المهدى
07-01-2005, 09:51 AM
خالص الجلبي
في 21 يونيو 2005 تم اغتيال الزعيم الشيوعي (جورج حاوي) في بيروت، بلغم نسفه وسيارته فمزق شر ممزق، وهو الثاني من زعماء الحزب الشيوعي، فقد سبقه إلى مصير أبشع (سليم الحلو) مذابا في الأسيد، وقبل مصرع الحاوي بـ19 يوماً في 2 يونيو قتل الكاتب المرموق والناقد السياسي (سمير القصير) غيلة، بنفس طريقة النسف فجمعت جثته مزعا إلى القبر؟ ومن قتل الثلاثة ليس غبيا، بل فاجر مستهتر يهدف الترويع، فليس مثل الخوف قدرة على ضبط الناس.
وسلسلة القتل في لبنان طويلة، ففي الثمانينات تم اغتيال رئيس تحرير مجلة «الحوادث»، وكنت يومها في ألمانيا الاتحادية، وكنا نتمتع بكتاباته حتى خرج علينا في عددين لاحقين مشؤومين; فأما العدد الأول فكان رسماً كاريكاتورياً في صفحة الغلاف الرئيسية لزعيم عربي وتحته جملة واحدة: (لماذا يكذب النظام؟)، وأما العدد الثاني فكان غلافاً كامل السواد ينعي للقارئ موت سليم اللوزي؟
وقيل في سبب مقتله إنه أجرى مقابلة مع رئيس الاستخبارات الأمريكية، فأظهر أنه يعلم أكثر مما يجب أن يعلم، والعلم خطير؟ وعرفنا أنه ذهب إلى بيروت إلى جنازة والدته فلم يرجع، ولحق بأمه مشوهاً حريقا سحيقا، فقد هشموا أصابعه التي بها يكتب قبل حرقها، وفجروا دماغه الذي به يكتب وينطق.
وهذه المشاهد كانت من لبنان، وأما في العراق ففي الثمانينات تم اعتقال باقر الصدر وأخته أم الهدى، وبعد ثلاثة أيام سلم رجال المخابرات العالم الفيلسوف صاحب المؤلفات (فلسفتنا واقتصادنا ونحو بنك لاربوي والتفسير الموضوعي للقرآن)، لأهله جثة منتوف اللحية محروقاً بأعقاب السجائر، وأما أخته أم الهدى فالأفضل أن نصمت.
وهذا المنظر لا يخص لبنان والعراق، بل يمكن أخذ نماذج وعينات من كثير من البلدان العربية، فمحمود طه تدلى من حبل المشنقة، وقطب أعدم في مصر، والطاهر بن جلون يكتب من باريس (تلك العتمة الباهرة)، كما كتب الزوجان العراقيان رفعت الجادرجي وبلقيس شرارة (بين جدارين)، فلم يبق في الغابة إلا الضواري تسرح، وأما المثقفون فداخل أقفاص الغابة بين متهم وعميل ومشترى ومنسحب وخائف على نفسه يترقب ان يخرج من اعتقال إلى إقامة جبرية إلى ملاحقة قانونية، وأحيانا ضربا باليمين على الوجوه والأدبار.
وأذكر أنني حضرت يوما على مدرج جامعة دمشق في ندوة فكرية احتشد فيها جمهور غفير، فتكلم أساتذة معتبرون في الفلسفة من جامعات عربية، وأول شيء افتتحوا به الكلام أن أطلقوا البخور لطرد الأشباح والجان فمدحوا قرة المصلين وشمس الواعظين وسلطان المسلمين أمد الله ظله.
وهكذا فلم يبق أمام المفكرين الأحرار، إلا الفرار بجلودهم والنجاة بأرواحهم إلى بلاد ريتشارد قلب الأسد، فـ(غسان الأمام) و(صبحي حديدي) و(هاشم صالح) و(برهان غليون) يكتبون من باريس، و(الغنوشي) يمشي في الظل في ضباب لندن، و(رائق النقري) صاحب (المدرسة الحيوية) يكتب من واشنطن. و(تركي الحمد) يعلن المتشددون أنه مرتد حلال الدم ، و(مشاري الذايدي) يكتشف أن رأسه مطلوب في قوائم الإرهابيين التي ضبطت في مكة.
