المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفتاوى في السعودية.. مؤسسات تقليدية تفقد تأثيرها على الأجيال الجديدة



المهدى
07-11-2005, 08:32 AM
الرياض - وسيم الدندشي

كانت مفارقة صارخة تستحق التأمل ، في الرياض .. فقد أعلن بنك " البلاد " منذ أشهر نهاية أضخم عملية اكتتاب تشهدها السوق السعودية للاستثمار في أسهم البنك المطروحة للاكتتاب العام والبالغ عددها 30 مليون سهم ، بقيمة 1.5 مليار ريال سعودي ، تمثل 50% من رأس مال البنك . وقد بلغ من ضخامة الاكتتاب أن شارك فيه أكثر من نصف سكان المملكة من المواطنين ، ليصل إلى 8.8 مليون مكتتب قاموا باستثمار 7700 مليون ريال سعودي ، من خلال 2200000 طلب اكتتاب.

من جهة أخرى أعلنت نتائج التصويت وبعد ترقب من قبل جماهير المتابعين لبرنامج " ستار أكاديمي " الذي عرض على إحدى الفضائيات اللبنانية السعودية ( المشتركة ) عن فوز المتسابق السعودي بأعلى نسبة تصويت منذ انطلاقة البرنامج قبل عامين بلغت 77 % من إجمالي عدد الأصوات ، وهي نسبة مكنته من الإستمرار لمراحل متقدمة في البرنامج حتى حصوله على اللقب بالرغم من حجب كل وسائل التصويت من السعودية .

بنك البلاد الذي حرص على إصدار بيان يومي ، ليعلن عن أعداد المكتتبين الذي يتزايدون بشكل مطرد رهيب ، كان يؤكد بين الحين والآخر بأن تأسيسه ، ومعاملاته الحالية والقادمة هي تحت إشراف هيئة شرعية، ووضع أسماء أعضائها مع سيرهم الذاتية في موقعه على الإنترنت ، سيكون لها الحق مستقبلا أن تتابع كل عملية تجري في البنك ، وبأنه لن تمرر ولن تقرر أي معاملة مالية إلا بإذن هذه الهيئة .

وهو يعلن مراراً أن هذا الإقبال سببه الاستناد إلى فتاوى وتزكيات شرعية . أما كمّ التصويت الهائل ، فقد خسرت بحجبه شركة الاتصالات السعودية عدة ملايين، وهي أقرت بذلك ، وقد بررت إغلاق الخطوط وخدمة الرسائل القصيرة من الداخل أن البرنامج مخالف للتقاليد والعادات . وهو البرنامج الذي صدرت بشأنه الفتاوى الملتهبة ، وكم كبير من الأشرطة الدينية السمعية تندد به وتعلن حرمة التصويت والاشتراك ، وكان ذلك واضحاً من قبل المفتي العام الشيخ عبدالعزيز آل الـشيخ عندما ذكر لـ " العربية . نت " أن هذه البرامج تحدث خللا عند الـشباب بين النظرية والتطبيق .

وقد سارعت الصحف المحلية ومنذ الجولة الأولى للبرنامج منذ عام ، إلى نشر فتوى التحريم الصادرة من هيئة كبار العلماء ، إلا أن جماهير المشاركين لم تستجب لذلك من أجل فوز مرشحها ، ورغم عدم وجود دراسة إحصائية، فإن نسبتهم تبدو نسبة عالية جداً . مما جعل الصحف مرغمة هذا العام تغطي فوزه وتتابع وصوله إلى أرض المملكة .

فلماذا كان للفتوى هيبتها ووزنها ، وأنها السبب وراء تدافع الصفوف للاكتتاب الناجح ، مع الأخذ في الإعتبار الدافع وراء الربح السريع في المشاركة ، وهو ما أكده عبدالسلام الوايلي المتخصص في علم الإجتماع بأن " الحالة الربحية العالية التي عليها سوق الأسهم هي المحرك الأول في سوق الناس بهذا الشكل " . بينما عانت الفتوى من عدم الاهتمام واللامبالاة مما أدى إلى تأزم شركة الاتصالات الإماراتية من ضغط الاتصال على شبكتها بسبب انتقال الاتصال إلى أرقامها ، وكذلك البحرينية ؟..

