فاطمي
07-07-2005, 04:57 PM
احتضن الجيل الأول من إرهابيي السعودية
أبومحمد المقدسي.. رحلة فكر يبذر التعصب ويحصد الدماء
لندن: مشاري الذايدي
http://www.asharqalawsat.com/2005/07/07/images/news.310381.jpg
ابومحمد المقدسي، ولد 1962، يعود مجددا ليحتل صدارة الخبر الاصولي، وللدقة تيارا معينا من هذا البحر الاصولي العريض، وهو تيار «الجهادية السلفية» الذي هو عرابه باقتدار.
إشكالية المقدسي تبدأ من لقبه واسمه وتعريفه، اسمه الحقيقي هو عصام برقاوي، وليس عاصم او محمد عاصم او محمد عصام كما يهم البعض، وثانيا الدمغة المقدسية نسبة الى بيت المقدس التي يذيل الرجل بها اسمه، وهو من بلدة برقا من اعمال نابلس في فلسطين، ثم من وضع لقب العتيبي على اسمه في بعض تواقيعه القديمة على مؤلفاته.
واذكر أنني قرأت نسخة بخط اليد من كتاب المقدسي الشهير «ملة ابراهيم» وعلى طرة الكتاب وقع اسمه هكذا: ابومحمد عصام بن طاهر البرقاوي الحافي العتيبي المقدسي، وهي خلطة غريبة من الالقاب.
فهو نابلس لا من المقدس، كجذور فلسطينية، وبالنسبة للنسبة الى لقب عتيبي، فهي معلومة شائعة عند اهل بلدة برقا كما حدثني المثقف الفلسطيني المعروف د. احمد برقاوي، ولكن المعروف عن قبيلة عتيبة ان برقا شيء والحافي شيء آخر، فهما بطنان مختلفان.
هناك من يعتقد ان لقب ابي محمد المقدسي بالعتيبي يأتي في سياق الايغال في الدخول في الحالة السعودية، حتى لو كان هناك مبرر ينهل من معين الذاكرة المحلية لسكان برقا، كما قال لي شخص سعودي خبير ومهتم بهؤلاء الناس.
مراحل ومحطات
* لكن الاسم الذي اشتهر به عصام برقاوي، هو هذا الاسم «ابومحمد المقدسي»، ومر بعد مراحل من نشأته، وحسب بعض المعلومات فانه ولد في قريته تلك ونما ودرس في الكويت مهاجرا اليها مع اسرته كغيرها من الاسر الفلسطينية التي اتخذت من الكويت مهجرا لها في الستينات والسبعينات. في الكويت كانت هناك حالة ازدهار في التيارات السياسية، خصوصا التيارات القومية واليسارية، ولكن كانت هناك جماعة صغيرة من الاسلاميين هم جماعة اهل الحديث، وهي جماعة ترتبط بالنص مباشرة في حالة اقرب الى الطهرانية والعودة الى منابع النصوص ولكن بطريقة متقشفة «عقليا»، كانت لهذه الجماعة قصة مهمة، فقد وجدت في جماعة السعودي جهيمان العتيبي التي كانت ناشطة في السبعينات الميلادية حتى قامت باحتلال الحرم المكي في 1979، عزاء وقدوة.
وقبل هذا كانت جماعة جهيمان تجد لها ظهيرا في بعض سلفيي الكويت، ولذلك فقد كانت رسائل جهيمان أو رسائل «الاخوان» تطبع هناك، يقال انها كانت تطبع بواسطة دار الطليعة التقدمية اليسارية! وهناك اشخاص كثيرون كانت لهم صلة وثيقة بجهيمان العتيبي و«الاخوان» وهم هنا غير الاخوان المسلمين، الجماعة الشهيرة، ومن ابرز من كان له صلة وصداقة بجهيمان في الكويت هو عبداللطيف الدرباس، او ابوهزاع، وقد سجن بعد حادثة الحرم المكي عدة سنوات، ثم رجع للكويت بعد الافراج عنه، ومناسبة الحديث عنه هنا هي الاشارة الى وضع المقدسي في تلك البيئة الكويتية قبيل غزو صدام، حيث كان ابومحمد يعيش، وقد كان عديلا لابي هزاع، اي انهما تزوجا اختين، ولكن المقدسي الذي كان منسوبا لتيار جهيمان او اهل الحديث والذين كانوا الى تلك اللحظة تيارا غير جهادي، اي انه يكتفي بالكلام النظري، من دون اية اشارة لعمل عسكري او تنظيم حالة جهادية او ايجادها من العدم، كان يشكل حضورا مختلفا ونشاطا نظريا بارزا، ولذلك ظلت هذه السمة «النظرية» هي الغالبة على المقدسي، فهو صاحب كلام ولسان، وليس رب قتال وسنان، كما اصبح الشأن مع تلميذه الاردني اللاحق احمد الخلايلة «ابومصعب الزرقاوي».
