سمير
06-18-2005, 12:53 PM
عام على مصرع فتى الدم... ومنظم عمليات المحيا والخبر
لندن: مشاري الذايدي
عبد العزيز بن عيسى بن عبد المحسن المقرن، ذلك الشاب السعودي الأسمر النحيل، الذي لم يكن في (1992) إلا يافعا تشرب مبادئ التربية الدينية المنهجية التي كانت قائمة على قدم وساق في المجتمع السعودي، خصوصا للشريحة العمرية التي كان المقرن ينتمي اليها في حينها، وفي متوسطة «الامام البيهقي» في حي السويدي المحافظ غرب العاصمة الرياض، يذكر زملاء دراسته الذين تحدثنا معهم كيف كان عبد العزيز شابا منضما لجماعة «التوعية الإسلامية» يتحرك ضمن هذه المجموعة «الملتزمة» منعزلا عن الأفعال والأنشطة الطبيعية التي يقوم بها طلاب في مثل هذه السن والمرحلة، باستثناء هوايته المحببة وهي كرة القدم، فقد كان حارسا لمرمى منتخب المتوسطة الكروي، ومع أن رفيقه الذي يكبره سنا في المدرسة قال «إن المقرن لم يكن منفرا أو مكروها من قبلنا»، ويضيف:
«أذكر إنني كنت امزح معه وأضاحكه ويتقبل ذلك بتلقائية»، إلا أنه مازال يذكر سالفيه الصغيرتين على صدغيه، دلالة على تدين ناشئ ومبكر. لكن هذه التلقائية لم تستمر كثيرا مع المقرن، فقد ظل في حالة تصاعد حتى وهو على مقاعد الدراسة، وطور علاقاته الدينية بجماعات خارج إطار النشاط الديني المخفف في مثل جماعة التوعية الإسلامية في المدرسة، وبدأ بالتعرف على مجموعات أكثر تشددا وجدية، فعل ذلك وهو لما يزل مراهقا.
أفغانستان.. عشق مبكر وغامض
* غادر المقرن الدراسة في سن مبكرة، وهناك من أشار إلى أنه واصل الدراسة إلى أن حصل على الثانوية العامة! لكن هذا غير متسلسل مع مجرى حياة المقرن الذي يبدو أنه غادر الدارسة في حدود نهاية سنة 1994، أي في نهاية المرحلة الإعدادية، وحسب الروايات التي نشرت عنه سواء من قبل أنصاره أو بعض المصادر الإعلامية فإنه بدأ بالذهاب إلى أفغانستان منذ سنة 1991، والمقرن ولد في سنة 1394 هجرية ( تقريبا سنة 1974) أي انه عمره حين الذهاب إلى أفغانستان كان في حدود السابعة عشرة، وهو أمر ليس بالمستبعد، لكن زميله في الدراسة الذي اشرنا إليه، يقول «أنا درست معه ثلاث سنوات تقريبا تبدأ من سنة 1992 ولم الحظ عليه أي إشارة تدل على ذهابه إلى أفغانستان، فقد كان يافعا، كما أن من عرف المقرن من الأصوليين في تلك المرحلة لا يتذكرون أي نزعة جهادية أو كثرة حديث عن الجهاد في أفغانستان واللهج بذلك، فهل كان عبد العزيز المقرن كتوما إلى هذه الدرجة؟
من الهامش الى المتن
* يقول (م. د) وهو شخص يكبره بأكثر من عشر سنوات، وكان متعمقا في تحصيل العلم الديني وصاحب مواقف متشددة فكريا، في السابق، لكنه لم يكن (جهاديا): «أذكر المقرن وكنت اعتبره هامشيا، ولم يكن يثير اهتمامي، وكنت أتضايق منه بسبب نزقه وعجلته، ولم أعتقد يوما من الأيام انه سيصبح «قائدا» لتنظيم القاعدة في السعودية». ويتابع: «لم يكن هذا الشاب يعرف كيف يقرأ القرآن بشكل صحيح من دون الوقوع بأخطاء واضحة، ولا أعرف عنه أي فضول أو محبة للقراءة والإطلاع».
