تشكرات
09-06-2018, 10:46 PM
http://ainnews.net/wp-content/uploads/2010/07/584917-250x225.jpg
● نظام رقابي لا يقرأ لكنه يراقب القراءة لا يمكنه أن ينتج إلا المزيد من المنع
● المحكمة الإدارية: الإبداع ينصرف إلى كل مختلف عن المألوف
● الحق البشري في الاختلاف والحق المجتمعي في التعدد أمران لا تقبلهما وزارة الإعلام
● إذا كانت الدولة تسمح بوجود الكنائس فكيف يمكنها منع استيراد كتب مسيحية؟
● الاتفاق على مفهوم واحد للآداب العامة مستحيل لكن «الإعلام» تأخذ بمنطق المزايدة
● معدل منع الكتب في الكويت يتجاوز أضعاف نسبته في السعودية والإمارات
06-09-2018
كتب الخبر محمد العجمي
لا تميِّز وزارة الإعلام، على ما يبدو، بين المساس بالمقدَّسات والاختلاف الفكري والعقدي، وكل ما لا يصبُّ في المقرر الأيديولوجي لوزارة الأوقاف يتم منعه، بتهمة المساس بالمقدَّسات. ولم يخطر ببال أحدٍ من قبل القول إن «المسلمين بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في التراث الإسلامي» أمر يثير حفيظة الرقابة في «الإعلام»، كما لم يخطر لنا القول إن «التعصب القبلي ازدهر مع تولي الدولة الأموية» يمكن أن يكون مساسا.
إن مجرَّد ذكر كلمتي «آدم» و«حواء» غير متبوعتين بعبارة «عليهما السلام» كان مشكلة في كثير من الكتب، لأنه أمر يفتقر إلى «الأدب» مع الأنبياء والملائكة، مع أننا نعرف أن الحقيقة ابنة سياقها، وأن ورود كلمة آدم في السياق التوراتي يختلف عن السياق الإسلامي، وأن اللفظة قد تتضمن حزمة من الرموز الخالية تماما من المرجعية المقدسة، دون أن يعني ذلك مساسا، مثل استخدام الشعراء لكلمة «حواء» كرمز للمرأة الأولى، أو أن يدلل أبٌ طفلته بقوله «يا ملاك»!
شتم وتكفير
إذا كنا نتفهم منع الكتب التي تتضمن شتما وتكفيرا بين المذاهب، إلا أننا لا نفهم منع الكتب التي يأخذ فيها المؤلف موقفا تاريخيا محايدا من الملل الدينية، ويتناول هذا التاريخ موضوعيا، كما في كتاب «العلمانية والسلطة نقد خطاب النخبة العربية» لـنبيل دبابش.
ويبدو أن عدم تقديس مقدَّساتنا بذاته مساس بها، من وجهة نظر «الإعلام»، وهو المنطق ذاته الذي منعت باسمه أهم مؤلفات الباحثين في الأديان، مثل: نصر حامد أبوزيد، سروش، فراس السواح، خزعل الماجدي، وغيرهم.
في سؤال برلماني لوزير الإعلام عن عدد الكتب التي تم منعها خلال السنوات الخمس الماضية، جاء رد الوزير بمنع 4390 كتابا. وطوال تلك السنوات كان المتابع للشأن الثقافي يسمع عن تعسف رقابة «الإعلام» ومجازرها في حق الكتب، لكن لم يسبق له الاطلاع على حيثيات المنع، والأساس الذي بنيت عليه كل تلك القرارات.
وإذا كان القانون الكويتي يجرِّم المساس بالمقدَّسات الدينية ونشر خطاب الكراهية، فإن «الإعلام» تجاوزت حدود النص القانوني فيما يتعلق بالمقدَّسات، حتى أصبحت لدينا سلالات مقدَّسة لا يمكن مناقشة تاريخها، ولا الوقوف عندها حتى.
إن مجرَّد نقل واقعة تاريخية أمر ممنوع، كما حدث في كتاب «معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة في الميزان» لعباس محمود العقاد، فضلا عن مؤلفات د. علي الوردي، مثل: «وعاظ السلاطين» و«مهزلة العقل البشري».
أولاً: الحق البشري في الاختلاف
وفي الوقت نفسه الذي ترى «الإعلام» أنها تحمي المقدَّسات، نجدها تمنع أحد أهم الكتب في مكتبتنا العربية، وهو كتاب «نهج البلاغة»، لما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. لقد منعت «الإعلام» هذا الكتاب المركزي في التراث العربي والديني لعدة أسطر، منها «كنتم جند المرأة وأتباع البهيمة».
وإذا كانت كتب الطائفة الشيعية لها نصيب وافر من المنع، إلا أن كثيرا من كتب أهل السُنة (الأشاعرة، المعتزلة، المتصوفة، وغيرهم) تم منعها أيضا، نذكر منها كتاب الإمام أبي القاسم القشيري (شكاية أهل السُنة بحكاية ما نالهم من محنة)، وكتاب «نساء حول الرسول» لـمحمد علي القطب، وكتاب «قصص الأنبياء» لـلدكتور عمر عبدالكافي.
بحجة حماية الوحدة الوطنية تم قمع الكثير من الأصوات الفكرية والمذهبية والدينية، وكأن التعايش بين المختلفين؛ فكريا ودينيا، لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع، وهو المؤشر المخيف على هشاشة فكرة المواطنة في نظر «الإعلام».
تناقض سافر
إن قرارات المنع الصادرة في «الإعلام» تتناقض بشكل سافر مع دستور الكويت، الذي كفل حرية الاعتقاد والتعدد الفكري والديني والمذهبي. والمطلع على سلسلة تقارير المنع الصادرة بحق أهم المؤلفات التاريخية والسياسية والفكرية يرى أن الأمر يتجاوز حماية مقدَّسات المجتمع إلى شكل من أشكال الفاشية الفكرية، لتعبئة المجتمع بفكر أحادي، وطمس كل ما عداه.
ولأن الحق البشري في الاختلاف والحق المجتمعي في التعدد أمران غير مقبولين بالنسبة لـ»الإعلام»، فإن الرقابة تتعدى على حق القارئ في الحصول على المعرفة، وفي تبني الأفكار التي يريدها، وتشكك في قدرة المجتمع على التعايش، فضلا عن كونها أداة للتجهيل وتكريس البلاهة التاريخية وتقديس التاريخ إلى حد منع الاقتراب منه.
إن أمة لديها كل هذه المقدسات (رغم غياب الكهنوت ورجال الدين وسطاء الإله)، لابد أن تكون أمة مثقلة جدا بماضيها.
