على
07-01-2005, 02:53 PM
كيف يعود الأحياء والأموات معا إلى الذاكرة
سراييفو: عبد الباقي خليفة
http://www.asharqalawsat.com/2005/07/01/images/hassad.309005.jpg
في غرفة سوداء معتمة تحمل أسماء الآلاف من ضحايا مذبحة سريبرينتسا سيحيي العالم في 11 يوليو (تموز) الجاري الذكرى العاشرة للمذبحة التي راح ضحيتها أكثر من 10 آلاف من سكان المدينة البوسنية وما حولها في بضعة أيام بين 11 الى 19 يوليو 1995، على يد القوات الصربية المدعومة ماديا وعسكريا من الحكومة اليوغسلافية.
وكانت المذبحة الوحشية دليلا على ان التوترات ليست بسبب «حرب عرقية»، فالحرب العرقية تطورت لاحقا على خلفية السبب الاساسي للنزاع وهو رغبة الصرب في التوسع على حساب جماجم الآخرين لاقامة صربيا الكبرى عبر استراتيجية الارض المحروقة والابادة الجماعية ومحو كافة الآثار الثقافية للآخرين بما في ذلك المقابر فضلا عن أماكن العبادة والرموز الحضارية الاخرى للالبان. وكانت هذه الاستراتيجية قد وضعتها الاكاديمية الصربية للعلوم مطلع التسعينات من القرن الماضي على خلفية انهيار الاتحاد السوفياتي وبدايات تفكك يوغسلافيا، ونفذها الجيش الصربي بحماس شديد تحت قيادة الرئيس اليوغسلافي الاسبق سلوبودان ميلوشيفيتش.
وخلال الحرب خلفت مآسي كبيرة، ولا سيما في البوسنة، اذ قتل 200 ألف شخص منهم 10 آلاف في سريبرينتسا وحدها، و150 آلف معاق، وتم اغتصاب ما بين 30 الى 50 ألف امرأة، اضافة الى مليوني مهجر ودمار قضى على 90% من البنية التحتية للبلاد.
وكانت سريبرينتسا من الاهداف الاولى للصرب منذ اندلاع الحرب في البوسنة في 6 أبريل (نيسان) 1992 اذ كانت تتعرض باستمرار للقصف والحصار من قبل الجيش الصربي، وأسفر ذلك عن موت الكثير من الاطفال وكبار السن بسبب سوء التغذية وانعدام الادوية، فضلا عن الموت بشظايا القنابل الصربية التي كانت تمطرهم صباح مساء. ويقدر ضحايا الفترة ما بين 1992 و 1993 في سريبرينتسا وحدها بنحو 3 آلاف ضحية من المدنيين. الامر الذي دفع المجتمع الدولي وتحت ضغط الرأي العام ووسائل الاعلام التي كانت تنقل ما يجري في "معصرة الدم" البوسنية كما سماها أحد الصحافيين آنذاك، إلى وضع سريبرينتسا تحت الحماية الدولية إلى جانب 4 مناطق أخرى هي جوراجدة شرق البوسنة، وسراييفو العاصمة، وبيهاتش شمال غربي البوسنة، وموستار جنوب شرقي البلاد.
وقامت الامم المتحدة بنزع أسلحة سكان سريبرينتسا التي كانوا يدافعون بها عن أنفسهم في وجه جيش كان يعد الرابع في أوروبا من حيث القوة، حيث كان يتفوق على جيوش عدد من الدول الاوروبية من بينها ايطاليا على سبيل المثال. لكن ذلك لم يمنع الجيش الصربي من مواصلة قصفه للمدينة ولا سيما في شهر يونيو (حزيران) 1995 بعد وصول تعزيزات له من بلغراد.
وفي تلك الفترة كانت هناك قوات أوكرانية مكلفة حماية مدينة سريبرينتسا وسكانها البالغ عددهم أكثر من 90 ألف نسمة. وكانت القوات الاوكرانية تقوم بالرد على القصف الصربي بمثله وأكثر، لكن الامم المتحدة أصدرت أمرا بسحب القوات الاوكرانية واستبدالها بكتيبة هولندية لم تكن تقم بالرد على القصف الصربي كما كانت تفعل القوات الاكرانية. وعشية المذبحة وفي 10 يوليو 1995 اشتد القصف على سريبرينتسا، وأرسل سكان المدينة نداءات استغاثة دون أن تلقى استجابة فعلية من قبل المجتمع الدولي فقد كان حلف شمال الاطلسي مقيدا ببروتوكول يمنعه من القيام بغارات جوية ضد مواقع الصرب بدون إذن من الامم المتحدة والتي كانت تفضل التفاوض مع الصرب بدل الرد عليهم.
