السلام
06-26-2005, 12:46 AM
وصلنا هذا المقال بالبريد الإلكترونى من الدكتور موسى الحسينى ويطلب فيها نشر المقال
الدكتور موسى الحسيني
كاتب عراقي
نقصد بالدولة العراقية الحديثة ، العراق بوضعه الجغرافي الحالي ، ومنذ تشكيل الدولة العراقية في بداية العشرينات من القرن الماضي ، وخروجه من النفوذ التركي – العثماني .
راجت أو روجت بعض الاحزاب المتاسلمة – الشيعية لفكرة مظلومية الشيعة ، والمتتبع لظهور هذه الفكرة سيجد انها تعود بحلتها الجديدة الى مرحلة ما بعد حرب الكويت ، حيث بدأ المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق يغير من شعاراته ، وتوجهاته متماشياً مع أطروحات النظام الدولي الجديد ثم العولمة .
فبعد ان كان يطرح فكرة الحكومة الاسلامية على الطريقة التي نادى بها السيد الخميني ، بدأ بعد حرب الكويت بالتنازل عن فكرة الحكومة الاسلامية ، وكان لابد له ان يبحث عن مبررات جديدة تضمن لمؤسسه والمنتفعين به الحفاظ على نفس الامتيازات ، ونفس الطموحات . ويبدو انهم وجدوا ضالتهم بتبني فكرة مظلومية الشيعة .
وما يفهم من هذه المظلومية ،هو أن الشيعة تعرضوا الى ظلم واضح يتجلى من خلال ابعادهم عن الحكم . ولايخفى ما بين الشعارين – الحكومة الاسلامية مقابل مظلومية الشيعة - من فوارق كبيرة ، فبعد أن كانت فكرة الحكومة الاسلامية تعني تطبيق الشريعة الاسلامية وفقاً لمذهب آل البيت ، تمشياً مع فكرة الحكومة الاسلامية التي طرحها الخميني ، والتي تخول المرجع الديني الشيعي في أن يحكم الامة ، ويطبق احكام الشريعة بالنيابة عن الامام الغائب .
تتضمن فكرة الحكومة الاسلامية عند المجلس ربط العراق بالتبعية الى ايران ، ومنح المشرع الايراني حق التشريع ، وسن القوانين . تلك الفكرة التي وان لم تعلنها قيادة المجلس ، وهو محكوم بقيادة عائلة ( آل الحكيم ) ، الا أن المتتبع لمفهوم ولاية الفقيه العامة ، يدرك ذلك جيداً لانه لم يكن في المجلس من بلغ درجة الاجتهاد او المرجعية ليكون بموقع الحاكم الشرعي ، حتى السيد المرحوم باقر الحكيم ، ورغم الترويج لفكرة انه بلغ مرحلة الاجتهاد ، الا انه ظل من مقلدي - تابعي –السيد الخميني ، ثم السيد خامئني من بعده ، وهذا يعني وحسب مفهوم التقليد الشيعي ، ان السيد محمد باقر الحكيم ملزم باتباع كل ما يشرعه المجتهد الاعلى او الفقيه الايراني ، سواءً اكان الخميني او خامئني او من ياتي بعدهما .وهو ملزم بحكم نظام المرجعية والتقليد باستشارة الفقيه – الولي بكل ما يتخذه من احكام .
تجلت هذه التبعية بوضوح عندما اراد السيد محمد باقر الحكيم فتح باب العلاقة بالاميركان ، فبرر موقفه هذا ممن كان يسميه بالشيطان الاكبر ، في انه أخذ اجازة او موافقة ولي أمر المسلمين على أقامة هكذا علاقة . واعتبر ذلك بحكم القرار النهائي ، او التبرير القاطع بصحة موقفه .
