فاتن
06-19-2005, 08:43 AM
محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
النظرة إلى أدبياتنا التراثية نظرة تبجيل وإكبار واحترام خلقَ لدينا حساسية مفرطة نحو أي قراءة ناقدة لها، بغض النظر عن موضوعيتها من عدمها. لذلك فالعقلية العربية تعتبرُ أن أي قراءة نقدية لأي نص ثقافي، أو قضية فكرية، هي ضربٌ (بالضرورة) من ضروب الهجاء و الشتم. ولأن الثقافة العربية لا تحفلُ بالنقد قدر احتفائها بالمدح والثناء، تأخرت أو انعدمت على الأصح ظاهرة النقد الموضوعي، الذي هو الدافع الأول والمحرض الرئيس على التقدم والتطور والإبداع في تاريخ الحضارات، وأصبح النقد عند العرب محصوراً في (الشتم) وإبراز المثالب والعيوب، والتعامل مع الموضوع من منطلقات عاطفية أو كيدية بعيدة كل البعد عن العدل والعلمية والحيادية والنظرة المتوازنة لجوانب الموضوع.
ورغم احتكاك الثقافة العربية في العصر الحديث بالآداب والثقافات العالمية الأخرى، الأرقى من الناحية الحضارية، ظلّت هذه الثقافة ـ للأسف ـ تعلك عيوبها، وتجترُ طعامها، وتدور حولَ قديمها وكلاسيكياتها، لا تكادُ تبرح تلك التقاليد البالية المهترئة قيد أنملة، والسبب في تقديري غياب النقد
ولعل موقفنا (العدائي) من أدبيات (الاستشراق) التي تناولَت الكثير من علومنا وآدابنا بالنقد والتمحيص والتشريح العلمي يعودُ إلى أننا ـ تقليدياً ـ نرى أن (النقد) و(الهجاء) وجهان لعملة واحدة. لذلك كنا نتعامل مع الفكر النقدي الإستشراقي على أنه طرحٌ هجائي، تماماً مثلما كنا نتعامل مع الشعراء الهجّـائين في تراثنا القديم.
ومن زاوية أخرى يمكن القول ـ أيضاً ـ أن غياب (النقد) هو الذي مهدَ لترسيخ أحد التقاليد الأدبية العربية (الوضيعة) لدينا، والذي هو (أدب الهجاء). هذا الأدب الذي لا يمتُ للأخلاق ناهيك عن (الإنسانية) بأي صلة، ما كان له أن يجدَ كل هذه المكانة (الرفيعة) في الأدب العربي القديم، وكذلك المعاصر، لو أن النقد بمقاييسه الأخلاقية، أو الإنسانية، كان معياراً موضوعياً للقبول أو الرفض داخل البنية الثقافية العربية. فرغم دناءة هذا النوع من الأدب وانحطاطه ولا أخلاقيته حضارياً، مازالَ القوم يحتفلون به، ويكبرون أساطينه، ويعتبرونه من أساسيات أغراض (الأدب) العربي، الذي يجبُ المحافظة عليها. ولا أظن أن تاريخنا عرفَ إنساناً وضيعاً حقيراً مفلساً أخلاقياً مثل (الحطيئة) الشاعر، أو شعراء النقائض الثلاثة في العصر الأموي مثلاً. وأنا هنا لا أتحدث عن الجانب (التاريخي) العلمي للموضوع، وإنما أتحدث تحديداً عن الجانب الأخلاقي.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن ما يعرفُ بـ (الصحافة الصفراء)، التي عرفها تاريخ الصحافة العربية المعاصرة، و التي ازدهرت، وعلا شأنها، وارتفعَ صوتها، وبالذات في لندن، وفي ردهات مواخيرها، خلال حقبة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كانت بشكل أو بآخر تعتبرُ امتداداً (لثقافة الهجاء) العريقة في الأدب العربي، والتي ورثها العرب، وبالذات عرب الشمال، وحولوها من (الشفهية) التي كان الشعرُ مجرد وسيلة حفظ لها، إلى (الكتابة) عن طريق (الصحافة الصفراء).
