سلسبيل
06-15-2005, 04:17 PM
رشيد الخيُّون
عادت المدائن إلى واجهة الأحداث، عبر الإعلام العالمي، لكن هذه المرة ليست عاصمة لدولة عظمى، كما كانت في العهد الساساني، تمثل قطب الأرض الجنوبي، مقابل بيزنطة الروم قطبها الشمالي، بل عادت منزوعة الأهمية التاريخية، لا تاج يتدلى من سقف إيوانها ولا حرس كسروي يقف على بواباتها. عادت قرية من قرى بغداد، تجمع فيها فتية رغبوا في ماضيها وكثرة حقولها وقربها من العاصمة، بعد الفشل في الفلوجة، واللطيفية والمحمودية والمحاويل. وكلها قصبات مفتوحة على بغداد.
ما حدث في المدائن لا يوصف بالخدعة والحيلة، فقد تحول ليلها إلى معارك حقيقية ضد أهل القرى والأطراف، واشتدت المراهنة فيها على فتنة طائفية، فهي الخيار والأمل الأخير لمَنْ يدعي المقاومة والجهاد. يعلم أصحاب المراهنة علم اليقين أنه إن فتح باب الفتنة في العراق فلا يملك أحد له قفلاً. هناك شحن تاريخي من الأحقاد والكراهية ما زال العراقيون يلجمونه بقوة. فالخلاف بين حيا على خير العمل والصلاة خير من النوم أخذ قروناً من حياة العراقيين، منعهم من توحيد مساجدهم، وتوحيد مناسبات أفراحهم وأتراحهم. بمعنى أن هناك أرضية للفتنة. كان الشيعة فيها يتبعون البويهيين، ويتبع السُنُّة فيها السلاجقة، وبعد هذه الثنائية جاءت ثنائية الصفويين والعثمانيين. لكن ما زالت تلك الفتنة مرفوضة، وتغلبها عاطفة المواطنة، وما أحداث المدائن إلا محاولة لهز تلك العاطفة، وعودة الحراب مشرعة بين أهل حي على خير العمل وبين أهل الصلاة خير من النوم، ولو تركوا ما أوغر الصدور عبر التاريخ لوجدوها واحدة!
كانت المدائن حاضرة من أهم حواضر الدنيا، اتخذت عدة اسماء، فكانت طيسفون، وساباط، والمدائن، وأخيراً سلمان باك، وكانت بغداد، قبل تمصيرها من قبل أبي جعفر المنصور، تابعة لها، إلا أن تداول الأيام جعلها ناحية من نواحيها. عرفها الفرس بتيسفون، وأصل التسمية المفردة النبطية أو البابلية طيْسفونج (انظر الدينوري ـ الأخبار الطوال).
لا يعرف على وجه التحديد مؤسس هذه المدينة، فقيل أنوشروان بن قباذ، وقيل أردشير بن بابك، وقيل شيد طاقها أو إيوانها سابور ذو الأكتاف، بعلو ثلاثين متراً بلا حديدة أو خشبة ساندة. لكن كسرى رممه فاشتهر به منذ غابر الزمان، وكان يعرف أيام بني ساسان بالقصر الأبيض. ولربما هناك صلة بين اللون الأبيض، وهو المفضل عند الديانة المجوسية، وبين اشتهار عمارة قصورها بالبياض. فعرفها الجاحظ ببيضاء المدائن (كتاب الحيوان). والعرب أطلقوا عليها اسم المدائن لأنهم وجدوا فيها خمس أو سبع مدن، «بين مدينة وأخرى مسافة قريبة» (الحموي ـ معجم البلدان).
