المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النَّجف.. الحصانة العلمية والدينية لا الميليشيات



سلسبيل
06-15-2005, 04:39 PM
د. رشيد الخيُّون

في يوم من أيام الربيع أطل صاحب الخورنق من على سطح قصره «على النَّجف وما يليها من البساتين والنخل والجنان والأنهار... فأعجبه ما رأى من الخُضرة والنور والأنهار، فقال لوزيره وصاحبه: هل رأيت مثل هذا المنظر قطّ! قال: لا، لو كان يدوم! قال: فما الذي يدوم؟ قال: ما عند الله في الآخرة..! فترك مُلكه من ليلته، ولبس المسُوح، وخرج متخفياً هارباً، لا يُعلم به» (تاريخ الأمم والملوك).

إن صحت الرواية، فللمنطقة متعلقها الروحي التأريخي، حيث الأديرة بالحيرة، والفقه بالكوفة، ثم الحوزة الدينية بالنَّجف. سلك أغلب علماء النَّجف، خلافاً لضجيج الكوفة السياسي المعارض طريق صاحب الخورنق الزهد بالملك والسياسة والمعارضة. شيوخ يتحلق حولهم تلاميذهم بصحن الضريح أو بباحات المساجد، كل تلميذ هو ضابط نفسه فلا إدارة ولا دفتر حضور، همه التحصيل الفقهي لنيل درجة الاجتهاد.

من حكايات تعظيم وتأبيد تاريخ النَّجف المتداولة في كتب الشيعة، أن النبي نوح دفن عظام آدم في رملة النَّجف، وأقيم في مقبرتها «وادي السلام» ضريح لهود وصالح، وأن النَّجف كانت مرسىً لسفينة نوح. ما عدا هذا ورد اسم النَّجف في يوميات معركة القادسية سنة 14 هجرية. كذلك كانت أول محطة في طريق الحج بين الكوفة ومكة جرى فيها توديع قوافل الحجاج، ففي سنة 236هـ ودع منها الخليفة جعفر المتوكل (ت247هـ) والدته وولده المنتصر على رأس الحجيج.

أشارت لوحة فنية معلقة في الضريح إلى ان قصة اكتشاف القبر، مستوحاة من السائر بين الناس. فحواها: كان الرشيد في رحلة صيد بالبرية، فشاهد الغزلان وهي تحتمي فوق تلة من الأرض من متناول السهام والكلاب، فلما استفسر عن الأمر قيل له: هنا يرقد علي بن أبي طالب. حينها، أي عام 175هـ، أمر بتحديد المكان وحفظه. قصة أخرى تعود باكتشاف القبر، وبالتالي تحديد بداية مدينة النَّجف، إلى عام 132هـ، أي حال سقوط الحكم الأموي. بعدها تأتي رواية ابن حوقل القائلة: إن الأمير أبا الهيجاء (ت317هـ) هو الذي شهرَّ القبر وبنى عليه القبة (صورة الأرض).

بعد الضريح يأتي دور الحوزة الدينية في تأسيس النجف روحياً وعلمياً. كانت البداية أن سرى إليها من بغداد شيخ الطائفة الطوسي عام 449هـ، بعد حرق مكتبته ببغداد، فأسس هناك الحوزة، وهي قائمة حتى الآن على المنوال نفسه. كرمت النَّجف مؤسس حوزتها باطلاق اسمه على أحد أبواب الضريح الأربعة، وعرف الشارع المواجه بباب الطوسي، وله فيها مقبرة وأطلق الاسم على مكتبة وعدة مساجد. كذلك لفضله في الفقه الشيعي أُعتمد كتاباه «الاستبصار» و«التهذيب» من بين كتب الحديث الشيعية الأربعة المعروفة.

كان الماء أحد المؤثرات في تاريخ النَّجف، إضافة للضريح العلوي والحوزة الدينية، فكل سلطان أو أمير أراد التقرب من المدينة يجدد لها عمارة الضريح، ويترك حوزتها من دون تدخل ويزودها بالماء. فتنافس العثمانيون والصفويون على شق قنوات الماء وعمارة الضريح، لكن ما فعله نادر شاه، عام 1743، لم يجاريه فيه أحد، فقد كسا القبة بالذهب الخالص بمبلغ خمسين ألف تومان، وهو مبلغ هائل آنذاك.

عدا هذه المتطلبات زهد مراجع الحوزة الدينية بالدولة والسياسة عامةً، ففي يقينهم أن الدول تتبدل والجيوش تكر وتفر، لكن الباقي على مدى الدهور هو الضريح والدرس، فما يهمهم هو إعداد مجتهدين، لا ميليشيات يتقدمها معمّمون يلحنون في النحو والتعبير، وهي خطيئة لا يغتفر لمن يدّعي أنه درس ما يعرف بالمقدمات ومنها: الآجرومية وقطر الندى لابن هشام، وشرح ألفية ابن مالك دراسة متقنة، ثم دراسة الفقه عبر ما يعرف بالسطوح ودرس الخارج. لقد اعتاد العراقيون سماع الخطب المرتجلة المحبوكة لغة وبلاغة من أفواه المعمّمين، لذا أول مؤاخذة على معمّمي جيش المهدي هو لحنهم الفادح في اللغة وعدم تأدبهم بآداب المناظرة والجدل، فالعمائم عادة تحفظ المشاعر من الانفلات، وتكظم الغضب، وتنقي الألسن من سقط الكلام.

