زهير
06-12-2005, 11:31 AM
بقلم / دكتور سمير محمود قديح
الباحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
من فضائح الموساد " عملاء ، ارهابيون ، مخربون "
في بداية القرن العشرين كان أول من اخترع الرسائل البريدية الملغومة السويدي / مارتين ايكينبرغ / حيث بعث برسالته القاتلة إلي أحد مواطنيه من رجال الأعمال الذي كان قد دحض الاختراع وسخر منه .
لم يكن ايكينبرغ ضليعا في المحافظة على اسرار اختراعه ولذلك تم اكتشافه من قبل البوليس . لقد عاش فترتها في لندن وتزوج مرتين ، كان شخصا غامضا حتى أن زوجيته قضتا في ظروف غامضة مشكوك فيها ، الأمر الذي دفع بالشرطة البريطانية لاعتقاله ووضعه في سجن بريكسون بانتظار تسفيره السويد ، بيد أنه تمكن من الانتحار .
بعد مرور ثلاثين عاما على وفاته تم التوصل إلي جوهر أفكاره الاجرامية ، ففي الثالث من أيلول عام 1947 أثناء فتح أحد الطرود البريدية في جنوب غرب لندن حدث انفجار قوي أدى إلي انهيار سقف البريد وجرح اثنين من موظفيه . بعد تحري المكان وفحصه تبين أن الطرد الملغوم كان مرسلا من أيرلنده إلي عنوان أحد ضباط الاستخبارات العسكرية البريطانية . في البداية اعتقدت المخابرات البريطانية أن الجيش الايرلندي يقف وراء الحادث ، لكن التحريات توصلت إلي أدلة دامغة تؤكد ضلوع المنظمات الصهيونية الإرهابية انذاك : «ايرغون تسفي ليعوم» (المنظمة القومية العسكرية) و «ليخي» (عصابات شتيرن أو المقاتلون من أجل حرية إسرائيل) .
كان البريطانيون محاطين علما بأن هاتين المنظمتين تخططان للبدء بسلسلة تفجيرات على الجزر البريطانية . وكان شعار منظمة «ايرغون» - اليهودية انتهت في الدم والنار وستحيا بهما – كان أحد قادة هذه المنظمة اسحاق ايزيرتينسكي البولوني الأصل الذي قدم إلي فلسطين فترة الانتداب البريطاني عام 1937 ثم تولى رئاسة تجمع الليكود والذي عرفه الجميع باسم اسحاق شامير وللعلم فإن اسحاق شامير وصل إلي المناصب العليا في إسرائيل من خلال المنظمة المذكورة إضافة إلي جهاز الموساد الذي شغل فيه منصب معاون رئيس فترة تسلمه رئاسة الوزراء .
قبل الانتقال إلي وقائع أخرى كان لابد لنا من ذكر ما نشرته الصحف في الأربعينات أثناء وفاة قادة المنظمات الإرهابية (شتيرن) والمدعو/ناتان ايللين مور/ الملقب بـ «فريدمان» حيث اعترف قبل وفاته بضلوعه في العمليات الإرهابية مع استخدام المتفجرات وتطرق إلي إحدى الطرود الملغومة التي ارسلت إلي انطوني ايدن الذي أصبح رئيسا لوزراء بريطانيا ، والمثير في الأمر أن الرسالة بقيت مع ايدن عدة أيام دون أن يفتحها وشاءت الصدفة أن تبطل مفعول الشحنة .
ونتيجة لانفجار أحد الرسائل الملغومة في مركز بريد لندن عم الهلع في أوساط البريطانيين وبدأت حملة تفتيش ومراقبة للطرود البريدية حيث تم العثور على ثمانية طرود بريدية ملغومة مرسلة من مدينة / تورنو / الايطالية إلي عناوين القادة في المؤسسة العسكرية البريطانية .
منذ سنوات خلت ذكر خبير الطرود في عصابة شتيرن الصهيونية / ياكوف ايلياف / بأن الرسائل الملغومة في تلك الفترة كانت من صنعه واعترف بالاخطاء التي ارتكبها من حيث قوة الحشوة المتفجرة فيها . وحسب أقوال ايلياف فإنه كان قد عمل في السبعينيات في إحدى «الشركات» التابعة للأمن الإسرائيلي التي صنعت متفجرات خاصة بالطرود البريدية ، وقبل ذلك ساهم بشكل فعال في إرسال الطرود الملغومة إلي القادة البريطانيين العاملين في وزارة الدفاع لكن رجال تحري الأسكوتلانديار كانوا يستخدمون الأشعة في الكشف ببساطة على الطرود المشبوهة ، وبذلك خلقت لدى البريطانيين نوعا من القيظة الدائمة .