في الكويت
* اختلف مع رفاقه الكويتيين كثيرا، خصوصا بعدما صعد المقدسي من آرائه التكفيرية، وبدأ يشدد في مقتضيات تكفير الطاغوت، واشتط في مطالبة من معه باخراج اولادهم من المدرسة والخروج من وظائف الحكومة، وكان ابوهزاع هو الوحيد، ربما، الذي يحنو عليه ويحاول أن يؤلف بينه وبين البقية.
وفي «جواخير» الكويت، اي مخيماتها البرية، كان الرجل يبث افكاره حول تكفير الحكومات، خصوصا الخليجية، التي لم يتعود احد سماع تكفيرها عكس مصر وسورية، وجاء غزو الكويت وكتب كتابه «إعداد القادة الفوارس بهجر فساد المدارس» في تلك المرحلة، مهاجما المدارس النظامية باعتبارها مدارس للطاغوت (الحكومات) ويجب تطهير النشء منها.
المقدسي و السعودية و الحركية
* ربما كان أول دخول له على الساحة الاسلامية السعودية، عندما وصل كتابه الذي أيد فيه كتاب شيخ موغل في محليته وسلفيته في مدينة بريدة عاصمة منطقة القصيم شمال وسط السعودية، وهو الشيخ عبد الله الدويش (توفي اول التسعينات)، وكان الشيخ السعودي السلفي يرد على سيد قطب في كتابه «في ظلال القرآن» منتقدا سيد على عدم التزامه بالمعايير الحنبلية الاثرية الصارمة في تفاصيل العقيدة، وهو أمر جديد وجريء على قدس من اقداس الفكر الحركي، الامر الذي اثار غضب «الاخوان المسلمين» والحركيين في اكثر من مكان بما في ذلك الكويت، فانبرى المقدسي للدفاع عنه ومساندته.
وهذا يقودنا للسؤال: هل تحزب المقدسي مع الاخوان المسلمين ثم انشق عنهم، ام انه كان مراقبا عن بعد ويعرف الادبيات لكنه غير منخرط في التحزب؟! من يقرأ مذكراته تلك في تأييد الشيخ الدويش يدرك انه يعرف ادبيات الاخوان، وينقدها وينفر منها عن معرفة، كما كان الشأن مع ايمن الظواهري الذي اظهر اطلاعا شاملا على تاريخ الاخوان المسلمين في كتابه الذي هاجم فيه ام الجماعات الاسلامية «الاخوان المسلمين» وهو كتابه «الحصاد المر».
لا ندري عن حقيقة تحزبه، لكن من المؤكد انه كان يعيش جوا حيويا مليئا بنشاط الاخوان المسلمين، ولم يجد نفسه، وهو الحاد المزاج القطعي الحلول، صاحب النزعة النصوصية السلفية، الا في جماعة جهيمان او بقاياها في الكويت.
اشتد الخلاف مع رفاقه الكويتيين، فاستقل عنهم، ثم جاء الى السعودية بعد غزو الكويت ومكث فيها فترة بسيطة، ليعود الى الاردن، لكنه قبل غزو صدام للكويت كان قد جاء الى السعودية، وذهب للعمرة عام 1989، ورأيته هناك في مكة مع بعض الشباب وتحدثت معه، وكان شعلة من النشاط، وواضح أنه مسكون بالتبشير بأفكاره بين الجموع، وبمجرد حلوله في مكان يتحلق حوله بعض الشباب للاستماع اليه. وسبب ذلك ما كان الرجل يملكه من قدرة على مخاطبة العقل المحلي القائم الى واحدية الحجية النصية، اي انها عقلية نصوصية، وهو كان حافظا للنصوص الدينية بكثرة، والاهم انه كان يحسن الجدل وتوظيف النصوص لصالح الفكر المتعصب، خصوصا عندما يركز على مفهوم الولاء والبراء وكيفية تجسيد هذا المفهوم الاصيل في العقيدة حسب الشرح السلفي.
