مرتاح
07-01-2005, 10:53 AM
بغداد ـ د. جمال حسين:
الصناديق المغلقة، حاملة الأسى والبهجة المطفأة، كالخيال المار ما بين الهزيع الأخير واليقظة المبكرة وغيبوبة تلك البلاد التي أفلحت الأرض والرجال وأطياف البساتين.
أتراها نهاية منطقية لليلة الأخيرة من حياة الشاعر والإحصائي وبائع الفرارات والشرطي ومن رفضت مس يدها من غير خاتم الخطبة!
فأي نهاية، خضراء أو منبسطة لهذا الليل الضاج بالمسرفات وغبار المروحيات وطرق الحديد بالإسمنت المستدان والنوافذ المستأجرة،، مرجحا أنها ليست نهاية القصة ولو قرع الباب ونقر جدرانه غراب، حافرا من أمل الصغيرة، جذوة لصباح بلا جدوى وظهيرة مريبة، مرتد مدّها، زائل نبضها، واهنة نغماتها مع السحر الغائب.
هنا جلس، بل هناك اعترض سبيل الدجاجات المرحات بالفيء وعبر ذاك الطريق حمل أكياس الحصة التموينية ووقود المولدة المغشوش، وعلى هذا الحائط ربط حبل الغسيل المنزوع من أيام دروس الرياضة الصحيحة، كمدا يملأ البيت بالذعر، في أن قذيفة طائشة ستدرك نهاية الأطباق والدمى ومشية الحياة المتئدة، فيما نذعن إليه أو يجرفنا إلى سبيله، بين ما نشمه مرآة وما ندركه من مصير ونصيب وقدر.
ولمن يقرأ كتابنا، فليبك على شبابنا المسمرين في دولاب الآخرة من غير ذنب وليشاركنا في تداري البديهيات واستكشاف أصل المستقر الأخير وفصوله الأولى، أسعاره وميزانه في بورصة الموت، ذلك الذي يجرفون عليه أجسادنا بالبطانيات الممزقة أو بالجرائد المجانية، ذلك الذي لا مفر منه، شهادة وفاتنا أجمعين، في موعدها أو قبلها بكثير، ذلك الذي ننحني مرعدين ما أن يهبط كخبز القيام: سعادة التابوت!
سابقا كانت التوابيت اشتراكية، ومتيسرة في الجوامع والحسينيات والمغاسل العامة.
وحتى الموتى كانوا متوَقعين، وكل حي فيه مسجد، يضمن موتاه تغسيلهم على السريع، ومهمة التوابيت كانت وقتية تبدأ من غرفة الميت مرورا بالمسجد وتنتهي عند مثواه الأخير ليعيدوا استخدام التابوت لميت جديد وهكذا.
وهذه التوابيت وقف للقطاع العام ومسجلة في وزارة الأوقاف وعهدة لا يفرط بها مدبرو أحوال المساجد. وكان صناع التوابيت معدودين على الأصابع ومعروفين وأغلبهم كانوا نجارين فاشلين، لكون صناعة التابوت سهلة ولا تتطلب مهارة تذكر، كما أن الموتى لا يطلبون الكثير من النقوش والحلي والفخامة وأهلهم لم يهتموا أبدا بالبريستيج ولم يشغلهم في أوقات مفارقة العزيز سوى دفنه والتفرغ للبكاء عليه.
القليل من العجائز الذين كانوا وحدهم يموتون في البلاد، يحجزون مقدما توابيتهم وتبدأ الحكاية بمزاح أو جد يفرضه طول المعني غير العادي أو سمنه أو ضخامته ومواصفات جسده التي لا تتناسب مع التوابيت الحكومية المفصلة على المقياس العام للمواطن الصالح.
توابيت الحرب
وفي الحرب الطويلة والمدمرة مع إيران، مات مئات الآلاف من الشبان وأحيانا مات في يوم واحد نحو 50 ألفا كما حدث في معركة الفاو الأولى ومعارك شرق البصرة ومجنون وغيرها، وهذا العدد من الموتى في يوم واحد لا يستطيع أي مغسل موتى أو مسجد السيطرة عليه، فكان أن تكفلت هيئات التوجيه السياسي في الفرق العسكرية والفيالق تجهيز كل لواء وفوج وكتيبة بتوابيت تكفيها وأكثر.
