المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العنف الطائفي ..............المحامي خالد حسين الشطي



دشتى
06-24-2005, 12:16 AM
الطائفية داء استحكم في العراق منذ تأسيسه. فقد ولد هذا البلد ونشأ وترعرع حتى كبر، وفي قرار مؤسسيه ووجدانهم أن الطائفة التي قاومت الاستعمار البريطاني، ودافعت عن الخلافة الاسلامية والسلطة العثمانية وبقائها في العراق، لا تستحق أن تقود عراق ما بعد الاستعمار، ولا ان يكون لها حصة في ادارة العراق المستقل، ويجب ان تقصى وان كانت الاكثرية، وان تهمش وان ضمت في جنباتها من ابنائها افضل الكفاءات وأعظم الرجالات. (ولن أعود لما قبل ذلك من العهود العثمانية والعباسية والاموية، حتى عهد الخلافة الراشدة).

هذه حقيقة لا ينكرها الا من لاحظ له من الموضوعية والحياد والامانة العلمية..
ولهذه الطائفية مظاهرها المعروفة والمشهودة، التي لا نريد استعراضها، فهي لا تخفى على احد، ونحن جيران هذا البلد ولنا امتدادات اجتماعية ودينية تجعلنا لصيقين به بشكل تفصيلي.
وعلى الرغم من الويلات التي تجرها الطائفية علـى اي مجتمع تدخله، الا ان العراقيين كانوا قد تأقلموا واستطاعوا ان يدوسوا على الجراح ويتعايشوا فيما بينهم، وان لم تسعفنا الحقيقة ويسمح لنا الواقع لنطلق على ذلك التعايش انه كان بمحبة ووئام وتواد وتراحم، فالقدر المتيقن انه كان في عمومه بأمان وسلام.

فأقصى ما كان يخشاه الشيعي من جاره السني وأسوأ ما كان ينتظره، ان يسلقه بتقرير أمني يلقيه في غيابة السجون، فكان يحذر ان يستفزه او يأتي على ما يفسح لهذا الجار، او لزميله في العمل، ان يسجل عليه زلة لسان ينال فيها من السلطة او سقطة او عثرة تتقاطع مع مصالح هذا الجار وذاك الزميل فكأنه اختلق لنفسه المشاكل وألقى بها في التهلكة، فعليه ألا يلومن الا نفسه!

وكانت الحياة تمضي بمرها وحلوها الذي لم يعرف له العراقي طعما طيلة الثلاثين عاما الماضية، حيث كانت وتيرة هذا التعاطي الطائفي الساخن في تزايد مطرد، وصار يتخذ اشكالا مستحدثة لم تكن حتى في الدولة العارفية فضلا عن الملكية وناهيك بالقاسمية.
ولكن لم يخطر في مخيلة الشيعي يوما ولا حدثته نفسه مرة أن جاره أو زميله السني يمكن ان يفجر المسجد الذي يؤمه للصلاة بجموع المصلين! أو أن يتسلل الى الحسينية التي يقصدها ليقيم شعائره المذهبية في محرم (اول للصلاة في غير محرم، فما كل المناطق كان يسمح فيها ببناء مساجد للشيعة، فصارت حسينياتهم مساجدهم!) متمنطقا بحزام ناسف ليدمرها فيها، او ان يتطاول على مرقد أمير المؤمنين في النجف الأشرف او العتبات المقدسة في كربلاء! ولا سيطر عليه هاجس ان حاجزا طيارا سينزل الشيعة من سيارات الاجرة وينحرهم كالخراف! فان شطح الفكر وغربت المخيلة، فما كانت لتبلغ ان انتحاريا قد يقتحم سرادقا أقامه لاستقبال المهنئين بزفاف ابنه! هذا العنف، وهذا النمط من التعاطي الطائفي هو من صنيعة صدام..