خبير أمني مطلع على خفايا القاعدة قال: «الحقيقة لم يكن المقرن، رغم دمويته، شخصا يملك مؤهلات القيادة، ولم نكن ننظر له بهذا المنظار، لقد كان مجرد واجهة. الذي كان يدير ويدبر شؤون الشبكة الأصولية الإرهابية هو اليمني خالد حاج (قتل في 16 مارس/آذار) 2004 في حي النسيم شرق الرياض) وهو الذي يملك قنوات الاتصال بالخارج وقيادة الخارج». ويواصل الرجل العارف بملف الإرهاب في السعودية: «ربما الشخص الوحيد الذي كان خالد حاج يشعر بالتنافس معه هو السعودي يوسف العييري، الذي جعل زعيما للتنظيم قبل أن يقتل في عملية مطاردة بالقرب من مدينة حائل شمال السعودية (1 يونيو /حزيران 2003)». في سرد سريع لأبرز محطاته في النشاط الأصولي العسكري، تردد على أفغانستان منذ 91 إلى 94 وتدرب خلال هذه الفترة على كل أنواع الأسلحة المتاحة، وتحول من متدرب إلى مدرب في معسكرات الأصوليين العرب هناك، وتحديدا في معسكرات «وال» و«الفاروق» ويعتقد انه انشأ علاقات سيستفيد منها لاحقا مع أصوليين عسكريين عرب.
وكان يتميز بجلافة في التعامل مع متدربيه، لدرجة أن بعض الأصوليين وصفه بـ«المقرف» بدل المقرن. ومر بفترات صاخبة بعد أفغانستان رجع بعدها للسعودية ليغادر إلى الجزائر في منتصف التسعينات للمشاركة في القتال مع الجماعات الأصولية، وتهريب السلاح لها من الحدود المغربية بعد استقباله من أسبانيا عبر طرق ووسائل معينة، ثم وقع في قبضة السلطات الجزائرية لكنه نجا بأعجوبة وفر، ويقال إن الجماعات الأصولية ساعدت على تخليصه، ليرجع بعدها إلى السعودية، ثم يتردد على أفغانستان أيضا بشكل متقطع وسريع، ليتوجه بعدها إلى البوسنة والهرسك، ويدرب مجموعة من المقاتلين الجدد هناك في معسكرات العرب، لكن لا يعلم على وجه التحديد هل كان يدرب في معسكر الأصولي الجزائري «أبو المعالي»، وهو المعسكر الرسمي والرئيسي للمقاتلين العرب، أو مع مجموعة أبو الزبير الحائلي التي كانت شبه متمردة وأكثر شراسة في القتال؟ وتشير بعض الأخبار إلى أن 8 ممن تدربوا على يده من المقاتلين العرب قتلوا في معارك البوسنة.
لم يطل المقام بالمقرن كثيرا في البوسنة والهرسك، ورجع إلى السعودية، ليتوجه بعدها إلى اليمن، تهريبا على ما يعتقد، ثم توجه إلى إقليم اوغادين في أثيوبيا لينضم لمقاتلي الاتحاد الإسلامي الصومالي المطالبين باستقلال إقليم اوغادين من اثيوبيا، لكنه وقع في اسر القوات الاثيوبية في عملية مطاردة مثيرة، لم يكن المقرن يمل من حكايتها لمن يجلس معه لاحقا. انقطعت أخبار الرجل بعدها، وظن كثيرون من معارفه انه قد لقي حتفه هناك، لكن تسربت أخبار اعتقاله لاحقا، وطالبت الحكومة السعودية به، وبالفعل تم تسليمه بعد سجنه حوالي سنتين في اثيوبيا، وسلم للحكومة السعودية التي أودعته سجن الحاير العام (ليس سجنا للمباحث او المخابرات).
مكث في السجن حوالي سنتين، وهو المحكوم بأربع سنوات، لكن بسبب حسن سلوكه وحفظه القرآن خرج في نصف المدة، مكث قليلا بعد خروجه، وأذكر إنني التقيت به صدفة في احد مطاعم الرياض فأشاح بوجهه عني رافضا ان يسلم علي لاعتقاده انني منحرف عن الدين.
الحنين لأفغانستان.. ومحاولة أفغنة السعودية!
* غابت أخباره بعد ذلك، لكن نشر لاحقا أنه قد سارع بالذهاب لليمن مجددا للتوجه إلى أفغانستان مع التداعيات الأولية لأحداث 11 سبتمبر (أيلول) ليتزأمن وجوده ووصول مجموعات سعودية وغير سعودية مع بدء الحرب الأميركية على نظام طالبان، وهي مجموعات آل مصيرها إلى حالات تراوحت بين القتل أو الاعتقال والسجن في معسكر غوانتانامو أو الاعتقال في السعودية، ومنهم عدد من الذين أفرج عنهم في السعودية وتضمنتهم قائمة المطلوبين الأمنيين الـ19، ( اعلن عنها في 7 مايو 2003) وقائمة الـ26 (اعلن عنها في ديسمبر 2003). وكان المقرن اسما ثابتا في القائمتين. فهو رجع إلى السعودية وقرر الانخراط بشكل كامل مع القاعدة والاضطلاع بدور قيادي فيها.
