء.
والصحيح: أن الحكم لا ينبغي أن يتوقف على ذلك، حتى لو قلنا بأنه يجوز تقليد الميت ابتداءً فإن ذلك لا يعني الاستغناء عن وجود المجتهدين والفقهاء الأحياء، لماذا؟ لأن المجتهد الميت قد أعطى الرأي الفقهي فيما عاصرة من المسائل، فإذا كانت هناك مسألة جديدة فما العمل عندها؟ فلابد وأن يكون هناك مجتهدون أحياء.
ولكن هل مجرد وجود المجتهد يكفي، أو أن المطلوب أن يُعمل ملكة الاجتهاد؟ بالتأكيد المطلوب هو الأمر الثاني، أما وجود المجتهد بدون أن يقوم بدور الاجتهاد والإفتاء، فمثله كمثل الطبيب الذي لا يمارس دوره في علاج المرضى.
كما أن القيام بدور الاجتهاد لا يقتصر على المسائل الجديدة، وإنما على المجتهد أن يبدي رأيه ويجتهد في المسائل التي اعطى الفقهاء السابقون فيها رأياً، وهذا أمر بديهي.
والسؤال: لماذا هذا الأمر، مع العلم أن الاجتهاد في أي مسألة من المسائل يستغرق وقتاً وجهداً ليس بسيطاً، كما أن العلماء السابقين أشبعوا المسائل التي افتوا بها بحثاً ونحن نثق بمكانتهم العلمية وإخلاصهم؟
والجواب: لا يصح للفقيه أن يعتمد على آراء الفقهاء السابقين، وإلا أصبح مقلداً. فمن حيث المسائل المستجدة ليس هناك جدال حول ضرورة أن يكون للمجتهد رأي فيها، وأما بالنسبة للمسائل التي اعطى الفقهاء السابقون فيها رأياً فإنه يتحتم على الفقيه المجتهد التأكد من تلك الاراء، فلعله يكون هناك خطأ أو اشتباه، أو قد تتضح للفقيه رؤية لم تتضح للفقهاء السابقين، أو قد يكتشف نقطة ضعف في الأدلة لم يقف عندها الفقهاء السابقون، لذلك يجب أن يجتهد الفقيه في تلك المسائل، ولا يعتمد على اجتهادات الفقهاء السابقين. وهذه ميزة هامة لحيوية الفكر والفقه الاسلامي، ليكون لديه قابلية التجدد، ولا تكون هناك حالة ركود وجمود.
إضافة الى ذلك فإن رأي الفقيه يتأثر بمستواه العلمي، وبالبيئة التي عاش فيها، لذلك لزم على الفقيه الذي يليه أن يعيد النظر في المسائل، فلعله يتضح له رأي آخر يخالف الرأي الذي توصل اليه السابقون.
في بعض الأحيان تحصل حالة ركود في الأمة، فلا تكون هناك جرأة لطرح رأي جديد، ولا يكون هناك تقبل لرأي يخالف آراء السابقين، أو يخالف الرأي السائد.
وعادة ما تكون هناك مشكلة حينما تطرح في الساحة الفكرية أو الفقهية آراء جديدة غير تلك الآراء المتداولة السائدة. وفي الواقع إذا لم تكن هناك فرصة لطرح رأي جديد، فإن مبرر الاجتهاد ينتفي. فلابد وأن يكون المجال مفتوحاً والفرصة سانحة لكي يقدم الفقيه النتائج التي ادى إليها رأيه واجتهاده.
وقد واجه البحث العلمي عند الشيعة هذه المشكلة في وقت مبكر، وكانت أول مشكلة واجهها الفقه الشيعي بين الجمود على آراء الفقهاء السابقين، وبين التجاوز لها ونقدها علمياً، يؤرخ لها بالقرن السادس الهجري.
حيث كان هناك فقيه بارز في القرن الخامس الهجري هو الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385-460 هـ) ويطلق عليه: (شيخ الطائفة) وهو الذي أسس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، بعد أن غادر بغداد بسبب فتنة طائفية أورى نارها السلجوقيون سنة 448 هـ.
كان الشيخ الطوسي عالماً عظيماً، ومحققاً مبدعاً، وكان ثريَّ المعرفة والعلم. وقد منحه الخليفة العباسي، القائم بأمر الله عبدالله بن القادر بالله أحمد، كرسيَّ الكلام والإفادة، وقد كان لهذا الكرسي يومذاك عظمة وقدر فوق الوصف، إذ لم يسمحوا به إلا لمن برز في علومه، وتفوق على أقرانه، ولم يكن في بغداد يومذاك من يفوقه قدراً، أو يفضل عليه علماً، فكان هو المتعين لذلك الشرف (محسن الأمين، أعيان الشيعة).