شاهد آخر على عجز «الإعلام» عن التمييز بين المساس بالمقدَّسات والاختلاف العقدي، أنها منعت، على سبيل المثال، كتاب «في الأصول المصرية للديانة المسيحية»، بسبب أسطر من قبيل «لم يكن يسوع ابنا لملك ولا مولودا في سلالة ملوك» وغيرها.
وسواء تطابقت هذه الأفكار مع العقيدة الإسلامية، أو اختلفت معها، فإن الاختلاف لا يعتبر تعديا على الدين الإسلامي، لأنه ببساطة مجرَّد اختلاف عقدي. وإذا كانت الدولة تسمح بوجود الكنائس، فكيف يمكنها أن تمنع استيراد كتب مسيحية؟
وبالمثل منعت «الإعلام» كتاب «لغز عشتار» لفراس السواح، رغم أنه لا يتقاطع مع العقيدة الإسلامية من بعيد أو قريب، بل يتحدث عن أشكال الألوهة المؤنثة في الحضارات القديمة، مثل: بابل وسومر وغيرهما.
ثانياً: القراءة السطحية والعجز عن التأويل
إن المطلع على تقارير منع «الإعلام» سيكتشف مدى عجز الرقيب عن قراءة وتأويل النصوص الأدبية. فاستخدام كلمة «ملاك»، على سبيل الاستعارة، أمر قد يودي بالكتاب إلى المنع، بتهمة المساس بالمقدَّسات. على سبيل المثال، في كتاب «الضائعة» لـعبدالله الصالح، الصادر عن دار المدى، تحفظت الرقابة عن تشبيه أورده المؤلف بقوله «الذي مسّها كملاكٍ غامض». وفي سطر آخر، قوله: «فلتحرسنا ملائكتنا الحارسة أثناء نومنا».
إن عجز المؤسسة الرقابية عن التأويل، وما تتطلبه قراءة النصوص الأدبية أمر واضح، إذ يؤخذ النص بجريرة ظاهر القول على الدوام.
إن توظيف لفظ الجلالة في سياق شعري بذاته أمر ممنوع، على سبيل المثال، تم منع ديوان «زهرة في حوض الرب» لـسعاد المحتسب، بسبب بضعة أسطر، منها:
«دعه يا الله يفتح الباب لنفسه
واسقه من أنهار رحمتك
لا تعنفه إن تعثر على السراط
سوف يعبر، سوف يخترق إلى مثواه».
ولا نعرف الإشكالية التي وجدها الرقيب مع هذه الأسطر، رغم أنها متسقة حتى مع الآية القرآنية (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)، لكن عجز الرقيب عن قراءة الشعر يجعله متورطا في ألفاظ ظاهرة يبدو أنه تلقى تعليمات بأن مجرَّد تلفظها يعتبر تجديفا.
100 عام
في لقاءٍ أذيع على الهواء مع الإعلامي حسين الفيلكاوي على قناة العربية، مدافعا عن قرار منع رواية «مئة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، ذهب الفيلكاوي إلى أنه «لا توجد دولة في العالم تقبل بفسح مثل هذا الكتاب»، ونسي السيد الفيلكاوي أن الكويت هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمنع «مئة عام من العزلة»، وأن دولا لا تقل محافظة عن الكويت، مثل: السعودية والإمارات، يتم فيها تداول الكتب الفكرية والأدبية بحرية أكبر، ودون مزايدة على أخلاق الشعب أو وصاية على أفكاره.
شاهد آخر على عجز جهاز الرقابة في الكويت عن القراءة المنتجة والتأويل ووضع الأفكار في سياقاتها، هو الطريقة التي تمنع فيها الكتب بصفتها كتبا للشعوذة.
إن تحفظ «الإعلام» عن كتب السحر والخرافات أمر يمكننا أن نفهمه، لكن ما لا نستطيع فهمه، هو منع التناول الأدبي لتلك المواضيع. فأن يصنع روائي مشهدا شعبيا فيه شخصية تؤمن بالسحر، مثلا، يمكن أن يصنف الكتاب أوتوماتيكيا على أنه كتاب للشعوذة. مثل رواية محمد الشحري (موشكا)، الصادرة عن دار سؤال. كان الرقيب ممتعضا جدا، بسبب ثلاث كلمات، هي: «وبخور طاردة للشياطين». أصبح الكتاب، بفعل هذه الكلمات الثلاث، محرضا ضد العقيدة الصحيحة ومروجا للبدع، رغم أنها رواية، تُقرأ في سياقها الأدبي، يصعب أن يقرأها أحد ليصدق بأن البخور يطرد الشياطين ما لم يؤمن بذلك قبلا.
الأمر ذاته حصل مع منع رواية «فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي، فالرواية التي كتبت إدانة للطائفية منعتها «الإعلام»، بحجة أنها رواية طائفية، بسبب وجود شخصيات طائفية، يستحيل بناء عالم الرواية من دونها، وهو ما أكدته المحكمة في حيثيات الحكم، الذي ألغى قرار الوزارة بمنع نشر الرواية «وأن بعض العبارات المأخوذة على المؤلف لا تنال من ثوابت الدين وأصوله، فضلا عن أنها جاءت غير معبِّرة عن وجهة نظر المؤلف، إنما جاءت على ألسن شخوص الرواية في معرض نقده لها، وأن مجرد ذكرها بالرواية لا ينصرف قطعا إلى تبني المؤلف لها أو الترويج لها».
لكن الطريف في الأمر هو ما قالته محامية وزارة الإعلام في إحدى الندوات، دفاعا عن قرار المنع: «كلنا يد واحدة، والغزو يشهد»، وهكذا تحوَّلت الرواية في نظرها إلى تزوير للحقيقة، وعليه يجب منعها.
ثالثاً: هشاشة الأخلاق وتربية المجتمع
الأمر الآخر المتعلق بالآداب العامة، هو أن الإشارة إلى أعضاء من الجسد البشري مثل «فخذ» أو «نهد»، يمكن أن يكون في ذاته سببا للمنع، مثلما حدث مع رواية «طعم الذئب» لعبدالله البصيص، الحائزة جائزة الشارقة للرواية العربية، وديوان الشاعر حسن الصلهبي «مثلما يسجد في الماء البجع»، الصادر عن الدار العربية للعلوم، إذ إن الرقيب تحفَّظ عن البيت الآتي:
«نهدك المارق من ضلعي غوى، وتهادى فوق عشب النزوة اليسرى».