وقد بدأ تسلسل الأحداث الارهابية زمنيا في 18 مارس (أذار) 2003 من شقة في حي الجزيرة، شرقي الرياض، حينما انفجرات بعض المواد المعدة للعمليات الإرهابية في وجه فهد سمران الصاعدي، 29 عاماً، ليلقى حتفه. وبعد أسابيع توصل الأمن السعودي إلى عناصر قيل إنهم اتخذوا من شقة في حي اشبيليا مقراً لهم، والتي تمت مداهمتها في 6 مايو 2003 ليتم العثور على بطاقات وجوازات مزورة وأسلحة متنوعة ومتفجرات بمختلف الأشكال، فاق وزنها 700 كيلوغرام. ثم في 12 مايو وقعت عمليات انتحارية ضد مجمعات سكنية في حي الحمراء وحي غرناطة، نفذها بعض المدرجين على قائمة الـ19 . ... وبدأ ليل المقرن القصير
* نشط المقرن بعدها نشاطا لافتا، تحت ظل العييري وخالد حاج، أو أبو حازم الشاعر كما يعرف، وابرز عمليات المقرن الإشراف على عملية تفجير مجمع المحيا السكني (نوفمبر 2003) وعملية مجمع الواحة في الخبر (مايو 2004) والتي افتخر فيها المقرن بذبح مجموعته، ومنهم رفيقه تركي المطيري، الذي سمى نفسه «فواز النشمي» بذبحهم مجموعة من الرهائن الأجانب، وبرر المقرن استهداف منشآت متعلقة بالصناعة البترولية بأن ذلك يأتي تطبيقا لتوجهيات أسامة بن لادن الذي ذكر اسم شركة «هاليبرتون» الأميركية التي تولت بعض العقود في العراق.
ولعل من أكثر عمليات المقرن الإرهابية إثارة للمفارقة، هي تلك العملية التي تبادل فيها إطلاق النار مع قوات الأمن السعودية في مبنى من مباني حي السويدي الذي ولد وترعرع فيه، هذه العملية التي اندلعت صبيحة 11 رمضان أو (نوفمبر 2004 ) وكان فيها عناصر مهمة من القاعدة، وأصيب فيها عامر آل مريف الشهري إصابة بليغة ليلقى حتفه بعد شهر من ذلك ويقوم المقرن ورفاقه بدفنه في إحدى صحارى الرياض، هذا المبنى الذي تمت فيه المواجهة الشرسة، لم يكن إلا مبنى قام على أنقاض متوسطة الإمام البيهقي، تلك المدرسة التي كان فيها المقرن فتى غضا يحرس مرمى فريق كرة القدم.. ويلثغ بأولى حروف التدين...
كما يتعجب رفيق دراسته.
وبعد مقتل الحاج تحول المقرن الى عمليات الخطف والذبح، وأشهر تلك العمليات عملية خطف وذبح المهندس الأميركي بوب مارشال جونسون الذي أعلنت عنه القاعدة في 16 يونيو (حزيران) 2003، والتي لم يمكث المقرن بعدها سوى يومين ليلقى حتفه مع مساعده فيصل الدخيل وكلا من تركي المطيري وابراهيم الدريهم في عملية خاطفة، في مثل هذا اليوم 18 يونيو 2003. وكان المقرن هو الذي خرج ملثما بلثام اسود يمهل السلطات 72 ساعة للإفراج عن معتقلين وإخراج الأجانب (الكفار) وإلا قتل جونسون. كابر تنظيم القاعدة بعدها في الإقرار بمقتل المقرن، كما شككت بعض الجهات المتعاطفة مع القاعدة في لندن، إلا أن القاعدة سرعان ما أصدرت بيان نعي لـ(أبي هاجر) عبد العزيز المقرن، تؤكد فيه أن مقتل هذا القائد لن يثنيها عن مواصلة مشروع (الجهاد).