صدام هو الذي اسس المدرسة التكفيرية التي لم يكن لها وجود في العراق، هو الذي منحها تراخيص لمدارسها، وهو الذي أفسح لأنشطتها الفكرية والثقافية التي غذت هذا الفكر وروجت، هو الذي بسط لها فراش جمع وتأمين الموارد المالية سواء من داخل العراق او خارجه، بل هو الذي نسق وربط وجهز ودرب عناصر هذه الجماعات التكفيرية، واستقدم الزرقاوي عبر الحديدي، وربط شبكات البعث وفدائيي صدام بالقاعدة والجماعات التكفيرية.
وبعد الاداء القبلي واذكاء النزعة العشائرية والعودة بالدولة الى العصر البدوي، فان هذه النقلة النوعية في التعاطي الطائفي تنذر بالقضاء على البقية الباقية من دولة العراق، وتهدد بحرب اهلية تنتهي لا محالة بتقسيمه.. لولا الموقف الحكيم والقدرة الجبارة التي اظهرها السيستاني في ضبط النفس والامتناع عن الرد والإحجام عن الانتقام، ذلك حين اصدر فتواه وحدد الحكم الشرعي الذي حرم اية عملية ثأرية، فلا يجوز القتل الا للقاتل نفسه دون اهله أو عشيرته، او أبناء مذهبه، بل ذهب الى ابعد من ذلك حين أوكل حتى القصاص واجرائه (في حال تحديد القاتل وتعيينه) للدولة وأجهزتها الامنية والقضائية، في خطوة تعني الكثير على صعيد ترسيخ الدولة والنظام، خاصة في هذا الظرف العصيب.

ينقل لي احد الاخوة العراقيين انه اضاع الطريق بين بغداد والنجف الأشرف في منطقة اللطيفية، وهي منطقة شيعية زراعية تشكل ممرا إجباريا لزوار العتبات المقدسة، نزحت اليها بعض العشائر السنية من المنطقة الشمالية في أواخر السبعينات بتوجيه مباشر من النظام، فاستوطنت هناك ونهضت بدور أمني هام في الوشاية بالزوار وملاحقتهم.

أضاع صاحبنا الطريق حتى أدركه الغروب، فعلم ان التحرك عاد مجازفة لا طائل له من ورائها، فراح يبحث عن مأوى، فلاحت له أنوار توجه اليها، فاستقبله اهل الحي بالترحاب وأنزلوه ومن معه ضيوفا مكرمين.. وبعد فترة وجيزة اذن المؤذن للصلاة فقاموا يتهيأون، وهنا قرب منهم رب المنزل وأسر لهم: انني اعلم انكم شيعة، وانكم في طريق زيارة الحسين، ولكني أطلب اليكم ان تؤدوا صلاتكم مع ابنائي هؤلاء وصحبهم وصلوا مثلهم، اذ انهم لو علموا حالكم لما تركوكم الا جثثا بلا رؤوس!

هذا ما فعله صدام: الأب المغلوب على أمره سني لم يتخل عن مذهبه، ولكنه ينبذ العنف، ويرفض الغدر، ويأبى التكفير.. اما الابناء وبقية اهل الحي، فانهم ربائب صدام وصنائعه.

ومما ينبغي ملاحظته والانتباه اليه ان طائفية التكفيريين لا تتوجه الى الشيعة فحسب، بل هي ضد كل من خالفهم وصنف ـ وفقا لقواعدهم ـ مبتدعا او مارقا، وهذا ينال الصوفية في باكستان، قد شهدنا عملية أودت بزوار احد المراقد، كما ينال السنة في افغانستان وقد فجر انتحاري نفسه في مسجد سني بحت (لا صوفي ولا شيعي) كان يقيم فيه المسلمون صلاة الجنازة على روح احد ضحايا الطالبان، ويعم كذلك رجال الامن في الكويت وفي السعودية، وقد شهدنا استخفافهم بالدماء وعبثهم الذي اودى بثلة من خيرة شباب ورجال البلدين، من رجال الامن، إذاً القضية ليست طائفية بالمعنى الذي قد يتصوره البعض، فالدائرة ستدور وتتسع حتى تشمل كل من ليس معهم، كائنا من كان، من أي مذهب كان.

الأعجب من هذا وذاك، ان يلتقى المنهجان في الخطاب الثقافي المستجد الذي صرنا نلاحظه في كتابات بعض التكفيريين، من الغمز بالقومية والتحرك على خلفية قبلية، فهل هذا من الصدف ام انه الوقود الفكري والخلفية العلمية التي تمد العنف وتسوغ له بالأدوات التي تلتقي صدام، وتسدد له بعض دينه في أعناقها وترد له بعض معروفه عليها؟!