فمثلما كانت قصائد الهجاء وسيلة (ابتزاز) في العصور العربية القديمة، حوّلَ العربُ (القوميون) هذه الثقافة الوضيعة إلى إعلام مسموع ومقروء، و مرئي مؤخراً، ووسيلة دنيئة للإبتزاز السياسي والتشهير والشتم والسب. وكان للناصرية على وجه التحديد قصب السبق (تاريخياً) في هذا المضمار من بين الحركات القومية العربية، حينما كانت استوديوهات إذاعة (صوت العرب)، وغيرها من الصحف (الناصرية) في القاهرة وبيروت تمارس هذا العهر الثقافي الإعلامي على رؤوس الأشهاد. وبسقوط الناصرية بعد هزيمة 67، ومن ثم غياب (بيروت) من عالم الإعلام العربي بسبب الحرب الأهلية، تشظت هذه الثقافة، وتفرقت، وهاجرت مع الصحافة العربية إلى بلاد الغرب، واتخذت من لندن على وجه التحديد مقراً لها، وما تزال هناك تتقيأ تخلفاً وأحقاداً ودناءة حتى يومنا هذا.
وختاماً لا بد من القول أن هذه الظاهرة، أعني ظاهرة (غياب النقد) في مقابل تجذر (ثقافة الهجاء) والشتم في أدبيات العرب، كان قد تعرض لها عددٌ من الكتاب العرب التنويريين رغم قلتهم، مثل الدكتور طه حسين، وكذلك الدكتور علي الوردي الذي كان في تقديري إحدى الإضاءات (النقدية) الهامة في الثقافة العربية المعاصرة. فالدكتور الوردي يُعيد في كتابه (أسطورة الأدب الرفيع) مثل هذه الظواهر التي لا تفرق بين النقد والشتم إلى تخلف المجتمعات وبدائيتها، يقول في نص غني الدلالة : ( فالفرد البدائي لا يفهم النزاع المبدئي، ولا يستسيغه. فإذا (خطأته) في رأي ظن أنك (تشتمه).
وهو يعد الخلاف في الرأي تفكيكاً لعرى الجماعة التي ينتمي إليها. فأنت إما أن تكون معه في جميع الآراء أو تكون عدوه اللدود، وليس بينك وبينه إلا الخنجر ). ولا يحتاج ما يقوله هذا الألمعي في رأيي إلى أي تعليق.
النظرة إلى أدبياتنا التراثية نظرة تبجيل وإكبار واحترام خلقَ لدينا حساسية مفرطة نحو أي قراءة ناقدة لها، بغض النظر عن موضوعيتها من عدمها. لذلك فالعقلية العربية تعتبرُ أن أي قراءة نقدية لأي نص ثقافي، أو قضية فكرية، هي ضربٌ (بالضرورة) من ضروب الهجاء و الشتم. ولأن الثقافة العربية لا تحفلُ بالنقد قدر احتفائها بالمدح والثناء، تأخرت أو انعدمت على الأصح ظاهرة النقد الموضوعي، الذي هو الدافع الأول والمحرض الرئيس على التقدم والتطور والإبداع في تاريخ الحضارات، وأصبح النقد عند العرب محصوراً في (الشتم) وإبراز المثالب والعيوب، والتعامل مع الموضوع من منطلقات عاطفية أو كيدية بعيدة كل البعد عن العدل والعلمية والحيادية والنظرة المتوازنة لجوانب الموضوع.
ورغم احتكاك الثقافة العربية في العصر الحديث بالآداب والثقافات العالمية الأخرى، الأرقى من الناحية الحضارية، ظلّت هذه الثقافة ـ للأسف ـ تعلك عيوبها، وتجترُ طعامها، وتدور حولَ قديمها وكلاسيكياتها، لا تكادُ تبرح تلك التقاليد البالية المهترئة قيد أنملة، والسبب في تقديري غياب النقد
ولعل موقفنا (العدائي) من أدبيات (الاستشراق) التي تناولَت الكثير من علومنا وآدابنا بالنقد والتمحيص والتشريح العلمي يعودُ إلى أننا ـ تقليدياً ـ نرى أن (النقد) و(الهجاء) وجهان لعملة واحدة. لذلك كنا نتعامل مع الفكر النقدي الإستشراقي على أنه طرحٌ هجائي، تماماً مثلما كنا نتعامل مع الشعراء الهجّـائين في تراثنا القديم.