ونحن نتساءل: إن كان الرقيب فهم فحوى البيت، لكنه ليس مضطرا لفهمه، فكلمة نهد بذاتها جريمة، وهو الأمر اللافت حقيقة، لأن الموروث الأدبي العربي، لاسيما المعلقات السبع، مليء بأبيات تتغزل بجسد المرأة، مثل:
البَطنُ ذو عُكَنٍ لَطيفٌ طَيُّهُ وَالإِتبُ تَنفُجُهُ بِثَديٍ مُقعَدِ
يُخَطِّطنَ بِالعيدانِ في كُلِّ مَقعَدٍ وَيَخبَأنَ رُمّانَ الثُدِيِّ النَواهِدِ
كاعِبٌ رِيقُهَا أَلذُّ من الشَّهْـ ـدِ إذا مازَجَتْهُ بنْتُ الكُرُومِ
فما الذي ستفعله «الإعلام» إزاء هذا الموروث؟ هل نعلن قطيعة ثقافية مع المتون التي أسست للأدب العربي؟ هل نمنع المعلقات السبع وقصائد المعري وأبي نؤاس، لأنها لا تتوافق مع منطق الدولة الأخلاقي، ولا تتطابق مع رؤيتها الدينية؟ كيف ستتعامل وزارة الإعلام مع ما كتبه العلماء والأدباء والشعراء والقضاة والفقهاء وعلماء الدين والشيوخ الكبار في الكتابة عن جسد المرأة والعلاقات الجنسية، ومن ذلك كتب: «طوق الحمامة» و»محاضرات الأدباء» للراغب الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبدربه، كذلك كتب مثل «تحفة العروس ومتعة النفوس» للتيجاني، و»عودة الشيخ إلى صباه» و»نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب» للتيفاشي و»المحاضرات» للراغب الأصبهاني، و»ألف ليلة وليلة» و»حماسة أبوتمام» و»الأغانى للأصفهاني»، فهل نمنع هذه الكتب أيضا بحجة تضمنها ألفاظا عن جسد المرأة؟ وهل نتبرأ من تراثنا الأدبي، لكي نتوافق مع المعايير الأخلاقية لوزارة الإعلام؟
المركز الأول في المنع
لماذا تمنع الكتب في دولة مثل الكويت بمعدل يتجاوز أضعاف نسبة المنع في دول أخرى قريبة، مثل: السعودية والإمارات؟ - كرواية فئران أمي حصة للسنعوسي، ورواية خرائط التيه لبثنية العيسى، ولا تقصص رؤياك لعبدالوهاب الحمادي، أو روايات عالمية مثل رواية مئة عام من العزلة، والحب في زمن الكوليرا، والعدد يطول- لأن الآلية التي تجري وفقها عملية الرقابة في ذاتها مَعيبة، إذ يقوم الرقيب (موظف وزارة الإعلام الذي لا يمتلك مؤهلات علمية لقراءة النصوص الفلسفية والأدبية)، باقتناص مجموعة من الأسطر التي تتضمن ألفاظا بعينها باعتبارها مخالفة، بغض النظر عن سياقاتها.
توضع هذه الأسطر في التقرير الذي يرفع بدوره إلى لجنة الرقابة، وهي التي لا تتكبد عناء قراءة الكتاب من أوله إلى آخره، بل تقرأ الأسطر المشبوهة على طريقة «ولا تقربوا الصلاة»، وتقرر منع هذا الكتاب، بحجة حماية المجتمع من الانحلال والانحراف الفكري.
ونحن نتساءل: لماذا نجد في لجنة الرقابة الحالية أعضاء من كلية التربية ومن تخصص الهندسة المدنية وإدارة الأعمال والمكتبات، ولا نجد أساتذة للنقد والأدب والفلسفة قادرين على قراءة تلك النصوص بأدوات علمية، وإنقاذها من مجزرة المنع التي تتم بموجب الجهل وحده؟
وإذا كانت لجنة الرقابة لا تقرأ الكتب التي تمنعها، فإن لجنة التظلم بدورها لا تقرأ الكتب التي تعرض للتظلم، وعليه فإن نظاما رقابيا لا يقرأ، لكنه يراقب القراءة، لا يمكنه أن ينتج إلا مزيدا من المنع، سيكون الأمر أشبه بمطالبة عاقر بأن تنجب أربعة توائم.
ناهيك عن ازدواجية موقف الوزارة بين الإذاعة والكتب، وخاصة مع الأغاني التراثية، إذ ما الذي يجعل بث أغنية تقول «وخص لي في سلامي أبونهيدٍ صغير» أمرا مقبولا، لكن قراءتها في رواية أو ديوان تصبح أمرا خارجا عن الأدب؟
إن الاتفاق على مفهوم واحد للآداب العامة أمر مستحيل، لكن يبدو أن «الإعلام» تأخذ بمنطق المزايدة، وكلما شعر أعضاء لجنة الرقابة بمزيد من «الخدش» لذوقهم الخاص عمَّموا الأمر على البلاد بأسرها. وإذا كان بالإمكان استنتاج شيءٍ واحد من معيار خدش الآداب العامة لدى الرقابة، فهو أن أعضاء اللجنة جاهلون تماما بالموروث العربي، إلى درجة قد تفضي إلى منعِه. المفارقة أن طلبة كلية الآداب في جامعة الكويت يدرسون ذات النصوص التي، بحكم معيار وزارة الإعلام، ينبغي أن تُمنع!
الإشكالية الأخرى، هي الزعم بأن الكتاب قادر على خدش الآداب «العامة»، وهذا الأمر عمليا غير وارد، لأن عملية تلقي الكتاب لا تحدث من قبل جماهير، بل أفراد، وهو ليس بالمشهد الذي يتم بثه على الملأ ويشاهده مئات أو آلاف المتفرجين، إذ حتى لو حدث فعلا أن خدش كتاب ما حياء وذوق قارئه، وهو الأمر الممكن حدوثه، فنحن هنا نتحدث عن الذوق الخاص، لا العام، ومن غير المنطقي أن يعمم الذوق الخاص على المجتمع كله.
إن الثابت من خلال كل هذه النماذج ليس التخبط والعشوائية فحسب، بل انعدام المعيار العلمي، والقدرة الحقيقية على القراءة واستنطاق النصوص، فما تفعله وزارة الإعلام أبعد ما يكون عن «القراءة»، بقدر ما هو عملية تلصص معيبة، باحثة أبدا عن مبررات المنع. هؤلاء، عسس النّص، العاجزون حقيقة عن قراءة فعالة ومنتجة لتلك النصوص، هم وحدهم الذين يبتّون بشأنها.
رابعاً: الجهل بالقيمة الرمزية للكتب
إن دولة تقوم بمنع رواية مثل زوربا اليوناني، فاوست، أحدب نوتردام، الكوميديا الإلهية، دون كيخوته، أو موسوعة تاريخية تتضمن لوحات لمايكل آنجلو، أو كتاب نهج البلاغة، وغيرها من الأدبيات الأساسية التي شكلت منعطفا مهما في مسيرة التاريخ الأدبي الإنساني، هي دولة ما زالت عالقة في العصور الوسطى، وتعمل بمنطق محاكم التفتيش، وتطالب المجتمع بأن يصدق أن «الأرض هي مركز الكون».