الولاء والبراء وملة إبراهيم
* مفهوم الولاء والبراء يحتل ركنا ركينا في خطاب المقدسي، وقد نوع عليه اكثر من مرة، ونستطيع اعتبار برهان الولاء والبراء لدى المقدسي هو برهان البراهين، وحجته الاثيرة في التأثير على الآخرين مستخدما النصوص القرآنية والنبوية ومقولات الصحابة والتابعين والسلف وفتاوى علماء الدعوة النجدية الوهابية، خصوصا الفتاوى والرسائل التي جاءت للرد على خصوم الدعوة، او ما يسميه بعض الباحثين (الشق الاشكالي في الميراث الوهابي الفكري). تجلى استخدام المقدسي لهذا المفهوم في كتيبه الشهير «ملة ابراهيم» وهو اهم نص دشن لحضور المقدسي على ساحة التنظير للفكر الثوري السلفي.
كتاب «ملة إبراهيم» وهو يشبه كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب في درجة تأثيره وصياغته لايديولوجيا «الجهادية السلفية»، يقوم على فكرة بسيطة مفادها الأخذ بملة النبي إبراهيم الذي أمرنا الله بالاقتداء به كما في نص الآية القرآنية: «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله».
هذا الأخذ و«التأسي» يتمثل بالكفر «بالطاغوت» والبراءة منه. الطاغوت الذي يعتبر الكفر به عروة الايمان الوثقى. وكفر الطاغوت يتجلى في صور كثيرة، أهمها عدم حكمه بما أنزل الله، كما قالت الآية القرآنية: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون». وبما أن «جميع» الحكومات العربية لا تحكم بما أنزل الله، حسبما يقرر المقدسي فهي إذن طاغوت من الطواغيت التي أمرنا بالكفر بها والبراءة منها، أسوة بإبراهيم النبي، ومن هنا جاء اسم الكتاب. وقد أثر كتاب ملة ابراهيم تاثيرا بالغا على الجيل الجديد من الجهاديين المتحدرين من الصحويين الذين تلقوا تعبئة دينية مهادنة لفترة طويلة في السعودية والخليج، ولكنها كانت خالية من اية حرارة كافية لتحويل المخزون الهائل عن الجيل القرآني الفريد وغربة الدين وحلم الخلافة الاسلامية، ولذلك عندما جاء المقدسي بهذا الطرح السافر الذي لا برقع عليه، بل هو مثل شمس الظهيرة في السطوع والجهرية، متكئا على عشرات النصوص، فاقتحم العقل الغض المشرع الباب امام احصنة من هذا النوع.
ومثالا على ذلك مجموعة تفجير العليا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 التي قامت بتفجير مقر بعثة تدريب الحرس الوطني، فقد كان عبد العزيز المعثم يتردد على الاردن لجلب كتب المقدسي ومجالسته وترويج افكاره، بل جاء المقدسي الى السعودية في زيارات غريبة، حتى بعد ان اصدر كتابه المثير «الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية» والذي لم يبق فيه مجالا لابهام او غموض، وتكلم بلغة نصوصية وتراثية نقية عن تكفير الدولة السعودية، كما ارفق ذلك ببضعة اشعار حماسية هنا وهناك، خصوصا انه ينظم الشعر، على طريقة المشايخ، وقد كان المعثم ورفاقه ثمرة مبكرة، من ثمار شجرة المقدسي، حتى ان قال في لقائه الاخير انه لم يحرض المعثم على القيام بعمل عسكري، من الصعب تصديق ذلك، ولو صدقنا فمن الصعب ان نصدق ان المعثم كان يقوم بهذا العمل من دون ان يكون مشحونا بالاساس النظري والفقهي التكفيري الذي عبأ به المقدسي بندقية المعثم ووضع اصبعه على الزناد، ثم قال لست انا من اطلق.