ولعل منظر شاحنات التوابيت الفارغة التي ترافق الجنود في حلهم وترحالهم وأكلهم ومنامهم، من أكثر اللوحات القاسية والمريرة التي دبرت سلوك الحرب، عندما يرتب الجنود توابيتهم بأنفسهم !
توابيت الحصار
كانت موسيقى التوابيت تقرع في الشوارع العراقية باستمرار وتنظم مسيرات من عشرات الأطفال الموتى مرافقة لها عشرات الوكالات العاملة لتنقل للعالم الصورة المنسقة للموت الذي كان يستغله الحكام ليكسبوا يوما إضافيا على الكراسي ليطووا من أمامهم صفحات كان من الممكن أن تدب فيها الحياة لو كسروا بضعا من حزم أموال النفط المهرب وسقوا فيها معدات الأطفال الخالية.
سارت التوابيت الصغيرة في الشوارع العراقية مؤذنة موت الأب القائد، معلنة دون أن يدري بأن مهمته انتهت ما أن بدأ يستغل الموت ملوحا به في تهديد الأحياء منهم قبل الأموات.
توابيت السياسة
وفي كل الخطب ونشرات الأنباء كانت مفردة «التوابيت» تتناثر في الخبر والتحليل وخطب الدكتاتوريين الرسمية. وكأن التابوت، عامل سياسي في الصراع، بل انه قد تحول الى أهم عامل في خطة النظام السابق في التصدي للحلفاء عندما أراد بحكمته ملء 25 ألف تابوت وإرسالها إلى أميركا ليبدأ المفاوضات من موقع القوة.
كان الرئيس الوحيد في العصر الراهن الذي لا يخلو خطاب له من ذكر مفردة التوابيت والموت وغيرهما من المرجعيات والأطياف الباعثة للتحطيم ومطاردة الآمال وتأجج النار.
ومنذ الثمانينات ولغاية اليوم الذي هرب فيه من العاصمة، كانت الدولة السباقة في الكرم، ما أن يتعلق الأمر بصنع تابوت جديد، لقد كان التابوت كمطلب جماهيري متقدما على كل المطالب، وكانت اشتراكية التوابيت موزعة بكامل العدل والإنصاف على كل العراقيين.
توابيت الشبان
وعندما كانوا يوزعون المعدومين بكافة أسبابهم: العملاء والخونة والفارين من الخدمة العسكرية ومن ابتسم على نكتة رئاسية كانوا يجبرون أهالي المعدومين على دفع مبلغ الطلقات النابتة في أجساد أبنائهم وكذلك سعر التابوت.
لقد دخل «التابوت» في موازنة الدولة وجدول ضمن احتياجات الوزارات العراقية وانصهر في الصراع الطافي على الحياة العراقية، غير ان أحدا لم يكن ليصل الى ورش صناعة التوابيت الحكومية، بل أن مواقعها كانت على الأرجح واحدة من أسرار الدولة العليا ويتوقع أن ورش التصنيع العسكري كانت هي المتكفلة بصناعة التوابيت لشبان البلاد.
توابيت طبقية
ليس كل من كان يعدم يصل الى أهله بتابوت، فقد رميت جثث الدكتور راجي التكريتي بكيس قمامة أمام منزله، فيما عثر أقارب مدير الأمن السابق فاضل البراك على جثته ممزقة في حديقة بيته، وبعد مجزرة آل عبد الغفور حملوا حسين وصدام كامل ومن معهم في وانيت ودفنوهم مع بعض. كما لم يكرم أحد الملوك والأمراء والأميرات ونوري سعيد باشا وعبد الكريم قاسم وغيرهم من قادة العراق بنقلهم الى مدافنهم بتوابيت.
ربما التابوت يمثل درجة كان يمنحها الدكتاتوريون لرعاياهم الميتين، فليس كل ميت يستحق التكريم بتابوت من وجهة حقدهم عليه ودرجته أيضا. كما أن التوابيت استخدمت في إيصال رسائل للأحياء، فكانوا يكتبون على التابوت مفردات منتقاة بتسلط كاف: خائن، عميل، جبان... الخ
ولم يكن تابوت الجندي كتابوت الضابط وكان سمك خشب تابوت النقيب أرفع وأرخص بكثير من الخشب المصنوع به تابوت اللواء والفريق. لعلها هيئة متخصصة كاملة وليست ورشة فحسب، كانت تصنع التوابيت للعراقيين!