عرفت النَّجف في تاريخها الثقافي والأدبي والفقهي، ما لم يعرف عن مدن أخرى في العالم، أنها جعلت عناوين كتبها ألقاباً لبيوتاتها، فعنوان كتاب «كشف الغطاء» أصبح لقباً لبيت مصنفه الشيخ جعفر بن خضر النجفي (ت1812) آل كاشف الغطاء، وعنوان كتاب «جواهر الكلام» أصبح لقباً لبيت مصنفه الشيخ محمد حسن النجفي (ت1859) آل الجواهري، وبالعلم عرف آل بحر العلوم، وبالبلاغة عرف آل البلاغي، وعرف النجفيون الأشخاص بعناوين كتبهم مثل صاحب «البرهان القاطع» وصاحب «البلغة الفقهية» وغيرهما.

جعل الإرث الثقافي والعلمي، ووجود مشهد الموت اليومي حيث استقبال مقبرة النَّجف المترامية الأطراف لمئات الجنائز يومياً، عقلاء المدينة ينظرون إلى الدنيا بمنظر الهازئ بها. فقد تحولت متعلقات الموت من دفن وتغسيل وتكفين مصدر رزق للنجفيين. فهل سمعت عن مدينة جعلت قدوم الجنازة بشارة؟ إلا النَّجف هناك شبان يرقبون الطرق الداخلة إلى المدينة، فيسألون الجنازين مَنْ دفانكم؟ وبلمحة البرق يخبر المبشرون الدفانين ليحصلوا على البشارة.

كان الطوسي قادراً على المكوث ببغداد، وقادراً على تجييش الجيوش والدخول في حرب طائفية مع السلاجقة، لكن خسارته تكون كبيرة في انقطاع صناعة المجتهدين، وهتك حرمة الحوزة الدينية والضريح، وإضعاف هيبته العفوية على الأتباع. وبطبيعة الحال يتصل هذا التعقل والمضي في الجهاد العلمي والفقهي بأئمة يعتشى بنارهم مثل الإمام جعفر الصادق. لم تخالف النَّجف سلوك شيخ الطائفة الطوسي فاعترضت بشدة على الثائر الشيعي علي بن فلاح المشعشع (ت863هـ) «كان منفوراً من الجميع بسبب ما قام به من إهانة العتبات الشريفة» (تاريخ العراق بين احتلالين). معلوم ان إدخال السلاح إلى الأضرحة وتحويلها إلى ساحة قتال هو من أكبر الكبائر، وهذا ما يحدث اليوم.

كذلك مَنْ يطلع على سير الأحداث تظهر له جلياً مرونة المرجعية القصوى من أجل حماية الضريح والدرس الديني. ومَنْ يتابع الصراعات بين مَنْ عرفوا بالزقرت ومَنْ عرفوا بالشمرت، التي استمرت من بداية القرن التاسع عشر وحتى الاحتلال البريطاني للعراق، سيجد الحوزة بمراجعها الكبار في منأى عن الصراع، تعطي نصيحتها إن طُلب منها، وتتدخل إن شعرت بالخطر على مكونات النَّجف الأساسية المذكورة. كان المرجع الكبير كاظم اليزدي (ت1919) منسجماً مع تاريخ مرجعيته في عدم تشجيع مَنْ أراد الثورة على الإنكليز بالعصي والبنادق العثمانية الهالكة، فمثلما تحمل احتلال خمسة قرون عثمانية، أبدت خلالها المرجعية صبراً لا مثيل له، حفظت به جامعتها وضريح المدينة فسيمر الاحتلال البريطاني بلمحة بصر، وهو لا شأن له بإعاقة الدرس وزيارة الضريح، وعمل على تزويد المدينة بالماء.

النجفيون اليوم، الناس والمراجع، لم تؤيد جيشاً مثل جيش المهدي، وهم يستشعرون الخطر على تاريخ المرجعية والحوزة الدينية، فهؤلاء طلاب دنيا وبطولات، لا هم لهم في الدرس والمكتبة وقدسية الضريح، وهم مع تشددهم في الهتاف لا يملكون القدرة على المواجهة، لذا تمترسوا بين أروقة الضريح العلوي، الذي أخفاه الأئمة الأعلون طوال الحكم الأموي، ولو تمت المواجهة غير المتعادلة آنذاك لما بقي ضريح ولا حوزة دينية. يدرك المراجع جيداً أن حربا مثل هذه لا يسلم منها ضريح ودرس وتعطل دفن الأموات والنتيجة معروفة.

* كاتب عراقي

هاشم
06-16-2005, 12:05 AM
د. رشيد الخيُّون

النجفيون اليوم، الناس والمراجع، لم تؤيد جيشاً مثل جيش المهدي، وهم يستشعرون الخطر على تاريخ المرجعية والحوزة الدينية، فهؤلاء طلاب دنيا وبطولات، لا هم لهم في الدرس والمكتبة وقدسية الضريح، وهم مع تشددهم في الهتاف لا يملكون القدرة على المواجهة، لذا تمترسوا بين أروقة الضريح العلوي، الذي أخفاه الأئمة الأعلون طوال الحكم الأموي، ولو تمت المواجهة غير المتعادلة آنذاك لما بقي ضريح ولا حوزة دينية. يدرك المراجع جيداً أن حربا مثل هذه لا يسلم منها ضريح ودرس وتعطل دفن الأموات والنتيجة معروفة.



أحسنت يا رشيد خيون وأصبت فى تشخيص الحالة ، هم طلاب دنيا يستخدمون وسائل دينية فى تحقيق ذلك ولا يفرقون فى طغيانهم عن صدام فى شىء .