وقبل الأكاسرة أو الساسانيين وطئت تلك المنطقة حوافر خيل الأسكندر المقدوني، وقيل هو ذو القرنين، فشيد على مقربة من المدائن بلدة عرفت بالرومية (الحميري، الروض المعطار)، وعدت فيما بعد واحدة من مدن المدائن. وظلت عاصمة ساسانية شتوية حتى فتحها من قبل العرب المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص، بعد معركة القادسية. وقال الشاعر مستغرباً أمر أن تكون المدائن الحارة مصيفا وآمد (ديار بكر) الباردة مشتىً:
يَصيفُ بسَاباط ويشتو بآمدٍ
وذلك سرٍّ لو علمنا معجبُ
كانت خطة عبور فرسان المسلمين ماء دجلة أن تعبر الخيل نصفين إناثا وذكورا، ذلك «ليكون أسلس لعوم الخيل». ونقل أن سلمان الفارسي، وهو أول وال على المدائن، قد ساير سعداً اثناء الخوض في مياه دجلة، وكان يقوم بمهام الترجمان أيضاً.
شهدت المدائن حوادث جساما، فمنها بعث كسرى بالقوة التي أعانت سيف بن ذي يزن لاستعادة ملكه من الأحباش، فمخرت في مياه دجلة صوب سواحل عدن وحضروت ثماني سفن، تحمل ثمانمائة فارس، من المحكومين بالإعدام في سجون كسرى، بقيادة وهرز، ولما وصل إلى سواحل اليمن أحرق السفن، ولم يترك بيد جنوده غير اقتحام الموت (المسعودي، مروج الذهب). نسب التاريخ الحديث، هذه الحادثة، فيما بعد، إلى طارق بن زياد عند العبور من سياحل شمال أفريقية إلى أسبانيا.
والحقيقة لم يحرق طارق سفنه ولم يخطب تلك الخطبة العصماء، ولا أثر لهذا الحدث في كتب التاريخ المعروفة. وفي المدائن كادت تستبدل الديانة المجوسية بالديانة والفلسفة المانوية، فقد تبنى بعض ملوك المدائن تلك الديانة، التي انطلقت من بابل، حتى أصبحت بابل دارها المقدسة، والوحي لا يأتي ماني إلا ببابل. لكن ما أن مات الملك واستخلف آخر انقلب الأمر، وقُتل ماني بعد محاكمة في إيوان كسرى، وقد جمعت المانوية بين الديانة الصابئية المندائية والمسيحية والفلسلفة، ومن المدائن وصل أتباعها حتى إلى الصين والهند ومصر. وفي المدائن حدث الصلح بين معاوية بن أبي سفيان والإمام الحسن بن علي، وقد عُرف بصلح ساباط، وكان فاتحة للعصر الأموي، السفياني منه والمرواني. وشهدت المدائن قتل أبي مسلم الخراساني، يوم وفد على أبي جعفر المنصور، وشعر بخطورته إن عاد سالماً إلى خراسان، ولم ينفعه فضله في العباسية.
قطنت المدائن، قريباً من ضريح سلمان الفارسي، أغلبية شيعية إمامية. قال ياقوت الحموي: «الغالب على أهلها التشيع على مذهب الإمامية»(معجم البلدان). وظلت هكذا حتى هذه الأيام، التي انتهت بقتل وكيل مرجعية النجف أخيرا. ويظهر وجود الشيعة التاريخي، حول بغداد، في منطقتين، هما الكاظمية حيث الكرخ غرب دجلة شمالاً والمدائن جنوباً. ويفسر هذا بالابتعاد مسافة أميال عن مركز بغداد، حيث دار الخلافة، التي ضاق صدرها كثيراً بعشوراء ومواكبه، وبالاختلاف في الأذان ودور العبادة، والتباين بإعلان هلال رمضان وشوال، وهو أمر ما زال قائماً بين شيعة العراق وسنته. وإلى جانب ضريح الصحابي سلمان الفارسي، وهو عند الشيعة باب الإمام علي حيث لكل إمام بابه، رقد الصحابيان عبد الله الأنصاري وحذيفة بن اليمان، وكانا من قبل يرقدان محاذاة شاطئ دجلة، إلا أن تكرار فيضان النهر جعل الحكومة العراقية تقوم بنقل ما تبقى من رفاتهما إلى ضريح سلمان الفارسي. وكان نقلهما عام (1931) يوماً مشهوداً، إذ تم في «مهرجان عسكري فخم».