عناوين التوابيت
أرشدنا بائع مشروبات غازية في مدخل مقبرة الكاظمية إلى صناع التوابيت المشهورين في بغداد.
بداية أردنا مجاملته بشراء بعض علب المشروبات، لكن تبين أنه أطرش فلا يسمع كلمات بيبسي أو غيرها من علب يبيعها، لكن ما أن قلنا مفردة «توابيت» حتى سمعها مباشرة، لقد أصحت هذه الكلمة سمعه فربما مرت سنون لم يكلمه أحد فيها فجمد حاسة السمع لديه.
هو الوحيد الذي دلنا بكامل الدقة على كل صناع التوابيت في بغداد، ذلك العراقي القديم الذي يبيع المشروبات في مقبرة.
توابيت الحرية
يتناول عباس غداءه وسط التوابيت في دكانه الواقع في واحدة من تفرعات منطقة «علاوي الحلة» وسط العاصمة العراقية.
كان يتلمس الخشب في فراغ حانوت الموت الذي جعله طابقين ليسع التوابيت الكثيرات التي لا تبطل البلاد من طلبها يوميا. تركناه يبلع لقمة الفلافل ليكمل بمشيئته الحديث الذي بدأه: أضطر لتناول غدائي في المحل لأن الطلبات كثيرة وينبغي أن نكون جاهزين دائما!
عمل «عباس توابيت» ـ كما يطلقون عليه في هذا الحي القديم للغاية ـ في هذه المهنة منذ ظهور الجمهورية الأولى في العراق، وبالتأكيد لا يعلم عدد التوابيت التي صنعها، غير أنه متيقن الآن بأن لا صناعة تنافس مهنة صناعة التوابيت في العراق!
بيزنس التوابيت
قال إنه سابقا يصنع تابوتا فريدا ليصرفه مرة في الأسبوع وقد يطول الأسبوع بدون أن يحتاج أحد لتابوته. فيما اليوم تتعاقد معه جهات حكومية، لاسيما المستشفيات التي تستقبل حالات الطوارئ في بغداد كالكندي واليرموك والأهم منها تلك الحجوزات التي تأتي إليه يوميا من «الطب العدلي» (هذه المؤسسة الطبية لا تدفن، بل تحول الموتى بتوابيت الى البلدية التي تقوم بعملية الدفن على حساب الحكومة).
أحصى التوابيت التي يبيعها لمشرحة بغداد الرئيسية في الطب العدلي بأنها لا تقل عن 20 تابوتا يوميا (قالوا لنا في الطب العدلي بأنهم يستقبلون يوميا من 50 الى 100 جثة أغلبها لقتلى شبان سنفرد لحكاياتهم تحقيقا خاصا).
لا يهتم أحد بهندسة توابيت عباس، المهم يحصلون على صناديق يعبئون بها الجثث، خاصة لأولئك الذين تدفنهم الحكومة (موتى العراق المجهولين يستحقون بالتأكيد وقفة خاصة أيضا).
إذن، يعمل صناع التوابيت باتجاهات عدة ويتفرع بيزنسهم ليشمل البيع بالمفرد الذي ينتج عن حالات فردية تخص الأهالي، والبيع بالجملة الذي تطلبه الجهات التي تهتم بدفن الموتى المجهولين في مقابر بغداد والنجف.
أزمة توابيت
وفي محلة الدوريين العتيقة جدا يعمل ظاهر في هذه المهنة قبل ظهور شارع حيفا، وحين كانت كل الأبنية المطلة على دجلة من الخشب والقصب والصفيح. ولقد دفنت توابيته نصف سكان الحي. ولأنه يسكن في مكان قريب من تجمعات الحرس الوطني وعلى مرمى هاون من قاعدة للأميركان، فقد عرفه الدفانة الجدد في البلاد، فما أن تحصل «مجزرة» حتى يهرعوا إليه.