أن تنازل السيد الحكيم عن مشروع الدولة الاسلامية وولاية الفقيه ، يعني أنه الغى بذلك مبررات وجود المجلس الذي تشكل على اساس الرغبة والعمل من اجل تطبيق الشريعة الاسلامية في العراق . رغم أنه أصبح بذلك اكثر قبولا من قبل القوى العالمية والاقليمية . فكان شعار مظلومية الشيعة هو الترياق المنقذ . وتحول المجلس بذلك من حزب او حركة اسلامية ترفض ظاهريا ، على الاقل ، الانحياز الطائفي ، الى تجمع طائفي بدون أية أهداف دينية أو أسلامية ، فالتخلي عن مفهوم الدولة الاسلامية ، يعني ايضاً القبول بالمشاركة في الحكم بغض النظر عن قربه او ابتعاده عن الشريعة الاسلامية ، شرط التخلص من ما سمي بمظلومية الشيعة ، أي الحصول على اكبر عدد ممكن من المقاعد الوزارية للشيعة
هناك فارق اخر بين الشعارين ، اذا كان شعار الحكومة الاسلامية يكرس التبعية لايران من خلال الاقرار بولاية الفقيه العامة ، فالمظلومية تتضمن فكرة تقسيم العراق وتفتيته ، الامر الذي يحقق لايران الكثير من طموحاتها وتطلعاتها السياسية في رؤية عراق مقسم ودول مجاورة ضعيفة ، وستكون حصة ايران هي الاكبر من النتائج المترتبة على فكرة التقسيم هذه . الجنوب الغني من العراق . فدولة شيعية كهذه تظل اضعف من ان تحمي نفسها من دول الجوار الاخرى ، واقل قدرة من ان تتمكن من تحقيق اي شكل من اشكال النمو والتنمية ، اي ستسقط وحدها بدون جهد في السلة الايرانية .
نحن هنا نستقرأ الوقائع على الارض بغض النظر عما يقدمه المجلس من تبريرات لاعضائه من كون هذه الاطروحات هي مجرد تكتيكات تتطلبها المرحلة ، وخطوة اولى بأتجاه السيطرة الكلية على الحكم ، وتطبيق الشريعة الاسلامية فيما بعد .
ظل التنظيم الاسلامي – الشيعي الاخر ، حزب الدعوة اكثر حذراً في طرح مفهوم " مظلومية الشيعة " الا أنه خفف شيئاً فشيئاً من أعلان عدائه للشيطان الاكبر – اميركا والغرب - ، رغم أنه وبعد خروج الشيخ مهدي الآصفي من الحزب ، لجأ لتبني مرجعية السيد محمد حسين فضل الله ، المعروفة بأنها واحداة من المرجعيات العربية الشيعة الاكثر عداءًً لاميركا . الا أن هناك من يؤشر على علاقة سرية قديمة نشأت بين أحد الاطراف من الحزب وبعض المؤسسات الاستخباراتية الاميركية منذ منتصف الثمانينات عندما اكتشفت الاف .بي . آي . وجود شخص متخصص بتزوير الجوازات على اراضيها تبين فيما بعد بأنه يمارس هذا التزوير لصالح حزب الدعوة ، ولم يخلى سبيله الا بعد فترة أشهر على أرضية أتفاق ما تحقق بين الطرفين ، وهناك من يعتقد أن الحزب أفتعل بعض الخلافات مع أحد قياداته ، وتظاهر بطرده ليعطي نفسه حرية الاستمرار في هذه العلاقة دون أن يلزم نفسه ظاهرياً بها (1). كما يؤشر الدكتور هيثم الناهي في كتابه " خيانة النص " على علاقة قديمة بين السيد محمد باقر الحكيم وبعض المؤسسات الرسمية الاميركية منذ عام 1960 .
(2)
الا أن حزب الدعوة ظل والى حد قريب من غزو العراق في آذار 2003 ، ظل متمسكاً ، ظاهرياً على الاقل بفكرة أقامة الحكومة الاسلامية او النظام الاسلامي ، ولم يتبنى شعار المظلومية الا في مرحلة متاخرة ، مع بداية أنعقاد مؤتمر المعارضة العراقية في لندن في أواخر عام 2002 ، وأتضاح النوايا الاميركية لغزو العراق . بدأ الحزب عندها يروج بين أعضائه وكوادرة فكرة أن عدم اللحاق " بالقطار الاميركي " ، قد يؤدي الى تكرار المشكلة نفسها ، أي أتفاق السنة مع الاميركان هذه المرة للسيطرة على الحكم . ويبدو أن الغاية من الترويج لهذه الفكرة هي تهيئة الحزب للقبول بالأتفاق مع من كانوا يعرفونه ب " الشيطان الاكبر " من اجل الخلاص من " الشيطان الاصغر " ، كما كانوا يسمون صدام حسين .