كيف تفخخ عقل المقرن؟
* ويبقى السؤال كيف تحول الشاب المتحدر من إقليم الاحساء شرق السعودية، والمهاجرة عائلته، كآلاف الأسر السعودية إلى العاصمة الرياض، من متدين ضمن ظاهرة «الصحوة» إلى مقاتل أصولي حاد ومتطرف؟
لعله يجدر بنا العودة قليلا إلى مرحلة مبكرة، هذه المرحلة تعتبر المرحلة المتقدمة على مرحلة الانخراط في الجهاد، قبل أن يجد المقرن نفسه في النشاط العسكري والتبشير به، ولعل أول فعالية له داخل السعودية يمكن التأشير بها في الارتباط بمجموعة تفجير مقر بعثة التدريب التابعة للحرس الوطني السعودي في حي العليا الراقي شمال العاصمة الرياض، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، تلك المجموعة التي بث التلفزيون السعودي اعترافاتها بتنفيذ العملية ومن ثم تم إصدار حكم الإعدام بها، واعدموا، كانت تتكون من عبد العزيز المعثم ورياض الهاجري وخالد السعيد وعايض الشمراني، غير أن أكثر هؤلاء صلة بعبد العزيز المقرن كان عبد العزيز المعثم، الذي سميت المجموعة باسمه في حينه.
والعارفون يقولون إن التشدد التام وصل ذروته بالمعثم ومجموعته بعد التعرف على الأردني الفلسطيني أبو محمد المقدسي، شيخ ومنظر الجهادية السلفية، ومعلم ابي مصعب الزرقاوي، وكان عبد العزيز المعثم يتردد على الاردن طيلة سنة 1995 متتلمذا على المقدسي، وجالبا لكتبه وادبياته، وكان المقدسي زار السعودية أكثر من مرة وتعرف على عدد من الشبان والمشجعين منذ سنة 1989 تقريبا، حيث أدى العمرة في رمضان من تلك السنة.
وفي ذلك (الرمضان) كانت المرة الأولى والأخيرة التي شاهدت فيها المقدسي في مكة أواخر شهر رمضان مع مجموعة المتدينين السعوديين. وللدقة فإن المقدسي لم يكن في تلك المرحلة يصرح كثيرا بآرائه حول وجوب القيام بـ(الجهاد ) أو أي نشاط عسكري مضاد للأنظمة، مع انه كان يتحدث بحماسة كبيرة عن (الحاكمية) وكفر الحكومات العربية لأنها ـ حسب رأيه ـ لا تحكم بشرع الله وتوالي الغرب، إلا أنه لم يكن يتحدث عن المواجهة المسلحة، على الأقل بشكل علني.
ثم زار المقدسي السعودية مرة أخرى في منتصف التسعينات ومكث فترة من الوقت في وسط السعودية يلقي دروسه ويبث حججه في تكفير الأنظمة ووجوب البراءة منها، بشكل متخف وحذر، ويبدو أنه كان في تلك المرحلة ينتهج أسلوب (الخاص والعام)، فكان في خطابه العام يقف بتحريضه عند مستوى التكفير والهجوم على الحكومات العربية ومهاجمة القوانين والأنظمة، ولكنه في الحديث الخاص يذهب مدى أبعد من ذلك، ومن هنا فيما يبدو تخلقت النزعة العسكرية لدى عبد العزيز المعثم ومجموعته التي نفذت تفجير العليا. لكن الرجل الخبير (م. د) الذي كان يعرف هذه المجموعات عن قرب، قال: «اعتقد أن السبب الرئيس في تلقيح هذه المجموعة بالحس القتالي هو خالد السعيد فقد كان أقدم هؤلاء ذهابا إلى معسكرات أفغانستان التي ينشط فيها المتطرفون من الجماعات المصرية والجزائرية، وكان متفاعلا مع طروحاتهم التي تتجاوز حصر الجهاد في أفغانستان».
الغرض من هذا الحديث عن مجموعة المعثم ودور المقدسي في منحها الغطاء الديني للانتقال من الشق التعبوي والتحريضي في شيطنة وتكفير وإلغاء (نمط) الدولة الحديثة، هو اكتشاف مصدر من مصادر التأثير التي أنضجت القناعة الفكرية والعسكرية في المواجهة لدى عبد العزيز المقرن، فقد كان الرجل محبا ومنحازا للمعثم وجماعته، ويحمسهم على المزيد من التصلب والعناد الذي وصل بها إلى تكفير حتى العلماء الدينيين الرسميين بحجة أنهم يبررون (الكفر) الموجود عبر عدم ترديد أفكار وحجج المقدسي ازاء الدولة مثل الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز. وحينما حدث نوع من الخلاف بين المعثم ومجموعته حول المبالغة في التكفير، وآخرين من الأصوليين، وصل إلى درجة القطيعة وعدم الحديث فيما بينهم، انحاز المقرن إلى مجموعة المعثم.
كانت تلك محطة مبكرة من حياة الفتى عبد العزيز المقرن... ولكنها كانت حاسمة ومؤذنة بحياة دامية ومدمية حتى لحظة مقتله في 18 يونيو (حزيران) من العام الماضي، ودفنه في مقبرة «المنصورية» الصغيرة في الرياض.