يقول إنه يبيع يوميا من 10 ـ 15 تابوتا، لكن حوادث تحصل فجأة تستدعي «استيراد التوابيت» من مدن أخرى، فلا تكفي المحال المعدودة في بغداد لصناعة وتجهيز أكثر من 100 تابوت في يوم واحد عند حصول عمليات إرهابية في تجمعات للشرطة أو للناس، كما يحصل في الآونة الأخيرة التي وصفها ظاهر بأنها الأكثر نشاطا في «عملهم»، بحيث اضطر للاستعانة بصبيان جدد يقومون بمهمة الإشراف على عملهم فحسب.
ويشكو سالم الذي يعمل مع ظاهر من قلة الراحة التي سببها لهم الإرهابيون حيث يفتحون الورشة منذ أذان الفجر بعد انتهاء فترة منع التجول ليغلقوها في التاسعة مساء وأحيانا يأتي لهم الناس أو الشرطة ليخرجوهم من البيت وينتظروهم حتى يكملوا نجارة 20 أو أكثر من التوابيت في أوقات الطوارئ والعمليات.
وأضاف انه منذ تسلم الحكومة الجديدة ولغاية الآن باعوا أكثر من 300 تابوت للدولة والمستشفيات، عدا التوابيت التي باعوها للأهالي والمساجد.
ورعاة المساجد والحسينيات وجدوا أنفسهم محرجين، حين تقبل عليهم شاحنة كاملة محملة بالجثث، وليس لديهم سوى تابوت منفرد تابع للمسجد. وأفرزت هذه الظاهرة محسنيها أيضا، فقد بادر بعض الميسورين إلى شراء التوابيت من المحلات التي زرناها وإهدائها الى المساجد، خاصة تلك التي تستقبل دوما ضحايا كثرا.
بالفعل، أصبح نقل الناس الى المدافن والمقابر مشكلة، لاسيما أولئك الذين لا يجدون من يتكفل بدفنهم، وربما حان الوقت لفتح ورش جديدة لا تخضع للخصخصة وترتبط مباشرة بمجلس الوزراء، وموازنتها مستقلة لتيسير نقل الموتى الى المقابر.
توابيت مربحة
لا يتجاوز طول التابوت مترين ولا يمتد عرضه أكثر من 80 سنتمترا، ويستخدمون لصناعته الخشب العادي كمثبتات ومعاكس المأخوذ من صناديق الشاي القديمة ومسامير متنوعة.
تنظيف الخشب وشطره وتلميعه لا يكلف النجارين أكثر من ساعة تليها عملية تثبيت قطعه المعروفة. فالتابوت لا يحتاج الى مهارة كما أن سعره يتراوح من 40 - 70 ألف دينار، اعتمادا على الحجم ونوع الخشب وتدخل الخطاطين الذين يلونون التابوت ببعض الآيات والأذكار.
هذا المبلغ يعادل شراء دولاب جيد بمرايا وأبواب لدى النجارين التقليديين، لكن صناع التوابيت فضلوا السهولة، لذلك وصفناهم في البداية بالنجارين الفاشلين الذين يتشاءم منهم الناس ولا يطيقون حتى النظر الى محلاتهم، لكنهم عموما يربحون أكثر من الباقين.
انهم صناع توابيت فحسب، ولا يجيدون نجارة شيء آخر وأيديهم أخذت على هذه المهنة، كما لا يحتاجون لا الى إعلان ولا الدعاية ولا حتى يافطة فوجود التابوت في مقبل المحل كاف للتعريف.
كما أن زبائنهم لا يتفاوضون بالنوعية ولا يتفاصلون بالسعر، فالذي يحتاج الى تابوت، قد أضناه يومه الى الحد الذي يريد أن ينهيه بأي شكل، خاصة أن الحصول على تابوت هو بداية عملية شاقة نهايتها الدفن.
وقد تحين فرصة للحديث عن مراحل ما بعد الحصول على تابوت و عما يفعله الدفانون وكم يبلغ سعر المتر في المقابر العراقية المرغوبة وكيف يتناسب هذا السعر مع المكان وهل يكون القبر على الشارع المبلط في المقبرة أو بالقرب من الغرف المكيفة وفيما إذا كان بالقرب من بوفيهات الموتى وزواياهم التي يذوون فيها عن تلك الأحلام التي لم يتحقق أي منها.
