المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ريادة الدين في الانتخابات الإيرانية



سلسبيل
06-30-2005, 02:42 PM
عفيف النابلسي

رئيس هيئة علماء جبل عامل


كأنّ الشعب الإيراني في انتخاباته الأخيرة أراد أن يؤكد أصالة الدين وسمو الإسلام وحيوية المجتمع الإسلامي ومرونته وتطلّعه للاجتهاد في الفكر، والتجديد في الأسلوب والطريقة والعمل كلما اقتضت حاجات العصر وظروفه ذلك. فلا يجمد في التاريخ بل يتقدم نحو المستقبل بثبات وثقة؛ لأنّ الدين الذي ينتمي اليه يسمح للامتداد في الحياة ويتسع لكل تطور، ويحتوي كل مطالب الإنسانية الغارقة اليوم في الحيرة والشرود والاضطراب، والباحثة عن الأمان واليقين والسلام.

وأحسب أن الشعب الإيراني بأصواته المليونية قد برهن أن الدين ليس عامل تخلف وارتكاس، وإنما عامل نشوء وارتقاء، وحركة تحوّل وتغيير للذات والمجتمع باتجاه الكمال.
وهو بسلوكه المدهش يثبت مرة بعد أخرى أن الدين يخلق مجتمعاً حراً تملك جميع الاتجاهات والآراء والفروع السياسية أن تعيش في كنفه وتحت ظله.

وأنّ ما يُقال في الشرق والغرب عن أن الدين كاتم للأصوات، وقامع للحريات، ومناهض للأفكار هو محض افتراء وتزوير، وقد تبين كذبه مع التجربة الإيرانية التي لن تساهم في وعي وفهم جديد للإسلام وحسب، إنما ستترك أثراً كبيراً لدى المجتمعات السياسية العلمانية التي تستعدي الدين، وتلصق به كل جهل وتراجع يصيب المدنية والحضارة الإنسانية.

وسيتكشف للعالم صدق هذه الحقيقة كلما مضينا في دراسة خصائص الدين الإسلامي ومقوماته، وفي استعراض قواعده القانونية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
والواقع أن الإسلام شديد الإرتباط بمبدأ الحرية حيث يشعر الفرد بأنه عنصر فاعل وقادر على الاختيار والتغيير والمشاركة في القرار الذي يحقق له العيش بكرامة، وفي صيانة نظامه وفي تطويعه ليكون أكثر تكيّفاً في إدارة شؤون الأفراد والمجتمع، وفي مواكبة التحديات التي تفرضها أسئلة العصر وإلهاماته.

على هذا الأساس يحق أن نعتبر أن الانتخابات الإيرانية هي انتصار للدين بالمعنى الشامل، والأصوات التي أدلى بها الملايين من الشعب الإيراني لم تكن إلا استفتاء على التجربة الإسلامية الإيرانية الرائدة التي تحرك العقول والنفوس في توقها الى الإبداع والاجتهاد وتفجير الطاقات الكامنة لدى الفرد المسلم.

واللافت في هذه الانتخابات أنها أفسحت في المجال لمن هو خارج إطار رجال الدين أن يتبوّء سدة الرئاسة، وما ذلك إلا لأن السلطة والحكم في إيران الإسلامية هو للدين وليس لرجال الدين بالمعنى الذي يستوحي تجربة الغرب عندما كانت الكنيسة ورجالاتها يتحكّمون بمصائر الناس ويحجبون عنهم معاني الحياة ونور الإله.

ولأن المجتمع الإيراني الذي حرره الدين من الجهل والتخلف والتردد يعرف أن أفق الدين وآلياته تسمحان له بإفراز النخب الجديدة، وصنع الرجال لمواصلة العمل في تحسين النظام وتطويره بما يضمن تحقيق أعلى مستوى من العدالة الاجتماعية والاقتصادية، وما يتطلع اليه الفرد المسلم من اكتفاء مادي، واستقرار روحي، وأمان اجتماعي، إثباتاً أن ليس هناك عائق أمام المسلمين في ترجمة أهداف السماء على الأرض.

بالطبع لا يزال ينتظر الإيرانيون الكثير، فحاجات الشعب المتزايدة، وتنظيم العلاقات السياسية والارتباطات الاقتصادية، وتعزيز الحماية الاجتماعية بما يكفل استقرار الأسر والعائلات التي تمحض بمعظمها الولاء للنظام الإسلامي، وتدفعه الى مزيد من الفاعلية والانفتاح لمواجهة مشاكل وتطلعات الأجيال الصاعدة.

إنّ مقوّمات النظام السياسي الإسلامي في ايران ما تزال متينة وهي تزداد يوماً بعد آخر قوةً بفعل احتضان الجماهير وقبولها بالمبادئ التي انطلقت منها الثورة الإسلامية، وأنّ ما يُحكى عن قرب انهيار النظام يدلّ على قصور في فهم التجربة الإسلامية في الحكم.
إن ما يحصل اليوم في الجمهورية الإسلامية من مخاضات وجدليات حيّة وفعّالة هي استجابة حقيقية لشروط هذا المجتمع وثقافته،حيث يؤكد التنوع والتعدّد، ويجاهد في إظهار الإسلام كرؤيا جديدة في حركة الفكر السياسي العالمي في اتجاهها نحو بناء حضارة إنسانية تتجلّى فيها معاني السماء وأهداف الأنبياء على الأرض.