سلسبيل
06-15-2005, 04:46 PM
رشيد الخيُّون
أنفلجت ضفتا الفرات بعد مهبطه من الأنبار وهيت وحديثة وعانة فكانت بلدة الفَلُّوجة. وبما أن المدن حسب أبو حيان التوحيدي عن بعض الحكماء «تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة»(الإمتاع والمؤانسة)، بُنيت الفلُّوجة محطة على ماء الفرات ترسو عندها السفن الماخرة مياه النهر بين جنوب العراق حتى أقاصي غربه. ويصفها الجغرافيون بالأرض «الطيبة البيضاء المستخرجة للزراعة»(ابن منظور، لسان العرب). ومثلما تولت الفلُّوجة حصانة طريق الماء تولت مهام خدمة وحراسة طريق البر بين بغداد والأنبار إلى سوريا والأردن. الطريق الذي هرب منه أكثر المطلوبين للأنظمة العراقية، فالملكيون هربوا عبره إلى دارهم بعمان والبعثيون هربوا منه إلى دارهم بدمشق. وبما أنه الطريق الوحيد الذي ظل مفتوحاً سنوات الحصار هُربت عبره آثار العراق ورُحلت أمواله، وعبره فرَّ بنات صدام وأزواجهنَّ وقادة جيش ورئيس أركانه، ولو فسح المجال لكان طريقاً لهروب صدام أيضاً.
أشتهرت بلدة الفَلُّوجة الساعة اشتهار روما ولندن وسدوم وأور. شهرتها أربع جثث غرباء خالفت الفلُّوجة في التعامل معها كل تاريخها المسالم. فماذا ينتظر من بلدة الماء والزرع غير الوداعة والرقة والتدين الممزوج بطبائع الريف، فهي أكثر البلاد تعوداً على الغرباء. لكن مثلما تتبدل طبائع البشر تتبدل طبائع البلدان. فتحولت فلاليج السواد إلى مخازن للسلاح الثقيل، ومكامن للقادمين من أفغانستان، فعلى إحدى المنائر كتب اسم أفغانستان. وكتب الأخوة العرب القادمون من هناك عبارات لم يكتبها الفلوجيون طوال عمر بلدتهم الغارق بالقِدم، مثل «ارفع رأسك أنت من الفَلُّوجة»، و«من الفلوجة تحرر القدس» وغيرها.
الفَلُّوجة فَلُّوجتان: العليا والسفلى أو الكبرى والصغرى. قال ياقوت الحموي عن آخرين: «فلاليج السواد قراها، وإحداها الفَلُّوجة»، وكانت تعد من سواد بغداد والكوفة (معجم البلدان). قال الشاعر:
رَيا الرَّوادِف غادةٌ
بين الطويلة والقصيرة
حلَّت فَلاليج السواد
وحلَّ أهلي بالجزيرة
وللفلج عدة معان جميلة، ليس بينها إرهاب واغتيال ومقاومة وتعصب لدين أو مذهب. فالفُلج: الساقية أو الماء الجاري، والفُلجان: سواقي الزرع، والفَلَجات المزارع. والفَلج: الصبح. قال الشاعر:
عن القراميص بأعلى لاحِبِ
مُعبدٍ من عهد عادٍ كالفَلج
والفَلج أو الفُلج: القَمْر. والفَلُّوج: الكاتب. والفَلِج: الصنف من الناس. والفَالج: البعير ذو السنامين، وقافلتها فوالج. والمرأة الفلجاء التي أفترقت أسنانها، أو فعلت ذلك طلباً للجمال. والفَلج: الظفر والفوز.
أشار اسم الفَلُّوجة الأكدي والآرامي إلى الانشطار أو الانفلاج، فعرفها الأكديون ببلوكاتو وعرفها الآراميون ببلوكثا (بشير فرنسيس وكوركيس عواد، مجلة سومر). ارتاد شاطئها الإنكليز زمن الملكة إليزابيث الأولى و«أبقوا سفنهم فيها وسافروا براً إلى دجلة أسفل المدائن بثلاثة فراسخ»(لسترنج، بلدان الخلافة الشرقية). وبقربها خرائب الأنبار القديمة تقاوم الدهور، الأنبار التي أخذت اسمها من أنابير الحبوب، وهي الرمادي. ويرى المحقق عبود الشالجي أن الفَلُّوجة حلت محل الأنبار (حاشية كتاب الفرج بعد الشدة)، ولا أرى هذا صحيحاً، لأن أخبار البلدتين وردت في التاريخ بمعزل عن بعضهما البعض.