الكواشف الجلية وأفغانستان
* المقدسي ذهب الى افغانستان قبل ذلك، وكانت له صولات وجولات في بيشاور، ويبدو انه التقى الزرقاوي، والبعض يقول انه تعرف عليه بعد عودة الزرقاوي من احدى رحلاته لافغانستان عام 1989.
أهم شيء صنعه المقدسي هناك هو تأليفه لكتابه «الكواشف الجلية»، وقد أقام هناك لعدة اشهر، بعض المتابعين قدرها بستة اشهر، طبع خلالها كتابه الشهير «الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية» ووزع الكتاب بكثافة عالية وتم تهريبه الى السعودية بكثافة ايضا. وذكر لي بعض من عايش تلك المرحلة أن مسجد الهلال الأحمر الكويتي كان مسرحا لتوزيع هذا الكتاب، الذي طبع أكثر من ثلاث طبعات. التلميذ والشيخ.. الزرقاوي
* وأما عن تعرفه على الزرقاوي، فهو قد اشار الى ذلك في رسالته الشهيرة التي ارسلها من سجنه الاردني في «قفقفا» بتاريخ جمادى الثانية 1425 هجرية، وتداولتها المواقع الاصولية على نطاق واسع، وعنونها بـ «مناصرة ومناصحة.. آمال وآلام».
وقال فيها عن لحظة تعرفه على الزرقاوي: «لقيت أبا مصعب لأول مرة في بيشاور لقاء عابرا في بيت الأخ ابي الوليد الانصاري وكان ذلك في اوائل التسعينات، ولم أكن أعرفه من قبل فقد كان قدومي للاردن حديثا، ثم لما عاد من افغانستان زارني في بيتي يتشوق لنصر التوحيد».
ثم تحدث عن نشاطه اللافت معه في ترويج كتبه والتتلمذ عليه، حتى ثارت قضية «تنظيم بيعة الامام»، حيث شاركه الزرقاوي في تأسيس «تنظيم بيعة الامام» عام 1995 في مدينة الزرقاء (وسط الأردن) التي تعد معقلاً للتيار السلفي الجهادي، قبل ان يُعتقل في العام نفسه ويُحكم عليه بالسجن 15 عاماً، أمضى منها أربع سنوات واستفاد من عفو ملكي في عام 1999، وغادر الأردن في ذلك العام الى أفغانستان.
وفي السجن ابدى الزرقاوي مواهب فاقت مواهب الشيخ في القيادة، فسلم له المقدسي، كما يقول في رسالة «قفقفا» الامارة وتصريف شؤون الجماعة، وكان التلميذ اصلب عودا من الشيخ في مواجهة المعتقل، بل كان يأخذ على شيخه شيئا من الليونة في التعامل، وكيف ان الشيخ كان ربما يباسط العسكر.
خرج الزرقاوي الى افغانستان، وتعرف على سيف العدل والظواهري وبن لادن وانخرط في تعاون وتوأمة مع «القاعدة» وأنشأ بدعم من «القاعدة» معسكر هيرات غرب افغانستان وصولا الى دخوله العراق، قبل ان يصبح زعيم «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين». كان المقدسي يراقب كل ذلك ويزجي النصح لتلميذه، حتى قالها علنا في رسالة سجن قفقفا، او رسالة «الوقفات» كما يسميها، وخلاصة النصيحة وجوب التركيز على الاميركان والحكومة العراقية في العمل العسكري وعدم تشتيت الجهود في قتال الشيعة او غيرهم، لكن الزرقاوي لم يستمع لهذه التحفظات.
وكانت حجة المقدسي هي أهمية تركيز الجهود ووجوب الاحتفاظ بقدرات الجماعة «الجهادية»، ولذلك انتقد الزرقاوي لأنه بعث منظره الشرعي، وتلميذ المقدسي ايضا، وهو ابوانس الشامي (عمر جمعة)، لتنفيذ عملية «فاشلة» لقي حتفه فيها بصاروخ اميركي في غرب بغداد.
يظل المقدسي، ورغم وجود امثال ابي قتادة وابي حليمة وابي بصير وغيرهم، من اخطر وانشط منظري «السلفية الجهادية المعسكرة»، ولكن دوما يكون مطبق النظرية أصلب من منتجها، كما هو الشأن مع الزرقاوي والشامي والمعثم والمقرن... تلاميذ المقدسي.