لم يلتفت أو يهتم الشيعة بالمعلومة المهمة التي أفادنا بها مدير الآثار الأسبق ساطع الحصري، وهو عند تسجيل مقتنيات الأماكن الأثرية، ومنها مرقد سلمان الفارسي، وجد مكتوباً على غطاء القبر عبارة: هذا قبر الإمام جعفر الصادق (ت 148هـ)، فالإمام المذكور كان موجوداً ببغداد أوان خلافة أبي جعفر المنصور. إلا أن الحصري فسر الأمر بما يبعد إغراء الشيعة من إقامة ضريح للإمام السادس في تلك المنطقة. قال: يفهم من هذا أن الغطاء صُنع ببغداد، وكان في طريقه إلى المدينة، حيث مدفن الإمام الصادق، إلا أن حامله وضعه بالخطأ على قبر سلمان الفارسي! وهو تفسير واهن. لكن مَنْ يستطيع مراجعة ثوابت الكتب والأخبار، وما في العقول من معلومات، وإن كانت غير صحيحة. وقد يذكرنا هذا برواية الخطيب البغدادي بشأن مكان قبر الإمام علي بن أبي طالب، إنه ليس بالنجف، وإنما دفن حيث قتل في مسجده بالكوفة، لكن لم يتأثر أحد بهذه المعلومة أو غيرها.
جمعت المدائن بين السياحة في التاريخ، لأثرها الباقي شاهقاً إيوان كسرى، وبين السياحة الدينية لوجود مرقد الصحابي سلمان الفارسي وعبد الله الأنصاري وحذيفة بن اليمان. يضاف إلى أنها اصبحت متنزها للبغداديين، وقد قالوا في زيارتها «إلما يزور السلمان عمره خسارة». لما فيها من فضاء من البساتين مفتوحة على دجلة.
اخرجت هذه المدائن العديد من الفقهاء والمفكرين والأدباء، ومنهم شارح نهج البلاغة عز الدين ابن ابي حديد (ت656) وأخوه، وهناك مَنْ احتج على النسبة لها بالمدائني بدلاً من المدني، فجاء الجواب: «إنما جاز النسبة إلى الجمع بصيغته». بدأ خراب المدائن بعد إزالة الأكاسرة، لكن إشراقة التاريخ لم تبرحها حتى زمن الرحالة ابن جبير وزمننا أيضاً. قال وهو ينظر إليها من على مسافة ميل: «ومن شرف هذه القرية أيضاً أن بإزائها لجهة الشرق منها إيوان كسرى، وأمامها بيسير مدائنه.
وهذا الإيوان بناء عال في الهواء، شديد البياض، لم يبق من قصوره إلا البعض، فعايناها على مقدار الميل سامية مشرفة مشرقة. وأما المدائن فخراب» (الرحلة). ولفترة طويلة بعد سقوطها ظلت المدائن مقراً لكنيسة المشرق، ولم ينقل الجاثليق مقره منها إلا في خلافة المهدي بن المنصور، فأصبح من الضرورة أن يكون رئيس الكنيسة قريباً من دار الخلافة، وقد أسفر هذا القرب عن مناظرات فكرية طويلة بين الجاثليق والخليفة. وقبل حوالى سنتين اكتشفت آثار كنيسة طيسفون، حيث كان يجري انتخاب جاثليق المشرق على الطريق التي يجري فيها انتخاب بابوات الفاتيكان، وكثيراً ما قطعت الرسل المسافات بين المدائن وروما لتقريب وجهات النظر بين مذهبي المغرب والمشرق، وكانت المدائن من الأهمية الدينية أن وصلت مبشري الكنيسة إلى الهند والخليج العربي ومنغوليا.
هذا سرد شديد الاختصار للتذكير بماضي مدينة المدائن، التي لم يبق منها غير طرق يذري فيها رماد التاريخ، والحاضر المترب بتراجعه عن الأيام الخوالي.