بيد أنه في أيار عام 1948 ،عندما قررت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية خفت حدة اليقظة لدى الإنكليز ، بحيث شغل تفكيرهم الاجراءات الواجب اتخاذها لإجلاء قسم من قواتهم عن فلسطين . فصدموا بالإنفجار الذي أودى بحياة الطالب البريطاني / ريكس فران / بسبب خدمة أخيه في القوات البريطانية في فلسطين والذي أتهم من قبل عصابة شتيرن بقتل فتى يهودي وهكذا تم قتل الأخ الطالب في لندن بواسطة كتاب ملغوم أرسل له من قبل العصابة المذكورة .
حينها شدد رجال الأسكوتلانديار اجراءاتهم الأمنية وبدؤوا حملة تفتيش واسعة على الرسائل والطرود البريدية الموجهة للشخصيات السياسية والعسكرية والهيئات الحكومية والوزارات ، وبعد اسبوعين من مقتل الطالب كاد أحد الطرود أن يبلغ هدفه ، حيث تم العثور على طرد بريدي ملغوم موجه إلي الجنرال البريطاني ي . باركر الذي كان قائدا لأحد التشكيلات البريطانية في فلسطين فترة الانتداب وذلك بعد أن بدأت زوجته بفتح الطرد أمامه وفجأة لاحظت أسلاك معدنية ضمنه الأمر الذي دفعها لطلب الشرطة فورا ، والتي قامت بدورها بتفكيك الشحنة وإبطال مفعولها.
في تلك الفترة نشرت الصحف البريطانية تقريرا مفصلا عن الرسائل الملغومة وطرق صنعها ، بحيث كان باستطاعة إلي أن المؤسسة الإرهابية المصنعة للرسائل الملغومة قد نقلت نشاطها إلي الشرق الأوسط وبقيادة الحركة الصهيونية في إسرائيل ، وعلقت إحدى الصحف بما يلي :
«إن سلاح الرسائل الملغومة مصنوع بمهارة ويثير الاهتمام في كافة العلاقات ، فهذه الحرب عن بعد لا تشكل خطرا على أحد منكم ، إذا أقدم على نقلها وايصالها للعنوان المطلوب ، لأن مهمتها قتل الشخص الموجهة له والذي سيقوم بفتحها حتما ،وحتى لو لم تقتله فإنها تدب الرعب فيه ، لذلك أنتم تعرفون عنوان عدوكم ، وليس باحد في مأمن منها ، ولا يعنيكم من ستقتل الرسالة : الشخص المعني أم زوجته أو أحد أبنائه» .
بهذه العبارة تم تحديد طبيعة المجرمين يقفون خلف تلك الأعمال الإرهابية ، بناء على العقلية والمنطق الاجرامي أقدم حكام إسرائيل في الستينات على إرسال سهامم القاتلة إلي مصر . فمنذ أن بدأت حكومة عبد الناصر تعاونها مع العلماء الألمان الغربيين لتعزيز القدرة الدفاعية توجهت انظار الموساد الإسرائيلي إلي هؤلاء ، وكان يترأس مجموعة الخبراء الألمان البروفيسور / فولفغانع بيلتسي / في مجال صناعة الصواريخ والطائرات حيث تم تصميم نموذجين حربيين من الطائرات . من جانبهم عملاء الموساد تتبعوا تطورات العلم الذي قدر عليا من قبل الرئيس جمال عبد الناصر ، وفي عام 1962 قرر رئيس الموساد / ايسير حاريل / أن يبدأ نشاطه التخريبي بعد ظهور نوعين من صواريخ / أرض – أرض / كانت مشاركة في العرض العسكري في القاهرة .
توجه رئيس الموساد مباشرة إلي بون لإجراء مباحثات مع رئيس المخابرات الألمانية / رينخارد غيلين / الهدف منها الحصول على دعمه ومن خلال ما سرب للصحافة تبين أن الطرفين كانا متطابقي الرأي حتى أن غيلين أقسم لنظيره بأنه صديق مخلص لإسرائيل ، بناء على ذلك قامت الموساد بحملة تشهير واسعة النطاق أدانت فيها الخبراء العاملين في الصناعة الحربية المصرية . بأنهم نازيون سابقون ، ولذك لايجاد الأرضية المناسبة كي تصفهم بالإرهابين وتبرر أية أعمال إجرامية ضدهم يتم إعدادها لاحقا من قبل الموساد .
تلي ذلك عمليات الرسائل الملغومة الموجهة لهؤلاء وأقربائهم وذلك كما فعلت في الخمسينات على الأراضي البريطانية وكان أول ضحايا الرسائل الملغومة عام 1962 سكرتيرة البروفسور الألماني بليتسي ، عندما فتحت رسالة موجهة له من محامية في هامبورغ و تبين فيما بعد أن عنوان المرسل كان وهيما ، ونتيجة انفجار الطرد أصيبت السكرتيرة بجروح بليغة وفقدت عينها وقطعت يدها .