مظلومية الشيعة :
تكلمنا عن مظلومية الشيعة ، الا أن الحديث ظل غامضاً حول هذه المظلومية . يفسر بعض الموالين للاحزاب الدينية هذه المظلومية ، على أن مصدرها كان اتفاق تم بين المندوب السامي البريطاني في العراق في بداية العشرينات ، السير بيرسي كوكس ، وعبد الرحمن النقيب ، احد علماء السنة ، على اساس تسليم الحكم في العراق للسنة شرط ابعاد الشيعة ، وحرمانهم من حقوقهم . والمشاركة بالحكم بما يتناسب مع حجمهم السكاني . أنتقاماً منهم بسبب دورهم الفعال في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني ، ومساهمتهم قبل ذلك في حركة الجهاد التي واجهت القوات البريطانية في البصرة عام 1914 .
وقصة هذا الاتفاق قامت على أساس فرضية أو تصور طرحه عالم الاجتماع العراقي المعروف الدكتور علي الوردي ، ليفسر فيه كيف ولماذا وافق عبد الرحمن النقيب على قبول تولي رئاسة او وزارة عراقية مع انه معروف بالزهد ، وسبق له ان رفض الفكرة ، ويعتقد الوردي ، ربما ان كوكس حاول ان يلعب على أوتار الطائفية ، وتخويف عبد الرحمن النقيب من أن يسلم الحكم للضباط الشريفيين أو للشيعة . فوافق وهو المعروف عنه نزعته البرجوازية والطائفية .
(3)
الملاحظ أن الترويج لهذه الفكرة بدأ يظهر تماماً بعد ظهور المشروع الذي قدمه اثنان من الجنرالات الاسرائيلين ، شارون وايتان ، الذي طرحاه كحل لضمان أمن اسرائيل ، بتقسيم الدول العربية الكبيرة المجاورة لاسرائيل الى دول صغيرة على اساس طائفي وديني ، حصة العراق منها ثلاث دول : سنية ، وشيعية وكردية . لذلك نجد جذور الحديث عن مظلومية الشيعة في كتابات بعض الاكاديميين الاميركان من أصل عراقي ، خاصةً اليهود منهم . مثل اسحق نقاش ، حنا بطاطو وغيرهم .
كما اسهم بعض الكتاب الشيعة من اصول غير عربية في الترويج لها . واغرب ما في الامر ان اول من كتب عن هذه الفكرة ، شيعيا من اصول هندية كان قد انقلب حديثا على التسنن بعد ان تحول اليه ارضاء او طمعا في الحصول على مناصب كبيرة في ظل نظام صدام – البكر . وكان هذا الكاتب الاكثر عداءً للشيعية والوحيد الذي تجرأ على شتم الشيعة واتهام اهل النجف بانهم اولاد زانية بعد احداث شباط 1977 ، وكتب كتابا ينسب فيه التشيع للمجوسية . هؤلاء كانوا الاباء الاوائل لشعار مظلومية الشيعة ، الذي وجد صداه عند رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق .
يهود صهاينة أو شيعة من اصول غير عربية لم يترددوا في أن ينقلبوا على الشيعة امام أي امتياز يحصلون او يتطلعون للحصول عليه .
(4) ، الا انه وبعد حرب الكويت انبرى الكثيرون ممن يبحثون عن مكاسب شخصية او بدفع من بعض الحكومات العربية او الاجنبية للرويج للفكرة، بل اعطاءها طابعا شعوبيا ، الحقد على العرب ظاهرا فيه من خلال محاولاتهم اقتلاع العرب الشيعة من جذورهم وانتماءاتهم العربية ، والايحاء وكان المذهب الشيعي يتناقض مع العروبة .اي لعبت الاموال الكويتية دورها في دفع البعض من المشكوك في عروبتهم وعراقيتهم بل وحتى اصولهم ، يتنططون بين الحسينيات الموجودة في لندن كالقردة متباكين على مظلومية الشيعة .
لكن الفكرة – مظلومية الشيعة - وبقليل من التدقيق لاتصمد امام النقاش الموضوعي المفرغ من الشحنات العاطفية او تلك المغرضة .فكوكس كان قد زار المرجع الشيعي الاعلى السيد كاظم اليزدي قبل أن يزور النقيب ، الا أن اليزدي رفض الفكرة (4 ) . أي أن كوكس لم يكن محكوم فعلاً بكره الشيعة أو العداء لهم . وكل الدلائل الاخرى تؤكد أن الشيعة أبتعدوا باختيارهم ولم يبعدوا بمؤامرة . وأذا كان هناك ثمة مؤامرة ، فمصدرها رجال الدين والعلماء الشيعة انفسهم ، وليس هناك من طرف أخر غيرهم .