الصناديق المغلقة، حاملة الأسى والبهجة المطفأة، كالخيال المار ما بين الهزيع الأخير واليقظة المبكرة وغيبوبة تلك البلاد التي أفلحت الأرض والرجال وأطياف البساتين.
أتراها نهاية منطقية لليلة الأخيرة من حياة الشاعر والإحصائي وبائع الفرارات والشرطي ومن رفضت مس يدها من غير خاتم الخطبة!
فأي نهاية، خضراء أو منبسطة لهذا الليل الضاج بالمسرفات وغبار المروحيات وطرق الحديد بالإسمنت المستدان والنوافذ المستأجرة،، مرجحا أنها ليست نهاية القصة ولو قرع الباب ونقر جدرانه غراب، حافرا من أمل الصغيرة، جذوة لصباح بلا جدوى وظهيرة مريبة، مرتد مدّها، زائل نبضها، واهنة نغماتها مع السحر الغائب.
هنا جلس، بل هناك اعترض سبيل الدجاجات المرحات بالفيء وعبر ذاك الطريق حمل أكياس الحصة التموينية ووقود المولدة المغشوش، وعلى هذا الحائط ربط حبل الغسيل المنزوع من أيام دروس الرياضة الصحيحة، كمدا يملأ البيت بالذعر، في أن قذيفة طائشة ستدرك نهاية الأطباق والدمى ومشية الحياة المتئدة، فيما نذعن إليه أو يجرفنا إلى سبيله، بين ما نشمه مرآة وما ندركه من مصير ونصيب وقدر.
ولمن يقرأ كتابنا، فليبك على شبابنا المسمرين في دولاب الآخرة من غير ذنب وليشاركنا في تداري البديهيات واستكشاف أصل المستقر الأخير وفصوله الأولى، أسعاره وميزانه في بورصة الموت، ذلك الذي يجرفون عليه أجسادنا بالبطانيات الممزقة أو بالجرائد المجانية، ذلك الذي لا مفر منه، شهادة وفاتنا أجمعين، في موعدها أو قبلها بكثير، ذلك الذي ننحني مرعدين ما أن يهبط كخبز القيام: سعادة التابوت!
سابقا كانت التوابيت اشتراكية، ومتيسرة في الجوامع والحسينيات والمغاسل العامة.
وحتى الموتى كانوا متوَقعين، وكل حي فيه مسجد، يضمن موتاه تغسيلهم على السريع، ومهمة التوابيت كانت وقتية تبدأ من غرفة الميت مرورا بالمسجد وتنتهي عند مثواه الأخير ليعيدوا استخدام التابوت لميت جديد وهكذا.
وهذه التوابيت وقف للقطاع العام ومسجلة في وزارة الأوقاف وعهدة لا يفرط بها مدبرو أحوال المساجد. وكان صناع التوابيت معدودين على الأصابع ومعروفين وأغلبهم كانوا نجارين فاشلين، لكون صناعة التابوت سهلة ولا تتطلب مهارة تذكر، كما أن الموتى لا يطلبون الكثير من النقوش والحلي والفخامة وأهلهم لم يهتموا أبدا بالبريستيج ولم يشغلهم في أوقات مفارقة العزيز سوى دفنه والتفرغ للبكاء عليه.
القليل من العجائز الذين كانوا وحدهم يموتون في البلاد، يحجزون مقدما توابيتهم وتبدأ الحكاية بمزاح أو جد يفرضه طول المعني غير العادي أو سمنه أو ضخامته ومواصفات جسده التي لا تتناسب مع التوابيت الحكومية المفصلة على المقياس العام للمواطن الصالح.
توابيت الحرب
وفي الحرب الطويلة والمدمرة مع إيران، مات مئات الآلاف من الشبان وأحيانا مات في يوم واحد نحو 50 ألفا كما حدث في معركة الفاو الأولى ومعارك شرق البصرة ومجنون وغيرها، وهذا العدد من الموتى في يوم واحد لا يستطيع أي مغسل موتى أو مسجد السيطرة عليه، فكان أن تكفلت هيئات التوجيه السياسي في الفرق العسكرية والفيالق تجهيز كل لواء وفوج وكتيبة بتوابيت تكفيها وأكثر.