لندن: مشاري الذايدي
عبد العزيز بن عيسى بن عبد المحسن المقرن، ذلك الشاب السعودي الأسمر النحيل، الذي لم يكن في (1992) إلا يافعا تشرب مبادئ التربية الدينية المنهجية التي كانت قائمة على قدم وساق في المجتمع السعودي، خصوصا للشريحة العمرية التي كان المقرن ينتمي اليها في حينها، وفي متوسطة «الامام البيهقي» في حي السويدي المحافظ غرب العاصمة الرياض، يذكر زملاء دراسته الذين تحدثنا معهم كيف كان عبد العزيز شابا منضما لجماعة «التوعية الإسلامية» يتحرك ضمن هذه المجموعة «الملتزمة» منعزلا عن الأفعال والأنشطة الطبيعية التي يقوم بها طلاب في مثل هذه السن والمرحلة، باستثناء هوايته المحببة وهي كرة القدم، فقد كان حارسا لمرمى منتخب المتوسطة الكروي، ومع أن رفيقه الذي يكبره سنا في المدرسة قال «إن المقرن لم يكن منفرا أو مكروها من قبلنا»، ويضيف:
«أذكر إنني كنت امزح معه وأضاحكه ويتقبل ذلك بتلقائية»، إلا أنه مازال يذكر سالفيه الصغيرتين على صدغيه، دلالة على تدين ناشئ ومبكر. لكن هذه التلقائية لم تستمر كثيرا مع المقرن، فقد ظل في حالة تصاعد حتى وهو على مقاعد الدراسة، وطور علاقاته الدينية بجماعات خارج إطار النشاط الديني المخفف في مثل جماعة التوعية الإسلامية في المدرسة، وبدأ بالتعرف على مجموعات أكثر تشددا وجدية، فعل ذلك وهو لما يزل مراهقا.
أفغانستان.. عشق مبكر وغامض
* غادر المقرن الدراسة في سن مبكرة، وهناك من أشار إلى أنه واصل الدراسة إلى أن حصل على الثانوية العامة! لكن هذا غير متسلسل مع مجرى حياة المقرن الذي يبدو أنه غادر الدارسة في حدود نهاية سنة 1994، أي في نهاية المرحلة الإعدادية، وحسب الروايات التي نشرت عنه سواء من قبل أنصاره أو بعض المصادر الإعلامية فإنه بدأ بالذهاب إلى أفغانستان منذ سنة 1991، والمقرن ولد في سنة 1394 هجرية ( تقريبا سنة 1974) أي انه عمره حين الذهاب إلى أفغانستان كان في حدود السابعة عشرة، وهو أمر ليس بالمستبعد، لكن زميله في الدراسة الذي اشرنا إليه، يقول «أنا درست معه ثلاث سنوات تقريبا تبدأ من سنة 1992 ولم الحظ عليه أي إشارة تدل على ذهابه إلى أفغانستان، فقد كان يافعا، كما أن من عرف المقرن من الأصوليين في تلك المرحلة لا يتذكرون أي نزعة جهادية أو كثرة حديث عن الجهاد في أفغانستان واللهج بذلك، فهل كان عبد العزيز المقرن كتوما إلى هذه الدرجة؟
من الهامش الى المتن
* يقول (م. د) وهو شخص يكبره بأكثر من عشر سنوات، وكان متعمقا في تحصيل العلم الديني وصاحب مواقف متشددة فكريا، في السابق، لكنه لم يكن (جهاديا): «أذكر المقرن وكنت اعتبره هامشيا، ولم يكن يثير اهتمامي، وكنت أتضايق منه بسبب نزقه وعجلته، ولم أعتقد يوما من الأيام انه سيصبح «قائدا» لتنظيم القاعدة في السعودية». ويتابع: «لم يكن هذا الشاب يعرف كيف يقرأ القرآن بشكل صحيح من دون الوقوع بأخطاء واضحة، ولا أعرف عنه أي فضول أو محبة للقراءة والإطلاع».