وفي اليوم التالي للحادثة تلقى العميد كمال عزابو المختص بيرنامج الصواريخ في المصنع رقم 333 قرب جبل القمة طردا بريديا من هامبورغ أيضا ، إلا أنه لم يكن موجودا أثناء فتحة فأنفجر وجرح ستة من الموجودين في مكتبه ، وقبيل ذلك حصل انفجار رسالة ملغومة في البريد المركزي في القاهرة كانت موجهة إلي البروفسور الألماني الذي أتى ذكره ذهب ضحيتها شخص وأصيب العديد بجراح . هكذا أصبح الأمر واضحا بأن هناك اجهزة خارجية تقف وراء العمليات الإرهابية . وبالرغم من أن إجراءات الأمن والحذر تعززت كثيرا في القاهرة ، تتابع وصول الطرود البريدية الملغومة إلي الخبراء الألمان حيث قتل خمسة منهم في القاهرة . وفي نفس الفترة مورست ضغوط على عائلات واقرباء الخبراء في المانيا ذاتها وأرسلت لهم التهديدات .
في أيلول 1962 اتخذ رئيس الموساد قرارا بتكثيف النشاط ضد الخبراء الألمان في مصر ومن لهم صلات معهم ، فأختفى رجل الأعمال الالماني / هانز كروغ / لصلته بأعمال الخبراء في القاهرة وذلك أثناء عودته من القاهرة إلي ميونيخ ، حيث تلقى – كما تبين بعد ذلك – برقية عاجلة من قبل أحد عملاء الموساد تتضمن ضرورة اللقاء به في ميونيخ وفقد بعد ذلك . كما أقدم ثلاثة من عملاء الموساد في مدينة / لوره / الألمانية على محاولة اختطاف البروفسور / هانز كلاينغيختر / لصلته بأعمال التصنيع في القاهرة ، لكنه تمكن من الإفلات منهم بعد أن أصيب بثلاث طلقات في صدره من مسدس كاتم للصوت . أما ابنة / باول غورك / فقد تلقت تهديدا بقتل والدها الخبير في المعمل 333 إذا لم يغادره في أقصى سرعة وتبين فيما بعد أن عميل الموساد المدعو / أوتو يو كليك / هو الذي طلب منها ذلك .
فجأة توقفت الحملة الشعواء على الخبراء الألمان العاملين في الصناعة الحربية المصرية . لم يكن السخط العالمي على الإرهاب الصهيوني السبب في ذلك ، وإنما جراء الاتفاق الذي تم بين المستشار الالماني / كونراد اديناور / ورئيس الوزراء الإسرائيلي / بن غوريون / في فندق «وول دورف» في نيويورك ،حيث التزمت المانيا بدفع تعويضات لإسرائيل مقابل الجرائم النازية ضد اليهود في أوربا وذلك على شكل أسلحة متطورة.
بعد عودة بن غوريون من نيويورك استدعى رئيس الموساد إلي جناحه في الفندق المطل على بحيرة طبرية وطلب منه ايقاف عملياته الإرهابية ضد الالمان . جاء طلب بن غوريون كالتالي :
اسمع يا أيسير !
«إن بون تقدم لنا مساعدات قيمة بالدبابات والحوامات والسفن الحربية وغيرها ، وكما تعلم فإن بعثة المانية كانت هنا منذ فترة قريبة لتأكيد ضمان استمرارية هذه المساعدة ، وحملتك بالرسائل الملغومة لا تروق لحكومة بون ، لذا أطلب إليك الإسراع في أيقافها – وتابع بن غوريون – أريد أن أكون رأيي الشخص حول أهمية التقارير بخصوص نشاط الخبراء الألمان في مصر ، أريد أن أرى الوثائق بنفسي .
هذا بالتأكيد يعني عدم ثقة رئيس الوزراء الإسرائيلي برئيس الموساد والذي يعتبر الشخصية الثانية في دولة إسرائيل .
كان رد رئيس الموساد حرفيا :
- إذا كنتم لا تودون الثقة بن من الآن فصاعدا ، اسمحوا لي أن أقدم استقالتي وباستطاعة نائبي أن يقوم بما تريدون .
وبالفعل أسرع / أيسير حاريل / على تقديم استقالته لرئيس الوزراء / جاء في كتاب «الموساد» تأليف : دينيس أيزينيرغ – أوري دان – إيلي لانداو . أشير إلي أن الاستقالة أحدثت هزة عنيفة في أوساط الإسرائيليين (في صيف 1981 تم تسريح أوري دان من عمله في صحيفة «معاريف» لأنه أدان في إحدى مقالاته رئيس الموساد لتدخله في الحملات الانتخابية في الكنيست لجانب حزب العمل المعارض حينها) . وتم سرا تشكيل لجنة مختصة للتحقيق بأسباب الاستقالة .
