المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الطيب صالح يحكي عن هجرة "بلا مواسم" في ظل المجاعات والحروب والحكام الأغبياء



fadel
07-02-2005, 12:33 AM
قد يكون صحيحاً أنه ليس من السهل أو الممكن احياناً أن نذكر اسم الطيب صالح دون ان يستحضر ذلك إلى أذهاننا رائعته »موسم الهجرة الى الشمال«.

لكن حضور هذا الأمر الى الذهن عند قراءة احدث نتاج صدر له ليس من قبيل التحكم الذي تفرضه فكرة ما على الذاكرة والمخيلة بفعل اثرها الكبير في النفس, بل هو من فعل امتلاء هذا النتاج الجديد بمشاعر من الألم والسخرية المرة لاتساع نطاق الهجرة والاغتراب الى الخارج وتلك الغربة الداخلية الاشد مضاضة على النفس والتي تتحول الى عامل مهم في الاغتراب الفعلي.

لم تعد الهجرة تحتاج الى مواسم لأن الظلم والتخلف والتصحر الفكري والاجتماعي والحضاري عامة وما ينتج عن ذلك, احدثت حالة مستمرة لا تسمح بعلاقة تشبيه تؤدي الى تعبير نستعير فيه مواسم الطيور المهاجرة وما في ذلك من رومانسية حزينة لقد تحول الامر في نظره الى حال مفجعة من الأسى الرمادي الشاحب في بلدان تفيض باليأس.

نتاج الطيب صالح الجديد جاء في نحو 465 صفحة من القطع المتوسط توزعت على كتابين هما الجزآن السابع والثامن من مختارات للكاتب السوداني الشهير, وقد صدر الكتابان عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت وهي الدار التي اصدرت الاجزاء الستة في وقت سابق من العام الحالي.

الكتاب السابع حمل عنوانا هو »وطني السودان« وجاء في 220 صفحة أما الثامن فعنوانه »ذكريات المواسم« كل ما ورد في الكتابين وفيه من الفكر والسياسة والاجتماع وسائر امور الحياة ورد في شكل ذكريات صاغتها قدرة الطيب المميزة فحولتها الى نتاج قصصي وشعري مميز والى انتقاد نفاذ يعرض فنياً ما اعترى بلده وبلدانا عربية وشكل تراجعاً مرعباً حتى عن المستويات السالفة التي لم تكن لترضي الناس.

الكاتب الكبير الذي امتلأت حياته بالاسفار وانواع شتى من الاغتراب بمقتضى ما كانت تطلبه مهامه ومسؤولياته في مؤسسات دولية وعربية يبدأ الكتاب بتصوير لاغتراب جدي بعد سنوات طويلة من هجرته الأولى. وتبدأ الغربة المستهجنة قبل السفر الفعلي يبدأ الطيب بعنوان هو »الاربعاء 21-9-1988, مطار الخرطوم- صالة المغادرين الساعة 4,50 مساء«.

من قاعة المطار يكتب راسماً الحاضر يقارنه بالماضي, الماضي ينتصر او فلنقل »يتفوق« على الايام الحاضرة دون ان يكون في هذا اي حنين رومانسي. الواقع يتكلم بتعابير قاسية مؤلمة وبقسمات تبدو مطلة من عالم حرب.

يقول واصفاً بلده عامة من خلال المدينة في تلك الفترة خرجنا من دار عثمان محمد الحسن متأخرين لأنه وقف طويلاً في صف البنزين, هذه الطوابير اصبحت سمة من سمات الخرطوم عهد بعيد. طابور الخبز تقف فيه منذ منتصف الليل حتى طلوع الشمس نساء حرائر ما كن يقفن هذا الموقف من قبل.. طابور السكر الرجال والنساء والكهول والشيوخ والصبيان طابور الاحذية التي جاءت من مصر والثياب الجاهزة التي وصلت من كوريا والصين طابور حلويات العيد. طابور على ابواب السفارات للسفر.

