فاطمي
06-29-2005, 08:47 AM
فهمي هويدي
الخليج الاماراتية
برقية الشكر التي لم ترسل من طهران بعد فوز المحافظين في الانتخابات الرئاسية، كانت تلك التي يفترض أن يتلقاها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة من نظرائهم في إيران، معبرين فيها عن تقديرهم وامتنانهم للمساندة الفعالة التي قدموها لهم، وأسهمت في تحقيق انتصارهم الذي فاجأ الجميع.
(1)
أرجو ألا أكون بحاجة إلى القول إن “المساندة” التي ادعيها تمت عن غير قصد، وما خطرت على بال المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، كما أنبه إلى أنني حين أشرت إلى تلك المساندة قلت إنها “أسهمت” في المفاجأة ولم تصنعها بالكلية. لأنني احسب أن ثمة أسباباً عدة أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، سآتي على ذكرها حالاً. وإذ أسجل أنني أحد الذين رجحوا احتمال فوز الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، وهونوا من شأن منافسه في الجولة الثانية رئيس البلدية المغمور احمدي نجاد، كما أقر بأنني لست سعيداً بالمفاجأة التي وقعت، إلا أنني أسجل في الوقت ذاته أن “المفاجأة” في أحد أوجهها تحسب لصالح الانتخابات لا عليها. لان حيادية الانتخابات ونزاهتها تقاس بمعايير عدة، بينها أن نتائجها لا تعرف إلا بعد انتهاء التصويت وتمام عملية الفرز. وربما كان أهل العالم الثالث اكثر الناس حساسية إزاء هذه النقطة، لكثرة الانتخابات التي تجري في بلادهم وتكون نتائجها معروفة سلفاً. ولذلك فإنهم يدهشون حين تفاجئهم الانتخابات بما لم يكن معلوماً. ولم يألفوا بعد تلك الانتخابات التي تنحي أهل السلطة عن مقاعدهم، أو تلك التي يهزم فيها أي رئيس، حتى وإن كان “سابقاً” مثل رفسنجاني. حيث علمتهم خبرات السنين أن الانتخابات في نهاية المطاف إن هي إلا تجديد بيعة للموجود، وليست سبيلاً إلى تداول السلطة معه.
نعم، فوجئت بالنتيجة، لكنني أفهمها ولم أستغربها لماذا؟
من متابعة المشهد الانتخابي وجدت أن ثمة أسباباً داخلية وأخرى خارجية كان لها تأثيرها الذي صنع المفاجأة، في مقدمة الأسباب الداخلية ما يلي:
أن احمدي نجاد قدم نفسه باعتباره ممثلاً للفقراء والمحرومين (الذين يعيشون تحت حد الفقر في إيران يبلغ عددهم حسب تقديرات البنك المركزي 18 مليون شخص)، الأمر الذي حول المعركة في الإدراك العام من كونها بين الإصلاحيين والمحافظين، إلى اعتبارها صراعاً بين الفقراء المستضعفين من ناحية، والأغنياء المستكبرين من ناحية ثانية. وقد أجاد الرجل أداء ذلك الدور، ساعده في ذلك جسده النحيل وهيئته المتواضعة المتسقة مع الصورة التي أراد رسمها لنفسه، ثم سلوكياته البسيطة ومواقفه المختلفة. وهو الذي صرح أثناء حملته الانتخابية بأن الجماهير يجب أن يكون لها نصيبها من أموال النفط ينعكس على حياتهم اليومية، وقال ان جميع المسؤولين ينبغي أن يعلنوا عن ثرواتهم وثروات أفراد أسرهم. قال أيضاً انه إذا انتخب رئيساً فسيقطع أيدي مراكز القوى التي تستأثر بالثروة في إيران. كما يذكر له انه انتقد الرئيس محمد خاتمي حين جاء متأخراً إلى حفل إهدائه الدكتوراه الفخرية من جامعة طهران، واعتذر عن ذلك قائلاً إن حركة المرور في شوارع طهران هي التي عوقت وصوله. وهو ما علق عليه احمدي نجاد (الذي حضر الاجتماع باعتباره رئيس بلدية العاصمة) قائلاً إن السبب الرئيسي لتأخير وصول السيد خاتمي انه نقل مكتبه من قلب المدينة إلى شمالها، حيث توجد القصور الرئاسية. ولو انه ظل في مكانه الأصلي لأدرك حقيقة معاناة الناس. ثم أضاف: أنا سعيد لأن السيد خاتمي تأخر عن موعده بسبب حركة المرور، لأنه بذلك شعر ولو مرة واحدة خلال ثماني سنوات من رئاسته بمشاكل الشعب، واكتشف حقيقة أزمة المرور بالعاصمة.