أبومحمد المقدسي.. رحلة فكر يبذر التعصب ويحصد الدماء
لندن: مشاري الذايدي
http://www.asharqalawsat.com/2005/07/07/images/news.310381.jpg
ابومحمد المقدسي، ولد 1962، يعود مجددا ليحتل صدارة الخبر الاصولي، وللدقة تيارا معينا من هذا البحر الاصولي العريض، وهو تيار «الجهادية السلفية» الذي هو عرابه باقتدار.
إشكالية المقدسي تبدأ من لقبه واسمه وتعريفه، اسمه الحقيقي هو عصام برقاوي، وليس عاصم او محمد عاصم او محمد عصام كما يهم البعض، وثانيا الدمغة المقدسية نسبة الى بيت المقدس التي يذيل الرجل بها اسمه، وهو من بلدة برقا من اعمال نابلس في فلسطين، ثم من وضع لقب العتيبي على اسمه في بعض تواقيعه القديمة على مؤلفاته.
واذكر أنني قرأت نسخة بخط اليد من كتاب المقدسي الشهير «ملة ابراهيم» وعلى طرة الكتاب وقع اسمه هكذا: ابومحمد عصام بن طاهر البرقاوي الحافي العتيبي المقدسي، وهي خلطة غريبة من الالقاب.
فهو نابلس لا من المقدس، كجذور فلسطينية، وبالنسبة للنسبة الى لقب عتيبي، فهي معلومة شائعة عند اهل بلدة برقا كما حدثني المثقف الفلسطيني المعروف د. احمد برقاوي، ولكن المعروف عن قبيلة عتيبة ان برقا شيء والحافي شيء آخر، فهما بطنان مختلفان.
هناك من يعتقد ان لقب ابي محمد المقدسي بالعتيبي يأتي في سياق الايغال في الدخول في الحالة السعودية، حتى لو كان هناك مبرر ينهل من معين الذاكرة المحلية لسكان برقا، كما قال لي شخص سعودي خبير ومهتم بهؤلاء الناس.
مراحل ومحطات
* لكن الاسم الذي اشتهر به عصام برقاوي، هو هذا الاسم «ابومحمد المقدسي»، ومر بعد مراحل من نشأته، وحسب بعض المعلومات فانه ولد في قريته تلك ونما ودرس في الكويت مهاجرا اليها مع اسرته كغيرها من الاسر الفلسطينية التي اتخذت من الكويت مهجرا لها في الستينات والسبعينات. في الكويت كانت هناك حالة ازدهار في التيارات السياسية، خصوصا التيارات القومية واليسارية، ولكن كانت هناك جماعة صغيرة من الاسلاميين هم جماعة اهل الحديث، وهي جماعة ترتبط بالنص مباشرة في حالة اقرب الى الطهرانية والعودة الى منابع النصوص ولكن بطريقة متقشفة «عقليا»، كانت لهذه الجماعة قصة مهمة، فقد وجدت في جماعة السعودي جهيمان العتيبي التي كانت ناشطة في السبعينات الميلادية حتى قامت باحتلال الحرم المكي في 1979، عزاء وقدوة.
وقبل هذا كانت جماعة جهيمان تجد لها ظهيرا في بعض سلفيي الكويت، ولذلك فقد كانت رسائل جهيمان أو رسائل «الاخوان» تطبع هناك، يقال انها كانت تطبع بواسطة دار الطليعة التقدمية اليسارية! وهناك اشخاص كثيرون كانت لهم صلة وثيقة بجهيمان العتيبي و«الاخوان» وهم هنا غير الاخوان المسلمين، الجماعة الشهيرة، ومن ابرز من كان له صلة وصداقة بجهيمان في الكويت هو عبداللطيف الدرباس، او ابوهزاع، وقد سجن بعد حادثة الحرم المكي عدة سنوات، ثم رجع للكويت بعد الافراج عنه، ومناسبة الحديث عنه هنا هي الاشارة الى وضع المقدسي في تلك البيئة الكويتية قبيل غزو صدام، حيث كان ابومحمد يعيش، وقد كان عديلا لابي هزاع، اي انهما تزوجا اختين، ولكن المقدسي الذي كان منسوبا لتيار جهيمان او اهل الحديث والذين كانوا الى تلك اللحظة تيارا غير جهادي، اي انه يكتفي بالكلام النظري، من دون اية اشارة لعمل عسكري او تنظيم حالة جهادية او ايجادها من العدم، كان يشكل حضورا مختلفا ونشاطا نظريا بارزا، ولذلك ظلت هذه السمة «النظرية» هي الغالبة على المقدسي، فهو صاحب كلام ولسان، وليس رب قتال وسنان، كما اصبح الشأن مع تلميذه الاردني اللاحق احمد الخلايلة «ابومصعب الزرقاوي».