بعد مرور سنوات ، حيث تقاعد بن غوريون ، جدد علاقاته مع رئيس الموساد وأشاد به في رسالة وجهها له بأنه الإنسان الموهبة والمخلص لوطنه والبارع في حبك القضايا المعقدة .
رغم توقف الأعمال الإرهابية ضد الخبراء الألمان في الصناعة الحربية المصرية ، إلا أن الرسائل الملغومة بقيت كسلاح يستخدم من قبل الموساد ، حيث استمرت الطرود الملغومة بالوصول إلي عناوين مناهضي الدولة الصهيونية ، كما انتشر هذا الأسلوب البربري لدى المؤسسات المخابراتية الغربية . لكن الأهم كانت عمليات الموساد ضد الأعضاء البارزين في منظمة التحرير الفلسطينية والتي جاءت كما يلي :
- في 19 تموز عام 1972 حيث جرح الدكتور أنيس صايغ مدير مركز البحوث الفلسطينية في بيروت نتيجة أنفجار رسالة ملغومة . وفي نفس التاريخ تم إبطال شحنة متفجرة في رسالة موجه إلي رئيس أمن ال – 17 في التحرير أبو حسن سلامة .
- في 20 تموز 1972 تم إبطال ثلاث شحنات في طرود بريدية كانت موجهة إلي قادة فلسطينيين . وفي 25 تموز نفس العام جرح العضو البارز في منظمة التحرير / بسام أبو شريف / نتيجة انفجار كتاب ملغوم .
هذه التواريخ لا تشكل سوى حلقة بسيطة من رسائل الموت الموسادية (نسبة للموساد) . وتؤكد المعلومات أن منظمة «ميتسفاح ايلوخيم» (الغضب الالهي) المشكلة عام 1972 من قبل رئيس الموساد / تسفي زامير / هي التي كانت وراء العمليات التي نفذت ضد حركة المقاومة الفلسطينية .
الملاحظ أن عمليات الموساد هذه لم تكن تنفذ بشكل دوري ومنظم ، وإنما عندما كان قادة الموساد يرتأون أن اعداءهم خففوا من يقظتهم وحذرهم ، حينها تظهر لديهم حالات التعطش لسفك المزيد من الدماء ،والهدف من ذلك إظهار الموساد وكأنها المنظمة التي لا تقهر والقادرة على كل شيء – هذا من جانب ، ومن جانب آخر زرع اليأس في نفوس حركة المقاومة والشعب الفلسطيني خاصة والعربي عامة كي يرضخوا للأمر الواقع ويسلموا بحقيقة الاحتلال .
من الخطأ الكبير عدم تقدير خطورة الموساد وهذا ما أشار إليه أحد قادة المخابرات المركزية الأمريكية وحتى لو كان من باب الدعاية حيث قال :
«بالمقارنة مع اجهزة مخابرات الدول الأخرى فإن الموساد تعمل بشكل جيد ، لكن إذا أخذنا في الحقيقة الجانب الدعائي للموساد فإنها تحصل على تقدير ممتاز» .
فدعاية الموساد تلعب دورا هاما في الإرهاب النفسي والمعنوي لحركة المقاومة ورصيدها الجماهيري بحيث تخلق ضعفا في إرادتهم على مقاومة الاحتلال وتشوش أفكارهم في إمكانية مواجهة أعمال عصابة «ميتسفاح ايلوخيم» الموسادية .
العنكبوت البني تحت نجمة داؤود
كما أشرنا في البداية ، فالموساديون يحبون الدعاية لانفسهم وبالتالي لعملياتهم وعملائهم الذين انهوا خدماتهم الجلي ، لذلك نرى أن الاعلام الغربي وبإيعاز من قادة الموساد ينشر الكثير من المقالات والكتب حول مآثر مغامرات عملاء الموساد في شتى أصقاع الأرض .
من أجل هذا الهدف تم في تل أبيب إقامة حائط تذكاري عملاق أمام مبني الموساد حفرت عليه أسماء كافة عملائها الذين قتلوا أو سقطوا أثناء قيامه بـ «واجبهم» كما يقولون . أقيم هذا النصب التذكاري يجهود الجنرال مائير آميت (سلوتسكي) الذي تسلم قيادة الموساد بعد / أيسير هاريل / بين عامي 1963-1967 . فإذا كان / هاريل / درس وتخرج وعمل لصالح «الانتلجنس سرفيس» (المخابرات البريطانية) ، فإن / آميت / خدم عن عقيدة لصالح المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) .
وتجدر الإشارة إلي أن النصب الذكاري أشيد على شكل متاهة تجسد فكرة «البحث الدائم» التي ترفعها المؤسسات الصهيونية كشعار «الرداء والخنجر» .