وكان يحضر تحت منبر تدريسه مئات العلماء شيعة وسنة، فمن الشيعة يحضر تدريسه ثلاثمائة مجتهد، ومن السنة يحضر تدريسه المئات من طلبة العلوم الدينية.
وقد أثرى الشيخ الطوسي مختلف مجالات المعرفة الاسلامية، ففي مجال الحديث يعتمد المذهب الإمامي على أربعة كتب: الكافي (للشيخ الكليني)، من لا يحضره الفقيه (لابن بابويه القمي)، تهذيب الأحكام والاستبصار (للشيخ الطوسي)، فنصف مصادر الحديث عند الإمامية كتبها الشيخ الطوسي.
وأول تفسير هام للقرآن الكريم للشيعة كتبه الشيخ الطوسي وهو: التبيان في تفسير القرآن.
وفي الفقه فإن أبرز الكتب الفقهية كتبها الشيخ الطوسي: ومنها المبسوط في الفقه، الخلاف في الفقه المقارن، والنهاية في مجرد الفقه والفتاوى. وفي الأصول كتب الشيخ الطوسي: العدة في أصول الفقه والأصول الاعتقادية. وفي علم الرجال يبرز كتابه المعروف (رجال الشيخ الطوسي) وهو أحد الأصول الرجالية المعول عليها عند العلماء.
فهو عالم موسوعي، له ثراء علمي ومعرفي، ولذلك فإن شخصيته هيمنت على الطلاب والعلماء، فلم تكن هناك جرأة لطرح رأي في مقابل رأي الشيخ الطوسي، إما لأنه ليس هناك قدرة لطرح رأي فوق رأيه، أو لهيبة في نفوس العلماء، أو لحسن ظن برأي الشيخ الطوسي.
واستمرت هذه الحالة الى ما بعد وفاة الشيخ الطوسي، إذ لم يتجرأ أحد من الفقهاء أن يعطي رأياً مخالفاً لرأي الشيخ الطوسي، وبقي هذا الجمود الفقهي عند الفقهاء قرابة قرن ونصف من الزمن.
حتى جاء العالم الكبير محمد بن إدريس الحلي (543-598 هـ)، يقول الشيخ أغا برزك الطهراني: «مضت على علماء الشيعة سنون متطاولة، وأجيال متعاقبة، ولم يكن من الهين على أحد منهم أن يعدو نظريات شيخ الطائفة في الفتاوى، وكانوا يعدون أحاديثه أصلا مسلماً ويكتفون بها، ويعدون التأليف في قبالها وإصدار الفتوى مع وجودها تجاسراً على الشيخ وإهانة له، واستمرت الحال على ذلك حتى عصر الشيخ ابن إدريس، فكان أعلى الله مقامه الشريف يسميهم بالمقلدة، وهو أول من خالف بعض آراء الشيخ وفتاواه، وفتح باب الرد على نظرياته، مع ذلك فقد بقوا على تلك الحال حتى أن المحقق وابن أخته العلامة الحلي ومن عاصرهما بقوا لا يعدون رأي شيخ الطائفة». (محمد بن الحسن الطوسي، الخلاف).
لقد كان الشيخ ابن ادريس شابا نابغة حاد الذكاء، كما كان محققاً ومجدداً، رأى أن الجو العام غير طبيعي تجاه آراء الشيخ الطوسي التي لا يجرؤ أحد من الفقهاء أن يتجاوزها، كما أن أي رأي يخالف رأي الشيخ الطوسي لا يحظى بالقبول، بل يتعرض للسخرية والاستهزاء. فرأى أن من واجبه الشرعي أن يثور على هذه الحالة، وكتب كتاباً اسمه: (السرائر)، وتعمد المناقشة لأغلب آراء الشيخ الطوسي وطرح الآراء التي يخالفه فيها بكل جرأة، مقدماً في ذلك الأدلة التي تؤيد آراءه. كما شن هجوماً على الفقهاء المعاصرين له وأطلق عليهم: المقلدة، وكان ينتقد الفكر السائد الذي يدعو للجمود أمام آراء الشيخ الطوسي.