وفي 11 يوليو دخلت القوات الصربية سريبرينتسا، ولجأ بعض الاهالي للقوات الهولندية طلبا للحماية غير انها رفضت ادخالهم لمواقعها، وعندما حاول بعض الشباب الاستعانة بمدفع رشاش هولندي لتأمين فرار النساء والاطفال قبل وصول القوات الصربية للموقع منعهم الهولنديون، مما ادى الى توجه الكثيرين إلى الغابات للنجاة من الموت. وفي طريقهم إلى مدينة توزلا ( 120 كيلومترا شمال سراييفو) سقط الآلاف منهم في يد القوات الصربية التي كانت تتخفى في ملابس وسيارات الامم المتحدة لخداع الالبان، فقتلتهم بالجملة رميا بالرصاص وهم عزل، او مقيدو الايدي والارجل لمن اعتقلوا.
وبعد ذلك دفنوا في مقابر جماعية. ورغم كل ذلك الرعب تمكن الآلاف من الوصول إلى مدينة توزلا وحكوا ما حدث لهم في سريبرينتسا، وكيف اضطروا لأكل الاعشاب وورق الاشجار، وكيف نجوا بأعجوبة من الموت المحقق، وكيف رأوا الصرب وهم يستخدمون سيارات الامم المتحدة، وموقف القوات الهولندية، وأدانوا كل العالم، بما في ذلك الاقمار الصناعية التي كانت تصور ما يجري.
وعندما وصل الناجون من المجزرة إلى توزلا وتم وضعهم في مخيمات بمطار المدينة كان الصحافيون الذين يرغبون في الحديث للناجين يضطرون للتوقيع على وثيقة يلتزمون فيها بعدم نقد الامم المتحدة، و هذا ما حدث معي ومع كل الصحافيين الذين وصلوا إلى هناك بعد المذبحة مباشرة لتغطية الاحداث. وبعد 10 سنوات على مجزرة سريبرينتسا التي هزت مشاعر الملايين في العالم لا تزال أصداء تلك المجزرة حية من خلال الادانات الدولية المتعاقبة بما في ذلك إدانة الحكومة الصربية الحالية في بلغراد التي اعترفت بحصول إبادة عرقية في سريبرينتسا على لسان الرئيس بوريس كاديتش ورئيس اتحاد صربيا والجبل الاسود سفيتوزار ماروفيتش ووزير حقوق الانسان والاقليات راسم لياليتش رغم تحميلهم نظام الرئيس اليوغسلافي الاسبق ميلوشيفيتش المسؤولية عن ذلك.
كما أن أصداء المذبحة لا تزال تترد عبر محاكمة ميلوشيفيتش وجنرالاته أمام محكمة جرائم الحرب في لاهاي، وعبر اعترافات وشهادات المشاركين في المجزرة من «فرقة العقارب» وغيرها من المنظمات المشاركة في أكبر مجزرة عرفتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تشمل متطوعين من روسيا والبلطيق وأوروبا الشرقية، بل طالت قوات الامم المتحدة لحفظ السلام في البوسنة أثناء الحرب، ومن بينها القوات اليونانية التي تلاحقها اتهامات بالمشاركة في مذبحة سريبرينتسا، حيث قام الادعاء العام في أثينا بفتح تحقيقات بتوصية من البرلمان اليوناني بعد تصريحات لوزير العدل بهذا الخصوص.
ايضا لا تزال أصداء مذبحة سريبرينتسا تتردد من خلال المقابر الجماعية التي يتم اكتشافها تباعا في البوسنة والدول المجاورة ولا سيما صربيا، وعبر عمليات إعادة دفن عدد من الضحايا الذين يعثر عليهم داخل المقابر الجماعية في ذكرى الكارثة ومن ذلك إعادة دفن 600 من ضحايا سريبرينتسا يوم الاثنين 11 يوليو بحضور 40 شخصية دولية من مختلف أنحاء العالم من بينهم الامين العام للامم المتحدة كوفي انان وخافيير سولانا منسق الشؤون الامنية والعلاقات الخارجية بالاتحاد الاوروبي وتيودور ميرون رئيس محكمة جرائم الحرب في لاهاي، والرئيس الماليزى السابق مهاتير محمد وغيرهم، وما يزيد عن 100 ألف من المواطنين البوسنيين. وبذلك يعود الاحياء والاموات إلى سريبرينتسا في ذكرى المذبحة.