خبير أمني مطلع على خفايا القاعدة قال: «الحقيقة لم يكن المقرن، رغم دمويته، شخصا يملك مؤهلات القيادة، ولم نكن ننظر له بهذا المنظار، لقد كان مجرد واجهة. الذي كان يدير ويدبر شؤون الشبكة الأصولية الإرهابية هو اليمني خالد حاج (قتل في 16 مارس/آذار) 2004 في حي النسيم شرق الرياض) وهو الذي يملك قنوات الاتصال بالخارج وقيادة الخارج». ويواصل الرجل العارف بملف الإرهاب في السعودية: «ربما الشخص الوحيد الذي كان خالد حاج يشعر بالتنافس معه هو السعودي يوسف العييري، الذي جعل زعيما للتنظيم قبل أن يقتل في عملية مطاردة بالقرب من مدينة حائل شمال السعودية (1 يونيو /حزيران 2003)». في سرد سريع لأبرز محطاته في النشاط الأصولي العسكري، تردد على أفغانستان منذ 91 إلى 94 وتدرب خلال هذه الفترة على كل أنواع الأسلحة المتاحة، وتحول من متدرب إلى مدرب في معسكرات الأصوليين العرب هناك، وتحديدا في معسكرات «وال» و«الفاروق» ويعتقد انه انشأ علاقات سيستفيد منها لاحقا مع أصوليين عسكريين عرب.
وكان يتميز بجلافة في التعامل مع متدربيه، لدرجة أن بعض الأصوليين وصفه بـ«المقرف» بدل المقرن. ومر بفترات صاخبة بعد أفغانستان رجع بعدها للسعودية ليغادر إلى الجزائر في منتصف التسعينات للمشاركة في القتال مع الجماعات الأصولية، وتهريب السلاح لها من الحدود المغربية بعد استقباله من أسبانيا عبر طرق ووسائل معينة، ثم وقع في قبضة السلطات الجزائرية لكنه نجا بأعجوبة وفر، ويقال إن الجماعات الأصولية ساعدت على تخليصه، ليرجع بعدها إلى السعودية، ثم يتردد على أفغانستان أيضا بشكل متقطع وسريع، ليتوجه بعدها إلى البوسنة والهرسك، ويدرب مجموعة من المقاتلين الجدد هناك في معسكرات العرب، لكن لا يعلم على وجه التحديد هل كان يدرب في معسكر الأصولي الجزائري «أبو المعالي»، وهو المعسكر الرسمي والرئيسي للمقاتلين العرب، أو مع مجموعة أبو الزبير الحائلي التي كانت شبه متمردة وأكثر شراسة في القتال؟ وتشير بعض الأخبار إلى أن 8 ممن تدربوا على يده من المقاتلين العرب قتلوا في معارك البوسنة.
لم يطل المقام بالمقرن كثيرا في البوسنة والهرسك، ورجع إلى السعودية، ليتوجه بعدها إلى اليمن، تهريبا على ما يعتقد، ثم توجه إلى إقليم اوغادين في أثيوبيا لينضم لمقاتلي الاتحاد الإسلامي الصومالي المطالبين باستقلال إقليم اوغادين من اثيوبيا، لكنه وقع في اسر القوات الاثيوبية في عملية مطاردة مثيرة، لم يكن المقرن يمل من حكايتها لمن يجلس معه لاحقا. انقطعت أخبار الرجل بعدها، وظن كثيرون من معارفه انه قد لقي حتفه هناك، لكن تسربت أخبار اعتقاله لاحقا، وطالبت الحكومة السعودية به، وبالفعل تم تسليمه بعد سجنه حوالي سنتين في اثيوبيا، وسلم للحكومة السعودية التي أودعته سجن الحاير العام (ليس سجنا للمباحث او المخابرات).
مكث في السجن حوالي سنتين، وهو المحكوم بأربع سنوات، لكن بسبب حسن سلوكه وحفظه القرآن خرج في نصف المدة، مكث قليلا بعد خروجه، وأذكر إنني التقيت به صدفة في احد مطاعم الرياض فأشاح بوجهه عني رافضا ان يسلم علي لاعتقاده انني منحرف عن الدين.
الحنين لأفغانستان.. ومحاولة أفغنة السعودية!
* غابت أخباره بعد ذلك، لكن نشر لاحقا أنه قد سارع بالذهاب لليمن مجددا للتوجه إلى أفغانستان مع التداعيات الأولية لأحداث 11 سبتمبر (أيلول) ليتزأمن وجوده ووصول مجموعات سعودية وغير سعودية مع بدء الحرب الأميركية على نظام طالبان، وهي مجموعات آل مصيرها إلى حالات تراوحت بين القتل أو الاعتقال والسجن في معسكر غوانتانامو أو الاعتقال في السعودية، ومنهم عدد من الذين أفرج عنهم في السعودية وتضمنتهم قائمة المطلوبين الأمنيين الـ19، ( اعلن عنها في 7 مايو 2003) وقائمة الـ26 (اعلن عنها في ديسمبر 2003). وكان المقرن اسما ثابتا في القائمتين. فهو رجع إلى السعودية وقرر الانخراط بشكل كامل مع القاعدة والاضطلاع بدور قيادي فيها.