ولكن الفقهاء المعاصرين له لم يقبلوا منه هذا التوجه المخالف للشيخ الطوسي، وثاروا عليه، وحصل بذلك أول صراع بين الجمود والتجديد في تاريخ الفقه الشيعي.
وكتاب (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى) هم÷ ًنh0شيخ ابن ادريمُـحلي وأهمها، ويعد كتاب (السرائر) أحد مصادر الفقه الشيعي، بل لا يوجد مؤلف بأهميته ما بين مؤلفات الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري وتصانيف المحقق الحلي في القرن السابع، وقليلون هم الفقهاء الذين اتوا بعد ابن ادريس ولم يستندوا الى السرائر أو يرجعوا إليه أو يأتوا على ذكره. (علي همت بناري، ابن ادريس الحلي).
صحيح أن الشيخ ابن ادريس عانى من معارضة المعاصرين له ومحاربتهم إياه، لكنه قدم خدمة عظيمة لحركة الاجتهاد وحرية البحث العلمي، وكل من يدرس تاريخ الفقه الشيعي يترحم على الشيخ محمد بن ادريس الحلي، الذي كسر حاجز الركود والجمود في الفقه الشيعي، ولولا حركته المباركة للتجديد لأصبح الاجتهاد عنواناً بدون معنى.
قال صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحراني: «كان هذا الشيخ «ابن ادريس الحلي» فقيهاً أصولياً بحتاً ومجتهداً صرفاً، وهو أول من فتح باب الطعن على الشيخ «الطوسي» وإلا فكل من كان في عصر الشيخ أو من بعده إنما كان يحذو حذوه غالباً إلى أن انتهت النوبة إليه».
قال الشيخ عباس القمي: «شيخ فقيه، ومحقق نبيه... وقد أذعن بفضله العلماء المتأخرون وأقروا بعلمه وفقهه وتحقيقه..».
ووصفه الشهيد السيد محمد باقر الصدر بالفقيه المجدد.
إنه عانى ما عانى في حياته بسبب جرأته وتمسكه بحرية الفكر وحق التعبير عن الرأي، ولكنه فتح الطريق أمام الفقهاء ليطرحوا آراءهم بكل جرأة وشجاعة. بالطبع فإن الذي يسير وفق الرأي السائد يسلم من أي اتهام، ولكن المخالف للسائد هو الذي يجب أن يتحلى بالصبر والثبات تجاه ما يطرح من آراء يؤمن بها ويرى صوابيتها.
والمسألة لا تعني تمجيد المخالفة لذات المخالفة، وإنما الأمر أن هذا الرأي الجديد له أدلته، والناطق به أهل لأن يبدي رأياً في المجال الذي يتحدث فيه، وهذا هو المطلوب في كل عصر وزمان.
بالطبع فإن الاشادة بدور الشيخ ابن إدريس الحلي لا تعني القول بصحة وصوابية كل آرائه، فهو كغيره من الفقهاء قد يصيب وقد يخطئ، ولا يمكن القول بأرجحية رأيه في كل المسائل التي خالف فيها الشيخ الطوسي، ولكن التمجيد والتقدير إنما هو لدوره النقدي العلمي، ولمنهجيته في ممارسة الاجتهاد والتجديد، خارج أسر رأي السلف، وسقف فتاوى المشهور، على حساب الدليل والبرهان.
إن بعض الآراء التي قررها وأفتى بها الشيخ ابن ادريس الحلي، تتصف بالتشدد، وقد لا تصمد أمام البحث والنقد العلمي، وقد ناقشها العلماء بعده، وردوا عليه، وأبانوا نقاط الضعف في أدلته.
ومنها مثلاً قوله بكفر ولد الزنا، وترتيب احكام الكفر في التعامل معه، وقوله بحرمة صلاة الجمعة للفقهاء إلا للإمام العادل أو من نصبه، وقوله بعدم اشتراط الفقر في إعطاء الخمس لأيتام بني هاشم - بل يمكن تحويل الخمس إليهم حتى مع غناهم وعدم حاجتهم.
يرى الفقهاء أن الاجتهاد واجب على الأمة وجوباً كفائياً، فلابد ان يكون في كل عصر وجيل من أبناء الأمة من يبلغون رتبة الاجتهاد، ويقومون باستنباط الأحكام الشرعية.
بعض الفقهاء ربط هذا الحكم بمسألة أخرى، وهي مسألة جواز تقليد المجتهد الميت ابتداءً، وهي مسألة خلافية بين الفقهاء، حيث يتفق الفقهاء على صحة تقليد الميت استمراراً، على خلاف في التفاصيل، أما تقليد الميت ابتداء فأكثر المعاصرين يرى عدم صحته.