ولعل منظر شاحنات التوابيت الفارغة التي ترافق الجنود في حلهم وترحالهم وأكلهم ومنامهم، من أكثر اللوحات القاسية والمريرة التي دبرت سلوك الحرب، عندما يرتب الجنود توابيتهم بأنفسهم !
توابيت الحصار
كانت موسيقى التوابيت تقرع في الشوارع العراقية باستمرار وتنظم مسيرات من عشرات الأطفال الموتى مرافقة لها عشرات الوكالات العاملة لتنقل للعالم الصورة المنسقة للموت الذي كان يستغله الحكام ليكسبوا يوما إضافيا على الكراسي ليطووا من أمامهم صفحات كان من الممكن أن تدب فيها الحياة لو كسروا بضعا من حزم أموال النفط المهرب وسقوا فيها معدات الأطفال الخالية.
سارت التوابيت الصغيرة في الشوارع العراقية مؤذنة موت الأب القائد، معلنة دون أن يدري بأن مهمته انتهت ما أن بدأ يستغل الموت ملوحا به في تهديد الأحياء منهم قبل الأموات.
توابيت السياسة
وفي كل الخطب ونشرات الأنباء كانت مفردة «التوابيت» تتناثر في الخبر والتحليل وخطب الدكتاتوريين الرسمية. وكأن التابوت، عامل سياسي في الصراع، بل انه قد تحول الى أهم عامل في خطة النظام السابق في التصدي للحلفاء عندما أراد بحكمته ملء 25 ألف تابوت وإرسالها إلى أميركا ليبدأ المفاوضات من موقع القوة.
كان الرئيس الوحيد في العصر الراهن الذي لا يخلو خطاب له من ذكر مفردة التوابيت والموت وغيرهما من المرجعيات والأطياف الباعثة للتحطيم ومطاردة الآمال وتأجج النار.
ومنذ الثمانينات ولغاية اليوم الذي هرب فيه من العاصمة، كانت الدولة السباقة في الكرم، ما أن يتعلق الأمر بصنع تابوت جديد، لقد كان التابوت كمطلب جماهيري متقدما على كل المطالب، وكانت اشتراكية التوابيت موزعة بكامل العدل والإنصاف على كل العراقيين.
توابيت الشبان
وعندما كانوا يوزعون المعدومين بكافة أسبابهم: العملاء والخونة والفارين من الخدمة العسكرية ومن ابتسم على نكتة رئاسية كانوا يجبرون أهالي المعدومين على دفع مبلغ الطلقات النابتة في أجساد أبنائهم وكذلك سعر التابوت.
لقد دخل «التابوت» في موازنة الدولة وجدول ضمن احتياجات الوزارات العراقية وانصهر في الصراع الطافي على الحياة العراقية، غير ان أحدا لم يكن ليصل الى ورش صناعة التوابيت الحكومية، بل أن مواقعها كانت على الأرجح واحدة من أسرار الدولة العليا ويتوقع أن ورش التصنيع العسكري كانت هي المتكفلة بصناعة التوابيت لشبان البلاد.
توابيت طبقية
ليس كل من كان يعدم يصل الى أهله بتابوت، فقد رميت جثث الدكتور راجي التكريتي بكيس قمامة أمام منزله، فيما عثر أقارب مدير الأمن السابق فاضل البراك على جثته ممزقة في حديقة بيته، وبعد مجزرة آل عبد الغفور حملوا حسين وصدام كامل ومن معهم في وانيت ودفنوهم مع بعض. كما لم يكرم أحد الملوك والأمراء والأميرات ونوري سعيد باشا وعبد الكريم قاسم وغيرهم من قادة العراق بنقلهم الى مدافنهم بتوابيت.
ربما التابوت يمثل درجة كان يمنحها الدكتاتوريون لرعاياهم الميتين، فليس كل ميت يستحق التكريم بتابوت من وجهة حقدهم عليه ودرجته أيضا. كما أن التوابيت استخدمت في إيصال رسائل للأحياء، فكانوا يكتبون على التابوت مفردات منتقاة بتسلط كاف: خائن، عميل، جبان... الخ
ولم يكن تابوت الجندي كتابوت الضابط وكان سمك خشب تابوت النقيب أرفع وأرخص بكثير من الخشب المصنوع به تابوت اللواء والفريق. لعلها هيئة متخصصة كاملة وليست ورشة فحسب، كانت تصنع التوابيت للعراقيين!