سراييفو: عبد الباقي خليفة
http://www.asharqalawsat.com/2005/07/01/images/hassad.309005.jpg
في غرفة سوداء معتمة تحمل أسماء الآلاف من ضحايا مذبحة سريبرينتسا سيحيي العالم في 11 يوليو (تموز) الجاري الذكرى العاشرة للمذبحة التي راح ضحيتها أكثر من 10 آلاف من سكان المدينة البوسنية وما حولها في بضعة أيام بين 11 الى 19 يوليو 1995، على يد القوات الصربية المدعومة ماديا وعسكريا من الحكومة اليوغسلافية.
وكانت المذبحة الوحشية دليلا على ان التوترات ليست بسبب «حرب عرقية»، فالحرب العرقية تطورت لاحقا على خلفية السبب الاساسي للنزاع وهو رغبة الصرب في التوسع على حساب جماجم الآخرين لاقامة صربيا الكبرى عبر استراتيجية الارض المحروقة والابادة الجماعية ومحو كافة الآثار الثقافية للآخرين بما في ذلك المقابر فضلا عن أماكن العبادة والرموز الحضارية الاخرى للالبان. وكانت هذه الاستراتيجية قد وضعتها الاكاديمية الصربية للعلوم مطلع التسعينات من القرن الماضي على خلفية انهيار الاتحاد السوفياتي وبدايات تفكك يوغسلافيا، ونفذها الجيش الصربي بحماس شديد تحت قيادة الرئيس اليوغسلافي الاسبق سلوبودان ميلوشيفيتش.
وخلال الحرب خلفت مآسي كبيرة، ولا سيما في البوسنة، اذ قتل 200 ألف شخص منهم 10 آلاف في سريبرينتسا وحدها، و150 آلف معاق، وتم اغتصاب ما بين 30 الى 50 ألف امرأة، اضافة الى مليوني مهجر ودمار قضى على 90% من البنية التحتية للبلاد.
وكانت سريبرينتسا من الاهداف الاولى للصرب منذ اندلاع الحرب في البوسنة في 6 أبريل (نيسان) 1992 اذ كانت تتعرض باستمرار للقصف والحصار من قبل الجيش الصربي، وأسفر ذلك عن موت الكثير من الاطفال وكبار السن بسبب سوء التغذية وانعدام الادوية، فضلا عن الموت بشظايا القنابل الصربية التي كانت تمطرهم صباح مساء. ويقدر ضحايا الفترة ما بين 1992 و 1993 في سريبرينتسا وحدها بنحو 3 آلاف ضحية من المدنيين. الامر الذي دفع المجتمع الدولي وتحت ضغط الرأي العام ووسائل الاعلام التي كانت تنقل ما يجري في "معصرة الدم" البوسنية كما سماها أحد الصحافيين آنذاك، إلى وضع سريبرينتسا تحت الحماية الدولية إلى جانب 4 مناطق أخرى هي جوراجدة شرق البوسنة، وسراييفو العاصمة، وبيهاتش شمال غربي البوسنة، وموستار جنوب شرقي البلاد.
وقامت الامم المتحدة بنزع أسلحة سكان سريبرينتسا التي كانوا يدافعون بها عن أنفسهم في وجه جيش كان يعد الرابع في أوروبا من حيث القوة، حيث كان يتفوق على جيوش عدد من الدول الاوروبية من بينها ايطاليا على سبيل المثال. لكن ذلك لم يمنع الجيش الصربي من مواصلة قصفه للمدينة ولا سيما في شهر يونيو (حزيران) 1995 بعد وصول تعزيزات له من بلغراد.
وفي تلك الفترة كانت هناك قوات أوكرانية مكلفة حماية مدينة سريبرينتسا وسكانها البالغ عددهم أكثر من 90 ألف نسمة. وكانت القوات الاوكرانية تقوم بالرد على القصف الصربي بمثله وأكثر، لكن الامم المتحدة أصدرت أمرا بسحب القوات الاوكرانية واستبدالها بكتيبة هولندية لم تكن تقم بالرد على القصف الصربي كما كانت تفعل القوات الاكرانية. وعشية المذبحة وفي 10 يوليو 1995 اشتد القصف على سريبرينتسا، وأرسل سكان المدينة نداءات استغاثة دون أن تلقى استجابة فعلية من قبل المجتمع الدولي فقد كان حلف شمال الاطلسي مقيدا ببروتوكول يمنعه من القيام بغارات جوية ضد مواقع الصرب بدون إذن من الامم المتحدة والتي كانت تفضل التفاوض مع الصرب بدل الرد عليهم.