ومن زاوية أخرى يمكن القول ـ أيضاً ـ أن غياب (النقد) هو الذي مهدَ لترسيخ أحد التقاليد الأدبية العربية (الوضيعة) لدينا، والذي هو (أدب الهجاء). هذا الأدب الذي لا يمتُ للأخلاق ناهيك عن (الإنسانية) بأي صلة، ما كان له أن يجدَ كل هذه المكانة (الرفيعة) في الأدب العربي القديم، وكذلك المعاصر، لو أن النقد بمقاييسه الأخلاقية، أو الإنسانية، كان معياراً موضوعياً للقبول أو الرفض داخل البنية الثقافية العربية. فرغم دناءة هذا النوع من الأدب وانحطاطه ولا أخلاقيته حضارياً، مازالَ القوم يحتفلون به، ويكبرون أساطينه، ويعتبرونه من أساسيات أغراض (الأدب) العربي، الذي يجبُ المحافظة عليها. ولا أظن أن تاريخنا عرفَ إنساناً وضيعاً حقيراً مفلساً أخلاقياً مثل (الحطيئة) الشاعر، أو شعراء النقائض الثلاثة في العصر الأموي مثلاً. وأنا هنا لا أتحدث عن الجانب (التاريخي) العلمي للموضوع، وإنما أتحدث تحديداً عن الجانب الأخلاقي.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر فإن ما يعرفُ بـ (الصحافة الصفراء)، التي عرفها تاريخ الصحافة العربية المعاصرة، و التي ازدهرت، وعلا شأنها، وارتفعَ صوتها، وبالذات في لندن، وفي ردهات مواخيرها، خلال حقبة الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، كانت بشكل أو بآخر تعتبرُ امتداداً (لثقافة الهجاء) العريقة في الأدب العربي، والتي ورثها العرب، وبالذات عرب الشمال، وحولوها من (الشفهية) التي كان الشعرُ مجرد وسيلة حفظ لها، إلى (الكتابة) عن طريق (الصحافة الصفراء).
فمثلما كانت قصائد الهجاء وسيلة (ابتزاز) في العصور العربية القديمة، حوّلَ العربُ (القوميون) هذه الثقافة الوضيعة إلى إعلام مسموع ومقروء، و مرئي مؤخراً، ووسيلة دنيئة للإبتزاز السياسي والتشهير والشتم والسب. وكان للناصرية على وجه التحديد قصب السبق (تاريخياً) في هذا المضمار من بين الحركات القومية العربية، حينما كانت استوديوهات إذاعة (صوت العرب)، وغيرها من الصحف (الناصرية) في القاهرة وبيروت تمارس هذا العهر الثقافي الإعلامي على رؤوس الأشهاد. وبسقوط الناصرية بعد هزيمة 67، ومن ثم غياب (بيروت) من عالم الإعلام العربي بسبب الحرب الأهلية، تشظت هذه الثقافة، وتفرقت، وهاجرت مع الصحافة العربية إلى بلاد الغرب، واتخذت من لندن على وجه التحديد مقراً لها، وما تزال هناك تتقيأ تخلفاً وأحقاداً ودناءة حتى يومنا هذا.
وختاماً لا بد من القول أن هذه الظاهرة، أعني ظاهرة (غياب النقد) في مقابل تجذر (ثقافة الهجاء) والشتم في أدبيات العرب، كان قد تعرض لها عددٌ من الكتاب العرب التنويريين رغم قلتهم، مثل الدكتور طه حسين، وكذلك الدكتور علي الوردي الذي كان في تقديري إحدى الإضاءات (النقدية) الهامة في الثقافة العربية المعاصرة. فالدكتور الوردي يُعيد في كتابه (أسطورة الأدب الرفيع) مثل هذه الظواهر التي لا تفرق بين النقد والشتم إلى تخلف المجتمعات وبدائيتها، يقول في نص غني الدلالة : ( فالفرد البدائي لا يفهم النزاع المبدئي، ولا يستسيغه. فإذا (خطأته) في رأي ظن أنك (تشتمه).
وهو يعد الخلاف في الرأي تفكيكاً لعرى الجماعة التي ينتمي إليها. فأنت إما أن تكون معه في جميع الآراء أو تكون عدوه اللدود، وليس بينك وبينه إلا الخنجر ). ولا يحتاج ما يقوله هذا الألمعي في رأيي إلى أي تعليق.