مراجع الشيعة كمصدر لمظلومية الشيعة :
يعتمد رجال الدين الشيعة وعلماؤهم ومراجعهم في عيشهم على الهبات ، واموال الحقوق والخمس والزكاة التي يقدمها الميسورين من الشيعة . ونعتقد أن هذا الأعتماد سيشكل هاجس خوف دائم عندهم من احتمال خسرانه لسبب أو أخر ، لذلك يمكن ان نلمس في سلوكهم نزوع دائم لعزل شيعة العراق عن الدولة العراقية وبكل الطرق الممكنة . منها على سبيل المثال موقف السيد اليزدي ، مار الذكر اعلاه ، ثم مواقف من تلاه من المراجع . اللذين رفضوا دعوة الملك فيصل في المساهمة في تشكيل الوزارة في المراحل الاولى من توليه السلطة .
كان السيد عبد الرحمن النقيب ما زال رئيساً للوزراء عندما تم تتويج فيصل بن الحسين ملكاً على العراق . وكان الملك يميل لتشكيل وزارة وطنية تخضع لقيادته اكثر من خضوعها للانكليز ، كما هو حال عبد الرحمن النقيب . فطلب من الشيخ عبد الواحد سكر الذهاب للنجف لحث المراجع والعلماء الشيعة على تولي تشكيل الوزارة الجديدة للتخلص من نفوذ النقيب ، الخاضع بدوره لنفوذ الانكليز . الا ان العلماء واجهوا دعوة الملك وعبد الواحد سكر بالاستهجان والرفض ، الى الحد الذي أحرج الحاج سكر ، لم يعد الحاج الى الملك بل بعث له رسالة مجاملة يبلغه فيها رفض او اعتذار العلماء عن المشاركة في الحكم .
لم يتوقف جهد المراجع عند حد رفض المشاركة او المساهمة في تشكيل الوزارة ، بل تعدت جهودهم ذلك الى حد انهم حرموا التو ظف والعمل في دوائر الدولة ، كما حرموا التعامل مع بعض مؤسساتها مثل البنوك والمصارف العامة والمحاكم الشرعية ، باعتبار انها دولة غير اسلامية ، وأن أمولها التي تقدمها كرواتب هي اموال محرمة لانها مجباة بالاصل من ضرائب غير شرعية خاصة تلك التي تستوفى كضرائب من أماكن اللهو ، والمكوس على الخمر .كما حرموا الدخول في مدارس الدولة ، وهي المفتاح للعمل في مؤسساتها المختلفة ، بأعتبار انها تعلم العلوم الغير شرعية التي يمكن ان تؤثر على ايمان الطفل وتبعده عن دينه . وظلت بعض هذه التحريمات قائمة وسارية المفعول الى نهايات الخمسينات واواسط الستينات من القرن المنصرم، بعد ان خرج الامر عن طوع المراجع وتوجه الشباب من الشيعة نحو الوظائف الحكومية غير ابهين بتلك الفتاوى ، فتم تجاوز تحريم الراتب بحيلة شرعية باعتبار ان هذه الاموال مجهولة المالك ، بما يعني جواز أستلام الراتب الشهري .
ويبدو ان بعض المراجع لايريد أن يمرر هذه الفرصة بدون الاستفاده منها بالمطالبة بتطهير هذه الاموال او الرواتب المستلمة من الحكومة ، من خلال تقديم الحقوق الشرعية منها للمراجع .
نعنقد أن اعتماد رجال الدين والمراجع على الهبات العامة من أنصارهم ومؤيديهم لم يكن هو العامل الوحيد الذي يقف وراء محاولة عزل الشيعة عن دولتهم ، بل هوية المراجع الشيعية التي كانت في الغالب تنحدر من اصول ايرانية ، وهي اما أنها تعكس سياسة عامة متفق عليها لاستلاب شيعة العراق من هويتهم العربية ، أو أنها تعود الى عامل سيكولوجي خاص يعود لحالة الشعور بالغربة من قبل المرجع في بيئة بعيدة عن بيئته ، فيمضي لاشعورياً وراء عملية العزل هذه في أندفاعة لا شعورية للامتزاج بما حوله تخلصاً من مشاعر الغربة هذه . ويحقق لهم السيطرة على ابناء الطائفة ، والاستقواء بهم على الحكومة .