وفي 11 يوليو دخلت القوات الصربية سريبرينتسا، ولجأ بعض الاهالي للقوات الهولندية طلبا للحماية غير انها رفضت ادخالهم لمواقعها، وعندما حاول بعض الشباب الاستعانة بمدفع رشاش هولندي لتأمين فرار النساء والاطفال قبل وصول القوات الصربية للموقع منعهم الهولنديون، مما ادى الى توجه الكثيرين إلى الغابات للنجاة من الموت. وفي طريقهم إلى مدينة توزلا ( 120 كيلومترا شمال سراييفو) سقط الآلاف منهم في يد القوات الصربية التي كانت تتخفى في ملابس وسيارات الامم المتحدة لخداع الالبان، فقتلتهم بالجملة رميا بالرصاص وهم عزل، او مقيدو الايدي والارجل لمن اعتقلوا.
وبعد ذلك دفنوا في مقابر جماعية. ورغم كل ذلك الرعب تمكن الآلاف من الوصول إلى مدينة توزلا وحكوا ما حدث لهم في سريبرينتسا، وكيف اضطروا لأكل الاعشاب وورق الاشجار، وكيف نجوا بأعجوبة من الموت المحقق، وكيف رأوا الصرب وهم يستخدمون سيارات الامم المتحدة، وموقف القوات الهولندية، وأدانوا كل العالم، بما في ذلك الاقمار الصناعية التي كانت تصور ما يجري.
وعندما وصل الناجون من المجزرة إلى توزلا وتم وضعهم في مخيمات بمطار المدينة كان الصحافيون الذين يرغبون في الحديث للناجين يضطرون للتوقيع على وثيقة يلتزمون فيها بعدم نقد الامم المتحدة، و هذا ما حدث معي ومع كل الصحافيين الذين وصلوا إلى هناك بعد المذبحة مباشرة لتغطية الاحداث. وبعد 10 سنوات على مجزرة سريبرينتسا التي هزت مشاعر الملايين في العالم لا تزال أصداء تلك المجزرة حية من خلال الادانات الدولية المتعاقبة بما في ذلك إدانة الحكومة الصربية الحالية في بلغراد التي اعترفت بحصول إبادة عرقية في سريبرينتسا على لسان الرئيس بوريس كاديتش ورئيس اتحاد صربيا والجبل الاسود سفيتوزار ماروفيتش ووزير حقوق الانسان والاقليات راسم لياليتش رغم تحميلهم نظام الرئيس اليوغسلافي الاسبق ميلوشيفيتش المسؤولية عن ذلك.
كما أن أصداء المذبحة لا تزال تترد عبر محاكمة ميلوشيفيتش وجنرالاته أمام محكمة جرائم الحرب في لاهاي، وعبر اعترافات وشهادات المشاركين في المجزرة من «فرقة العقارب» وغيرها من المنظمات المشاركة في أكبر مجزرة عرفتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، والتي تشمل متطوعين من روسيا والبلطيق وأوروبا الشرقية، بل طالت قوات الامم المتحدة لحفظ السلام في البوسنة أثناء الحرب، ومن بينها القوات اليونانية التي تلاحقها اتهامات بالمشاركة في مذبحة سريبرينتسا، حيث قام الادعاء العام في أثينا بفتح تحقيقات بتوصية من البرلمان اليوناني بعد تصريحات لوزير العدل بهذا الخصوص.
ايضا لا تزال أصداء مذبحة سريبرينتسا تتردد من خلال المقابر الجماعية التي يتم اكتشافها تباعا في البوسنة والدول المجاورة ولا سيما صربيا، وعبر عمليات إعادة دفن عدد من الضحايا الذين يعثر عليهم داخل المقابر الجماعية في ذكرى الكارثة ومن ذلك إعادة دفن 600 من ضحايا سريبرينتسا يوم الاثنين 11 يوليو بحضور 40 شخصية دولية من مختلف أنحاء العالم من بينهم الامين العام للامم المتحدة كوفي انان وخافيير سولانا منسق الشؤون الامنية والعلاقات الخارجية بالاتحاد الاوروبي وتيودور ميرون رئيس محكمة جرائم الحرب في لاهاي، والرئيس الماليزى السابق مهاتير محمد وغيرهم، وما يزيد عن 100 ألف من المواطنين البوسنيين. وبذلك يعود الاحياء والاموات إلى سريبرينتسا في ذكرى المذبحة.