هل هي الفوارق الزمنية بين الأجيال، ظهرت ، فاختلفت الضوابط والمعايير؟.. ومن هي الجهة الأكثر فاعلية في وضع هذه الضوابط والمعايير ؟ وهل صحيح أن النظر إلى المجتمع السعودي كوحدة سلوكية أو أيديولوجية واحدة متجانسة ومتماثلة أصبح محض أوهام ؟

ثم هل كان لتسييس الفتاوى دوراً في فقدانها شيئاً من تأثيرها ، أم كان لابتعادها وتأخرها عن بعض القضايا وانشغالها بأشياء من الجزئيات دوراً في ضعف القناعة بها ؟.. إلى هنا ويطرح السؤال: إلى أي مدى لا زال للفتوى تأثير على المجتمع السعودي المحافظ ، وما هو حدود هذا التأثير ؟


الفتوى هي المؤسسة التي توفر التوازن السيكولوجي

إن ممارسة الإفتاء وعلى مدى عقود قصيرة كوظيفة تلتزم بالتبعية الرسمية شهدت الكثير من التحول ، فهي حيناً الوظيفة المسيطرة التي تتقلدها الدولة ، لتوصد الأبواب أمام أي صوت آخر يصدر من جهة ما ، وهو الأمر الذي يصيب البنيان الثقافي والإجتماعي بتصدع كبير ، وحينا تكون وظيفة شكلية ثانوية يستأنس بها عندما يطلب منها أن تكون حاضرة ، ليتركز دورها في القضايا الاجتماعية . وحيناً تكون خاضعة للعبة التوازنات ، فتراعى حيناً وحيناً آخر وكأنها لم تكن . فهي إذاً بالمجمل أداة لفرض سطوة رأي الدين ، في كل مجتمع بحسبه .

ومن البديهي القول أن المجتمع السعودي هو أحد أكبر المجتمعات الإسلامية إعتماداً على الفتوى لإضفاء الشرعية أو نزعها عن المؤسسات والسلوكيات والمقتنيات الحديثة .

يوضح ذلك الوايلي قائلا: " إن الفتوى هي المؤسسة التي أمنت لنا التوازن السيكولوجي في قبول الظواهر الحديثة مثل الدولة الوطنية ومؤسساتها الخدمية من تعليم وصحة، والمخترعات التقنية مثل البرقية والهاتف والراديو والتلفاز والسلوكيات الناتجة عن هذا وذاك مثل الأسرة النووية وعمل المرأة وخلافه.

كما كانت الفتوى أيضا المؤسسة التي صاغت المستجدات الحادثة أعلاه بقوالب إجتماعية معينة كشرط لإضفاء الشرعية والقبول كفعلها، مع إبتكار شكل فصل الجنسين في الدراسة والعمل " . وعلى مدى عقود كان الثابت الوحيد في الفتوى السعودية هو هيئتها التقليدية التي احتفظت بها ، وهي فيما يبدو خارج إطار التحديث ، إلا من محاولات معدودة أصبح يلجأ إليها مؤخراً غير الرسميين كبديل للتخلص من الحرج المتضمن لممارسة الإفتاء الرسمي بتبعاته النابعة من قيوده وشروطه ، بصياغة جديدة للفتوى بقالب بيان يوقع عليه مجموعة من المتخصصين بالعلوم الشرعية ، لا يخلو كما هي الفتوى من ذكر الأدلة الشرعية أو العقلية كسند لما تقرر من رأي ، لتعلن على الملأ بأنها بيان حول قضية ما لابد من تبيان الحق من خلالها لعامة الأمة للإعذار أمام الله ، بالضبط كما هي الموشحة ذاتها التي تبرر الفتوى في أمر عام .