(2)
صبيحة اليوم الذي أعلنت فيه النتائج سألني مندوب لوكالة الأنباء الفرنسية في القاهرة قائلاً: ألا ترى في النتيجة صفعة للولايات المتحدة؟ لفت انتباهي التقاط الفرنسيين لتلك الإشارة، ورددت على السؤال بالإيجاب، قائلاً إن احمدي نجاد إذا كان قد قدم نفسه باعتباره صوت المستضعفين والمحرومين، فانه يظل في الوقت ذاته تعبيراً عن التحدي الإيراني على ممارسات الهيمنة والعربدة الأمريكية في المنطقة.
كنت قد كتبت تحليلاً لفوز المحافظين في الانتخابات التشريعية نشرته مجلة “وجهات نظر” (عدد مارس/آذار 2004) قلت فيه إن الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، وتأييد واشنطن للسياسة “الإسرائيلية” القمعية والوحشية في فلسطين، والضغوط القوية التي مورست على إيران بسبب برنامجها النووي ورفضها الانصياع للسياسة الأمريكية، هذه الملابسات أثارت غضب واستياء الشعوب العربية والإسلامية عامة والشعب الإيراني بوجه أخص. وهو ما تجلى في استطلاعات الرأي العام التي أكدت ارتفاع نسبة الكراهية للسياسة الأمريكية بين تلك الشعوب (وفي أوروبا أيضاً). ولان الإيرانيين اصبحوا بين الذين استشعروا التهديد والخطر، اقله بسبب وجود 150 ألف جندي أمريكي على حدود بلادهم في العراق، فمن الطبيعي أن يثير ذلك لديهم شعور التحدي، وان يكون ردهم هو التحفظ والمقاومة. إذ إن هذا أوان الاحتماء بالتشدد في مواجهة السياسة الأمريكية، وليس التماهي معها. إن شئت فقل إنه أوان الاعتصام بالتخندق وليس الجلوس حول طاولة المفاوضات، وأوان الانقباض وليس الانبساط.
في أجواء من هذا القبيل يبدو الاعتدال ترفاً لا محل له، ويغدو الحوار مع الآخر (الذي يترجم عادة إلى حوار مع الولايات المتحدة والغرب بعامة) صيحة في البرية لا تجد منصتاً لها، وثرثرة مثقفين ليس لها صدى لدى الجماهير المستفزة والغاضبة.
(3)
التطرف الأمريكي حين وصل إلى الحدود الإيرانية، رد عليه الإيرانيون بتطرف مماثل. وإذا ارتضت السياسة الأمريكية أن ترفع سقف التطلعات بمحاولة بسط هيمنتها على العالم، واللجوء إلى تهديد غير الممتثلين بالضربات الاستباقية، فينبغي ألا نستغرب أن يرد الآخرون على ذلك برفع سقف المواجهة، وإشهار سلاح المقاومة والتحدي. تلك إحدى أهم المعادلات التي ينبغي استخلاصها من المشهد الانتخابي الإيراني.
(4)
الفائز الأول في المعركة الانتخابية هو السيد علي خامنئي مرشد الجمهورية، الذي تمكنه النتيجة من أن يهدأ بالاً، للمرة الأولى منذ توليه منصبه في عام ،89 مطمئناً إلى أن الأمر استقام له. وأن بوسعه الآن أن يقيم جمهوريته الخاصة، دون أن ينازعه في ذلك أحد كيف ولماذا؟
لأنه منذ بداية الثورة لم يتمكن من تحقيق ما يريد. فقد كان عضواً بمجلس قيادة الثورة، ولم يكن له تأثيره. وحين صار رئيساً للجمهورية في عهد الإمام الخميني فإنه كان واقعاً تحت تأثيره، كما أن معظم الصلاحيات كانت بيد رئيس الوزراء طبقاً للدستور السابق. الأمر الذي يعني انه كان رئيساً “بروتوكولياً” في حقيقة الأمر. ثم انه منذ عين مرشداً صادف اثنين من الرؤساء، أولهما الشيخ هاشمي رفسنجاني، الذي كان شريكاً بقوة شخصيته وطول تجربته، وثانيهما السيد محمد خاتمي الذي كان مغايراً في المزاج والتوجه، بحكم نزعته الإصلاحية. والاثنان كانا اقرب إلى أنداده، ولم يكونا من رجاله أو اتباعه. ورغم أن قبضته على السلطة ظلت قوية، بحكم الصلاحيات الواسعة التي يكفلها له الدستور، إلا أنها لم تكن كاملة، لأنه كانت هناك بصمات أخرى إلى جواره.