فالإسم الكامل للموساد هو (موساد عاليه بيتا) باللغة العبرية وتعني (مكتب الهجرة الثانية) . ظهرت هذه التسمية – كما تذكر صحيفة «الواشنطن بوست» - بعد ظهور دولة إسرائيل في خارطة العالم السياسية عام 1948 . بموجب قرار تقسيم فلسطين . بيد أن هذه المنظمة عملت في الثلاثينات تحت أسم «ريشوت» حيث كانت المهمة الأساسية لها استقدام اليهود إلي فلسطين . ولذلك لم تكن المنظمة السرية للصهيونية فحسب ،بل كانت السلاح الذي نفذ العديد من العمليات الخاصة ضد مناهضي الصهيونية ، فمقر عمليات الموساد كان في البداية في جنيف ثم انتقل إلي استامبول وحتى لو أخذنا برواية «الواشنطن بوست» فالموساد لم تولد من الفراغ . فقبل ظهورها كانت هناك ثلاث منظمات إرهابية صهيونية تقوم بنفس الوظيفة وهي : عصابة «الهاغانا» أي الدفاع الذاتي ، عصابات «ايرغون تسفي ليئوم وليخي» وعصابة شتيرن . إضافة لذلك كان لدى الوكالة اليهودية منظمة استخبارية تسمى «شيروت إسرائيل» والتي استخدم خبراتا أول رئيس وزراء إسرائيلي بن غوريون أثناء تشكيله للموساد حيث أطلق عليه في البداية المكتب المركزي للاستطلاع والأمن (ريشوت) .
بالنسبة لعصابة «الهاغانا» ظهرت على اساس مجموعة استطلاع صهيونية كان تدعى «نيلي» عملت في العشرينات حيث كان معظم موظفيها من المحاربين القدامي ارتبطت بشكل وثيق مع الانتلجنس سرفيس البريطانية . حيث شارك الكابتن الصهيوني البريطاني وينغيت الناشط في الانتجلنس في تشكيل عصابات الهاغانا .
كان الهدف الأساسي لعصابة الهاغانا التمهيد لهجرة اليهود إلي فلسطين الخاضعة حينها للانتداب البريطاني ولذلك كانت منظمة شبه عسكرية تقوم بمهام خاصة في هذا الشأن ، وبجهودها ومساعدة الانتلجنس سرفيس البريطانية تم تشكيل مجموعات اقتحام اطلق عليها «بالماخ» قامت بنشر الرعب ومداهمة السكان العرب بحجة تأمين الحماية للمهاجرين اليهود .
بيد أن الحكومة البريطانية في 17 أيار 1939 اصدرت ما يسمى «الكتاب الأبيض» الذي حددت فيه هجرة اليهود تبعا للأراضي المشتراة من أصحابها العرب . ولمعرفتهم ما اقتزفته أيديهم بتشكيل عصابات الهاغانا لذلك حاول البريطانيون تلافي الخسارة الناجمة عنها ، وخصوصا عندما اكتشفت الشرطة البريطانية مخازن الأسلحة السرية في فلسطين والتي قادت آثارها إلي مدرس التربية البدنية أنذاك المدعو / موشي دايان / والعضو في عصابات الهاغانا ومعه أربعين عضوا في التنظيم حيث تم اعتقالهم وزوجهم في السجن . لكن سرعان ما تدخل اللوبي الصهيوني البريطاني للإفراج عنهم مبررا ذلك بنزعاتهم المثالية البعيدة عن أعمال العنف . وبالفعل تم الافراج عنهم بالكامل في 17 شباط 1941 بعد أن دعتهم الوكالة اليهودية للتوطع في الجيش البريطاني المتواجد في فلسطين . وهكذا في أيار من العام المذكور تم الاتفاق بين أحد قادة الصهيونية / حاييم وايزمان / ورئيس الاستخبارات البحرية البريطانية على تشكيل مجموعات عسكرية من الهاغانا على كافة الأراضي الفلسطينية بحجة حماية اليهود حيث كانت تعتبر بنفس الوقت احتياطا للجيش البريطاني . وبالفعل شكلت مجموعتان عين صفقة مع المخابرات البريطانية ليرسل عيونا له إلي سورية في حال احتلالها من قبل الألمان . في البداية اقترح دايان على رؤسائه البريطانيين تشكيل كتائب في الجيش البريطاني من قوائم مجموعات «بالماخ» كي تعمل ضد الالمان لأنها منهمكة في ايجاد التربة المناسبة بعد الحرب لشبكة واسعة من العملاء الصهاينة على الساحة الأوروبية .