كل شؤون الحياة مفتوحة أمام المفتي

ويعلق أستاذ علم الاجتماع السياسي الدكتور خالد الدخيل عن الثابت والمتغير في الفتوى قائلا : " الذي ميز الفتوى عبر العصور أن أصحابها يفتون في كل شيء تقريبا . الفرضية التي يستند إليها في إجازة ذلك هي مقولة أن " الإسلام دين ودنيا " ، وبالتالي فكل شؤون الحياة مفتوحة أمام المفتي لأن يفتي فيها من دون اعتبار لموضوع التخصص والفقه في هذا الحقل أو ذاك .

ولعل الأمر مبرر ضمن إطار ظروف المجتمعات آنذاك . فالأمية ضاربة أطنابها ، ومصدر التعليم والمعلومة كان يكاد يقتصر على مصدر واحد ، وهو التعليم الديني . إلى جانب ذلك كانت المجتمعات بسيطة في معيشتها ، وتركيبتها الاجتماعية ، وبنيتها السياسية" .

ويضيف قائلا " أما الآن فلقد تغيرت تركيبة هذا المجتمع ، وأصبح التعليم أحد أهم سماته الثقافية ، وتراجعت الأمية وظهرت فئات وطبقات اجتماعية واقتصادية ومهنية لم تكن موجودة من قبل . أصبح التخصص سمة أخرى يتميز بها المجتمع سواء في التعليم ، وفي السوق ، والإدارة والأبحاث ، وغير ذلك .

ورغم ذلك بقيت الفتوى بكل مميزاتها كما كانت عليه من قبل . الشيء الوحيد الذي يمكن القول أنه أصابه شيء من التغير هو الإطار الذي تحصل فيه الفتوى ، فقديماً كان المستفتي يلجأ للشيخ أو إمام المسجد ليقف بين يديه مستشيراً له في مختلف شؤون حياته.

أما في العصر الحديث ، ونتيجة لتغير العلاقات حدث شيء من التغير في هذا الإطار. فالمستفتي يستخدم الآن وسائل التقنية الحديثة ، مثل المذياع ، ومن ثم التلفاز ، وصولا إلى القنوات الفضائية . أي أن المستفتي لم يعد يتواصل مع المفتي بشكل مباشر ، بل عبر آليات التكنولوجيا الحديثة . لكن في الوقت نفسه بقيت الفتوى كما هي على صيغتها التقليدية ، تفتقد صفة الحوارية ، والنقاش ، وتبادل الرأي والمعلومة . بعبارة أخرى ، بقيت الفتوى في شكلها ومضمونها رهينة الفكر الأحادي ، والبسيط والشمولي " .


هناك محطات عدّة كان لها أكبر الأثر على الفتوى

وحيث أن الفتوى وسيلة معتمدة لمخاطبة العامة، فستخضع بإرادتها إلى قوانين المجتمع، ليكون الضابط في محدودية الاستجابة لظروف الواقع من عدمها إلى المستفتى ، الذي هو بالضرورة ابن بيئته ، ومشهور عن الشافعي كيف غير مذهبه عند انتقاله من بيئة إلى أخرى . الـشاب أشرف الناظر العامل في القطاع العسكري قال " لا شك بأن الفتوى في مضمونها قد تغيرت ، فالزمن فرض ذلك ، وضغوط الواقع ، أدت إلى أن الكثير من الأشياء التي حرّمت في السابق بحجة سدّ الذرائع ، أجبرت ظروف المجتمع ، وتعقيدات الحياة ، بأن يكون للمشائخ فيها رأي آخر ".

وقد يؤيد تصور الناظر عدد من الشواهد التي عايشها المجتمع ، من خلال فتاوى تحريم اقتناء الأطباق الفضائية ، والظهور فيها حتى للإفتاء في البرامج الدينية ، وبعض الفتاوى المتعلقة بالطلاق والرجعة وغير ذلك كثير ، هذا بشكل عام . فيما هناك محطات عدّة كان لها أكبر الأثر على الفتوى والمتصدرين لها .