الدكتور موسى الحسيني
كاتب عراقي
نقصد بالدولة العراقية الحديثة ، العراق بوضعه الجغرافي الحالي ، ومنذ تشكيل الدولة العراقية في بداية العشرينات من القرن الماضي ، وخروجه من النفوذ التركي – العثماني .
راجت أو روجت بعض الاحزاب المتاسلمة – الشيعية لفكرة مظلومية الشيعة ، والمتتبع لظهور هذه الفكرة سيجد انها تعود بحلتها الجديدة الى مرحلة ما بعد حرب الكويت ، حيث بدأ المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق يغير من شعاراته ، وتوجهاته متماشياً مع أطروحات النظام الدولي الجديد ثم العولمة .
فبعد ان كان يطرح فكرة الحكومة الاسلامية على الطريقة التي نادى بها السيد الخميني ، بدأ بعد حرب الكويت بالتنازل عن فكرة الحكومة الاسلامية ، وكان لابد له ان يبحث عن مبررات جديدة تضمن لمؤسسه والمنتفعين به الحفاظ على نفس الامتيازات ، ونفس الطموحات . ويبدو انهم وجدوا ضالتهم بتبني فكرة مظلومية الشيعة .
وما يفهم من هذه المظلومية ،هو أن الشيعة تعرضوا الى ظلم واضح يتجلى من خلال ابعادهم عن الحكم . ولايخفى ما بين الشعارين – الحكومة الاسلامية مقابل مظلومية الشيعة - من فوارق كبيرة ، فبعد أن كانت فكرة الحكومة الاسلامية تعني تطبيق الشريعة الاسلامية وفقاً لمذهب آل البيت ، تمشياً مع فكرة الحكومة الاسلامية التي طرحها الخميني ، والتي تخول المرجع الديني الشيعي في أن يحكم الامة ، ويطبق احكام الشريعة بالنيابة عن الامام الغائب .
تتضمن فكرة الحكومة الاسلامية عند المجلس ربط العراق بالتبعية الى ايران ، ومنح المشرع الايراني حق التشريع ، وسن القوانين . تلك الفكرة التي وان لم تعلنها قيادة المجلس ، وهو محكوم بقيادة عائلة ( آل الحكيم ) ، الا أن المتتبع لمفهوم ولاية الفقيه العامة ، يدرك ذلك جيداً لانه لم يكن في المجلس من بلغ درجة الاجتهاد او المرجعية ليكون بموقع الحاكم الشرعي ، حتى السيد المرحوم باقر الحكيم ، ورغم الترويج لفكرة انه بلغ مرحلة الاجتهاد ، الا انه ظل من مقلدي - تابعي –السيد الخميني ، ثم السيد خامئني من بعده ، وهذا يعني وحسب مفهوم التقليد الشيعي ، ان السيد محمد باقر الحكيم ملزم باتباع كل ما يشرعه المجتهد الاعلى او الفقيه الايراني ، سواءً اكان الخميني او خامئني او من ياتي بعدهما .وهو ملزم بحكم نظام المرجعية والتقليد باستشارة الفقيه – الولي بكل ما يتخذه من احكام .
تجلت هذه التبعية بوضوح عندما اراد السيد محمد باقر الحكيم فتح باب العلاقة بالاميركان ، فبرر موقفه هذا ممن كان يسميه بالشيطان الاكبر ، في انه أخذ اجازة او موافقة ولي أمر المسلمين على أقامة هكذا علاقة . واعتبر ذلك بحكم القرار النهائي ، او التبرير القاطع بصحة موقفه .