عناوين التوابيت
أرشدنا بائع مشروبات غازية في مدخل مقبرة الكاظمية إلى صناع التوابيت المشهورين في بغداد.
بداية أردنا مجاملته بشراء بعض علب المشروبات، لكن تبين أنه أطرش فلا يسمع كلمات بيبسي أو غيرها من علب يبيعها، لكن ما أن قلنا مفردة «توابيت» حتى سمعها مباشرة، لقد أصحت هذه الكلمة سمعه فربما مرت سنون لم يكلمه أحد فيها فجمد حاسة السمع لديه.
هو الوحيد الذي دلنا بكامل الدقة على كل صناع التوابيت في بغداد، ذلك العراقي القديم الذي يبيع المشروبات في مقبرة.
توابيت الحرية
يتناول عباس غداءه وسط التوابيت في دكانه الواقع في واحدة من تفرعات منطقة «علاوي الحلة» وسط العاصمة العراقية.
كان يتلمس الخشب في فراغ حانوت الموت الذي جعله طابقين ليسع التوابيت الكثيرات التي لا تبطل البلاد من طلبها يوميا. تركناه يبلع لقمة الفلافل ليكمل بمشيئته الحديث الذي بدأه: أضطر لتناول غدائي في المحل لأن الطلبات كثيرة وينبغي أن نكون جاهزين دائما!
عمل «عباس توابيت» ـ كما يطلقون عليه في هذا الحي القديم للغاية ـ في هذه المهنة منذ ظهور الجمهورية الأولى في العراق، وبالتأكيد لا يعلم عدد التوابيت التي صنعها، غير أنه متيقن الآن بأن لا صناعة تنافس مهنة صناعة التوابيت في العراق!
بيزنس التوابيت
قال إنه سابقا يصنع تابوتا فريدا ليصرفه مرة في الأسبوع وقد يطول الأسبوع بدون أن يحتاج أحد لتابوته. فيما اليوم تتعاقد معه جهات حكومية، لاسيما المستشفيات التي تستقبل حالات الطوارئ في بغداد كالكندي واليرموك والأهم منها تلك الحجوزات التي تأتي إليه يوميا من «الطب العدلي» (هذه المؤسسة الطبية لا تدفن، بل تحول الموتى بتوابيت الى البلدية التي تقوم بعملية الدفن على حساب الحكومة).
أحصى التوابيت التي يبيعها لمشرحة بغداد الرئيسية في الطب العدلي بأنها لا تقل عن 20 تابوتا يوميا (قالوا لنا في الطب العدلي بأنهم يستقبلون يوميا من 50 الى 100 جثة أغلبها لقتلى شبان سنفرد لحكاياتهم تحقيقا خاصا).
لا يهتم أحد بهندسة توابيت عباس، المهم يحصلون على صناديق يعبئون بها الجثث، خاصة لأولئك الذين تدفنهم الحكومة (موتى العراق المجهولين يستحقون بالتأكيد وقفة خاصة أيضا).
إذن، يعمل صناع التوابيت باتجاهات عدة ويتفرع بيزنسهم ليشمل البيع بالمفرد الذي ينتج عن حالات فردية تخص الأهالي، والبيع بالجملة الذي تطلبه الجهات التي تهتم بدفن الموتى المجهولين في مقابر بغداد والنجف.
أزمة توابيت
وفي محلة الدوريين العتيقة جدا يعمل ظاهر في هذه المهنة قبل ظهور شارع حيفا، وحين كانت كل الأبنية المطلة على دجلة من الخشب والقصب والصفيح. ولقد دفنت توابيته نصف سكان الحي. ولأنه يسكن في مكان قريب من تجمعات الحرس الوطني وعلى مرمى هاون من قاعدة للأميركان، فقد عرفه الدفانة الجدد في البلاد، فما أن تحصل «مجزرة» حتى يهرعوا إليه.