مع مرور الزمن تدرج عميل المخابرات البريطانية موشي دايان في سلم الخدمة . حيث نجد من خلال كتاب : «موشي دايان – الجندي ، الانسان ، الأسطورة» الصادر في لندن عام 1972 للكاتب / شابتاي تيفيس / مايلي :
«منحت الثقة لموشي دايان بإعداد المظليين ،فأو كلها للضابط البريطاني الملقب بـ «القاتل» وهو برتبة رائد واسمه الحقيقي غرانت تايلور . عمل هذا الضابط سنوات عديدة مدربا لعناصر المهام الخاصة في الأسكوتلانديار للرمي على الأسلحة النارية الخفيفة ، ثم دعاه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي للعمل معه ضد عصابات الكانغستر هناك فأمضى عدة سنوات مارس خلالها كافة أنواع القتل والتعذيب والختطاف – ويشير الكتاب – إن موشي دايان ترقي المناصب من خلال الخدمة التي أداها له تلامذة القاتل غرانت تايلور ، حيث كان دايان عام 1948 مسؤولا في عصابات الهاغانا عن شؤون العرب . كما ذكر الكتاب بالوثائق عن الخدمات التي أداها موشي دايان للمخابرات البريطانية كعميل نشيط ينفذ كافة الأساليب الإرهابية لتحقيق مبتغاه» .
ورد في مذكرات موشي شاريت أحد رؤساء الوزراء السابقين في حكومة إسرائيل والتي نشرت عام 1955 ما يلي : «دايان يرغب في خطف الطائرات والضباط العرب» - هذا الأسلوب لا يزال قائما حتى اليوم كأحد أساليب الموساد المتبعة .
تسعى الدعاية الصهيونية دائما لاظهار عصابات الهاغانا وكأنها منظمة خيرة تعمل بموجب قناعات انسانية رفيعة المستوى . وكما هو معلوم بعد هزيمة هتلر عقد زعماء هذه المنظمة اتفاقا مع منظمات «ايرغون تسفي ليئوم» و «ليخي» للعلم سوية في تنفيذ العمليات الإرهابية ومن ضمنها الطرود البريدية الملغومة – كما ذكرنا في الفصل السابق .
فيما يخص منظمة ايرغون اشرنا إلي أعمالها في البداية لذلك سنتحدث عن «ليخي» التي تزعمها أبراهام شتيرن المعروف بتعاونه الوثيق مع النازيين وذلك بتقديم أسماء عملاء الانكليز في فلسطين والمساعدة في طرد البريطانيين منها . كما اتفق على تشكيل مجموعات دعم للالمان في الشمال الأفريقي والشرق الأوسط تقوم بعمليات تخريب ضد القوات البريطانية ، وفي حال تحقيق النصر يتم ارسال كافة اليهود الأوربيين إلي الأرض الواقعة بين النيل والفرات لإقامة دولة إسرائيل العظمى وبالمقابل طرد كافة العرب من هذه المنطقة ، وإقامة علاقات متميزة مع المانيا الحديثة بقيادة هتلر . وفي نفس الوقت وقعت عصابات الهاغانا اتفاقا للتعاون مع بريطانيا . الجدير ذكره أن اسحاق شامير (اسحاق ايزرتينسكي) كان أحد قادة عصابة «ليخي» وقد اعتقل من قبل الجيش البريطاني في الفترة التي تم فيها قتل رئيس العصابة ابراهام شتيرن أثناء محاولة الفرار من سجن الجيش البريطاني في فلسطين . انتقاما لمقتل شتيرن قام أفراده بقتل الوزير البريطاني المفوض في القاهرة (اللورد موين) .
يعتبر إبراهام شتيرن حاليا في إسرائيل بطلا قوميا ويتفاخر أعضاء «ليخي» بأن الموساد تستخدم حاليا اساليبه التي كان قد ابتكرها في الإرهاب.
بعد خروج اسحاق شامير من السجن عام 1945 تبوء رئاسة عصابة «ليخي» بطريقته الخاصة ، حيث قاد منافسه / الياهو غيلانوي / بجولة إلي الصحراء وعاد بدونه ليجمع بقية القادة ويجبرهم على الاعتراف بزعامته للعصابة وإلا سيكون مصيرهم كمصير الياهو .
تابع
الباحث في الشئون الامنية والاستراتيجية
من فضائح الموساد " عملاء ، ارهابيون ، مخربون "
في بداية القرن العشرين كان أول من اخترع الرسائل البريدية الملغومة السويدي / مارتين ايكينبرغ / حيث بعث برسالته القاتلة إلي أحد مواطنيه من رجال الأعمال الذي كان قد دحض الاختراع وسخر منه .
لم يكن ايكينبرغ ضليعا في المحافظة على اسرار اختراعه ولذلك تم اكتشافه من قبل البوليس . لقد عاش فترتها في لندن وتزوج مرتين ، كان شخصا غامضا حتى أن زوجيته قضتا في ظروف غامضة مشكوك فيها ، الأمر الذي دفع بالشرطة البريطانية لاعتقاله ووضعه في سجن بريكسون بانتظار تسفيره السويد ، بيد أنه تمكن من الانتحار .