أن تنازل السيد الحكيم عن مشروع الدولة الاسلامية وولاية الفقيه ، يعني أنه الغى بذلك مبررات وجود المجلس الذي تشكل على اساس الرغبة والعمل من اجل تطبيق الشريعة الاسلامية في العراق . رغم أنه أصبح بذلك اكثر قبولا من قبل القوى العالمية والاقليمية . فكان شعار مظلومية الشيعة هو الترياق المنقذ . وتحول المجلس بذلك من حزب او حركة اسلامية ترفض ظاهريا ، على الاقل ، الانحياز الطائفي ، الى تجمع طائفي بدون أية أهداف دينية أو أسلامية ، فالتخلي عن مفهوم الدولة الاسلامية ، يعني ايضاً القبول بالمشاركة في الحكم بغض النظر عن قربه او ابتعاده عن الشريعة الاسلامية ، شرط التخلص من ما سمي بمظلومية الشيعة ، أي الحصول على اكبر عدد ممكن من المقاعد الوزارية للشيعة
هناك فارق اخر بين الشعارين ، اذا كان شعار الحكومة الاسلامية يكرس التبعية لايران من خلال الاقرار بولاية الفقيه العامة ، فالمظلومية تتضمن فكرة تقسيم العراق وتفتيته ، الامر الذي يحقق لايران الكثير من طموحاتها وتطلعاتها السياسية في رؤية عراق مقسم ودول مجاورة ضعيفة ، وستكون حصة ايران هي الاكبر من النتائج المترتبة على فكرة التقسيم هذه . الجنوب الغني من العراق . فدولة شيعية كهذه تظل اضعف من ان تحمي نفسها من دول الجوار الاخرى ، واقل قدرة من ان تتمكن من تحقيق اي شكل من اشكال النمو والتنمية ، اي ستسقط وحدها بدون جهد في السلة الايرانية .
نحن هنا نستقرأ الوقائع على الارض بغض النظر عما يقدمه المجلس من تبريرات لاعضائه من كون هذه الاطروحات هي مجرد تكتيكات تتطلبها المرحلة ، وخطوة اولى بأتجاه السيطرة الكلية على الحكم ، وتطبيق الشريعة الاسلامية فيما بعد .
ظل التنظيم الاسلامي – الشيعي الاخر ، حزب الدعوة اكثر حذراً في طرح مفهوم " مظلومية الشيعة " الا أنه خفف شيئاً فشيئاً من أعلان عدائه للشيطان الاكبر – اميركا والغرب - ، رغم أنه وبعد خروج الشيخ مهدي الآصفي من الحزب ، لجأ لتبني مرجعية السيد محمد حسين فضل الله ، المعروفة بأنها واحداة من المرجعيات العربية الشيعة الاكثر عداءًً لاميركا . الا أن هناك من يؤشر على علاقة سرية قديمة نشأت بين أحد الاطراف من الحزب وبعض المؤسسات الاستخباراتية الاميركية منذ منتصف الثمانينات عندما اكتشفت الاف .بي . آي . وجود شخص متخصص بتزوير الجوازات على اراضيها تبين فيما بعد بأنه يمارس هذا التزوير لصالح حزب الدعوة ، ولم يخلى سبيله الا بعد فترة أشهر على أرضية أتفاق ما تحقق بين الطرفين ، وهناك من يعتقد أن الحزب أفتعل بعض الخلافات مع أحد قياداته ، وتظاهر بطرده ليعطي نفسه حرية الاستمرار في هذه العلاقة دون أن يلزم نفسه ظاهرياً بها (1). كما يؤشر الدكتور هيثم الناهي في كتابه " خيانة النص " على علاقة قديمة بين السيد محمد باقر الحكيم وبعض المؤسسات الرسمية الاميركية منذ عام 1960 .
(2)
الا أن حزب الدعوة ظل والى حد قريب من غزو العراق في آذار 2003 ، ظل متمسكاً ، ظاهرياً على الاقل بفكرة أقامة الحكومة الاسلامية او النظام الاسلامي ، ولم يتبنى شعار المظلومية الا في مرحلة متاخرة ، مع بداية أنعقاد مؤتمر المعارضة العراقية في لندن في أواخر عام 2002 ، وأتضاح النوايا الاميركية لغزو العراق . بدأ الحزب عندها يروج بين أعضائه وكوادرة فكرة أن عدم اللحاق " بالقطار الاميركي " ، قد يؤدي الى تكرار المشكلة نفسها ، أي أتفاق السنة مع الاميركان هذه المرة للسيطرة على الحكم . ويبدو أن الغاية من الترويج لهذه الفكرة هي تهيئة الحزب للقبول بالأتفاق مع من كانوا يعرفونه ب " الشيطان الاكبر " من اجل الخلاص من " الشيطان الاصغر " ، كما كانوا يسمون صدام حسين .