الآن باتت بصمته وحيدة في هيمنتها على المشهد، لأن احمدي نجاد رئيس الجمهورية من “أبنائه” وتابعيه، ورئيس البرلمان حداد عادل لا يختلف عنه كثيراً، فضلاً عن أنه صهر له. كما أن أغلبية أعضاء مجلس الشورى من المحافظين الموالين، أما السلطة القضائية التي يرأسها آية الله محمود شهرودي فهي في عباءته منذ جاء. وإذا أضفنا إلى ذلك سيطرة المحافظين على أهم المؤسسات الاقتصادية في الدولة، فسندرك أن الأمر استقام تماماً للسيد خامنئي. وان إيران خلال السنوات الثماني القادمة سوف تشهد انسجاماً واستقراراً في السلطة وخطابها، لم تعرفه منذ وفاة الإمام الخميني عام 1989.
ماذا عن السياسات؟
لأن المرشد كان صاحب كلمة في السياسة الخارجية، فليس متوقعاً أن تشهد تلك الساحة تحولات جوهرية، باستثناء احتمال تشدد لهجة الخطاب في التعامل مع الولايات المتحدة والغرب، خصوصاً في ما يتعلق بالملف النووي. في استعادة غير مستبعدة للغة المرحلة الخمينية. وهي الفترة التي شهدت إعلاء شأن القضية الفلسطينية ومساندة لسوريا وحزب الله اللبناني، الأمر الذي يرجح أن يكون له صداه في المرحلة المقبلة.
داخلياً، ينتظر أن تكون التحولات الكبرى، خصوصاً على صعيد التركيز على محاربة الفساد وتوزيع الثروة ونهج الانحياز إلى الفقراء. ذلك أن تصريحات نجاد بشأن هذه الملفات أحدثت قلقاً في الأوساط الاقتصادية، تحديداً في دوائر “البازار” (السوق) التي تخشى من العودة إلى نظام التعاونيات وسياسة الاقتصاد الموجه. وقال لي من حدثتهم من الخبراء الإيرانيين إن اسهم بورصة طهران هبطت 15 نقطة خلال الأربع والعشرين ساعة التي أعقبت إعلان فوز نجاد. وكان ذلك تعبيراً عن التخوف من توجهاته الاقتصادية.
الخليج الاماراتية
برقية الشكر التي لم ترسل من طهران بعد فوز المحافظين في الانتخابات الرئاسية، كانت تلك التي يفترض أن يتلقاها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة من نظرائهم في إيران، معبرين فيها عن تقديرهم وامتنانهم للمساندة الفعالة التي قدموها لهم، وأسهمت في تحقيق انتصارهم الذي فاجأ الجميع.
(1)
أرجو ألا أكون بحاجة إلى القول إن “المساندة” التي ادعيها تمت عن غير قصد، وما خطرت على بال المحافظين الجدد في الولايات المتحدة، كما أنبه إلى أنني حين أشرت إلى تلك المساندة قلت إنها “أسهمت” في المفاجأة ولم تصنعها بالكلية. لأنني احسب أن ثمة أسباباً عدة أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، سآتي على ذكرها حالاً. وإذ أسجل أنني أحد الذين رجحوا احتمال فوز الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني، وهونوا من شأن منافسه في الجولة الثانية رئيس البلدية المغمور احمدي نجاد، كما أقر بأنني لست سعيداً بالمفاجأة التي وقعت، إلا أنني أسجل في الوقت ذاته أن “المفاجأة” في أحد أوجهها تحسب لصالح الانتخابات لا عليها. لان حيادية الانتخابات ونزاهتها تقاس بمعايير عدة، بينها أن نتائجها لا تعرف إلا بعد انتهاء التصويت وتمام عملية الفرز. وربما كان أهل العالم الثالث اكثر الناس حساسية إزاء هذه النقطة، لكثرة الانتخابات التي تجري في بلادهم وتكون نتائجها معروفة سلفاً. ولذلك فإنهم يدهشون حين تفاجئهم الانتخابات بما لم يكن معلوماً. ولم يألفوا بعد تلك الانتخابات التي تنحي أهل السلطة عن مقاعدهم، أو تلك التي يهزم فيها أي رئيس، حتى وإن كان “سابقاً” مثل رفسنجاني. حيث علمتهم خبرات السنين أن الانتخابات في نهاية المطاف إن هي إلا تجديد بيعة للموجود، وليست سبيلاً إلى تداول السلطة معه.