عُدت الفَلُّوجة في العهد الساساني من بلدان العراق أوطسوجها الثمانية والأربعين على دجلة والفرات. وسمع مؤرخون مسلمون بسحر وأساطير بابل من دهاقنتها. قال ابن الجوزي سمعت أبي عن جدي سمع دهقان الفَلُّوجة قال: «كان ببابل سبع مدائن في كل مدينة أعجوبة ليست في الأخرى، في المدينة الأولى التي منها ملكها تمثال الأرض جميعاً، فإذا أتوا عليه بعين أهل مملكته بخراجها خرق أنهارها عليهم، فغرقت حيث كانت، فلا يستطيعون لها سداً حتى يؤدون ما عليهم فإذا سدت عليهم في تماثيلهم انسدت في بلادها» (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)، ثم أتى على عجائب المدائن الست واحدة واحدة.
وكان دهقان الفَلُّوجة، المعاصر لولاية الحجاج بن يوسف الثقفي على العراق، جميل بن بصبهرى يستعان برأيه، وهو شيخ طاعن بالسن تهدل حاجباه على عينيه، فأتاه عبيد الله بن أبي المُخارق، مرشح الحجاج لولاية الفَلُّوجة، طالباً النصيحة لأنه لا يأمن شرَّ حجاج على نفسه، فمما نصحه فيه: أن لا يستعمل حاجباً، ويطيل الجلوس لعماله، ولا يفرق في الحكم بين الناس، ويعامل الوضيع كمعاملته للشريف وألا يقبل الهدايا(مروج الذهب).
ووردت أخبار الفَلُّوجة في السنة 12 هجرية أي قبل سقوط مدائن كسرى بيد العرب المسلمين بست سنوات، ودهاقنها من اسرة بصُبهرى، وقد تعامل معه خالد بن الوليد بعد خروجه من الحيرة. قال الطبري: «المسلمون يمخرون السَّواد والمثنى بالأنبار، ويثنون الغارات فيما بين كسكر (لعلها قلعة سكر اليوم من أطراف الناصرية) وأسفل الفرات، وجسور مثقب إلى عين تمر وما ولاها من أرض الفلاليج» (تاريخ الملوك والأمم).
وشهدت الفلوجة معارك الخوارج ضد الأمويين اثناء إمارة الحجاج على العراق، فقتل فيها أمير الخوارج أبو زياد المرادي (تاريخ اليعقوبي). ودارت فيها سنة 132هـ معركة حاسمة بين الأمويين بقيادة يزيد بن هبيرة من جهة والعباسيين بقيادة قحطبة بن شبيب وأولاده من جهة أخرى. غلب فيها العباسيون رغم غرق قحطبة في ماء الفرات أو أختفى لأمر آخر، وعندها قال آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد «والله الإدبار! وإلا فمَنْ سمع بميت يهزم حياً» (تاريخ اليعقوبي)؟ ويعني فرار يزيد بن هبيرة.
شهدت أرض الفَلُّوجة أيضاً معارك عباسية علوية. أتى إليها سنة 250هـ حفيد زيد بن علي يحيى بن عمر فنزل «قرية تعرف بالعمد، ومنها تحرك إلى الكوفة فغلب عليها وفتح سجنها، ثم قتل فيها» (تاريخ الملوك والأمم). وللقرامطة نشاطهم بالفَلُّوجة، ففي سنة 293هـ «أنفذ زكرويه بن مهرويه بعدما قتل ابنه صاحب الشامة رجلاً كان يعلم الصبيان بقرية تدعى الزابوقة من عمل الفَلُّوجة، يسمى عبد الله ويكنى أبا غانم، فتسمى نصراً ليعمي أمره، فجذب إليه أتباعاً، تحرك بهم بعد تضييق العباسيين إلى الشام».
ظلت الفَلُّوجة طوال العهود العثمانية والإيرانية مكان كر وفرِّ بين الجيوش لأنها تقع على قارعة طريق العثمانيين من استانبول إلى بغداد، ولا يأمن القابع ببغداد على سلطانه إلا إذا أخضعها له، فمَنْ تمكن منها تمكن من بغداد. ولهذا شهدت تحضيرات الحروب بين الطرفين من تخزين الذخيرة والمد بالمؤنة. يروي تاريخها قصصا وملاحم حربية، لكنها ظلت مدينة آمنة، أغمضت عينها عن هموم الطريق المار بها، أو حافة النهر المزدحمة بتبادل الأعداء الغرباء المواقع بين منتصر ومندحر. ولا تراها مغتنية من الأتاوة التي تؤخذ من المسافرين المارين بها. وهي في كل الأحوال منطقة وسيطة، يطولها هيمنة منْ تغلب على أعالي الفرات، ومَنْ تغلب على أسافله. فعندما هيمن الشيخ ناصر بن مهنا بموافقة السلطان العثماني ووزير العراق أخذ يحصل الأتاوات من المسافرين من بغداد ، بعد أن ملك القسم الجنوبي من النجف حتى الفَلُّوجة.