مظلومية الشيعة :
تكلمنا عن مظلومية الشيعة ، الا أن الحديث ظل غامضاً حول هذه المظلومية . يفسر بعض الموالين للاحزاب الدينية هذه المظلومية ، على أن مصدرها كان اتفاق تم بين المندوب السامي البريطاني في العراق في بداية العشرينات ، السير بيرسي كوكس ، وعبد الرحمن النقيب ، احد علماء السنة ، على اساس تسليم الحكم في العراق للسنة شرط ابعاد الشيعة ، وحرمانهم من حقوقهم . والمشاركة بالحكم بما يتناسب مع حجمهم السكاني . أنتقاماً منهم بسبب دورهم الفعال في ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني ، ومساهمتهم قبل ذلك في حركة الجهاد التي واجهت القوات البريطانية في البصرة عام 1914 .
وقصة هذا الاتفاق قامت على أساس فرضية أو تصور طرحه عالم الاجتماع العراقي المعروف الدكتور علي الوردي ، ليفسر فيه كيف ولماذا وافق عبد الرحمن النقيب على قبول تولي رئاسة او وزارة عراقية مع انه معروف بالزهد ، وسبق له ان رفض الفكرة ، ويعتقد الوردي ، ربما ان كوكس حاول ان يلعب على أوتار الطائفية ، وتخويف عبد الرحمن النقيب من أن يسلم الحكم للضباط الشريفيين أو للشيعة . فوافق وهو المعروف عنه نزعته البرجوازية والطائفية .
(3)
الملاحظ أن الترويج لهذه الفكرة بدأ يظهر تماماً بعد ظهور المشروع الذي قدمه اثنان من الجنرالات الاسرائيلين ، شارون وايتان ، الذي طرحاه كحل لضمان أمن اسرائيل ، بتقسيم الدول العربية الكبيرة المجاورة لاسرائيل الى دول صغيرة على اساس طائفي وديني ، حصة العراق منها ثلاث دول : سنية ، وشيعية وكردية . لذلك نجد جذور الحديث عن مظلومية الشيعة في كتابات بعض الاكاديميين الاميركان من أصل عراقي ، خاصةً اليهود منهم . مثل اسحق نقاش ، حنا بطاطو وغيرهم .
كما اسهم بعض الكتاب الشيعة من اصول غير عربية في الترويج لها . واغرب ما في الامر ان اول من كتب عن هذه الفكرة ، شيعيا من اصول هندية كان قد انقلب حديثا على التسنن بعد ان تحول اليه ارضاء او طمعا في الحصول على مناصب كبيرة في ظل نظام صدام – البكر . وكان هذا الكاتب الاكثر عداءً للشيعية والوحيد الذي تجرأ على شتم الشيعة واتهام اهل النجف بانهم اولاد زانية بعد احداث شباط 1977 ، وكتب كتابا ينسب فيه التشيع للمجوسية . هؤلاء كانوا الاباء الاوائل لشعار مظلومية الشيعة ، الذي وجد صداه عند رئيس المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق .
يهود صهاينة أو شيعة من اصول غير عربية لم يترددوا في أن ينقلبوا على الشيعة امام أي امتياز يحصلون او يتطلعون للحصول عليه .
(4) ، الا انه وبعد حرب الكويت انبرى الكثيرون ممن يبحثون عن مكاسب شخصية او بدفع من بعض الحكومات العربية او الاجنبية للرويج للفكرة، بل اعطاءها طابعا شعوبيا ، الحقد على العرب ظاهرا فيه من خلال محاولاتهم اقتلاع العرب الشيعة من جذورهم وانتماءاتهم العربية ، والايحاء وكان المذهب الشيعي يتناقض مع العروبة .اي لعبت الاموال الكويتية دورها في دفع البعض من المشكوك في عروبتهم وعراقيتهم بل وحتى اصولهم ، يتنططون بين الحسينيات الموجودة في لندن كالقردة متباكين على مظلومية الشيعة .
لكن الفكرة – مظلومية الشيعة - وبقليل من التدقيق لاتصمد امام النقاش الموضوعي المفرغ من الشحنات العاطفية او تلك المغرضة .فكوكس كان قد زار المرجع الشيعي الاعلى السيد كاظم اليزدي قبل أن يزور النقيب ، الا أن اليزدي رفض الفكرة (4 ) . أي أن كوكس لم يكن محكوم فعلاً بكره الشيعة أو العداء لهم . وكل الدلائل الاخرى تؤكد أن الشيعة أبتعدوا باختيارهم ولم يبعدوا بمؤامرة . وأذا كان هناك ثمة مؤامرة ، فمصدرها رجال الدين والعلماء الشيعة انفسهم ، وليس هناك من طرف أخر غيرهم .