يقول إنه يبيع يوميا من 10 ـ 15 تابوتا، لكن حوادث تحصل فجأة تستدعي «استيراد التوابيت» من مدن أخرى، فلا تكفي المحال المعدودة في بغداد لصناعة وتجهيز أكثر من 100 تابوت في يوم واحد عند حصول عمليات إرهابية في تجمعات للشرطة أو للناس، كما يحصل في الآونة الأخيرة التي وصفها ظاهر بأنها الأكثر نشاطا في «عملهم»، بحيث اضطر للاستعانة بصبيان جدد يقومون بمهمة الإشراف على عملهم فحسب.
ويشكو سالم الذي يعمل مع ظاهر من قلة الراحة التي سببها لهم الإرهابيون حيث يفتحون الورشة منذ أذان الفجر بعد انتهاء فترة منع التجول ليغلقوها في التاسعة مساء وأحيانا يأتي لهم الناس أو الشرطة ليخرجوهم من البيت وينتظروهم حتى يكملوا نجارة 20 أو أكثر من التوابيت في أوقات الطوارئ والعمليات.
وأضاف انه منذ تسلم الحكومة الجديدة ولغاية الآن باعوا أكثر من 300 تابوت للدولة والمستشفيات، عدا التوابيت التي باعوها للأهالي والمساجد.
ورعاة المساجد والحسينيات وجدوا أنفسهم محرجين، حين تقبل عليهم شاحنة كاملة محملة بالجثث، وليس لديهم سوى تابوت منفرد تابع للمسجد. وأفرزت هذه الظاهرة محسنيها أيضا، فقد بادر بعض الميسورين إلى شراء التوابيت من المحلات التي زرناها وإهدائها الى المساجد، خاصة تلك التي تستقبل دوما ضحايا كثرا.
بالفعل، أصبح نقل الناس الى المدافن والمقابر مشكلة، لاسيما أولئك الذين لا يجدون من يتكفل بدفنهم، وربما حان الوقت لفتح ورش جديدة لا تخضع للخصخصة وترتبط مباشرة بمجلس الوزراء، وموازنتها مستقلة لتيسير نقل الموتى الى المقابر.
توابيت مربحة
لا يتجاوز طول التابوت مترين ولا يمتد عرضه أكثر من 80 سنتمترا، ويستخدمون لصناعته الخشب العادي كمثبتات ومعاكس المأخوذ من صناديق الشاي القديمة ومسامير متنوعة.
تنظيف الخشب وشطره وتلميعه لا يكلف النجارين أكثر من ساعة تليها عملية تثبيت قطعه المعروفة. فالتابوت لا يحتاج الى مهارة كما أن سعره يتراوح من 40 - 70 ألف دينار، اعتمادا على الحجم ونوع الخشب وتدخل الخطاطين الذين يلونون التابوت ببعض الآيات والأذكار.
هذا المبلغ يعادل شراء دولاب جيد بمرايا وأبواب لدى النجارين التقليديين، لكن صناع التوابيت فضلوا السهولة، لذلك وصفناهم في البداية بالنجارين الفاشلين الذين يتشاءم منهم الناس ولا يطيقون حتى النظر الى محلاتهم، لكنهم عموما يربحون أكثر من الباقين.
انهم صناع توابيت فحسب، ولا يجيدون نجارة شيء آخر وأيديهم أخذت على هذه المهنة، كما لا يحتاجون لا الى إعلان ولا الدعاية ولا حتى يافطة فوجود التابوت في مقبل المحل كاف للتعريف.
كما أن زبائنهم لا يتفاوضون بالنوعية ولا يتفاصلون بالسعر، فالذي يحتاج الى تابوت، قد أضناه يومه الى الحد الذي يريد أن ينهيه بأي شكل، خاصة أن الحصول على تابوت هو بداية عملية شاقة نهايتها الدفن.
وقد تحين فرصة للحديث عن مراحل ما بعد الحصول على تابوت و عما يفعله الدفانون وكم يبلغ سعر المتر في المقابر العراقية المرغوبة وكيف يتناسب هذا السعر مع المكان وهل يكون القبر على الشارع المبلط في المقبرة أو بالقرب من الغرف المكيفة وفيما إذا كان بالقرب من بوفيهات الموتى وزواياهم التي يذوون فيها عن تلك الأحلام التي لم يتحقق أي منها.