ولأنها أرض زرع ومرعى أشتهر بين العراقيين كبابها، شهرة كباب أربيل ومسكوف شارع أبي نواس وباجة الحاتي. وعرفت بجسرها الحديدي، الذي أنشئ على الفرات العام 1929، وبالسياحة إليها، ففيها دائرة خاصة بالغابات ونوادٍ، وطريق بحيرة الحبانية الساحرة يمر عبرها من أعلى العراق وأسفله، فهي لا تبعد عن الأنبار غير 54 كم وعن بغداد 61 كم.
وإن كانت الفَلُّوجة بلدة عراقية أخذت اسمها من فَلّج الفرات فليس لنا علم بأصل تسمية مدينة الفالوجة الفلسطينية، التي قيل خدم فيها جمال عبد الناصر. ورغم شهرة فَلَّوجة العراق إلا أن المذيع العربي يصر على لفظها بالفالوجة، ليس من باب قرنها بالفالوجة وإنما لسهولة اللفظ قد تقتضي التصحيف. وربما أسفر التقارب بين اللفظين إلى شعارات معبأة بالألفاظ لا بالمعاني.
قرأنا في الصحافة الإلكترونية شعارات مثل «من الفلوجة إلى الفالوجة». ومقالات عادلت بين قضية فلسطين وقضية الفَلُّوجة. رغم أن فَلُّوجتنا ليس لها قضية احتلال مثل احتلال الفالوجة. وهي أعلنت مثل غيرها من مدن العراق فرحتها في الخلاص من النظام السابق، فلأجساد شبابها حصة في مقابر الحروب. ما أدهشني حقاً أن مَنْ يحمس الفَلُّوجة على المضي في (المقاومة) ومدح صبيانها لسحل الجثث والتمثيل بالموتى هم من الغرباء، ومَنْ كتب المقالات الحماسية هم من الغرباء، ومَنْ يعرض أهل الفَلَّوجة إلى الموت هم من الغرباء أيضاً.
أنفلجت ضفتا الفرات بعد مهبطه من الأنبار وهيت وحديثة وعانة فكانت بلدة الفَلُّوجة. وبما أن المدن حسب أبو حيان التوحيدي عن بعض الحكماء «تبنى على الماء والمرعى والمحتطب والحصانة»(الإمتاع والمؤانسة)، بُنيت الفلُّوجة محطة على ماء الفرات ترسو عندها السفن الماخرة مياه النهر بين جنوب العراق حتى أقاصي غربه. ويصفها الجغرافيون بالأرض «الطيبة البيضاء المستخرجة للزراعة»(ابن منظور، لسان العرب). ومثلما تولت الفلُّوجة حصانة طريق الماء تولت مهام خدمة وحراسة طريق البر بين بغداد والأنبار إلى سوريا والأردن. الطريق الذي هرب منه أكثر المطلوبين للأنظمة العراقية، فالملكيون هربوا عبره إلى دارهم بعمان والبعثيون هربوا منه إلى دارهم بدمشق. وبما أنه الطريق الوحيد الذي ظل مفتوحاً سنوات الحصار هُربت عبره آثار العراق ورُحلت أمواله، وعبره فرَّ بنات صدام وأزواجهنَّ وقادة جيش ورئيس أركانه، ولو فسح المجال لكان طريقاً لهروب صدام أيضاً.
أشتهرت بلدة الفَلُّوجة الساعة اشتهار روما ولندن وسدوم وأور. شهرتها أربع جثث غرباء خالفت الفلُّوجة في التعامل معها كل تاريخها المسالم. فماذا ينتظر من بلدة الماء والزرع غير الوداعة والرقة والتدين الممزوج بطبائع الريف، فهي أكثر البلاد تعوداً على الغرباء. لكن مثلما تتبدل طبائع البشر تتبدل طبائع البلدان. فتحولت فلاليج السواد إلى مخازن للسلاح الثقيل، ومكامن للقادمين من أفغانستان، فعلى إحدى المنائر كتب اسم أفغانستان. وكتب الأخوة العرب القادمون من هناك عبارات لم يكتبها الفلوجيون طوال عمر بلدتهم الغارق بالقِدم، مثل «ارفع رأسك أنت من الفَلُّوجة»، و«من الفلوجة تحرر القدس» وغيرها.