من تلك المحطات ، وفاة الشيخ عبدالعزيز بن باز رحمه الله المفتي العام الأسبق للسعودية في مايو من عام 1999م ، الذي كان له الأثر الأكبر على الفتوى وهيبتها ، فعندما أعلن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله توحيد المملكة العربية السعودية في منتصف عام 1352 هـ ، كان الشيخ عبد العزيز بن باز قد بلغ سن الرشد والأهلية حيث كانت سنه في ذلك الوقت 21 عاما تماما ، ومعنى ذلك أنه قد عاصر فترة الجهاد الكبرى من أجل توحيد المملكة في دولة قوية .

وقد كان تأثيره يمتد حتى خارج حدود الدولة ، ليمتد إلى مختلف أرجاء العالم الإسلامي، فاحترمه حتى خصومه . يصف الدخيل تأثيره قائلا : " لا شك بأن المدرسة الوهابية التقليدية فقدت بوفاته شيئاً من هيبتها ونفوذها على العامة ، بالتالي كان التأثير مباشراً على الفتوى ، لقد كان آخر الوهابيين الكبار ، وقد حظي بشعبية بارزة يفتقدها من قبله ومن بعده ، كونها من سعة علمه ، فهو محدث ، ومن خلال شخصيته التي فرضها على الجميع ، وهي الميزة التي لا تستطيع الدولة منحها لأي شخص ".


حرية المفتي لها ثلاثة شروط

وهو الذي استطاع أن يحقق التوازن بين استقلالية المفتي والتبعية الرسمية للمنصب ، مما أسماه الدكتور سلمان العودة الداعية الإسلامي المعروف بحرية المفتي ، ليقول : " حرية المفتي في نظري ـ أياً كان ـ مطلوبة ، ولها ثلاثة شروط ، أولها الحرية الأخلاقية أو الشخصية وأعني بها قدرة المفتي على التحرر أو التخلص قدر الإمكان من الهوى الشخصي ومؤثراته الشخصية ، وهذه كثير من الناس قد يبتلى بها ، وقد يقع الإنسان في خطأ فيحاول أن يصوغ هذا الخطأ بالفتوى بجوازه مثلاً .

هذا جانب ، الجانب الثاني الحرية السياسية بمعنى أن السلطة السياسية التي يعيش العالم أو المفتي في ظلها لا تضغط عليه بحيث يكون لذلك تأثير على قراره وعلى نظره الشرعي ، أما الجانب الثالث فهي الحرية الاجتماعية ، وتعني أيضاً أن لا يكون المفتي صدى لما يريده المجتمع خصوصاً في العصر الحاضر ، فالمجتمع هنا يريد ، والمجتمع هناك يريد شيئاً آخر .

ونعلم كيف أن الشيخ ابن باز رحمه الله وجد مضايقة لما أفتى في بعض موضوعات الطلاق ، والـشيخ ابن عثيمين رحمه الله مثل ذلك، خصوصاً لما تكلم في قضية المعية فصدرت كتب كثيرة جداً في نقده " . وقد تبع ذلك بعامين وفاة الشيخ محمد بن عثيمين ، تلميذ بن باز ، المقتفي لأثره ، المتخصص والمتبحر في الفقه .

اختفت بوفاة ابن باز والعثيمين المرجعية والمظلة الكبيرة

لتختفي بوفاة الشيخين المرجعية والمظلة الكبيرة التي كانت تجتمع حولها بإذعان كل التيارات المتباينة عنها ، التي كانت تحرص على رضاها وتزكيتها ، أو حيناً مشورتها ، ليظهر للعيان مرجعية أخرى ، كانت قد أحرجت المرجعية الرسمية الدينية في عدة مواقف ألا وهي مرجعية مشائخ الصحوة الذين هم كما وصفهم الدخيل " خليط بين السلفية الوهابية ، والحركية الإخوانية " معتبراً بأنهم انشقوا عن الوهابية التقليدية، والذين أصبحوا مع مرور الوقت لا يعتدون بفتاوى هيئة كبار العلماء ، إلا إذا دعمها مشائخ الصحوة ، وهم يعرفون كيف يستغلون ذلك ، كما في بعض الفتاوى حول البرنامج الجماهيري ( طاش ما طاش ) أو ( ستار أكاديمي ) ، والتي لم تحظ باستجابة تذكر.