* باحث عراقي
عادت المدائن إلى واجهة الأحداث، عبر الإعلام العالمي، لكن هذه المرة ليست عاصمة لدولة عظمى، كما كانت في العهد الساساني، تمثل قطب الأرض الجنوبي، مقابل بيزنطة الروم قطبها الشمالي، بل عادت منزوعة الأهمية التاريخية، لا تاج يتدلى من سقف إيوانها ولا حرس كسروي يقف على بواباتها. عادت قرية من قرى بغداد، تجمع فيها فتية رغبوا في ماضيها وكثرة حقولها وقربها من العاصمة، بعد الفشل في الفلوجة، واللطيفية والمحمودية والمحاويل. وكلها قصبات مفتوحة على بغداد.
ما حدث في المدائن لا يوصف بالخدعة والحيلة، فقد تحول ليلها إلى معارك حقيقية ضد أهل القرى والأطراف، واشتدت المراهنة فيها على فتنة طائفية، فهي الخيار والأمل الأخير لمَنْ يدعي المقاومة والجهاد. يعلم أصحاب المراهنة علم اليقين أنه إن فتح باب الفتنة في العراق فلا يملك أحد له قفلاً. هناك شحن تاريخي من الأحقاد والكراهية ما زال العراقيون يلجمونه بقوة. فالخلاف بين حيا على خير العمل والصلاة خير من النوم أخذ قروناً من حياة العراقيين، منعهم من توحيد مساجدهم، وتوحيد مناسبات أفراحهم وأتراحهم. بمعنى أن هناك أرضية للفتنة. كان الشيعة فيها يتبعون البويهيين، ويتبع السُنُّة فيها السلاجقة، وبعد هذه الثنائية جاءت ثنائية الصفويين والعثمانيين. لكن ما زالت تلك الفتنة مرفوضة، وتغلبها عاطفة المواطنة، وما أحداث المدائن إلا محاولة لهز تلك العاطفة، وعودة الحراب مشرعة بين أهل حي على خير العمل وبين أهل الصلاة خير من النوم، ولو تركوا ما أوغر الصدور عبر التاريخ لوجدوها واحدة!
كانت المدائن حاضرة من أهم حواضر الدنيا، اتخذت عدة اسماء، فكانت طيسفون، وساباط، والمدائن، وأخيراً سلمان باك، وكانت بغداد، قبل تمصيرها من قبل أبي جعفر المنصور، تابعة لها، إلا أن تداول الأيام جعلها ناحية من نواحيها. عرفها الفرس بتيسفون، وأصل التسمية المفردة النبطية أو البابلية طيْسفونج (انظر الدينوري ـ الأخبار الطوال).
لا يعرف على وجه التحديد مؤسس هذه المدينة، فقيل أنوشروان بن قباذ، وقيل أردشير بن بابك، وقيل شيد طاقها أو إيوانها سابور ذو الأكتاف، بعلو ثلاثين متراً بلا حديدة أو خشبة ساندة. لكن كسرى رممه فاشتهر به منذ غابر الزمان، وكان يعرف أيام بني ساسان بالقصر الأبيض. ولربما هناك صلة بين اللون الأبيض، وهو المفضل عند الديانة المجوسية، وبين اشتهار عمارة قصورها بالبياض. فعرفها الجاحظ ببيضاء المدائن (كتاب الحيوان). والعرب أطلقوا عليها اسم المدائن لأنهم وجدوا فيها خمس أو سبع مدن، «بين مدينة وأخرى مسافة قريبة» (الحموي ـ معجم البلدان).