وأنا شخصيا أصبحت (شيخ العصرانيين)، وهو مصطلح جديد يضاف إلى مصطلحات قديمة من (العلمانيين) و(الحداثيين)، الذين يدعون عليهم في خطب الجمع أن يقتلوا بددا ولا يبقوا منهم أحدا. وأي كاتب إن وجد قتيلا فهو موت قطة، وأفضل المجلات والجرائد تصدر من مكان لا ينطق فيه أحد بحرف عربي. وحين لا يبقى دماغ عربي على جسد عربي فهو قصة السندباد البحري.
إنها نكبة بكل المقاييس وأزمة ثقافية ليس لها من دون الله كاشفة.
قد يفرح بعض المتشددين أن الحاوي مسيحي وشيوعي فجمع الكفر مرتين، ولكن الاستبداد يقتل الصالح والمسلم، وقد يستبشر البعض بقتل الصدر لأنه رافضي شيعي، ولكن صدام قتل السنة الأكراد قبل الشيعة.
وحين تنتشر الكوليرا في منطقة فهي لا تفرق بين الناس حسب عقائدهم، بل حسب استعدادهم البيولوجي. وحين تحدث القرآن عن شرعة القتل في ولدي آدم، ظهر أن هناك مذهبين في الوجود: من يؤمن بالقتل حلاً للنزاعات، والثاني الذي انسحب من هذا المذهب ولو بعدم الدفاع عن نفسه فقال: «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك». والمستبدون هم من الفريق الأول والمفكرون من الثاني. ومن قصة ولدي آدم خرج القرآن بالقاعدة النفسية الاجتماعية التي تقول، إن من قتل نفسا «فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» فهذا قانون اجتماعي.
وهناك المغزى العميق لقصة القبطي الذي خب بجمله شهرا يشكو ابن عمرو بن العاص، لأنه ضرب ابنه كفا حين سبقه، وهو يقول أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟ فالقبطي الذي ما زالت آثار سياط الرومان على ظهره أطلق الإسلام في ضميره معنى الحرية، وإلا فلا فرق بين بيزنطة والمدينة، وفعلا فقد أنصفه الفاروق حين ضرب صلعة عمرو بالدرة، وقال لولا أبوه ما ضرب ابنك؟ ثم قال عمر قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
وحين يقتل شيوعي ظلما; فسيلحقه إسلامي في اليوم الثاني; وقومي في اليوم الثالث، فالمستبدون لا يفرقون، ومن الفكر هم خائفون، فلا يفرح أحد بقتل المفكرين، فهم الجهاز العصبي في الأمة. وفرعون أراد قتل موسى لأنه يريد أن يظهر في الأرض الفساد؟ فقال لمن حوله «ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد». وهكذا فموسى مفسد فاسد وفرعون صالح مصلح!
و(ابن المقفع) قصته أدعى للحزن، فقد أوقد الحاكم تنورا وقال لأقتلنك قتلة لم يسمع بها أحد؟ فقطعه وألقاه في التنور قطعا، ثم يمم به التنور فسجره وقال إنه زنديق فلا حرج في قتله على أي صورة؟ وهو الذي كتب (رسالة الصحابة) في الإصلاح السياسي ، ثم كتاب (كليلة ودمنة) على لسان الحيوانات، كي يوصل رسالته لكل أحد، فلما خرست الألسن لم يبق للنطق إلا القرود والغيلم والببر والسنور؟ وقد خلدت قصته فعلا مع أنه مات شابا بعمر الـ 36 عاما قبل أكثر من ألف عام.