للخروج.. للهروب.. للرحيل.. ناس من الشمال يضربون في ارض الله شرقاً وشمالاً, وناس من الجنوب مثل جيوش النمل.. امواج في اثر امواج من اقوام زلزلتهم الحروب والمجاعات والفيضانات والحكام الاغبياء والوعود الكاذبة.

يتحدث عن التحول الذي طرأ فيقول عن الناس »ما كانوا يأبهون للمظهر فأصبحوا يتنابزون بالألقاب ويتطاولون في البنيان ويتفاخرون بسيارات المرسيدس وترى المرأة وهي تحمل على جسمها من الثياب والحلي ما كان يكفي لاعاشة اسرة كاملة حولاً كاملاً في الزمان القديم«.
يضيف »زاد الكلام عن الاسلام وكثرت المساجد وضعف الايمان. زادت المدارس وعم الجهل زادت المستشفيات وتفشت الامراض لا عدل ولا حرية ولا ديمقراطية الا في بيانات الحكومة ومحطات الاذاعة«.

وتأتي الخاتمة في مزيج من الواقع المفجع الذي يكاد احياناً يتحول في نهاية الكلام الى رمز حافل بالمرارة والسخرية يقول انني ادري الان لماذا انا حزين في هذا المكان لقد وقفت على قبر انسان عزيز.. اعز الناس عندي وانقطع اهم خيط كان يربطني الى هذه الديار الحزن يعلو ويخبو ويمتد عبر زمن طويل.. لقد صبرت حين كان يتحتم علي ان ابكي, وبكيت حين كان يجمل بي الصبر. لذلك يدهمني الحزن الان في هذه الصالة الرثة في هذا المطار القميء في هذه المدينة المهملة في هذا الوطن الحبيب اللعين. تحول الحزن الخاص الى حزن عام بسبب هذه اللوحة امامي في صالة المغادرة منذ كم ألف عام وضعت هذه اللوحة في هذا المكان, ومن الذي وضعها وماذا كان يدور في راسه? لوحة بهتت الوانها واختلطت كتب عليها باللغة الفرنسية »بون فواياج« وباللغة العربية »رحلة سعيدة«.

ويتحدث في مكان اخر عن اضطرار مواطنيه الى التهافت على السفر الى انحاء عديدة وبعد ان يستشهد ببيت لابي تمام يقول »انظر اليهم يا ابا تمام ينتظرون الطائرات الى بلدان الخليج. الخروج الهروب. انهم ينتظرون وانا مثلهم انتظر ولكن الحزن الذي يلسع قلبي وكأنما ينبع من هذه اللوحة الباهتة امامي.. يخصني وحدي فانا بعد كاتب, وهذه الاحزان هي زادي وعدتي.. لقد اختلط الحابل بالنابل, واصبح النازح كالمقيم والمقيم كالمسافر وهل انت قلت حقاً يا ابا تماما.. وحبب اوطان الرجال اليهم مآرب قضاها الشباب هنا لك.

في الكتاب الثاني يتناول موضوعاً من نتاج اسفاره الكثيرة يصف »بنسيونا« نظيفاً في مقديشو في الصومال لامرأة ايطالية مسنة ولدت هناك واستمرت على رغم الصعاب وقد احتاج الى وساطة ليحل فيه لتزاحم الاجانب وكثير من الصوماليين للحلول فيه.
قال »لو كان لي من الامر شيء لفتحت ابواب العالم العربي على مصاريعها (للتليان) والأقريق اليونانيين.. فهؤلاء اوروبيون ليس بهم عنظرة المستعمرين تجدهم في الحاراث والاسواق يكدحون لكسب عيشهم كسائر الناس.. يصلحون السيارات ويبنون العمارات ويبيعون الجبنة والزيتون.

ويضيف: حينما وجدت الاقريق والتليان في بلاد العرب وجدت خيراً وبركة, وقديكون ما حدث للسودان من متاعب بعد الاستقلال هو بسبب جلاء هذين العنصرين الطيبين منه.
ولعل هذه تكون »ايديولوجيا« لنظام جديد, فيقوم ضابط في الجيش يحب هذين ويعمل ثورة يكون شعارها »اعادة الاقريق والتليان الى بلاد السودان«.