في الكويت
* اختلف مع رفاقه الكويتيين كثيرا، خصوصا بعدما صعد المقدسي من آرائه التكفيرية، وبدأ يشدد في مقتضيات تكفير الطاغوت، واشتط في مطالبة من معه باخراج اولادهم من المدرسة والخروج من وظائف الحكومة، وكان ابوهزاع هو الوحيد، ربما، الذي يحنو عليه ويحاول أن يؤلف بينه وبين البقية.
وفي «جواخير» الكويت، اي مخيماتها البرية، كان الرجل يبث افكاره حول تكفير الحكومات، خصوصا الخليجية، التي لم يتعود احد سماع تكفيرها عكس مصر وسورية، وجاء غزو الكويت وكتب كتابه «إعداد القادة الفوارس بهجر فساد المدارس» في تلك المرحلة، مهاجما المدارس النظامية باعتبارها مدارس للطاغوت (الحكومات) ويجب تطهير النشء منها.
المقدسي و السعودية و الحركية
* ربما كان أول دخول له على الساحة الاسلامية السعودية، عندما وصل كتابه الذي أيد فيه كتاب شيخ موغل في محليته وسلفيته في مدينة بريدة عاصمة منطقة القصيم شمال وسط السعودية، وهو الشيخ عبد الله الدويش (توفي اول التسعينات)، وكان الشيخ السعودي السلفي يرد على سيد قطب في كتابه «في ظلال القرآن» منتقدا سيد على عدم التزامه بالمعايير الحنبلية الاثرية الصارمة في تفاصيل العقيدة، وهو أمر جديد وجريء على قدس من اقداس الفكر الحركي، الامر الذي اثار غضب «الاخوان المسلمين» والحركيين في اكثر من مكان بما في ذلك الكويت، فانبرى المقدسي للدفاع عنه ومساندته.
وهذا يقودنا للسؤال: هل تحزب المقدسي مع الاخوان المسلمين ثم انشق عنهم، ام انه كان مراقبا عن بعد ويعرف الادبيات لكنه غير منخرط في التحزب؟! من يقرأ مذكراته تلك في تأييد الشيخ الدويش يدرك انه يعرف ادبيات الاخوان، وينقدها وينفر منها عن معرفة، كما كان الشأن مع ايمن الظواهري الذي اظهر اطلاعا شاملا على تاريخ الاخوان المسلمين في كتابه الذي هاجم فيه ام الجماعات الاسلامية «الاخوان المسلمين» وهو كتابه «الحصاد المر».
لا ندري عن حقيقة تحزبه، لكن من المؤكد انه كان يعيش جوا حيويا مليئا بنشاط الاخوان المسلمين، ولم يجد نفسه، وهو الحاد المزاج القطعي الحلول، صاحب النزعة النصوصية السلفية، الا في جماعة جهيمان او بقاياها في الكويت.
اشتد الخلاف مع رفاقه الكويتيين، فاستقل عنهم، ثم جاء الى السعودية بعد غزو الكويت ومكث فيها فترة بسيطة، ليعود الى الاردن، لكنه قبل غزو صدام للكويت كان قد جاء الى السعودية، وذهب للعمرة عام 1989، ورأيته هناك في مكة مع بعض الشباب وتحدثت معه، وكان شعلة من النشاط، وواضح أنه مسكون بالتبشير بأفكاره بين الجموع، وبمجرد حلوله في مكان يتحلق حوله بعض الشباب للاستماع اليه. وسبب ذلك ما كان الرجل يملكه من قدرة على مخاطبة العقل المحلي القائم الى واحدية الحجية النصية، اي انها عقلية نصوصية، وهو كان حافظا للنصوص الدينية بكثرة، والاهم انه كان يحسن الجدل وتوظيف النصوص لصالح الفكر المتعصب، خصوصا عندما يركز على مفهوم الولاء والبراء وكيفية تجسيد هذا المفهوم الاصيل في العقيدة حسب الشرح السلفي.