إن وزارة الإعلام لا تقيم أي اعتبار لهذه الكتب المركزية في مكتبة العالم، ومنع كتب من هذا النوع لا يختلف أبدا عن منع المباني التاريخية والتراثية، لكن «الإعلام» غير معنية بحماية الذاكرة الإنسانية، بل بحماية الزهايمر الجمعي الذي يحدث بمباركة من قطاع الرقابة.
إن المجزرة الأدبية التي ترتكبها وزارة الإعلام مهينة لكل مواطن كويتي، وهي أسوأ عدو لسمعة الكويت. وبفضل الرقابة يتم تحويل هذا الوطن، كل يوم، من منارة للثقافة والحرية إلى قصة مأساوية عن التخلف والانغلاق الفكري.
خامسا: تنهي عن «طبعة» وتأتي «بغيرها»
لا يتوقف الأمر عند حدود الجهل والسطحية وسجن الكلمة بأغلال المنع والحظر فقط، بل يتجاوز ذلك إلى تناقض الرقابة، وتخبط الرقيب في قرارات الفسح والمنع، فمما يقضى به العجب ولا ينقضي به، أن تُجاز رواية «1984» بطبعة دار التنوير وتُمنع الرواية نفسها بطبعة المركز الثقافي العربي، كذلك أن تجيز «الإعلام» رواية «قواعد العشق الأربعون» لإليف شفق بالنسخة الإنكليزية وتمنعها باللغة العربية.
تكشف هذه التناقضات زيف ما تدعي السلطة الرقابية من أسباب تعلل بها منعها الجائر، فهي دلالة كبيرة على أنه ليس عند لجنة الرقابة قواعد راسخة تستند إليها، لذلك تكون قراراتها أشبه ما تكون بلعبة نرد رقابية، تحاكم الكتب وتناقش الأفكار وفق أمزجة وأهواء أعضاء اللجنة، ووفق تقييم كل فرد فيها بحدود فهمه الخاص ومنظوره الشخصي والضحية هي الكلمة والموءودة هي الثقافة.
المحكمة الإدارية: الإبداع ينصرف إلى كل مختلف عن المألوف
ألغت المحكمة الإدارية قرار وزارة الإعلام منع رواية «فئران أمي حصة» للكاتب سعود السنعوسي.
وجاء في حيثيات الحكم أن حرية الحوار تخرج الرأي والرأي الآخر سامقا مفندا ما قد يعلق بالدين الحنيف من زائف الأباطيل وخاطئ الاتهامات بجمود الفكر تارة وتطرفه تارة أخرى، والإسلام من كليهما براء.
ومن حيث أن الإبداع – في مستقر القول – ينصرف إلى كل مختلف عن المألوف من الأمور، ولكون الاختلاف سمته، فإن الاتفاق عليه يغدو مستحيلا، وهو بصورة المختلفة حق من الحقوق التي حرص الدستور على تقريرها، نصا، وأوجب على الدولة كفالتها على وجه يحقق حمايتها المتمثلة في كونها أداة التقدم والنمو في كافة المجالات، وصون الإبداع الروائي وحمايته باعتباره أحد صور الإبداع – لا يستقيم أمرة أو يستوي على صحيح مقصده إلا بتقييمه فى إطار كونه عملا فنيا بأدواته المختلفة وسيلة من وسائل التنوير بكل فكر جديد يجلي ماضيا بأفكار سقيمة، ويرسم خطوطا للمستقبل حسبما يتخيله المبدع لا حدود إلا رقابة ذاتية من القائمين على هذا الحق يقدرون أطرها، بما لا يحد من طاقات المبدع، ولا يمنع الأفكار والإبداعات على المتلقين مع تباينها واختلافها، ليكون لهم حق الرفض والقول في إطار احترام فكري متبادل.
إن العمل الروائي محل الدعوى لا يخرج عن كونه عملا فنيا واجب تقييمه في إطار أن الاختلاف أو الاتفاق معه لا يكون إلا من منظور فني، وإن طرح أمور تتعلق باختلاف الطوائف لا يمثل خروجا على النظام العام أو الأمن العام، باعتبارهم جزءا من نسيج المجتمعي الواحد شارك بعضهم بإبداعه الفني والأدبي في استبيان العلاقات الاجتماعية على هدى من القاسم المشترك بينهم، والمتمثل في الدين الإسلامي بما يحمله من التسامح والمحبة والإخباء.
لما كانت الرواية تحمل معاني هادفة حاصلها الدعوة إلى التوحد والتمسك بالقيم الأصيلة والعريقة والتراث الخالد ومقت الطائفية ونبذها، وأتت صياغتها سليمة وأفكارها منسقة متراصة في سرد قصصي متناغم يشير إلى إبداع متمسك بالثمين من الأفكار والمعاني، طارحا الغث منها، وتسلسلت أحداثها في أسلوب روائي متناسق، فإن الخلاف على بعض ما قد يرد بها يظل في إطار تقييمها كعمل فني لا يعبر بالضرورة عن وجهة المؤلف، بقدر ما هو رصد لواقع برؤيته قد يعتريه أي من الصواب أو الخطأ.
واعتبرت «الإدارية» أن استجلاء الأفكار لا يكون إلا بطرحها لتجد سبيلا لنقدها بعد الوقوف على كنهها، لئلا تبقى حبيسة خيال مؤلفيها في إطار مفهوم لا يغيب يتمثل في أن الحرية المسؤولة هي دواء الفتنة الطائفية، وأنه قد اندثرت إلى غير رجعة مصادرة الرأي وحجب الفكر وترويج فقر الفكر، والأديان والعقائد السماوية تدعم وترسي حرية الفكر والإبداع، طالما لا تنال من أصولها الثابتة ومبادئها الراسخة.