إن هناك رأياً يقول: إذا قلنا بأن تقليد الميت ابتداء جائز، يسقط وجوب الاجتهاد على الأمة، أما إذا قلنا بعدم الجواز عندها يكون واجباً على الأمة أن تنجب مجتهدين أحياء.
والصحيح: أن الحكم لا ينبغي أن يتوقف على ذلك، حتى لو قلنا بأنه يجوز تقليد الميت ابتداءً فإن ذلك لا يعني الاستغناء عن وجود المجتهدين والفقهاء الأحياء، لماذا؟ لأن المجتهد الميت قد أعطى الرأي الفقهي فيما عاصرة من المسائل، فإذا كانت هناك مسألة جديدة فما العمل عندها؟ فلابد وأن يكون هناك مجتهدون أحياء.
ولكن هل مجرد وجود المجتهد يكفي، أو أن المطلوب أن يُعمل ملكة الاجتهاد؟ بالتأكيد المطلوب هو الأمر الثاني، أما وجود المجتهد بدون أن يقوم بدور الاجتهاد والإفتاء، فمثله كمثل الطبيب الذي لا يمارس دوره في علاج المرضى.
كما أن القيام بدور الاجتهاد لا يقتصر على المسائل الجديدة، وإنما على المجتهد أن يبدي رأيه ويجتهد في المسائل التي اعطى الفقهاء السابقون فيها رأياً، وهذا أمر بديهي.
والسؤال: لماذا هذا الأمر، مع العلم أن الاجتهاد في أي مسألة من المسائل يستغرق وقتاً وجهداً ليس بسيطاً، كما أن العلماء السابقين أشبعوا المسائل التي افتوا بها بحثاً ونحن نثق بمكانتهم العلمية وإخلاصهم؟
والجواب: لا يصح للفقيه أن يعتمد على آراء الفقهاء السابقين، وإلا أصبح مقلداً. فمن حيث المسائل المستجدة ليس هناك جدال حول ضرورة أن يكون للمجتهد رأي فيها، وأما بالنسبة للمسائل التي اعطى الفقهاء السابقون فيها رأياً فإنه يتحتم على الفقيه المجتهد التأكد من تلك الاراء، فلعله يكون هناك خطأ أو اشتباه، أو قد تتضح للفقيه رؤية لم تتضح للفقهاء السابقين، أو قد يكتشف نقطة ضعف في الأدلة لم يقف عندها الفقهاء السابقون، لذلك يجب أن يجتهد الفقيه في تلك المسائل، ولا يعتمد على اجتهادات الفقهاء السابقين. وهذه ميزة هامة لحيوية الفكر والفقه الاسلامي، ليكون لديه قابلية التجدد، ولا تكون هناك حالة ركود وجمود.
إضافة الى ذلك فإن رأي الفقيه يتأثر بمستواه العلمي، وبالبيئة التي عاش فيها، لذلك لزم على الفقيه الذي يليه أن يعيد النظر في المسائل، فلعله يتضح له رأي آخر يخالف الرأي الذي توصل اليه السابقون.
في بعض الأحيان تحصل حالة ركود في الأمة، فلا تكون هناك جرأة لطرح رأي جديد، ولا يكون هناك تقبل لرأي يخالف آراء السابقين، أو يخالف الرأي السائد.
وعادة ما تكون هناك مشكلة حينما تطرح في الساحة الفكرية أو الفقهية آراء جديدة غير تلك الآراء المتداولة السائدة. وفي الواقع إذا لم تكن هناك فرصة لطرح رأي جديد، فإن مبرر الاجتهاد ينتفي. فلابد وأن يكون المجال مفتوحاً والفرصة سانحة لكي يقدم الفقيه النتائج التي ادى إليها رأيه واجتهاده.
وقد واجه البحث العلمي عند الشيعة هذه المشكلة في وقت مبكر، وكانت أول مشكلة واجهها الفقه الشيعي بين الجمود على آراء الفقهاء السابقين، وبين التجاوز لها ونقدها علمياً، يؤرخ لها بالقرن السادس الهجري.
حيث كان هناك فقيه بارز في القرن الخامس الهجري هو الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (385-460 هـ) ويطلق عليه: (شيخ الطائفة) وهو الذي أسس الحوزة العلمية في النجف الأشرف، بعد أن غادر بغداد بسبب فتنة طائفية أورى نارها السلجوقيون سنة 448 هـ.