مراجع الشيعة كمصدر لمظلومية الشيعة :
يعتمد رجال الدين الشيعة وعلماؤهم ومراجعهم في عيشهم على الهبات ، واموال الحقوق والخمس والزكاة التي يقدمها الميسورين من الشيعة . ونعتقد أن هذا الأعتماد سيشكل هاجس خوف دائم عندهم من احتمال خسرانه لسبب أو أخر ، لذلك يمكن ان نلمس في سلوكهم نزوع دائم لعزل شيعة العراق عن الدولة العراقية وبكل الطرق الممكنة . منها على سبيل المثال موقف السيد اليزدي ، مار الذكر اعلاه ، ثم مواقف من تلاه من المراجع . اللذين رفضوا دعوة الملك فيصل في المساهمة في تشكيل الوزارة في المراحل الاولى من توليه السلطة .
كان السيد عبد الرحمن النقيب ما زال رئيساً للوزراء عندما تم تتويج فيصل بن الحسين ملكاً على العراق . وكان الملك يميل لتشكيل وزارة وطنية تخضع لقيادته اكثر من خضوعها للانكليز ، كما هو حال عبد الرحمن النقيب . فطلب من الشيخ عبد الواحد سكر الذهاب للنجف لحث المراجع والعلماء الشيعة على تولي تشكيل الوزارة الجديدة للتخلص من نفوذ النقيب ، الخاضع بدوره لنفوذ الانكليز . الا ان العلماء واجهوا دعوة الملك وعبد الواحد سكر بالاستهجان والرفض ، الى الحد الذي أحرج الحاج سكر ، لم يعد الحاج الى الملك بل بعث له رسالة مجاملة يبلغه فيها رفض او اعتذار العلماء عن المشاركة في الحكم .
لم يتوقف جهد المراجع عند حد رفض المشاركة او المساهمة في تشكيل الوزارة ، بل تعدت جهودهم ذلك الى حد انهم حرموا التو ظف والعمل في دوائر الدولة ، كما حرموا التعامل مع بعض مؤسساتها مثل البنوك والمصارف العامة والمحاكم الشرعية ، باعتبار انها دولة غير اسلامية ، وأن أمولها التي تقدمها كرواتب هي اموال محرمة لانها مجباة بالاصل من ضرائب غير شرعية خاصة تلك التي تستوفى كضرائب من أماكن اللهو ، والمكوس على الخمر .كما حرموا الدخول في مدارس الدولة ، وهي المفتاح للعمل في مؤسساتها المختلفة ، بأعتبار انها تعلم العلوم الغير شرعية التي يمكن ان تؤثر على ايمان الطفل وتبعده عن دينه . وظلت بعض هذه التحريمات قائمة وسارية المفعول الى نهايات الخمسينات واواسط الستينات من القرن المنصرم، بعد ان خرج الامر عن طوع المراجع وتوجه الشباب من الشيعة نحو الوظائف الحكومية غير ابهين بتلك الفتاوى ، فتم تجاوز تحريم الراتب بحيلة شرعية باعتبار ان هذه الاموال مجهولة المالك ، بما يعني جواز أستلام الراتب الشهري .
ويبدو ان بعض المراجع لايريد أن يمرر هذه الفرصة بدون الاستفاده منها بالمطالبة بتطهير هذه الاموال او الرواتب المستلمة من الحكومة ، من خلال تقديم الحقوق الشرعية منها للمراجع .
نعنقد أن اعتماد رجال الدين والمراجع على الهبات العامة من أنصارهم ومؤيديهم لم يكن هو العامل الوحيد الذي يقف وراء محاولة عزل الشيعة عن دولتهم ، بل هوية المراجع الشيعية التي كانت في الغالب تنحدر من اصول ايرانية ، وهي اما أنها تعكس سياسة عامة متفق عليها لاستلاب شيعة العراق من هويتهم العربية ، أو أنها تعود الى عامل سيكولوجي خاص يعود لحالة الشعور بالغربة من قبل المرجع في بيئة بعيدة عن بيئته ، فيمضي لاشعورياً وراء عملية العزل هذه في أندفاعة لا شعورية للامتزاج بما حوله تخلصاً من مشاعر الغربة هذه . ويحقق لهم السيطرة على ابناء الطائفة ، والاستقواء بهم على الحكومة .