الاتفاق على مفهوم واحد للآداب العامة أمر مستحيل لكن وزارة الإعلام تأخذ بمنطق المزايدة
الحق البشري في الاختلاف والحق المجتمعي في التعدد أمران غير مقبولين بالنسبة لـ«الإعلام»
معدل منع الكتب في الكويت يتجاوز أضعاف نسبة المنع في السعودية والإمارات
إذا كانت الدولة تسمح بوجود الكنائس فكيف يمكنها أن تمنع استيراد كتب مسيحية؟
http://www.aljarida.com/articles/1536169796204174400/
● نظام رقابي لا يقرأ لكنه يراقب القراءة لا يمكنه أن ينتج إلا المزيد من المنع
● المحكمة الإدارية: الإبداع ينصرف إلى كل مختلف عن المألوف
● الحق البشري في الاختلاف والحق المجتمعي في التعدد أمران لا تقبلهما وزارة الإعلام
● إذا كانت الدولة تسمح بوجود الكنائس فكيف يمكنها منع استيراد كتب مسيحية؟
● الاتفاق على مفهوم واحد للآداب العامة مستحيل لكن «الإعلام» تأخذ بمنطق المزايدة
● معدل منع الكتب في الكويت يتجاوز أضعاف نسبته في السعودية والإمارات
06-09-2018
كتب الخبر محمد العجمي
لا تميِّز وزارة الإعلام، على ما يبدو، بين المساس بالمقدَّسات والاختلاف الفكري والعقدي، وكل ما لا يصبُّ في المقرر الأيديولوجي لوزارة الأوقاف يتم منعه، بتهمة المساس بالمقدَّسات. ولم يخطر ببال أحدٍ من قبل القول إن «المسلمين بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في التراث الإسلامي» أمر يثير حفيظة الرقابة في «الإعلام»، كما لم يخطر لنا القول إن «التعصب القبلي ازدهر مع تولي الدولة الأموية» يمكن أن يكون مساسا.
إن مجرَّد ذكر كلمتي «آدم» و«حواء» غير متبوعتين بعبارة «عليهما السلام» كان مشكلة في كثير من الكتب، لأنه أمر يفتقر إلى «الأدب» مع الأنبياء والملائكة، مع أننا نعرف أن الحقيقة ابنة سياقها، وأن ورود كلمة آدم في السياق التوراتي يختلف عن السياق الإسلامي، وأن اللفظة قد تتضمن حزمة من الرموز الخالية تماما من المرجعية المقدسة، دون أن يعني ذلك مساسا، مثل استخدام الشعراء لكلمة «حواء» كرمز للمرأة الأولى، أو أن يدلل أبٌ طفلته بقوله «يا ملاك»!
شتم وتكفير
إذا كنا نتفهم منع الكتب التي تتضمن شتما وتكفيرا بين المذاهب، إلا أننا لا نفهم منع الكتب التي يأخذ فيها المؤلف موقفا تاريخيا محايدا من الملل الدينية، ويتناول هذا التاريخ موضوعيا، كما في كتاب «العلمانية والسلطة نقد خطاب النخبة العربية» لـنبيل دبابش.
ويبدو أن عدم تقديس مقدَّساتنا بذاته مساس بها، من وجهة نظر «الإعلام»، وهو المنطق ذاته الذي منعت باسمه أهم مؤلفات الباحثين في الأديان، مثل: نصر حامد أبوزيد، سروش، فراس السواح، خزعل الماجدي، وغيرهم.
في سؤال برلماني لوزير الإعلام عن عدد الكتب التي تم منعها خلال السنوات الخمس الماضية، جاء رد الوزير بمنع 4390 كتابا. وطوال تلك السنوات كان المتابع للشأن الثقافي يسمع عن تعسف رقابة «الإعلام» ومجازرها في حق الكتب، لكن لم يسبق له الاطلاع على حيثيات المنع، والأساس الذي بنيت عليه كل تلك القرارات.
وإذا كان القانون الكويتي يجرِّم المساس بالمقدَّسات الدينية ونشر خطاب الكراهية، فإن «الإعلام» تجاوزت حدود النص القانوني فيما يتعلق بالمقدَّسات، حتى أصبحت لدينا سلالات مقدَّسة لا يمكن مناقشة تاريخها، ولا الوقوف عندها حتى.
إن مجرَّد نقل واقعة تاريخية أمر ممنوع، كما حدث في كتاب «معاوية بن أبي سفيان مؤسس الدولة في الميزان» لعباس محمود العقاد، فضلا عن مؤلفات د. علي الوردي، مثل: «وعاظ السلاطين» و«مهزلة العقل البشري».
أولاً: الحق البشري في الاختلاف
وفي الوقت نفسه الذي ترى «الإعلام» أنها تحمي المقدَّسات، نجدها تمنع أحد أهم الكتب في مكتبتنا العربية، وهو كتاب «نهج البلاغة»، لما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب. لقد منعت «الإعلام» هذا الكتاب المركزي في التراث العربي والديني لعدة أسطر، منها «كنتم جند المرأة وأتباع البهيمة».
وإذا كانت كتب الطائفة الشيعية لها نصيب وافر من المنع، إلا أن كثيرا من كتب أهل السُنة (الأشاعرة، المعتزلة، المتصوفة، وغيرهم) تم منعها أيضا، نذكر منها كتاب الإمام أبي القاسم القشيري (شكاية أهل السُنة بحكاية ما نالهم من محنة)، وكتاب «نساء حول الرسول» لـمحمد علي القطب، وكتاب «قصص الأنبياء» لـلدكتور عمر عبدالكافي.
بحجة حماية الوحدة الوطنية تم قمع الكثير من الأصوات الفكرية والمذهبية والدينية، وكأن التعايش بين المختلفين؛ فكريا ودينيا، لا يمكن أن يتحقق على أرض الواقع، وهو المؤشر المخيف على هشاشة فكرة المواطنة في نظر «الإعلام».
تناقض سافر
إن قرارات المنع الصادرة في «الإعلام» تتناقض بشكل سافر مع دستور الكويت، الذي كفل حرية الاعتقاد والتعدد الفكري والديني والمذهبي. والمطلع على سلسلة تقارير المنع الصادرة بحق أهم المؤلفات التاريخية والسياسية والفكرية يرى أن الأمر يتجاوز حماية مقدَّسات المجتمع إلى شكل من أشكال الفاشية الفكرية، لتعبئة المجتمع بفكر أحادي، وطمس كل ما عداه.
ولأن الحق البشري في الاختلاف والحق المجتمعي في التعدد أمران غير مقبولين بالنسبة لـ»الإعلام»، فإن الرقابة تتعدى على حق القارئ في الحصول على المعرفة، وفي تبني الأفكار التي يريدها، وتشكك في قدرة المجتمع على التعايش، فضلا عن كونها أداة للتجهيل وتكريس البلاهة التاريخية وتقديس التاريخ إلى حد منع الاقتراب منه.
إن أمة لديها كل هذه المقدسات (رغم غياب الكهنوت ورجال الدين وسطاء الإله)، لابد أن تكون أمة مثقلة جدا بماضيها.