الفَلُّوجة فَلُّوجتان: العليا والسفلى أو الكبرى والصغرى. قال ياقوت الحموي عن آخرين: «فلاليج السواد قراها، وإحداها الفَلُّوجة»، وكانت تعد من سواد بغداد والكوفة (معجم البلدان). قال الشاعر:
رَيا الرَّوادِف غادةٌ
بين الطويلة والقصيرة
حلَّت فَلاليج السواد
وحلَّ أهلي بالجزيرة
وللفلج عدة معان جميلة، ليس بينها إرهاب واغتيال ومقاومة وتعصب لدين أو مذهب. فالفُلج: الساقية أو الماء الجاري، والفُلجان: سواقي الزرع، والفَلَجات المزارع. والفَلج: الصبح. قال الشاعر:
عن القراميص بأعلى لاحِبِ
مُعبدٍ من عهد عادٍ كالفَلج
والفَلج أو الفُلج: القَمْر. والفَلُّوج: الكاتب. والفَلِج: الصنف من الناس. والفَالج: البعير ذو السنامين، وقافلتها فوالج. والمرأة الفلجاء التي أفترقت أسنانها، أو فعلت ذلك طلباً للجمال. والفَلج: الظفر والفوز.
أشار اسم الفَلُّوجة الأكدي والآرامي إلى الانشطار أو الانفلاج، فعرفها الأكديون ببلوكاتو وعرفها الآراميون ببلوكثا (بشير فرنسيس وكوركيس عواد، مجلة سومر). ارتاد شاطئها الإنكليز زمن الملكة إليزابيث الأولى و«أبقوا سفنهم فيها وسافروا براً إلى دجلة أسفل المدائن بثلاثة فراسخ»(لسترنج، بلدان الخلافة الشرقية). وبقربها خرائب الأنبار القديمة تقاوم الدهور، الأنبار التي أخذت اسمها من أنابير الحبوب، وهي الرمادي. ويرى المحقق عبود الشالجي أن الفَلُّوجة حلت محل الأنبار (حاشية كتاب الفرج بعد الشدة)، ولا أرى هذا صحيحاً، لأن أخبار البلدتين وردت في التاريخ بمعزل عن بعضهما البعض.
عُدت الفَلُّوجة في العهد الساساني من بلدان العراق أوطسوجها الثمانية والأربعين على دجلة والفرات. وسمع مؤرخون مسلمون بسحر وأساطير بابل من دهاقنتها. قال ابن الجوزي سمعت أبي عن جدي سمع دهقان الفَلُّوجة قال: «كان ببابل سبع مدائن في كل مدينة أعجوبة ليست في الأخرى، في المدينة الأولى التي منها ملكها تمثال الأرض جميعاً، فإذا أتوا عليه بعين أهل مملكته بخراجها خرق أنهارها عليهم، فغرقت حيث كانت، فلا يستطيعون لها سداً حتى يؤدون ما عليهم فإذا سدت عليهم في تماثيلهم انسدت في بلادها» (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم)، ثم أتى على عجائب المدائن الست واحدة واحدة.
وكان دهقان الفَلُّوجة، المعاصر لولاية الحجاج بن يوسف الثقفي على العراق، جميل بن بصبهرى يستعان برأيه، وهو شيخ طاعن بالسن تهدل حاجباه على عينيه، فأتاه عبيد الله بن أبي المُخارق، مرشح الحجاج لولاية الفَلُّوجة، طالباً النصيحة لأنه لا يأمن شرَّ حجاج على نفسه، فمما نصحه فيه: أن لا يستعمل حاجباً، ويطيل الجلوس لعماله، ولا يفرق في الحكم بين الناس، ويعامل الوضيع كمعاملته للشريف وألا يقبل الهدايا(مروج الذهب).
ووردت أخبار الفَلُّوجة في السنة 12 هجرية أي قبل سقوط مدائن كسرى بيد العرب المسلمين بست سنوات، ودهاقنها من اسرة بصُبهرى، وقد تعامل معه خالد بن الوليد بعد خروجه من الحيرة. قال الطبري: «المسلمون يمخرون السَّواد والمثنى بالأنبار، ويثنون الغارات فيما بين كسكر (لعلها قلعة سكر اليوم من أطراف الناصرية) وأسفل الفرات، وجسور مثقب إلى عين تمر وما ولاها من أرض الفلاليج» (تاريخ الملوك والأمم).