نعم، فوجئت بالنتيجة، لكنني أفهمها ولم أستغربها لماذا؟
من متابعة المشهد الانتخابي وجدت أن ثمة أسباباً داخلية وأخرى خارجية كان لها تأثيرها الذي صنع المفاجأة، في مقدمة الأسباب الداخلية ما يلي:
أن احمدي نجاد قدم نفسه باعتباره ممثلاً للفقراء والمحرومين (الذين يعيشون تحت حد الفقر في إيران يبلغ عددهم حسب تقديرات البنك المركزي 18 مليون شخص)، الأمر الذي حول المعركة في الإدراك العام من كونها بين الإصلاحيين والمحافظين، إلى اعتبارها صراعاً بين الفقراء المستضعفين من ناحية، والأغنياء المستكبرين من ناحية ثانية. وقد أجاد الرجل أداء ذلك الدور، ساعده في ذلك جسده النحيل وهيئته المتواضعة المتسقة مع الصورة التي أراد رسمها لنفسه، ثم سلوكياته البسيطة ومواقفه المختلفة. وهو الذي صرح أثناء حملته الانتخابية بأن الجماهير يجب أن يكون لها نصيبها من أموال النفط ينعكس على حياتهم اليومية، وقال ان جميع المسؤولين ينبغي أن يعلنوا عن ثرواتهم وثروات أفراد أسرهم. قال أيضاً انه إذا انتخب رئيساً فسيقطع أيدي مراكز القوى التي تستأثر بالثروة في إيران. كما يذكر له انه انتقد الرئيس محمد خاتمي حين جاء متأخراً إلى حفل إهدائه الدكتوراه الفخرية من جامعة طهران، واعتذر عن ذلك قائلاً إن حركة المرور في شوارع طهران هي التي عوقت وصوله. وهو ما علق عليه احمدي نجاد (الذي حضر الاجتماع باعتباره رئيس بلدية العاصمة) قائلاً إن السبب الرئيسي لتأخير وصول السيد خاتمي انه نقل مكتبه من قلب المدينة إلى شمالها، حيث توجد القصور الرئاسية. ولو انه ظل في مكانه الأصلي لأدرك حقيقة معاناة الناس. ثم أضاف: أنا سعيد لأن السيد خاتمي تأخر عن موعده بسبب حركة المرور، لأنه بذلك شعر ولو مرة واحدة خلال ثماني سنوات من رئاسته بمشاكل الشعب، واكتشف حقيقة أزمة المرور بالعاصمة.
(2)
صبيحة اليوم الذي أعلنت فيه النتائج سألني مندوب لوكالة الأنباء الفرنسية في القاهرة قائلاً: ألا ترى في النتيجة صفعة للولايات المتحدة؟ لفت انتباهي التقاط الفرنسيين لتلك الإشارة، ورددت على السؤال بالإيجاب، قائلاً إن احمدي نجاد إذا كان قد قدم نفسه باعتباره صوت المستضعفين والمحرومين، فانه يظل في الوقت ذاته تعبيراً عن التحدي الإيراني على ممارسات الهيمنة والعربدة الأمريكية في المنطقة.
كنت قد كتبت تحليلاً لفوز المحافظين في الانتخابات التشريعية نشرته مجلة “وجهات نظر” (عدد مارس/آذار 2004) قلت فيه إن الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان، وتأييد واشنطن للسياسة “الإسرائيلية” القمعية والوحشية في فلسطين، والضغوط القوية التي مورست على إيران بسبب برنامجها النووي ورفضها الانصياع للسياسة الأمريكية، هذه الملابسات أثارت غضب واستياء الشعوب العربية والإسلامية عامة والشعب الإيراني بوجه أخص. وهو ما تجلى في استطلاعات الرأي العام التي أكدت ارتفاع نسبة الكراهية للسياسة الأمريكية بين تلك الشعوب (وفي أوروبا أيضاً). ولان الإيرانيين اصبحوا بين الذين استشعروا التهديد والخطر، اقله بسبب وجود 150 ألف جندي أمريكي على حدود بلادهم في العراق، فمن الطبيعي أن يثير ذلك لديهم شعور التحدي، وان يكون ردهم هو التحفظ والمقاومة. إذ إن هذا أوان الاحتماء بالتشدد في مواجهة السياسة الأمريكية، وليس التماهي معها. إن شئت فقل إنه أوان الاعتصام بالتخندق وليس الجلوس حول طاولة المفاوضات، وأوان الانقباض وليس الانبساط.
في أجواء من هذا القبيل يبدو الاعتدال ترفاً لا محل له، ويغدو الحوار مع الآخر (الذي يترجم عادة إلى حوار مع الولايات المتحدة والغرب بعامة) صيحة في البرية لا تجد منصتاً لها، وثرثرة مثقفين ليس لها صدى لدى الجماهير المستفزة والغاضبة.