بعد مرور ثلاثين عاما على وفاته تم التوصل إلي جوهر أفكاره الاجرامية ، ففي الثالث من أيلول عام 1947 أثناء فتح أحد الطرود البريدية في جنوب غرب لندن حدث انفجار قوي أدى إلي انهيار سقف البريد وجرح اثنين من موظفيه . بعد تحري المكان وفحصه تبين أن الطرد الملغوم كان مرسلا من أيرلنده إلي عنوان أحد ضباط الاستخبارات العسكرية البريطانية . في البداية اعتقدت المخابرات البريطانية أن الجيش الايرلندي يقف وراء الحادث ، لكن التحريات توصلت إلي أدلة دامغة تؤكد ضلوع المنظمات الصهيونية الإرهابية انذاك : «ايرغون تسفي ليعوم» (المنظمة القومية العسكرية) و «ليخي» (عصابات شتيرن أو المقاتلون من أجل حرية إسرائيل) .
كان البريطانيون محاطين علما بأن هاتين المنظمتين تخططان للبدء بسلسلة تفجيرات على الجزر البريطانية . وكان شعار منظمة «ايرغون» - اليهودية انتهت في الدم والنار وستحيا بهما – كان أحد قادة هذه المنظمة اسحاق ايزيرتينسكي البولوني الأصل الذي قدم إلي فلسطين فترة الانتداب البريطاني عام 1937 ثم تولى رئاسة تجمع الليكود والذي عرفه الجميع باسم اسحاق شامير وللعلم فإن اسحاق شامير وصل إلي المناصب العليا في إسرائيل من خلال المنظمة المذكورة إضافة إلي جهاز الموساد الذي شغل فيه منصب معاون رئيس فترة تسلمه رئاسة الوزراء .
قبل الانتقال إلي وقائع أخرى كان لابد لنا من ذكر ما نشرته الصحف في الأربعينات أثناء وفاة قادة المنظمات الإرهابية (شتيرن) والمدعو/ناتان ايللين مور/ الملقب بـ «فريدمان» حيث اعترف قبل وفاته بضلوعه في العمليات الإرهابية مع استخدام المتفجرات وتطرق إلي إحدى الطرود الملغومة التي ارسلت إلي انطوني ايدن الذي أصبح رئيسا لوزراء بريطانيا ، والمثير في الأمر أن الرسالة بقيت مع ايدن عدة أيام دون أن يفتحها وشاءت الصدفة أن تبطل مفعول الشحنة .
ونتيجة لانفجار أحد الرسائل الملغومة في مركز بريد لندن عم الهلع في أوساط البريطانيين وبدأت حملة تفتيش ومراقبة للطرود البريدية حيث تم العثور على ثمانية طرود بريدية ملغومة مرسلة من مدينة / تورنو / الايطالية إلي عناوين القادة في المؤسسة العسكرية البريطانية .
منذ سنوات خلت ذكر خبير الطرود في عصابة شتيرن الصهيونية / ياكوف ايلياف / بأن الرسائل الملغومة في تلك الفترة كانت من صنعه واعترف بالاخطاء التي ارتكبها من حيث قوة الحشوة المتفجرة فيها . وحسب أقوال ايلياف فإنه كان قد عمل في السبعينيات في إحدى «الشركات» التابعة للأمن الإسرائيلي التي صنعت متفجرات خاصة بالطرود البريدية ، وقبل ذلك ساهم بشكل فعال في إرسال الطرود الملغومة إلي القادة البريطانيين العاملين في وزارة الدفاع لكن رجال تحري الأسكوتلانديار كانوا يستخدمون الأشعة في الكشف ببساطة على الطرود المشبوهة ، وبذلك خلقت لدى البريطانيين نوعا من القيظة الدائمة .
بيد أنه في أيار عام 1948 ،عندما قررت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية خفت حدة اليقظة لدى الإنكليز ، بحيث شغل تفكيرهم الاجراءات الواجب اتخاذها لإجلاء قسم من قواتهم عن فلسطين . فصدموا بالإنفجار الذي أودى بحياة الطالب البريطاني / ريكس فران / بسبب خدمة أخيه في القوات البريطانية في فلسطين والذي أتهم من قبل عصابة شتيرن بقتل فتى يهودي وهكذا تم قتل الأخ الطالب في لندن بواسطة كتاب ملغوم أرسل له من قبل العصابة المذكورة .