وشهدت الفلوجة معارك الخوارج ضد الأمويين اثناء إمارة الحجاج على العراق، فقتل فيها أمير الخوارج أبو زياد المرادي (تاريخ اليعقوبي). ودارت فيها سنة 132هـ معركة حاسمة بين الأمويين بقيادة يزيد بن هبيرة من جهة والعباسيين بقيادة قحطبة بن شبيب وأولاده من جهة أخرى. غلب فيها العباسيون رغم غرق قحطبة في ماء الفرات أو أختفى لأمر آخر، وعندها قال آخر خلفاء بني أمية مروان بن محمد «والله الإدبار! وإلا فمَنْ سمع بميت يهزم حياً» (تاريخ اليعقوبي)؟ ويعني فرار يزيد بن هبيرة.
شهدت أرض الفَلُّوجة أيضاً معارك عباسية علوية. أتى إليها سنة 250هـ حفيد زيد بن علي يحيى بن عمر فنزل «قرية تعرف بالعمد، ومنها تحرك إلى الكوفة فغلب عليها وفتح سجنها، ثم قتل فيها» (تاريخ الملوك والأمم). وللقرامطة نشاطهم بالفَلُّوجة، ففي سنة 293هـ «أنفذ زكرويه بن مهرويه بعدما قتل ابنه صاحب الشامة رجلاً كان يعلم الصبيان بقرية تدعى الزابوقة من عمل الفَلُّوجة، يسمى عبد الله ويكنى أبا غانم، فتسمى نصراً ليعمي أمره، فجذب إليه أتباعاً، تحرك بهم بعد تضييق العباسيين إلى الشام».
ظلت الفَلُّوجة طوال العهود العثمانية والإيرانية مكان كر وفرِّ بين الجيوش لأنها تقع على قارعة طريق العثمانيين من استانبول إلى بغداد، ولا يأمن القابع ببغداد على سلطانه إلا إذا أخضعها له، فمَنْ تمكن منها تمكن من بغداد. ولهذا شهدت تحضيرات الحروب بين الطرفين من تخزين الذخيرة والمد بالمؤنة. يروي تاريخها قصصا وملاحم حربية، لكنها ظلت مدينة آمنة، أغمضت عينها عن هموم الطريق المار بها، أو حافة النهر المزدحمة بتبادل الأعداء الغرباء المواقع بين منتصر ومندحر. ولا تراها مغتنية من الأتاوة التي تؤخذ من المسافرين المارين بها. وهي في كل الأحوال منطقة وسيطة، يطولها هيمنة منْ تغلب على أعالي الفرات، ومَنْ تغلب على أسافله. فعندما هيمن الشيخ ناصر بن مهنا بموافقة السلطان العثماني ووزير العراق أخذ يحصل الأتاوات من المسافرين من بغداد ، بعد أن ملك القسم الجنوبي من النجف حتى الفَلُّوجة.
ولأنها أرض زرع ومرعى أشتهر بين العراقيين كبابها، شهرة كباب أربيل ومسكوف شارع أبي نواس وباجة الحاتي. وعرفت بجسرها الحديدي، الذي أنشئ على الفرات العام 1929، وبالسياحة إليها، ففيها دائرة خاصة بالغابات ونوادٍ، وطريق بحيرة الحبانية الساحرة يمر عبرها من أعلى العراق وأسفله، فهي لا تبعد عن الأنبار غير 54 كم وعن بغداد 61 كم.
وإن كانت الفَلُّوجة بلدة عراقية أخذت اسمها من فَلّج الفرات فليس لنا علم بأصل تسمية مدينة الفالوجة الفلسطينية، التي قيل خدم فيها جمال عبد الناصر. ورغم شهرة فَلَّوجة العراق إلا أن المذيع العربي يصر على لفظها بالفالوجة، ليس من باب قرنها بالفالوجة وإنما لسهولة اللفظ قد تقتضي التصحيف. وربما أسفر التقارب بين اللفظين إلى شعارات معبأة بالألفاظ لا بالمعاني.
قرأنا في الصحافة الإلكترونية شعارات مثل «من الفلوجة إلى الفالوجة». ومقالات عادلت بين قضية فلسطين وقضية الفَلُّوجة. رغم أن فَلُّوجتنا ليس لها قضية احتلال مثل احتلال الفالوجة. وهي أعلنت مثل غيرها من مدن العراق فرحتها في الخلاص من النظام السابق، فلأجساد شبابها حصة في مقابر الحروب. ما أدهشني حقاً أن مَنْ يحمس الفَلُّوجة على المضي في (المقاومة) ومدح صبيانها لسحل الجثث والتمثيل بالموتى هم من الغرباء، ومَنْ كتب المقالات الحماسية هم من الغرباء، ومَنْ يعرض أهل الفَلَّوجة إلى الموت هم من الغرباء أيضاً.