وقد بدأ تسلسل الأحداث الارهابية زمنيا في 18 مارس (أذار) 2003 من شقة في حي الجزيرة، شرقي الرياض، حينما انفجرات بعض المواد المعدة للعمليات الإرهابية في وجه فهد سمران الصاعدي، 29 عاماً، ليلقى حتفه. وبعد أسابيع توصل الأمن السعودي إلى عناصر قيل إنهم اتخذوا من شقة في حي اشبيليا مقراً لهم، والتي تمت مداهمتها في 6 مايو 2003 ليتم العثور على بطاقات وجوازات مزورة وأسلحة متنوعة ومتفجرات بمختلف الأشكال، فاق وزنها 700 كيلوغرام. ثم في 12 مايو وقعت عمليات انتحارية ضد مجمعات سكنية في حي الحمراء وحي غرناطة، نفذها بعض المدرجين على قائمة الـ19 . ... وبدأ ليل المقرن القصير
* نشط المقرن بعدها نشاطا لافتا، تحت ظل العييري وخالد حاج، أو أبو حازم الشاعر كما يعرف، وابرز عمليات المقرن الإشراف على عملية تفجير مجمع المحيا السكني (نوفمبر 2003) وعملية مجمع الواحة في الخبر (مايو 2004) والتي افتخر فيها المقرن بذبح مجموعته، ومنهم رفيقه تركي المطيري، الذي سمى نفسه «فواز النشمي» بذبحهم مجموعة من الرهائن الأجانب، وبرر المقرن استهداف منشآت متعلقة بالصناعة البترولية بأن ذلك يأتي تطبيقا لتوجهيات أسامة بن لادن الذي ذكر اسم شركة «هاليبرتون» الأميركية التي تولت بعض العقود في العراق.
ولعل من أكثر عمليات المقرن الإرهابية إثارة للمفارقة، هي تلك العملية التي تبادل فيها إطلاق النار مع قوات الأمن السعودية في مبنى من مباني حي السويدي الذي ولد وترعرع فيه، هذه العملية التي اندلعت صبيحة 11 رمضان أو (نوفمبر 2004 ) وكان فيها عناصر مهمة من القاعدة، وأصيب فيها عامر آل مريف الشهري إصابة بليغة ليلقى حتفه بعد شهر من ذلك ويقوم المقرن ورفاقه بدفنه في إحدى صحارى الرياض، هذا المبنى الذي تمت فيه المواجهة الشرسة، لم يكن إلا مبنى قام على أنقاض متوسطة الإمام البيهقي، تلك المدرسة التي كان فيها المقرن فتى غضا يحرس مرمى فريق كرة القدم.. ويلثغ بأولى حروف التدين...
كما يتعجب رفيق دراسته.
وبعد مقتل الحاج تحول المقرن الى عمليات الخطف والذبح، وأشهر تلك العمليات عملية خطف وذبح المهندس الأميركي بوب مارشال جونسون الذي أعلنت عنه القاعدة في 16 يونيو (حزيران) 2003، والتي لم يمكث المقرن بعدها سوى يومين ليلقى حتفه مع مساعده فيصل الدخيل وكلا من تركي المطيري وابراهيم الدريهم في عملية خاطفة، في مثل هذا اليوم 18 يونيو 2003. وكان المقرن هو الذي خرج ملثما بلثام اسود يمهل السلطات 72 ساعة للإفراج عن معتقلين وإخراج الأجانب (الكفار) وإلا قتل جونسون. كابر تنظيم القاعدة بعدها في الإقرار بمقتل المقرن، كما شككت بعض الجهات المتعاطفة مع القاعدة في لندن، إلا أن القاعدة سرعان ما أصدرت بيان نعي لـ(أبي هاجر) عبد العزيز المقرن، تؤكد فيه أن مقتل هذا القائد لن يثنيها عن مواصلة مشروع (الجهاد).
كيف تفخخ عقل المقرن؟
* ويبقى السؤال كيف تحول الشاب المتحدر من إقليم الاحساء شرق السعودية، والمهاجرة عائلته، كآلاف الأسر السعودية إلى العاصمة الرياض، من متدين ضمن ظاهرة «الصحوة» إلى مقاتل أصولي حاد ومتطرف؟
لعله يجدر بنا العودة قليلا إلى مرحلة مبكرة، هذه المرحلة تعتبر المرحلة المتقدمة على مرحلة الانخراط في الجهاد، قبل أن يجد المقرن نفسه في النشاط العسكري والتبشير به، ولعل أول فعالية له داخل السعودية يمكن التأشير بها في الارتباط بمجموعة تفجير مقر بعثة التدريب التابعة للحرس الوطني السعودي في حي العليا الراقي شمال العاصمة الرياض، في نوفمبر (تشرين الثاني) 1995، تلك المجموعة التي بث التلفزيون السعودي اعترافاتها بتنفيذ العملية ومن ثم تم إصدار حكم الإعدام بها، واعدموا، كانت تتكون من عبد العزيز المعثم ورياض الهاجري وخالد السعيد وعايض الشمراني، غير أن أكثر هؤلاء صلة بعبد العزيز المقرن كان عبد العزيز المعثم، الذي سميت المجموعة باسمه في حينه.