الولاء والبراء وملة إبراهيم
* مفهوم الولاء والبراء يحتل ركنا ركينا في خطاب المقدسي، وقد نوع عليه اكثر من مرة، ونستطيع اعتبار برهان الولاء والبراء لدى المقدسي هو برهان البراهين، وحجته الاثيرة في التأثير على الآخرين مستخدما النصوص القرآنية والنبوية ومقولات الصحابة والتابعين والسلف وفتاوى علماء الدعوة النجدية الوهابية، خصوصا الفتاوى والرسائل التي جاءت للرد على خصوم الدعوة، او ما يسميه بعض الباحثين (الشق الاشكالي في الميراث الوهابي الفكري). تجلى استخدام المقدسي لهذا المفهوم في كتيبه الشهير «ملة ابراهيم» وهو اهم نص دشن لحضور المقدسي على ساحة التنظير للفكر الثوري السلفي.
كتاب «ملة إبراهيم» وهو يشبه كتاب «معالم في الطريق» لسيد قطب في درجة تأثيره وصياغته لايديولوجيا «الجهادية السلفية»، يقوم على فكرة بسيطة مفادها الأخذ بملة النبي إبراهيم الذي أمرنا الله بالاقتداء به كما في نص الآية القرآنية: «قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله».
هذا الأخذ و«التأسي» يتمثل بالكفر «بالطاغوت» والبراءة منه. الطاغوت الذي يعتبر الكفر به عروة الايمان الوثقى. وكفر الطاغوت يتجلى في صور كثيرة، أهمها عدم حكمه بما أنزل الله، كما قالت الآية القرآنية: «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون». وبما أن «جميع» الحكومات العربية لا تحكم بما أنزل الله، حسبما يقرر المقدسي فهي إذن طاغوت من الطواغيت التي أمرنا بالكفر بها والبراءة منها، أسوة بإبراهيم النبي، ومن هنا جاء اسم الكتاب. وقد أثر كتاب ملة ابراهيم تاثيرا بالغا على الجيل الجديد من الجهاديين المتحدرين من الصحويين الذين تلقوا تعبئة دينية مهادنة لفترة طويلة في السعودية والخليج، ولكنها كانت خالية من اية حرارة كافية لتحويل المخزون الهائل عن الجيل القرآني الفريد وغربة الدين وحلم الخلافة الاسلامية، ولذلك عندما جاء المقدسي بهذا الطرح السافر الذي لا برقع عليه، بل هو مثل شمس الظهيرة في السطوع والجهرية، متكئا على عشرات النصوص، فاقتحم العقل الغض المشرع الباب امام احصنة من هذا النوع.
ومثالا على ذلك مجموعة تفجير العليا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995 التي قامت بتفجير مقر بعثة تدريب الحرس الوطني، فقد كان عبد العزيز المعثم يتردد على الاردن لجلب كتب المقدسي ومجالسته وترويج افكاره، بل جاء المقدسي الى السعودية في زيارات غريبة، حتى بعد ان اصدر كتابه المثير «الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية» والذي لم يبق فيه مجالا لابهام او غموض، وتكلم بلغة نصوصية وتراثية نقية عن تكفير الدولة السعودية، كما ارفق ذلك ببضعة اشعار حماسية هنا وهناك، خصوصا انه ينظم الشعر، على طريقة المشايخ، وقد كان المعثم ورفاقه ثمرة مبكرة، من ثمار شجرة المقدسي، حتى ان قال في لقائه الاخير انه لم يحرض المعثم على القيام بعمل عسكري، من الصعب تصديق ذلك، ولو صدقنا فمن الصعب ان نصدق ان المعثم كان يقوم بهذا العمل من دون ان يكون مشحونا بالاساس النظري والفقهي التكفيري الذي عبأ به المقدسي بندقية المعثم ووضع اصبعه على الزناد، ثم قال لست انا من اطلق.