شاهد آخر على عجز «الإعلام» عن التمييز بين المساس بالمقدَّسات والاختلاف العقدي، أنها منعت، على سبيل المثال، كتاب «في الأصول المصرية للديانة المسيحية»، بسبب أسطر من قبيل «لم يكن يسوع ابنا لملك ولا مولودا في سلالة ملوك» وغيرها.
وسواء تطابقت هذه الأفكار مع العقيدة الإسلامية، أو اختلفت معها، فإن الاختلاف لا يعتبر تعديا على الدين الإسلامي، لأنه ببساطة مجرَّد اختلاف عقدي. وإذا كانت الدولة تسمح بوجود الكنائس، فكيف يمكنها أن تمنع استيراد كتب مسيحية؟
وبالمثل منعت «الإعلام» كتاب «لغز عشتار» لفراس السواح، رغم أنه لا يتقاطع مع العقيدة الإسلامية من بعيد أو قريب، بل يتحدث عن أشكال الألوهة المؤنثة في الحضارات القديمة، مثل: بابل وسومر وغيرهما.
ثانياً: القراءة السطحية والعجز عن التأويل
إن المطلع على تقارير منع «الإعلام» سيكتشف مدى عجز الرقيب عن قراءة وتأويل النصوص الأدبية. فاستخدام كلمة «ملاك»، على سبيل الاستعارة، أمر قد يودي بالكتاب إلى المنع، بتهمة المساس بالمقدَّسات. على سبيل المثال، في كتاب «الضائعة» لـعبدالله الصالح، الصادر عن دار المدى، تحفظت الرقابة عن تشبيه أورده المؤلف بقوله «الذي مسّها كملاكٍ غامض». وفي سطر آخر، قوله: «فلتحرسنا ملائكتنا الحارسة أثناء نومنا».
إن عجز المؤسسة الرقابية عن التأويل، وما تتطلبه قراءة النصوص الأدبية أمر واضح، إذ يؤخذ النص بجريرة ظاهر القول على الدوام.
إن توظيف لفظ الجلالة في سياق شعري بذاته أمر ممنوع، على سبيل المثال، تم منع ديوان «زهرة في حوض الرب» لـسعاد المحتسب، بسبب بضعة أسطر، منها:
«دعه يا الله يفتح الباب لنفسه
واسقه من أنهار رحمتك
لا تعنفه إن تعثر على السراط
سوف يعبر، سوف يخترق إلى مثواه».
ولا نعرف الإشكالية التي وجدها الرقيب مع هذه الأسطر، رغم أنها متسقة حتى مع الآية القرآنية (إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)، لكن عجز الرقيب عن قراءة الشعر يجعله متورطا في ألفاظ ظاهرة يبدو أنه تلقى تعليمات بأن مجرَّد تلفظها يعتبر تجديفا.
100 عام
في لقاءٍ أذيع على الهواء مع الإعلامي حسين الفيلكاوي على قناة العربية، مدافعا عن قرار منع رواية «مئة عام من العزلة» لغابرييل غارسيا ماركيز، ذهب الفيلكاوي إلى أنه «لا توجد دولة في العالم تقبل بفسح مثل هذا الكتاب»، ونسي السيد الفيلكاوي أن الكويت هي الدولة الوحيدة في العالم التي تمنع «مئة عام من العزلة»، وأن دولا لا تقل محافظة عن الكويت، مثل: السعودية والإمارات، يتم فيها تداول الكتب الفكرية والأدبية بحرية أكبر، ودون مزايدة على أخلاق الشعب أو وصاية على أفكاره.
شاهد آخر على عجز جهاز الرقابة في الكويت عن القراءة المنتجة والتأويل ووضع الأفكار في سياقاتها، هو الطريقة التي تمنع فيها الكتب بصفتها كتبا للشعوذة.
إن تحفظ «الإعلام» عن كتب السحر والخرافات أمر يمكننا أن نفهمه، لكن ما لا نستطيع فهمه، هو منع التناول الأدبي لتلك المواضيع. فأن يصنع روائي مشهدا شعبيا فيه شخصية تؤمن بالسحر، مثلا، يمكن أن يصنف الكتاب أوتوماتيكيا على أنه كتاب للشعوذة. مثل رواية محمد الشحري (موشكا)، الصادرة عن دار سؤال. كان الرقيب ممتعضا جدا، بسبب ثلاث كلمات، هي: «وبخور طاردة للشياطين». أصبح الكتاب، بفعل هذه الكلمات الثلاث، محرضا ضد العقيدة الصحيحة ومروجا للبدع، رغم أنها رواية، تُقرأ في سياقها الأدبي، يصعب أن يقرأها أحد ليصدق بأن البخور يطرد الشياطين ما لم يؤمن بذلك قبلا.
الأمر ذاته حصل مع منع رواية «فئران أمي حصة» لسعود السنعوسي، فالرواية التي كتبت إدانة للطائفية منعتها «الإعلام»، بحجة أنها رواية طائفية، بسبب وجود شخصيات طائفية، يستحيل بناء عالم الرواية من دونها، وهو ما أكدته المحكمة في حيثيات الحكم، الذي ألغى قرار الوزارة بمنع نشر الرواية «وأن بعض العبارات المأخوذة على المؤلف لا تنال من ثوابت الدين وأصوله، فضلا عن أنها جاءت غير معبِّرة عن وجهة نظر المؤلف، إنما جاءت على ألسن شخوص الرواية في معرض نقده لها، وأن مجرد ذكرها بالرواية لا ينصرف قطعا إلى تبني المؤلف لها أو الترويج لها».
لكن الطريف في الأمر هو ما قالته محامية وزارة الإعلام في إحدى الندوات، دفاعا عن قرار المنع: «كلنا يد واحدة، والغزو يشهد»، وهكذا تحوَّلت الرواية في نظرها إلى تزوير للحقيقة، وعليه يجب منعها.
ثالثاً: هشاشة الأخلاق وتربية المجتمع
الأمر الآخر المتعلق بالآداب العامة، هو أن الإشارة إلى أعضاء من الجسد البشري مثل «فخذ» أو «نهد»، يمكن أن يكون في ذاته سببا للمنع، مثلما حدث مع رواية «طعم الذئب» لعبدالله البصيص، الحائزة جائزة الشارقة للرواية العربية، وديوان الشاعر حسن الصلهبي «مثلما يسجد في الماء البجع»، الصادر عن الدار العربية للعلوم، إذ إن الرقيب تحفَّظ عن البيت الآتي:
«نهدك المارق من ضلعي غوى، وتهادى فوق عشب النزوة اليسرى».