يعلق على ذلك الكاتب والمفكر عبدالله بجاد قائلا : " علينا أن نفهم قوة الجذب في هذه البرامج ، فهي تداعب حاجة بشرية أساسية لدى الإنسان لا يمكن أن يتخلى
عنها ، فهو بطبعه يحب المرح والحياة الطبيعية ، ومتابعة تفاصيل علاقة البشر اليومية .

كما كان يتردد حول طاش ما طاش على مدى عشرة سنوات بأنه برنامج يعادي الدين ويدعو للعري والسفور، وهذا ما لم يشاهده الناس ، لم يروا عداء للدين ولا دعوة للسفور وهذا يثير لدى المتلقين كثيرا من الأسئلة عن مدى وعي العلماء بالواقع .


المرجعية الصحوية بسطت نفوذها منذ حرب الخليج الثانية

ويضيف :أتوقع بأن مثل هذه الفتاوى تكون بضغط من الحركيين الإسلاميين " . ولاشك بأن المرجعية الصحوية بسطت نفوذها منذ حرب الخليج الثانية ، وأصبح لها جمهورها الواسع ، بدلالة فتاوى الانتخابات البلدية الأخيرة التي تسربت لتزكية قوائم معينة فاز بعضها بكامل أسمائها ، وقد كانت الفتاوى خطوة اتجاه إثبات الحضور السياسي ، ولاستعراض القوة والنفوذ في المجتمع .

بينما كان للمؤسسة الدينية الرسمية أولويات تختلف عن أولويات رجل الشارع ، فلم يبد لها شأن باهتمامات الناس ، وأصبحت مؤخراً تدخل عن طريق بعض الفتاوى في الخلافات الإسلامية الإسلامية ، خاصة في القضايا الاجتماعية البسيطة منها.

وقد كان لانتشار الفكر الصحوي وتغلغله دوراً في تـشعب مصادر الفتوى، ومزيداً من الخلط ، بعد أن توسع استخدام مصطلح الشيخ المفتي ليلعب دوره الواعظ ، والمتحدث وإمام المسجد ، والمدرس . أي عدم الأهلية والتمكن العلمي ، الذي يؤدي بالتالي إلى إرباك العامة .

وقد ذكر إثنان من الشباب وهم أمين الطالب ومحمد الشنقيطي الذين تم التحدث إليهم عن أكثر المصادر التي يلجأون إليها عند طلب الفتوى أنهم أئمة المساجد في الأحياء التي يقطنون بها ، دون أن يكون لديهم أي خلفية عن تأهيلهم العلمي ، فمنصب الإمامة في نظرهم كافٍ لتزكيتهم ، وتأكيد احقيتهم في الإفتاء .

أما الدكتور خالد الدخيل وعند سؤاله عن تفسيره للتناقض الحاصل في الإستجابة للفتوى أجاب " أما ما يتعلق ببرنامج " ستار أكاديمي " فإن العينة التي يستقطبها البرنامج هم من الشباب المراهق صغير السن ، وهو بلا شك شريحة تحترم الفتوى وتخضع لها في الكثير من شؤونها خاصة التعبدية منها ، أما عدم الإذعان لفتوى ستار أكاديمي فيعود للتناقض الذي يعيشه المجتمع بممارسته لبعض الأمور في الباطن ، فيما يحرص على الظهور في العلن بمظهر آخر ، وهذا ناتج عن تفرد خطاب ديني أحادي على المشهد الثقافي للمجتمع ، وذلك أدى إلى نتيجة عكسية . أما الفتوى بتحريم مشاهدة برنامج ( طاش ما طاش ) ، فالواضح أنها غير مقنعة للأغلبية .