وحسب (برتراند راسل)، فإن كل النهضة الغربية يعود فضلها لمائة دماغ لو اغتيلت أو قضي عليها لأجهضت النهضة وانطفأ عصر التنوير، وفي البيولوجيا، فإن الدماغ هو النسيج النبيل، والمفكرون في الأمة مثل الخلايا العصبية في الدماغ يتقدون ويقودون، فإذا حل السرطان بالجسم انتقلت. وحسب قانون (الكواكبي) أن الناس ثلاث: عوام ومستبدون وعلماء، والعوام يتأرجحون بين قطبي العلماء والمستبدين، فإن جهلوا خافوا، وإن خافوا استسلموا، والعلماء يعلمون، والعلم نور، والخوف جهالة وظلام، فإذا انتشر النور انقشع الظلام وانزاح الخوف، وما يبدئ الباطل وما يعيد، وجاء الأنبياء والفلاسفة يعلمون الناس، فمنهم من أوذي ومنهم من قتل وما بدلوا تبديلا. وسقراط كان يدور في المجامع والأسواق فلا يدعو لقتل أحد، ولا للقيام بانقلاب عسكري في البلدة، بل إلى إعادة النظر في المسلمات العقلية، ومن هنا يعد سقراط طفرة عقلية في تاريخ البشرية. وأول سورة نزلت من القرآن ناقشت مشكلة الطغيان واختصرت الوصفة بكلمتين بسيطتين: (عدم الطاعة) وليس قتل المستبدين: «كلا لا تطعه»، لأن المريض لا يعالج بالقتل بل بالدواء والعلاج، وهي التي علمها الأنبياء الأتباع.
واليوم مع رياح التغيير احتار الناس هل يجب أن تأتي أمريكا حتى يحصل التغيير؟ كما فعلت الممثلة الألمانية (مارلينه ديتريش Marlene Dietrich) فلم تدخل ألمانيا، إلا بعد الإطاحة بالنظام النازي وبعربة وخوذة أمريكية، وزارت برلين بعد دفن النازية، وقالت إن مشكلتي ليست مع شعبي، بل مع النظام النازي، وغنت أغنية تعصر القلب، وقابلت (أيجون بار) المخضرم السياسي و(ويلي براندت) مهندس السياسية الألمانية بعد الحرب فقالت: إن ما هدم كان أكثر من البيوت لقد تهدمت الآمال؟ وبقيت تمثل على المسرح الأمريكي حتى سن الـ 75 سنة، وعمرت حتى التسعين، وبقيت في سنواتها الـ15 الأخيرة في غرفة في باريس، ولم ترجع إلى برلين إلا كفنا، حيث دفنت في قبر متواضع نقش عليه: الآن تموت هنا بين أهلها في سلام.
ونحن العرب ليس لنا إلا الدموع هذه الأيام كما كانت أيام النازية الأخيرة.
في 21 يونيو 2005 تم اغتيال الزعيم الشيوعي (جورج حاوي) في بيروت، بلغم نسفه وسيارته فمزق شر ممزق، وهو الثاني من زعماء الحزب الشيوعي، فقد سبقه إلى مصير أبشع (سليم الحلو) مذابا في الأسيد، وقبل مصرع الحاوي بـ19 يوماً في 2 يونيو قتل الكاتب المرموق والناقد السياسي (سمير القصير) غيلة، بنفس طريقة النسف فجمعت جثته مزعا إلى القبر؟ ومن قتل الثلاثة ليس غبيا، بل فاجر مستهتر يهدف الترويع، فليس مثل الخوف قدرة على ضبط الناس.
وسلسلة القتل في لبنان طويلة، ففي الثمانينات تم اغتيال رئيس تحرير مجلة «الحوادث»، وكنت يومها في ألمانيا الاتحادية، وكنا نتمتع بكتاباته حتى خرج علينا في عددين لاحقين مشؤومين; فأما العدد الأول فكان رسماً كاريكاتورياً في صفحة الغلاف الرئيسية لزعيم عربي وتحته جملة واحدة: (لماذا يكذب النظام؟)، وأما العدد الثاني فكان غلافاً كامل السواد ينعي للقارئ موت سليم اللوزي؟
وقيل في سبب مقتله إنه أجرى مقابلة مع رئيس الاستخبارات الأمريكية، فأظهر أنه يعلم أكثر مما يجب أن يعلم، والعلم خطير؟ وعرفنا أنه ذهب إلى بيروت إلى جنازة والدته فلم يرجع، ولحق بأمه مشوهاً حريقا سحيقا، فقد هشموا أصابعه التي بها يكتب قبل حرقها، وفجروا دماغه الذي به يكتب وينطق.
وهذه المشاهد كانت من لبنان، وأما في العراق ففي الثمانينات تم اعتقال باقر الصدر وأخته أم الهدى، وبعد ثلاثة أيام سلم رجال المخابرات العالم الفيلسوف صاحب المؤلفات (فلسفتنا واقتصادنا ونحو بنك لاربوي والتفسير الموضوعي للقرآن)، لأهله جثة منتوف اللحية محروقاً بأعقاب السجائر، وأما أخته أم الهدى فالأفضل أن نصمت.