كان الشيخ الطوسي عالماً عظيماً، ومحققاً مبدعاً، وكان ثريَّ المعرفة والعلم. وقد منحه الخليفة العباسي، القائم بأمر الله عبدالله بن القادر بالله أحمد، كرسيَّ الكلام والإفادة، وقد كان لهذا الكرسي يومذاك عظمة وقدر فوق الوصف، إذ لم يسمحوا به إلا لمن برز في علومه، وتفوق على أقرانه، ولم يكن في بغداد يومذاك من يفوقه قدراً، أو يفضل عليه علماً، فكان هو المتعين لذلك الشرف (محسن الأمين، أعيان الشيعة).
وكان يحضر تحت منبر تدريسه مئات العلماء شيعة وسنة، فمن الشيعة يحضر تدريسه ثلاثمائة مجتهد، ومن السنة يحضر تدريسه المئات من طلبة العلوم الدينية.
وقد أثرى الشيخ الطوسي مختلف مجالات المعرفة الاسلامية، ففي مجال الحديث يعتمد المذهب الإمامي على أربعة كتب: الكافي (للشيخ الكليني)، من لا يحضره الفقيه (لابن بابويه القمي)، تهذيب الأحكام والاستبصار (للشيخ الطوسي)، فنصف مصادر الحديث عند الإمامية كتبها الشيخ الطوسي.
وأول تفسير هام للقرآن الكريم للشيعة كتبه الشيخ الطوسي وهو: التبيان في تفسير القرآن.
وفي الفقه فإن أبرز الكتب الفقهية كتبها الشيخ الطوسي: ومنها المبسوط في الفقه، الخلاف في الفقه المقارن، والنهاية في مجرد الفقه والفتاوى. وفي الأصول كتب الشيخ الطوسي: العدة في أصول الفقه والأصول الاعتقادية. وفي علم الرجال يبرز كتابه المعروف (رجال الشيخ الطوسي) وهو أحد الأصول الرجالية المعول عليها عند العلماء.
فهو عالم موسوعي، له ثراء علمي ومعرفي، ولذلك فإن شخصيته هيمنت على الطلاب والعلماء، فلم تكن هناك جرأة لطرح رأي في مقابل رأي الشيخ الطوسي، إما لأنه ليس هناك قدرة لطرح رأي فوق رأيه، أو لهيبة في نفوس العلماء، أو لحسن ظن برأي الشيخ الطوسي.
واستمرت هذه الحالة الى ما بعد وفاة الشيخ الطوسي، إذ لم يتجرأ أحد من الفقهاء أن يعطي رأياً مخالفاً لرأي الشيخ الطوسي، وبقي هذا الجمود الفقهي عند الفقهاء قرابة قرن ونصف من الزمن.
حتى جاء العالم الكبير محمد بن إدريس الحلي (543-598 هـ)، يقول الشيخ أغا برزك الطهراني: «مضت على علماء الشيعة سنون متطاولة، وأجيال متعاقبة، ولم يكن من الهين على أحد منهم أن يعدو نظريات شيخ الطائفة في الفتاوى، وكانوا يعدون أحاديثه أصلا مسلماً ويكتفون بها، ويعدون التأليف في قبالها وإصدار الفتوى مع وجودها تجاسراً على الشيخ وإهانة له، واستمرت الحال على ذلك حتى عصر الشيخ ابن إدريس، فكان أعلى الله مقامه الشريف يسميهم بالمقلدة، وهو أول من خالف بعض آراء الشيخ وفتاواه، وفتح باب الرد على نظرياته، مع ذلك فقد بقوا على تلك الحال حتى أن المحقق وابن أخته العلامة الحلي ومن عاصرهما بقوا لا يعدون رأي شيخ الطائفة». (محمد بن الحسن الطوسي، الخلاف).
لقد كان الشيخ ابن ادريس شابا نابغة حاد الذكاء، كما كان محققاً ومجدداً، رأى أن الجو العام غير طبيعي تجاه آراء الشيخ الطوسي التي لا يجرؤ أحد من الفقهاء أن يتجاوزها، كما أن أي رأي يخالف رأي الشيخ الطوسي لا يحظى بالقبول، بل يتعرض للسخرية والاستهزاء. فرأى أن من واجبه الشرعي أن يثور على هذه الحالة، وكتب كتاباً اسمه: (السرائر)، وتعمد المناقشة لأغلب آراء الشيخ الطوسي وطرح الآراء التي يخالفه فيها بكل جرأة، مقدماً في ذلك الأدلة التي تؤيد آراءه. كما شن هجوماً على الفقهاء المعاصرين له وأطلق عليهم: المقلدة، وكان ينتقد الفكر السائد الذي يدعو للجمود أمام آراء الشيخ الطوسي.