والعارفون يقولون إن التشدد التام وصل ذروته بالمعثم ومجموعته بعد التعرف على الأردني الفلسطيني أبو محمد المقدسي، شيخ ومنظر الجهادية السلفية، ومعلم ابي مصعب الزرقاوي، وكان عبد العزيز المعثم يتردد على الاردن طيلة سنة 1995 متتلمذا على المقدسي، وجالبا لكتبه وادبياته، وكان المقدسي زار السعودية أكثر من مرة وتعرف على عدد من الشبان والمشجعين منذ سنة 1989 تقريبا، حيث أدى العمرة في رمضان من تلك السنة.
وفي ذلك (الرمضان) كانت المرة الأولى والأخيرة التي شاهدت فيها المقدسي في مكة أواخر شهر رمضان مع مجموعة المتدينين السعوديين. وللدقة فإن المقدسي لم يكن في تلك المرحلة يصرح كثيرا بآرائه حول وجوب القيام بـ(الجهاد ) أو أي نشاط عسكري مضاد للأنظمة، مع انه كان يتحدث بحماسة كبيرة عن (الحاكمية) وكفر الحكومات العربية لأنها ـ حسب رأيه ـ لا تحكم بشرع الله وتوالي الغرب، إلا أنه لم يكن يتحدث عن المواجهة المسلحة، على الأقل بشكل علني.
ثم زار المقدسي السعودية مرة أخرى في منتصف التسعينات ومكث فترة من الوقت في وسط السعودية يلقي دروسه ويبث حججه في تكفير الأنظمة ووجوب البراءة منها، بشكل متخف وحذر، ويبدو أنه كان في تلك المرحلة ينتهج أسلوب (الخاص والعام)، فكان في خطابه العام يقف بتحريضه عند مستوى التكفير والهجوم على الحكومات العربية ومهاجمة القوانين والأنظمة، ولكنه في الحديث الخاص يذهب مدى أبعد من ذلك، ومن هنا فيما يبدو تخلقت النزعة العسكرية لدى عبد العزيز المعثم ومجموعته التي نفذت تفجير العليا. لكن الرجل الخبير (م. د) الذي كان يعرف هذه المجموعات عن قرب، قال: «اعتقد أن السبب الرئيس في تلقيح هذه المجموعة بالحس القتالي هو خالد السعيد فقد كان أقدم هؤلاء ذهابا إلى معسكرات أفغانستان التي ينشط فيها المتطرفون من الجماعات المصرية والجزائرية، وكان متفاعلا مع طروحاتهم التي تتجاوز حصر الجهاد في أفغانستان».
الغرض من هذا الحديث عن مجموعة المعثم ودور المقدسي في منحها الغطاء الديني للانتقال من الشق التعبوي والتحريضي في شيطنة وتكفير وإلغاء (نمط) الدولة الحديثة، هو اكتشاف مصدر من مصادر التأثير التي أنضجت القناعة الفكرية والعسكرية في المواجهة لدى عبد العزيز المقرن، فقد كان الرجل محبا ومنحازا للمعثم وجماعته، ويحمسهم على المزيد من التصلب والعناد الذي وصل بها إلى تكفير حتى العلماء الدينيين الرسميين بحجة أنهم يبررون (الكفر) الموجود عبر عدم ترديد أفكار وحجج المقدسي ازاء الدولة مثل الشيخ الراحل عبد العزيز بن باز. وحينما حدث نوع من الخلاف بين المعثم ومجموعته حول المبالغة في التكفير، وآخرين من الأصوليين، وصل إلى درجة القطيعة وعدم الحديث فيما بينهم، انحاز المقرن إلى مجموعة المعثم.
كانت تلك محطة مبكرة من حياة الفتى عبد العزيز المقرن... ولكنها كانت حاسمة ومؤذنة بحياة دامية ومدمية حتى لحظة مقتله في 18 يونيو (حزيران) من العام الماضي، ودفنه في مقبرة «المنصورية» الصغيرة في الرياض.