ونحن نتساءل: إن كان الرقيب فهم فحوى البيت، لكنه ليس مضطرا لفهمه، فكلمة نهد بذاتها جريمة، وهو الأمر اللافت حقيقة، لأن الموروث الأدبي العربي، لاسيما المعلقات السبع، مليء بأبيات تتغزل بجسد المرأة، مثل:
البَطنُ ذو عُكَنٍ لَطيفٌ طَيُّهُ وَالإِتبُ تَنفُجُهُ بِثَديٍ مُقعَدِ
يُخَطِّطنَ بِالعيدانِ في كُلِّ مَقعَدٍ وَيَخبَأنَ رُمّانَ الثُدِيِّ النَواهِدِ
كاعِبٌ رِيقُهَا أَلذُّ من الشَّهْـ ـدِ إذا مازَجَتْهُ بنْتُ الكُرُومِ
فما الذي ستفعله «الإعلام» إزاء هذا الموروث؟ هل نعلن قطيعة ثقافية مع المتون التي أسست للأدب العربي؟ هل نمنع المعلقات السبع وقصائد المعري وأبي نؤاس، لأنها لا تتوافق مع منطق الدولة الأخلاقي، ولا تتطابق مع رؤيتها الدينية؟ كيف ستتعامل وزارة الإعلام مع ما كتبه العلماء والأدباء والشعراء والقضاة والفقهاء وعلماء الدين والشيوخ الكبار في الكتابة عن جسد المرأة والعلاقات الجنسية، ومن ذلك كتب: «طوق الحمامة» و»محاضرات الأدباء» للراغب الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبدربه، كذلك كتب مثل «تحفة العروس ومتعة النفوس» للتيجاني، و»عودة الشيخ إلى صباه» و»نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب» للتيفاشي و»المحاضرات» للراغب الأصبهاني، و»ألف ليلة وليلة» و»حماسة أبوتمام» و»الأغانى للأصفهاني»، فهل نمنع هذه الكتب أيضا بحجة تضمنها ألفاظا عن جسد المرأة؟ وهل نتبرأ من تراثنا الأدبي، لكي نتوافق مع المعايير الأخلاقية لوزارة الإعلام؟
المركز الأول في المنع
لماذا تمنع الكتب في دولة مثل الكويت بمعدل يتجاوز أضعاف نسبة المنع في دول أخرى قريبة، مثل: السعودية والإمارات؟ - كرواية فئران أمي حصة للسنعوسي، ورواية خرائط التيه لبثنية العيسى، ولا تقصص رؤياك لعبدالوهاب الحمادي، أو روايات عالمية مثل رواية مئة عام من العزلة، والحب في زمن الكوليرا، والعدد يطول- لأن الآلية التي تجري وفقها عملية الرقابة في ذاتها مَعيبة، إذ يقوم الرقيب (موظف وزارة الإعلام الذي لا يمتلك مؤهلات علمية لقراءة النصوص الفلسفية والأدبية)، باقتناص مجموعة من الأسطر التي تتضمن ألفاظا بعينها باعتبارها مخالفة، بغض النظر عن سياقاتها.
توضع هذه الأسطر في التقرير الذي يرفع بدوره إلى لجنة الرقابة، وهي التي لا تتكبد عناء قراءة الكتاب من أوله إلى آخره، بل تقرأ الأسطر المشبوهة على طريقة «ولا تقربوا الصلاة»، وتقرر منع هذا الكتاب، بحجة حماية المجتمع من الانحلال والانحراف الفكري.
ونحن نتساءل: لماذا نجد في لجنة الرقابة الحالية أعضاء من كلية التربية ومن تخصص الهندسة المدنية وإدارة الأعمال والمكتبات، ولا نجد أساتذة للنقد والأدب والفلسفة قادرين على قراءة تلك النصوص بأدوات علمية، وإنقاذها من مجزرة المنع التي تتم بموجب الجهل وحده؟
وإذا كانت لجنة الرقابة لا تقرأ الكتب التي تمنعها، فإن لجنة التظلم بدورها لا تقرأ الكتب التي تعرض للتظلم، وعليه فإن نظاما رقابيا لا يقرأ، لكنه يراقب القراءة، لا يمكنه أن ينتج إلا مزيدا من المنع، سيكون الأمر أشبه بمطالبة عاقر بأن تنجب أربعة توائم.
ناهيك عن ازدواجية موقف الوزارة بين الإذاعة والكتب، وخاصة مع الأغاني التراثية، إذ ما الذي يجعل بث أغنية تقول «وخص لي في سلامي أبونهيدٍ صغير» أمرا مقبولا، لكن قراءتها في رواية أو ديوان تصبح أمرا خارجا عن الأدب؟
إن الاتفاق على مفهوم واحد للآداب العامة أمر مستحيل، لكن يبدو أن «الإعلام» تأخذ بمنطق المزايدة، وكلما شعر أعضاء لجنة الرقابة بمزيد من «الخدش» لذوقهم الخاص عمَّموا الأمر على البلاد بأسرها. وإذا كان بالإمكان استنتاج شيءٍ واحد من معيار خدش الآداب العامة لدى الرقابة، فهو أن أعضاء اللجنة جاهلون تماما بالموروث العربي، إلى درجة قد تفضي إلى منعِه. المفارقة أن طلبة كلية الآداب في جامعة الكويت يدرسون ذات النصوص التي، بحكم معيار وزارة الإعلام، ينبغي أن تُمنع!
الإشكالية الأخرى، هي الزعم بأن الكتاب قادر على خدش الآداب «العامة»، وهذا الأمر عمليا غير وارد، لأن عملية تلقي الكتاب لا تحدث من قبل جماهير، بل أفراد، وهو ليس بالمشهد الذي يتم بثه على الملأ ويشاهده مئات أو آلاف المتفرجين، إذ حتى لو حدث فعلا أن خدش كتاب ما حياء وذوق قارئه، وهو الأمر الممكن حدوثه، فنحن هنا نتحدث عن الذوق الخاص، لا العام، ومن غير المنطقي أن يعمم الذوق الخاص على المجتمع كله.
إن الثابت من خلال كل هذه النماذج ليس التخبط والعشوائية فحسب، بل انعدام المعيار العلمي، والقدرة الحقيقية على القراءة واستنطاق النصوص، فما تفعله وزارة الإعلام أبعد ما يكون عن «القراءة»، بقدر ما هو عملية تلصص معيبة، باحثة أبدا عن مبررات المنع. هؤلاء، عسس النّص، العاجزون حقيقة عن قراءة فعالة ومنتجة لتلك النصوص، هم وحدهم الذين يبتّون بشأنها.