وهذا المنظر لا يخص لبنان والعراق، بل يمكن أخذ نماذج وعينات من كثير من البلدان العربية، فمحمود طه تدلى من حبل المشنقة، وقطب أعدم في مصر، والطاهر بن جلون يكتب من باريس (تلك العتمة الباهرة)، كما كتب الزوجان العراقيان رفعت الجادرجي وبلقيس شرارة (بين جدارين)، فلم يبق في الغابة إلا الضواري تسرح، وأما المثقفون فداخل أقفاص الغابة بين متهم وعميل ومشترى ومنسحب وخائف على نفسه يترقب ان يخرج من اعتقال إلى إقامة جبرية إلى ملاحقة قانونية، وأحيانا ضربا باليمين على الوجوه والأدبار.
وأذكر أنني حضرت يوما على مدرج جامعة دمشق في ندوة فكرية احتشد فيها جمهور غفير، فتكلم أساتذة معتبرون في الفلسفة من جامعات عربية، وأول شيء افتتحوا به الكلام أن أطلقوا البخور لطرد الأشباح والجان فمدحوا قرة المصلين وشمس الواعظين وسلطان المسلمين أمد الله ظله.
وهكذا فلم يبق أمام المفكرين الأحرار، إلا الفرار بجلودهم والنجاة بأرواحهم إلى بلاد ريتشارد قلب الأسد، فـ(غسان الأمام) و(صبحي حديدي) و(هاشم صالح) و(برهان غليون) يكتبون من باريس، و(الغنوشي) يمشي في الظل في ضباب لندن، و(رائق النقري) صاحب (المدرسة الحيوية) يكتب من واشنطن. و(تركي الحمد) يعلن المتشددون أنه مرتد حلال الدم ، و(مشاري الذايدي) يكتشف أن رأسه مطلوب في قوائم الإرهابيين التي ضبطت في مكة.
وأنا شخصيا أصبحت (شيخ العصرانيين)، وهو مصطلح جديد يضاف إلى مصطلحات قديمة من (العلمانيين) و(الحداثيين)، الذين يدعون عليهم في خطب الجمع أن يقتلوا بددا ولا يبقوا منهم أحدا. وأي كاتب إن وجد قتيلا فهو موت قطة، وأفضل المجلات والجرائد تصدر من مكان لا ينطق فيه أحد بحرف عربي. وحين لا يبقى دماغ عربي على جسد عربي فهو قصة السندباد البحري.
إنها نكبة بكل المقاييس وأزمة ثقافية ليس لها من دون الله كاشفة.
قد يفرح بعض المتشددين أن الحاوي مسيحي وشيوعي فجمع الكفر مرتين، ولكن الاستبداد يقتل الصالح والمسلم، وقد يستبشر البعض بقتل الصدر لأنه رافضي شيعي، ولكن صدام قتل السنة الأكراد قبل الشيعة.
وحين تنتشر الكوليرا في منطقة فهي لا تفرق بين الناس حسب عقائدهم، بل حسب استعدادهم البيولوجي. وحين تحدث القرآن عن شرعة القتل في ولدي آدم، ظهر أن هناك مذهبين في الوجود: من يؤمن بالقتل حلاً للنزاعات، والثاني الذي انسحب من هذا المذهب ولو بعدم الدفاع عن نفسه فقال: «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك». والمستبدون هم من الفريق الأول والمفكرون من الثاني. ومن قصة ولدي آدم خرج القرآن بالقاعدة النفسية الاجتماعية التي تقول، إن من قتل نفسا «فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» فهذا قانون اجتماعي.