مشاهدو هذا البرنامج هم من مختلف شرائح المجتمع ، والقضايا التي يتناولها محل اختلاف . والذي يبدو أن الأغلبية تنظر إلى هذه الفتاوى على أنها تعكس تشددا غير مبرر ، ولا يستند إلى دليل مقنع . ثم إن ظاهر الفتوى في هذه الحالة ، مختلف عن باطنها ، مما يعكس شيئا من سجالية فكرية ، وتشددا لا يحظى بالقبول من الأغلبية. فتناول البرنامج ـ رغم سطحيته ـ لبعض ما يعتبر مسلمات دينية غير قابلة للمس أو النقد من قبل الشريحة المتدينة في المجتمع ، مثل نقد شيء من الخلل الإداري في الجهاز القضائي ، أو بعض الممارسات المتشددة لدى شريحة من المجتمع كان خلف هذه الفتوى ، وذلك يفسر عدم استجابة الناس لها " .


هناك معاقل تقليدية للفتوى

وما سبق كان من جهة المستوى البنيوي الخاص بالمجتمع أم على مستوى الفرد ذاته فمن الطبيعي أن يتناقض الفرد في استجابته لذات المفتي بين فتوى وأخرى . أضف إلى ذلك ما ذكره الوايلي بأن " هناك معاقل تقليدية للفتوى ، مثل مسائل قروض البنوك وأي منها ربا وأي منها ليس كذلك ، ومسائل العقيدة والعبادة وماشابه . أما في مسائل متعية بحتة فالتحريم فيها ليس قائم على تراث طويل وموثوق من إنزال الحكم على الواقع ( مثل تحريم مسلسل طاش ماطاش ) فإن ذات الفرد الذي يتصرف على أساس الفتوى في مسائل العقيدة والعبادة قد يتجاهل هكذا فتاوى .

يمكن للفرد أن يقول لنفسه أن مسائل العقيدة والعبادة والربا هي من إختصاص المشايخ أما المسلسلات فليست كذلك ". ينبثق من ذلك عامل آخر لاهتزاز الفتوى وهو تردد بعض العلماء والدعاة من إبراز آرائهم في بعض الأمور التي تمس ثقافة المجتمع المتصلبة اتجاه بعض القضايا ، فهو في السرّ وبين الخاصة ، يفصح عن رأيه، أما إذا تمت مواجهته بآرائه عبر حوار صحفي أو برنامج على قناة فضائية ينكر تماماً ما نسب إليه .

ولعل المواجهات التي تحدث بين الفينة والأخرى بين عدد من العلماء والصحفيين حول رأي أفصح عنه الشيخ في مجلس خاص ثم أنكر ذلك بعدما قدم للعامة ، شاهد على ما سبق .

وهذا يوضح بجلاء أن المجتمع السعودي هو مجتمع الخيارات المفتوحة ، الذي يستطيع ـ الرمز أو التيار ـ استقطابه متى نجح في مخاطبته حتى وإن اعتبرناه من المجتمعات المحافظة من حيث التقاليد . الدكتور سلمان العودة اتجه إلى منحى آخر في تناول معنى تقدم تأثير الفتاوى أو تراجعها بقوله : " ليس بالضرورة الحديث بأن الفتوى تتراجع فالفتوى ليست هي التي يجب أن تقود الأمة ؛ لماذا لا نقول إن الشريعة يجب أن تقود الأمة لأن الـشريعة ليست مقصورة في الفتوى ..

الشريعة أوسع من ذلك ، فالكثير من الناس الذين لا يحملون صفة شرعية أو إسلامية متخصصة إلا أنهم يخدمون الشريعة ؛ فالذي يبتكر والذي يخترع والذي يضبط والذي ينظم والذي يراقب والذي يحفظ الأمن والذي يحفظ الحياة ، والذي يحفظ المصالح ... كل هذه الأشياء في مجملها ترجع إلى أنها حفظ للشريعة وللأمة وليست القضية فقط هي قضية الفتوى ".