وقبل الأكاسرة أو الساسانيين وطئت تلك المنطقة حوافر خيل الأسكندر المقدوني، وقيل هو ذو القرنين، فشيد على مقربة من المدائن بلدة عرفت بالرومية (الحميري، الروض المعطار)، وعدت فيما بعد واحدة من مدن المدائن. وظلت عاصمة ساسانية شتوية حتى فتحها من قبل العرب المسلمين بقيادة سعد بن أبي وقاص، بعد معركة القادسية. وقال الشاعر مستغرباً أمر أن تكون المدائن الحارة مصيفا وآمد (ديار بكر) الباردة مشتىً:
يَصيفُ بسَاباط ويشتو بآمدٍ
وذلك سرٍّ لو علمنا معجبُ
كانت خطة عبور فرسان المسلمين ماء دجلة أن تعبر الخيل نصفين إناثا وذكورا، ذلك «ليكون أسلس لعوم الخيل». ونقل أن سلمان الفارسي، وهو أول وال على المدائن، قد ساير سعداً اثناء الخوض في مياه دجلة، وكان يقوم بمهام الترجمان أيضاً.
شهدت المدائن حوادث جساما، فمنها بعث كسرى بالقوة التي أعانت سيف بن ذي يزن لاستعادة ملكه من الأحباش، فمخرت في مياه دجلة صوب سواحل عدن وحضروت ثماني سفن، تحمل ثمانمائة فارس، من المحكومين بالإعدام في سجون كسرى، بقيادة وهرز، ولما وصل إلى سواحل اليمن أحرق السفن، ولم يترك بيد جنوده غير اقتحام الموت (المسعودي، مروج الذهب). نسب التاريخ الحديث، هذه الحادثة، فيما بعد، إلى طارق بن زياد عند العبور من سياحل شمال أفريقية إلى أسبانيا.
والحقيقة لم يحرق طارق سفنه ولم يخطب تلك الخطبة العصماء، ولا أثر لهذا الحدث في كتب التاريخ المعروفة. وفي المدائن كادت تستبدل الديانة المجوسية بالديانة والفلسفة المانوية، فقد تبنى بعض ملوك المدائن تلك الديانة، التي انطلقت من بابل، حتى أصبحت بابل دارها المقدسة، والوحي لا يأتي ماني إلا ببابل. لكن ما أن مات الملك واستخلف آخر انقلب الأمر، وقُتل ماني بعد محاكمة في إيوان كسرى، وقد جمعت المانوية بين الديانة الصابئية المندائية والمسيحية والفلسلفة، ومن المدائن وصل أتباعها حتى إلى الصين والهند ومصر. وفي المدائن حدث الصلح بين معاوية بن أبي سفيان والإمام الحسن بن علي، وقد عُرف بصلح ساباط، وكان فاتحة للعصر الأموي، السفياني منه والمرواني. وشهدت المدائن قتل أبي مسلم الخراساني، يوم وفد على أبي جعفر المنصور، وشعر بخطورته إن عاد سالماً إلى خراسان، ولم ينفعه فضله في العباسية.
قطنت المدائن، قريباً من ضريح سلمان الفارسي، أغلبية شيعية إمامية. قال ياقوت الحموي: «الغالب على أهلها التشيع على مذهب الإمامية»(معجم البلدان). وظلت هكذا حتى هذه الأيام، التي انتهت بقتل وكيل مرجعية النجف أخيرا. ويظهر وجود الشيعة التاريخي، حول بغداد، في منطقتين، هما الكاظمية حيث الكرخ غرب دجلة شمالاً والمدائن جنوباً. ويفسر هذا بالابتعاد مسافة أميال عن مركز بغداد، حيث دار الخلافة، التي ضاق صدرها كثيراً بعشوراء ومواكبه، وبالاختلاف في الأذان ودور العبادة، والتباين بإعلان هلال رمضان وشوال، وهو أمر ما زال قائماً بين شيعة العراق وسنته. وإلى جانب ضريح الصحابي سلمان الفارسي، وهو عند الشيعة باب الإمام علي حيث لكل إمام بابه، رقد الصحابيان عبد الله الأنصاري وحذيفة بن اليمان، وكانا من قبل يرقدان محاذاة شاطئ دجلة، إلا أن تكرار فيضان النهر جعل الحكومة العراقية تقوم بنقل ما تبقى من رفاتهما إلى ضريح سلمان الفارسي. وكان نقلهما عام (1931) يوماً مشهوداً، إذ تم في «مهرجان عسكري فخم».