(3)
التطرف الأمريكي حين وصل إلى الحدود الإيرانية، رد عليه الإيرانيون بتطرف مماثل. وإذا ارتضت السياسة الأمريكية أن ترفع سقف التطلعات بمحاولة بسط هيمنتها على العالم، واللجوء إلى تهديد غير الممتثلين بالضربات الاستباقية، فينبغي ألا نستغرب أن يرد الآخرون على ذلك برفع سقف المواجهة، وإشهار سلاح المقاومة والتحدي. تلك إحدى أهم المعادلات التي ينبغي استخلاصها من المشهد الانتخابي الإيراني.
(4)
الفائز الأول في المعركة الانتخابية هو السيد علي خامنئي مرشد الجمهورية، الذي تمكنه النتيجة من أن يهدأ بالاً، للمرة الأولى منذ توليه منصبه في عام ،89 مطمئناً إلى أن الأمر استقام له. وأن بوسعه الآن أن يقيم جمهوريته الخاصة، دون أن ينازعه في ذلك أحد كيف ولماذا؟
لأنه منذ بداية الثورة لم يتمكن من تحقيق ما يريد. فقد كان عضواً بمجلس قيادة الثورة، ولم يكن له تأثيره. وحين صار رئيساً للجمهورية في عهد الإمام الخميني فإنه كان واقعاً تحت تأثيره، كما أن معظم الصلاحيات كانت بيد رئيس الوزراء طبقاً للدستور السابق. الأمر الذي يعني انه كان رئيساً “بروتوكولياً” في حقيقة الأمر. ثم انه منذ عين مرشداً صادف اثنين من الرؤساء، أولهما الشيخ هاشمي رفسنجاني، الذي كان شريكاً بقوة شخصيته وطول تجربته، وثانيهما السيد محمد خاتمي الذي كان مغايراً في المزاج والتوجه، بحكم نزعته الإصلاحية. والاثنان كانا اقرب إلى أنداده، ولم يكونا من رجاله أو اتباعه. ورغم أن قبضته على السلطة ظلت قوية، بحكم الصلاحيات الواسعة التي يكفلها له الدستور، إلا أنها لم تكن كاملة، لأنه كانت هناك بصمات أخرى إلى جواره.
الآن باتت بصمته وحيدة في هيمنتها على المشهد، لأن احمدي نجاد رئيس الجمهورية من “أبنائه” وتابعيه، ورئيس البرلمان حداد عادل لا يختلف عنه كثيراً، فضلاً عن أنه صهر له. كما أن أغلبية أعضاء مجلس الشورى من المحافظين الموالين، أما السلطة القضائية التي يرأسها آية الله محمود شهرودي فهي في عباءته منذ جاء. وإذا أضفنا إلى ذلك سيطرة المحافظين على أهم المؤسسات الاقتصادية في الدولة، فسندرك أن الأمر استقام تماماً للسيد خامنئي. وان إيران خلال السنوات الثماني القادمة سوف تشهد انسجاماً واستقراراً في السلطة وخطابها، لم تعرفه منذ وفاة الإمام الخميني عام 1989.
ماذا عن السياسات؟
لأن المرشد كان صاحب كلمة في السياسة الخارجية، فليس متوقعاً أن تشهد تلك الساحة تحولات جوهرية، باستثناء احتمال تشدد لهجة الخطاب في التعامل مع الولايات المتحدة والغرب، خصوصاً في ما يتعلق بالملف النووي. في استعادة غير مستبعدة للغة المرحلة الخمينية. وهي الفترة التي شهدت إعلاء شأن القضية الفلسطينية ومساندة لسوريا وحزب الله اللبناني، الأمر الذي يرجح أن يكون له صداه في المرحلة المقبلة.
داخلياً، ينتظر أن تكون التحولات الكبرى، خصوصاً على صعيد التركيز على محاربة الفساد وتوزيع الثروة ونهج الانحياز إلى الفقراء. ذلك أن تصريحات نجاد بشأن هذه الملفات أحدثت قلقاً في الأوساط الاقتصادية، تحديداً في دوائر “البازار” (السوق) التي تخشى من العودة إلى نظام التعاونيات وسياسة الاقتصاد الموجه. وقال لي من حدثتهم من الخبراء الإيرانيين إن اسهم بورصة طهران هبطت 15 نقطة خلال الأربع والعشرين ساعة التي أعقبت إعلان فوز نجاد. وكان ذلك تعبيراً عن التخوف من توجهاته الاقتصادية.