مشائخ القنوات الفضائية أبهروا العامة

ولعل من العوامل المؤثرة على هيبة الفتوى في الداخل السعودي ، ومن المنطقي اعتبارها إحدى المرجعيات الجديدة أيضاً هي ظهور مشائخ القنوات الفضائية ، الذين أبهروا العامة بطريقة تناولهم لمختلف القضايا ، واطلاع الناس على آراء واجتهادات مختلفة تماماً ، تتجه نحو المزيد من التيسير والـسعة ، سواء في القضايا الاجتماعية أو المالية وغيرها كبديل عن الأخذ دائماً بمبدأ سدّ الذرائع السائد في السعودية . كما اشتهر وقتئذ الدكتور القرضاوي والدكتور أحمد الكبيسي ، ومؤخراً الدعاة الشباب الذين استطاعوا استمالة شريحة كبيرة من الشباب السعودي كعمرو خالد ، والشيخ خالد الجندي وغيرهم .

يعلق أمين الطالب من قسم المحاسبة بجامعة الملك سعود قائلا " أنا معجب بدرجة كبيرة بالشيخ الكبيسي ، فهو يتناول الأمور ببساطة بعيداً عن التعقيد ، ومن أبرز ما جذبني إليه تصوره الواعي للواقع الذي نعيشه ، فلا تجد له بعض الفتاوى التي لا تستطيع تفسيرها ، فتكون عصية على الفهم ، وكمثال على ما أعني ما خرج به علينا بعض المشائخ مؤخراً من تحريم جهاز الجوال المسمى ( الباندا ) ، في حين أن الكثير من الشباب المتدين نفسه أو ما يوصف بالملتزم لم يبال بالفتوى ولا زال يقتـني هذا الجهاز ".

وقد أيده في ذلك الشنقيطي قائلا " من المشائخ الذين أتابعهم وأرى أن في آرائهم شيئاً من الإثارة الشيخ يوسف القرضاوي ، وهي إثارة من خلال آراءه الجديدة والغريبة التي يطلقها بين الفينة والأخرى ، ودائما ما يأتي بآراء مخالفة للكثير من المطروح في الساحة ، وتشعر بأن لديه الكثير من الحق في هذه الآراء ، وهو دائماً ما يلتمس الأعذار لمن يستفتيه ، لكن هذا لا يعني بأن مشائخنا ليسوا مناسبين لمجتمعنا ".

وقد أبدى الدكتور العودة تفهمه لذلك غير آبه بما قد يثار من انتقاد حول من يستعين بمن يفتيه من خارج حدود بلده قائلا : " في الحقيقة الإسلام لا يفرق بين بلد وبلد ، لكن لا شك أنك كونك تسأل من هو أعلم بشؤون بلدك التي تسأل عنها هذا مطلوب ، أما أن يكون داخل البلد أو خارج البلد فأنا أعتقد أن هذا في الأصل ليس له تأثير على الفتوى العادية إلا إذا كان البعيد لا يفقه ما يريد أن يتكلم فيه ".

وقد استيقظ الكثير من علماء الداخل لأهمية انتـشار هذه الفضائيات وتأثيرها على الناس ، فأقدموا على الظهور الفضائي ، بعد جدل كبير واسع حول جواز المشاركة ، فحسم الأمر بفتوى للـشيخ بن باز . وبينما يلاحظ تراجع دور المفتي في عموم المجتمع السعودي إلا أن دور الفتوى يتعاظم لدى الفئات الأكثر محافظة وهي ليست الأغلبية داخل المجتمع ، ولعل ظهور قناة " المجد " ، وبعض مواقع الإنترنت له دلالة في هذا السياق .

وهذا التراجع على المستوى الكلي بسبب أن المجتمع لم يعد ذلك الواحد المتجانس المتشابه . فهناك الآن مؤسسات تنشئة ثقافية غير دينية وهي الفضائيات والانترنت أصبحت تلعب دوراً بارزاً في تشكيل الوعي . من ذلك كانت الفضائيات سبباً في استقطاب الناس نحو شيء من العلمنة في البحث عن الفتوى ، فبروز المتحدثين من السياسيين والاقتصاديين ، وعلماء الاجتماع ، والمتخصصين في الحديث عن أمراض النفس وخباياها ، ومفسرو الأحلام ، جعل منهم بديلا صحياً للسؤال والفتوى بحكم الاختصاص ، فما عاد المفتي الشرعي مرجعاً للكثير من الأمور كما كان بالرغم من عدم الاختصاص .