الكواشف الجلية وأفغانستان
* المقدسي ذهب الى افغانستان قبل ذلك، وكانت له صولات وجولات في بيشاور، ويبدو انه التقى الزرقاوي، والبعض يقول انه تعرف عليه بعد عودة الزرقاوي من احدى رحلاته لافغانستان عام 1989.
أهم شيء صنعه المقدسي هناك هو تأليفه لكتابه «الكواشف الجلية»، وقد أقام هناك لعدة اشهر، بعض المتابعين قدرها بستة اشهر، طبع خلالها كتابه الشهير «الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية» ووزع الكتاب بكثافة عالية وتم تهريبه الى السعودية بكثافة ايضا. وذكر لي بعض من عايش تلك المرحلة أن مسجد الهلال الأحمر الكويتي كان مسرحا لتوزيع هذا الكتاب، الذي طبع أكثر من ثلاث طبعات. التلميذ والشيخ.. الزرقاوي
* وأما عن تعرفه على الزرقاوي، فهو قد اشار الى ذلك في رسالته الشهيرة التي ارسلها من سجنه الاردني في «قفقفا» بتاريخ جمادى الثانية 1425 هجرية، وتداولتها المواقع الاصولية على نطاق واسع، وعنونها بـ «مناصرة ومناصحة.. آمال وآلام».
وقال فيها عن لحظة تعرفه على الزرقاوي: «لقيت أبا مصعب لأول مرة في بيشاور لقاء عابرا في بيت الأخ ابي الوليد الانصاري وكان ذلك في اوائل التسعينات، ولم أكن أعرفه من قبل فقد كان قدومي للاردن حديثا، ثم لما عاد من افغانستان زارني في بيتي يتشوق لنصر التوحيد».
ثم تحدث عن نشاطه اللافت معه في ترويج كتبه والتتلمذ عليه، حتى ثارت قضية «تنظيم بيعة الامام»، حيث شاركه الزرقاوي في تأسيس «تنظيم بيعة الامام» عام 1995 في مدينة الزرقاء (وسط الأردن) التي تعد معقلاً للتيار السلفي الجهادي، قبل ان يُعتقل في العام نفسه ويُحكم عليه بالسجن 15 عاماً، أمضى منها أربع سنوات واستفاد من عفو ملكي في عام 1999، وغادر الأردن في ذلك العام الى أفغانستان.
وفي السجن ابدى الزرقاوي مواهب فاقت مواهب الشيخ في القيادة، فسلم له المقدسي، كما يقول في رسالة «قفقفا» الامارة وتصريف شؤون الجماعة، وكان التلميذ اصلب عودا من الشيخ في مواجهة المعتقل، بل كان يأخذ على شيخه شيئا من الليونة في التعامل، وكيف ان الشيخ كان ربما يباسط العسكر.
خرج الزرقاوي الى افغانستان، وتعرف على سيف العدل والظواهري وبن لادن وانخرط في تعاون وتوأمة مع «القاعدة» وأنشأ بدعم من «القاعدة» معسكر هيرات غرب افغانستان وصولا الى دخوله العراق، قبل ان يصبح زعيم «تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين». كان المقدسي يراقب كل ذلك ويزجي النصح لتلميذه، حتى قالها علنا في رسالة سجن قفقفا، او رسالة «الوقفات» كما يسميها، وخلاصة النصيحة وجوب التركيز على الاميركان والحكومة العراقية في العمل العسكري وعدم تشتيت الجهود في قتال الشيعة او غيرهم، لكن الزرقاوي لم يستمع لهذه التحفظات.
وكانت حجة المقدسي هي أهمية تركيز الجهود ووجوب الاحتفاظ بقدرات الجماعة «الجهادية»، ولذلك انتقد الزرقاوي لأنه بعث منظره الشرعي، وتلميذ المقدسي ايضا، وهو ابوانس الشامي (عمر جمعة)، لتنفيذ عملية «فاشلة» لقي حتفه فيها بصاروخ اميركي في غرب بغداد.
يظل المقدسي، ورغم وجود امثال ابي قتادة وابي حليمة وابي بصير وغيرهم، من اخطر وانشط منظري «السلفية الجهادية المعسكرة»، ولكن دوما يكون مطبق النظرية أصلب من منتجها، كما هو الشأن مع الزرقاوي والشامي والمعثم والمقرن... تلاميذ المقدسي.