رابعاً: الجهل بالقيمة الرمزية للكتب
إن دولة تقوم بمنع رواية مثل زوربا اليوناني، فاوست، أحدب نوتردام، الكوميديا الإلهية، دون كيخوته، أو موسوعة تاريخية تتضمن لوحات لمايكل آنجلو، أو كتاب نهج البلاغة، وغيرها من الأدبيات الأساسية التي شكلت منعطفا مهما في مسيرة التاريخ الأدبي الإنساني، هي دولة ما زالت عالقة في العصور الوسطى، وتعمل بمنطق محاكم التفتيش، وتطالب المجتمع بأن يصدق أن «الأرض هي مركز الكون».
إن وزارة الإعلام لا تقيم أي اعتبار لهذه الكتب المركزية في مكتبة العالم، ومنع كتب من هذا النوع لا يختلف أبدا عن منع المباني التاريخية والتراثية، لكن «الإعلام» غير معنية بحماية الذاكرة الإنسانية، بل بحماية الزهايمر الجمعي الذي يحدث بمباركة من قطاع الرقابة.
إن المجزرة الأدبية التي ترتكبها وزارة الإعلام مهينة لكل مواطن كويتي، وهي أسوأ عدو لسمعة الكويت. وبفضل الرقابة يتم تحويل هذا الوطن، كل يوم، من منارة للثقافة والحرية إلى قصة مأساوية عن التخلف والانغلاق الفكري.
خامسا: تنهي عن «طبعة» وتأتي «بغيرها»
لا يتوقف الأمر عند حدود الجهل والسطحية وسجن الكلمة بأغلال المنع والحظر فقط، بل يتجاوز ذلك إلى تناقض الرقابة، وتخبط الرقيب في قرارات الفسح والمنع، فمما يقضى به العجب ولا ينقضي به، أن تُجاز رواية «1984» بطبعة دار التنوير وتُمنع الرواية نفسها بطبعة المركز الثقافي العربي، كذلك أن تجيز «الإعلام» رواية «قواعد العشق الأربعون» لإليف شفق بالنسخة الإنكليزية وتمنعها باللغة العربية.
تكشف هذه التناقضات زيف ما تدعي السلطة الرقابية من أسباب تعلل بها منعها الجائر، فهي دلالة كبيرة على أنه ليس عند لجنة الرقابة قواعد راسخة تستند إليها، لذلك تكون قراراتها أشبه ما تكون بلعبة نرد رقابية، تحاكم الكتب وتناقش الأفكار وفق أمزجة وأهواء أعضاء اللجنة، ووفق تقييم كل فرد فيها بحدود فهمه الخاص ومنظوره الشخصي والضحية هي الكلمة والموءودة هي الثقافة.
المحكمة الإدارية: الإبداع ينصرف إلى كل مختلف عن المألوف
ألغت المحكمة الإدارية قرار وزارة الإعلام منع رواية «فئران أمي حصة» للكاتب سعود السنعوسي.
وجاء في حيثيات الحكم أن حرية الحوار تخرج الرأي والرأي الآخر سامقا مفندا ما قد يعلق بالدين الحنيف من زائف الأباطيل وخاطئ الاتهامات بجمود الفكر تارة وتطرفه تارة أخرى، والإسلام من كليهما براء.
ومن حيث أن الإبداع – في مستقر القول – ينصرف إلى كل مختلف عن المألوف من الأمور، ولكون الاختلاف سمته، فإن الاتفاق عليه يغدو مستحيلا، وهو بصورة المختلفة حق من الحقوق التي حرص الدستور على تقريرها، نصا، وأوجب على الدولة كفالتها على وجه يحقق حمايتها المتمثلة في كونها أداة التقدم والنمو في كافة المجالات، وصون الإبداع الروائي وحمايته باعتباره أحد صور الإبداع – لا يستقيم أمرة أو يستوي على صحيح مقصده إلا بتقييمه فى إطار كونه عملا فنيا بأدواته المختلفة وسيلة من وسائل التنوير بكل فكر جديد يجلي ماضيا بأفكار سقيمة، ويرسم خطوطا للمستقبل حسبما يتخيله المبدع لا حدود إلا رقابة ذاتية من القائمين على هذا الحق يقدرون أطرها، بما لا يحد من طاقات المبدع، ولا يمنع الأفكار والإبداعات على المتلقين مع تباينها واختلافها، ليكون لهم حق الرفض والقول في إطار احترام فكري متبادل.
إن العمل الروائي محل الدعوى لا يخرج عن كونه عملا فنيا واجب تقييمه في إطار أن الاختلاف أو الاتفاق معه لا يكون إلا من منظور فني، وإن طرح أمور تتعلق باختلاف الطوائف لا يمثل خروجا على النظام العام أو الأمن العام، باعتبارهم جزءا من نسيج المجتمعي الواحد شارك بعضهم بإبداعه الفني والأدبي في استبيان العلاقات الاجتماعية على هدى من القاسم المشترك بينهم، والمتمثل في الدين الإسلامي بما يحمله من التسامح والمحبة والإخباء.
لما كانت الرواية تحمل معاني هادفة حاصلها الدعوة إلى التوحد والتمسك بالقيم الأصيلة والعريقة والتراث الخالد ومقت الطائفية ونبذها، وأتت صياغتها سليمة وأفكارها منسقة متراصة في سرد قصصي متناغم يشير إلى إبداع متمسك بالثمين من الأفكار والمعاني، طارحا الغث منها، وتسلسلت أحداثها في أسلوب روائي متناسق، فإن الخلاف على بعض ما قد يرد بها يظل في إطار تقييمها كعمل فني لا يعبر بالضرورة عن وجهة المؤلف، بقدر ما هو رصد لواقع برؤيته قد يعتريه أي من الصواب أو الخطأ.
واعتبرت «الإدارية» أن استجلاء الأفكار لا يكون إلا بطرحها لتجد سبيلا لنقدها بعد الوقوف على كنهها، لئلا تبقى حبيسة خيال مؤلفيها في إطار مفهوم لا يغيب يتمثل في أن الحرية المسؤولة هي دواء الفتنة الطائفية، وأنه قد اندثرت إلى غير رجعة مصادرة الرأي وحجب الفكر وترويج فقر الفكر، والأديان والعقائد السماوية تدعم وترسي حرية الفكر والإبداع، طالما لا تنال من أصولها الثابتة ومبادئها الراسخة.
الاتفاق على مفهوم واحد للآداب العامة أمر مستحيل لكن وزارة الإعلام تأخذ بمنطق المزايدة
الحق البشري في الاختلاف والحق المجتمعي في التعدد أمران غير مقبولين بالنسبة لـ«الإعلام»
معدل منع الكتب في الكويت يتجاوز أضعاف نسبة المنع في السعودية والإمارات
إذا كانت الدولة تسمح بوجود الكنائس فكيف يمكنها أن تمنع استيراد كتب مسيحية؟
http://www.aljarida.com/articles/1536169796204174400/