وإن كان بعض هؤلاء المتخصصين يلجأ لممارسة الإفتاء في مجاله تحت المظلة الشرعية ، بل ويجعل من المسجد منطلقاً لبدء نشاطه طمعاً في كسب ثقة الشارع . يعلق الوايلي قائلا " إن مراقبة الطريقة التي يقدم بها أخصائيو المشاكل السلوكية من أطباء نفسيين وعلماء إجتماع علومهم ومهاراتهم إلى المجتمع توضح بجلاء أنهم يفعلون ذلك بالاتكاء على العلم الشرعي . إني حين أستمع للدكتور طارق الحبيب يتحدث ترتج علي مسئلة تصنيف محتوى حديثه ، هل هو طب غربي أم نوع جديد من الخطاب الديني ".

ولعل من أبرز الإشكالات التي أبرزتها عملية طلب الفتوى عبر الفضائيات ، هو الخلط الكبير لدى العامة في تصور الفتوى ومساحة تطبيقها ، فأصحبت المسافة بفضل برامج الإفتاء المباشرة بين الخاص والعام ضيقة جداً ، ومتشابكة . حتى عجز البعض عن تفسير ما قد يعتقده تناقضاً في رأي الـشيخ حين يسأل بعيداً عن الأضواء ، أو عبر الأضواء .



التجديد بعناصر يعرف عنها تميزها العلمي وفقهها للواقع

أما عن المستقبل القريب لما يجب أن تكون عليه حال الفتوى أو المفتي في السعودية ، فيكون في عنوان بارز هو التجديد والتطوير الفاعل . التجديد لفحوى الخطاب الديني ، والتطوير لأسلوب الفتوى وطريقة نـشرها واعتمادها . ولن يكون ذلك إلا بتجديد الدماء بعناصر يعرف عنها تميزها العلمي ، وفقهها للواقع ، ومنحها شيئاً من الاستقلالية ، ليكون صوتها مسموعاً لدى العامة عند الأزمات .

ولعل ارتفاع نسبة الوعي لدى المجتمع من خلال تعدد الآراء المطروحة أمامهم ، وارتفاع نسبة التعليم يجعل من الصعوبة بحال استمرارية الاعتماد على ذات المبدأ العام وهو سدّ الذرائع ، وعدم توجيه الحديث للعقل بالدرجة الأولى.

فالشارع أصبح يعي تماماً معنى أن هناك أموراً اختلف فيها الفقهاء ، وأصبحت عبارة المصلحة والمفسدة تتكرر كثيراً على مسامعه ، بل أصبحت لديه الجرأة الثقافية الكافية لمواجهة المفتي قائلا " ... لماذا " . وماعاد مجدياً التعامل مع الجماهير بأسلوب التلفزيون السعودي الرسمي الذي يعتمد نظرية ( الطلقة السحرية) التي ترتكز على فرضية المتلقي السلبي الذي يتلقى الرسائل بشكل فردي ، ويتأثر بها دون تفكيك لها .

يقول أشرف الناظر " لست أعتمد على شيخ معين في معرفة رأي الشرع ، إنما استمع للأدلة من عدة أطراف ، فلا أستطيع أن أسلم بالمطلق للشيخ بن منيع عضو هيئة كبار العلماء كنموذج ولا للقرضاوي كمرجعية أخرى من الخارج ، وقد تشكلت هذه القناعة لدي بعد أن استوعبت بأن مشائخنا في الداخل أنواع ومذاهب ، فمنهم من هو بعيد عن فهم ظروف الواقع ، ولم يفهم الحياة بمختلف تعقيداتها ، وآخرون عاشوا فترة من الغلو إنما بعد ذلك علمتهم التجارب " .