وهناك المغزى العميق لقصة القبطي الذي خب بجمله شهرا يشكو ابن عمرو بن العاص، لأنه ضرب ابنه كفا حين سبقه، وهو يقول أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟ فالقبطي الذي ما زالت آثار سياط الرومان على ظهره أطلق الإسلام في ضميره معنى الحرية، وإلا فلا فرق بين بيزنطة والمدينة، وفعلا فقد أنصفه الفاروق حين ضرب صلعة عمرو بالدرة، وقال لولا أبوه ما ضرب ابنك؟ ثم قال عمر قولته المشهورة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
وحين يقتل شيوعي ظلما; فسيلحقه إسلامي في اليوم الثاني; وقومي في اليوم الثالث، فالمستبدون لا يفرقون، ومن الفكر هم خائفون، فلا يفرح أحد بقتل المفكرين، فهم الجهاز العصبي في الأمة. وفرعون أراد قتل موسى لأنه يريد أن يظهر في الأرض الفساد؟ فقال لمن حوله «ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد». وهكذا فموسى مفسد فاسد وفرعون صالح مصلح!
و(ابن المقفع) قصته أدعى للحزن، فقد أوقد الحاكم تنورا وقال لأقتلنك قتلة لم يسمع بها أحد؟ فقطعه وألقاه في التنور قطعا، ثم يمم به التنور فسجره وقال إنه زنديق فلا حرج في قتله على أي صورة؟ وهو الذي كتب (رسالة الصحابة) في الإصلاح السياسي ، ثم كتاب (كليلة ودمنة) على لسان الحيوانات، كي يوصل رسالته لكل أحد، فلما خرست الألسن لم يبق للنطق إلا القرود والغيلم والببر والسنور؟ وقد خلدت قصته فعلا مع أنه مات شابا بعمر الـ 36 عاما قبل أكثر من ألف عام.
وحسب (برتراند راسل)، فإن كل النهضة الغربية يعود فضلها لمائة دماغ لو اغتيلت أو قضي عليها لأجهضت النهضة وانطفأ عصر التنوير، وفي البيولوجيا، فإن الدماغ هو النسيج النبيل، والمفكرون في الأمة مثل الخلايا العصبية في الدماغ يتقدون ويقودون، فإذا حل السرطان بالجسم انتقلت. وحسب قانون (الكواكبي) أن الناس ثلاث: عوام ومستبدون وعلماء، والعوام يتأرجحون بين قطبي العلماء والمستبدين، فإن جهلوا خافوا، وإن خافوا استسلموا، والعلماء يعلمون، والعلم نور، والخوف جهالة وظلام، فإذا انتشر النور انقشع الظلام وانزاح الخوف، وما يبدئ الباطل وما يعيد، وجاء الأنبياء والفلاسفة يعلمون الناس، فمنهم من أوذي ومنهم من قتل وما بدلوا تبديلا. وسقراط كان يدور في المجامع والأسواق فلا يدعو لقتل أحد، ولا للقيام بانقلاب عسكري في البلدة، بل إلى إعادة النظر في المسلمات العقلية، ومن هنا يعد سقراط طفرة عقلية في تاريخ البشرية. وأول سورة نزلت من القرآن ناقشت مشكلة الطغيان واختصرت الوصفة بكلمتين بسيطتين: (عدم الطاعة) وليس قتل المستبدين: «كلا لا تطعه»، لأن المريض لا يعالج بالقتل بل بالدواء والعلاج، وهي التي علمها الأنبياء الأتباع.
واليوم مع رياح التغيير احتار الناس هل يجب أن تأتي أمريكا حتى يحصل التغيير؟ كما فعلت الممثلة الألمانية (مارلينه ديتريش Marlene Dietrich) فلم تدخل ألمانيا، إلا بعد الإطاحة بالنظام النازي وبعربة وخوذة أمريكية، وزارت برلين بعد دفن النازية، وقالت إن مشكلتي ليست مع شعبي، بل مع النظام النازي، وغنت أغنية تعصر القلب، وقابلت (أيجون بار) المخضرم السياسي و(ويلي براندت) مهندس السياسية الألمانية بعد الحرب فقالت: إن ما هدم كان أكثر من البيوت لقد تهدمت الآمال؟ وبقيت تمثل على المسرح الأمريكي حتى سن الـ 75 سنة، وعمرت حتى التسعين، وبقيت في سنواتها الـ15 الأخيرة في غرفة في باريس، ولم ترجع إلى برلين إلا كفنا، حيث دفنت في قبر متواضع نقش عليه: الآن تموت هنا بين أهلها في سلام.
ونحن العرب ليس لنا إلا الدموع هذه الأيام كما كانت أيام النازية الأخيرة.