لم يلتفت أو يهتم الشيعة بالمعلومة المهمة التي أفادنا بها مدير الآثار الأسبق ساطع الحصري، وهو عند تسجيل مقتنيات الأماكن الأثرية، ومنها مرقد سلمان الفارسي، وجد مكتوباً على غطاء القبر عبارة: هذا قبر الإمام جعفر الصادق (ت 148هـ)، فالإمام المذكور كان موجوداً ببغداد أوان خلافة أبي جعفر المنصور. إلا أن الحصري فسر الأمر بما يبعد إغراء الشيعة من إقامة ضريح للإمام السادس في تلك المنطقة. قال: يفهم من هذا أن الغطاء صُنع ببغداد، وكان في طريقه إلى المدينة، حيث مدفن الإمام الصادق، إلا أن حامله وضعه بالخطأ على قبر سلمان الفارسي! وهو تفسير واهن. لكن مَنْ يستطيع مراجعة ثوابت الكتب والأخبار، وما في العقول من معلومات، وإن كانت غير صحيحة. وقد يذكرنا هذا برواية الخطيب البغدادي بشأن مكان قبر الإمام علي بن أبي طالب، إنه ليس بالنجف، وإنما دفن حيث قتل في مسجده بالكوفة، لكن لم يتأثر أحد بهذه المعلومة أو غيرها.
جمعت المدائن بين السياحة في التاريخ، لأثرها الباقي شاهقاً إيوان كسرى، وبين السياحة الدينية لوجود مرقد الصحابي سلمان الفارسي وعبد الله الأنصاري وحذيفة بن اليمان. يضاف إلى أنها اصبحت متنزها للبغداديين، وقد قالوا في زيارتها «إلما يزور السلمان عمره خسارة». لما فيها من فضاء من البساتين مفتوحة على دجلة.
اخرجت هذه المدائن العديد من الفقهاء والمفكرين والأدباء، ومنهم شارح نهج البلاغة عز الدين ابن ابي حديد (ت656) وأخوه، وهناك مَنْ احتج على النسبة لها بالمدائني بدلاً من المدني، فجاء الجواب: «إنما جاز النسبة إلى الجمع بصيغته». بدأ خراب المدائن بعد إزالة الأكاسرة، لكن إشراقة التاريخ لم تبرحها حتى زمن الرحالة ابن جبير وزمننا أيضاً. قال وهو ينظر إليها من على مسافة ميل: «ومن شرف هذه القرية أيضاً أن بإزائها لجهة الشرق منها إيوان كسرى، وأمامها بيسير مدائنه.
وهذا الإيوان بناء عال في الهواء، شديد البياض، لم يبق من قصوره إلا البعض، فعايناها على مقدار الميل سامية مشرفة مشرقة. وأما المدائن فخراب» (الرحلة). ولفترة طويلة بعد سقوطها ظلت المدائن مقراً لكنيسة المشرق، ولم ينقل الجاثليق مقره منها إلا في خلافة المهدي بن المنصور، فأصبح من الضرورة أن يكون رئيس الكنيسة قريباً من دار الخلافة، وقد أسفر هذا القرب عن مناظرات فكرية طويلة بين الجاثليق والخليفة. وقبل حوالى سنتين اكتشفت آثار كنيسة طيسفون، حيث كان يجري انتخاب جاثليق المشرق على الطريق التي يجري فيها انتخاب بابوات الفاتيكان، وكثيراً ما قطعت الرسل المسافات بين المدائن وروما لتقريب وجهات النظر بين مذهبي المغرب والمشرق، وكانت المدائن من الأهمية الدينية أن وصلت مبشري الكنيسة إلى الهند والخليج العربي ومنغوليا.
هذا سرد شديد الاختصار للتذكير بماضي مدينة المدائن، التي لم يبق منها غير طرق يذري فيها رماد التاريخ، والحاضر المترب بتراجعه عن الأيام الخوالي.
* باحث عراقي