ولكن الفقهاء المعاصرين له لم يقبلوا منه هذا التوجه المخالف للشيخ الطوسي، وثاروا عليه، وحصل بذلك أول صراع بين الجمود والتجديد في تاريخ الفقه الشيعي.
وكتاب (السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى) هم÷ ًنh0شيخ ابن ادريمُـحلي وأهمها، ويعد كتاب (السرائر) أحد مصادر الفقه الشيعي، بل لا يوجد مؤلف بأهميته ما بين مؤلفات الشيخ الطوسي في القرن الخامس الهجري وتصانيف المحقق الحلي في القرن السابع، وقليلون هم الفقهاء الذين اتوا بعد ابن ادريس ولم يستندوا الى السرائر أو يرجعوا إليه أو يأتوا على ذكره. (علي همت بناري، ابن ادريس الحلي).
صحيح أن الشيخ ابن ادريس عانى من معارضة المعاصرين له ومحاربتهم إياه، لكنه قدم خدمة عظيمة لحركة الاجتهاد وحرية البحث العلمي، وكل من يدرس تاريخ الفقه الشيعي يترحم على الشيخ محمد بن ادريس الحلي، الذي كسر حاجز الركود والجمود في الفقه الشيعي، ولولا حركته المباركة للتجديد لأصبح الاجتهاد عنواناً بدون معنى.
قال صاحب الحدائق الشيخ يوسف البحراني: «كان هذا الشيخ «ابن ادريس الحلي» فقيهاً أصولياً بحتاً ومجتهداً صرفاً، وهو أول من فتح باب الطعن على الشيخ «الطوسي» وإلا فكل من كان في عصر الشيخ أو من بعده إنما كان يحذو حذوه غالباً إلى أن انتهت النوبة إليه».
قال الشيخ عباس القمي: «شيخ فقيه، ومحقق نبيه... وقد أذعن بفضله العلماء المتأخرون وأقروا بعلمه وفقهه وتحقيقه..».
ووصفه الشهيد السيد محمد باقر الصدر بالفقيه المجدد.
إنه عانى ما عانى في حياته بسبب جرأته وتمسكه بحرية الفكر وحق التعبير عن الرأي، ولكنه فتح الطريق أمام الفقهاء ليطرحوا آراءهم بكل جرأة وشجاعة. بالطبع فإن الذي يسير وفق الرأي السائد يسلم من أي اتهام، ولكن المخالف للسائد هو الذي يجب أن يتحلى بالصبر والثبات تجاه ما يطرح من آراء يؤمن بها ويرى صوابيتها.
والمسألة لا تعني تمجيد المخالفة لذات المخالفة، وإنما الأمر أن هذا الرأي الجديد له أدلته، والناطق به أهل لأن يبدي رأياً في المجال الذي يتحدث فيه، وهذا هو المطلوب في كل عصر وزمان.
بالطبع فإن الاشادة بدور الشيخ ابن إدريس الحلي لا تعني القول بصحة وصوابية كل آرائه، فهو كغيره من الفقهاء قد يصيب وقد يخطئ، ولا يمكن القول بأرجحية رأيه في كل المسائل التي خالف فيها الشيخ الطوسي، ولكن التمجيد والتقدير إنما هو لدوره النقدي العلمي، ولمنهجيته في ممارسة الاجتهاد والتجديد، خارج أسر رأي السلف، وسقف فتاوى المشهور، على حساب الدليل والبرهان.
إن بعض الآراء التي قررها وأفتى بها الشيخ ابن ادريس الحلي، تتصف بالتشدد، وقد لا تصمد أمام البحث والنقد العلمي، وقد ناقشها العلماء بعده، وردوا عليه، وأبانوا نقاط الضعف في أدلته.
ومنها مثلاً قوله بكفر ولد الزنا، وترتيب احكام الكفر في التعامل معه، وقوله بحرمة صلاة الجمعة للفقهاء إلا للإمام العادل أو من نصبه، وقوله بعدم اشتراط الفقر في إعطاء الخمس لأيتام بني هاشم - بل يمكن تحويل الخمس إليهم حتى مع غناهم وعدم حاجتهم.