حينها شدد رجال الأسكوتلانديار اجراءاتهم الأمنية وبدؤوا حملة تفتيش واسعة على الرسائل والطرود البريدية الموجهة للشخصيات السياسية والعسكرية والهيئات الحكومية والوزارات ، وبعد اسبوعين من مقتل الطالب كاد أحد الطرود أن يبلغ هدفه ، حيث تم العثور على طرد بريدي ملغوم موجه إلي الجنرال البريطاني ي . باركر الذي كان قائدا لأحد التشكيلات البريطانية في فلسطين فترة الانتداب وذلك بعد أن بدأت زوجته بفتح الطرد أمامه وفجأة لاحظت أسلاك معدنية ضمنه الأمر الذي دفعها لطلب الشرطة فورا ، والتي قامت بدورها بتفكيك الشحنة وإبطال مفعولها.
في تلك الفترة نشرت الصحف البريطانية تقريرا مفصلا عن الرسائل الملغومة وطرق صنعها ، بحيث كان باستطاعة إلي أن المؤسسة الإرهابية المصنعة للرسائل الملغومة قد نقلت نشاطها إلي الشرق الأوسط وبقيادة الحركة الصهيونية في إسرائيل ، وعلقت إحدى الصحف بما يلي :
«إن سلاح الرسائل الملغومة مصنوع بمهارة ويثير الاهتمام في كافة العلاقات ، فهذه الحرب عن بعد لا تشكل خطرا على أحد منكم ، إذا أقدم على نقلها وايصالها للعنوان المطلوب ، لأن مهمتها قتل الشخص الموجهة له والذي سيقوم بفتحها حتما ،وحتى لو لم تقتله فإنها تدب الرعب فيه ، لذلك أنتم تعرفون عنوان عدوكم ، وليس باحد في مأمن منها ، ولا يعنيكم من ستقتل الرسالة : الشخص المعني أم زوجته أو أحد أبنائه» .
بهذه العبارة تم تحديد طبيعة المجرمين يقفون خلف تلك الأعمال الإرهابية ، بناء على العقلية والمنطق الاجرامي أقدم حكام إسرائيل في الستينات على إرسال سهامم القاتلة إلي مصر . فمنذ أن بدأت حكومة عبد الناصر تعاونها مع العلماء الألمان الغربيين لتعزيز القدرة الدفاعية توجهت انظار الموساد الإسرائيلي إلي هؤلاء ، وكان يترأس مجموعة الخبراء الألمان البروفيسور / فولفغانع بيلتسي / في مجال صناعة الصواريخ والطائرات حيث تم تصميم نموذجين حربيين من الطائرات . من جانبهم عملاء الموساد تتبعوا تطورات العلم الذي قدر عليا من قبل الرئيس جمال عبد الناصر ، وفي عام 1962 قرر رئيس الموساد / ايسير حاريل / أن يبدأ نشاطه التخريبي بعد ظهور نوعين من صواريخ / أرض – أرض / كانت مشاركة في العرض العسكري في القاهرة .
توجه رئيس الموساد مباشرة إلي بون لإجراء مباحثات مع رئيس المخابرات الألمانية / رينخارد غيلين / الهدف منها الحصول على دعمه ومن خلال ما سرب للصحافة تبين أن الطرفين كانا متطابقي الرأي حتى أن غيلين أقسم لنظيره بأنه صديق مخلص لإسرائيل ، بناء على ذلك قامت الموساد بحملة تشهير واسعة النطاق أدانت فيها الخبراء العاملين في الصناعة الحربية المصرية . بأنهم نازيون سابقون ، ولذك لايجاد الأرضية المناسبة كي تصفهم بالإرهابين وتبرر أية أعمال إجرامية ضدهم يتم إعدادها لاحقا من قبل الموساد .
تلي ذلك عمليات الرسائل الملغومة الموجهة لهؤلاء وأقربائهم وذلك كما فعلت في الخمسينات على الأراضي البريطانية وكان أول ضحايا الرسائل الملغومة عام 1962 سكرتيرة البروفسور الألماني بليتسي ، عندما فتحت رسالة موجهة له من محامية في هامبورغ و تبين فيما بعد أن عنوان المرسل كان وهيما ، ونتيجة انفجار الطرد أصيبت السكرتيرة بجروح بليغة وفقدت عينها وقطعت يدها .
وفي اليوم التالي للحادثة تلقى العميد كمال عزابو المختص بيرنامج الصواريخ في المصنع رقم 333 قرب جبل القمة طردا بريديا من هامبورغ أيضا ، إلا أنه لم يكن موجودا أثناء فتحة فأنفجر وجرح ستة من الموجودين في مكتبه ، وقبيل ذلك حصل انفجار رسالة ملغومة في البريد المركزي في القاهرة كانت موجهة إلي البروفسور الألماني الذي أتى ذكره ذهب ضحيتها شخص وأصيب العديد بجراح . هكذا أصبح الأمر واضحا بأن هناك اجهزة خارجية تقف وراء العمليات الإرهابية . وبالرغم من أن إجراءات الأمن والحذر تعززت كثيرا في القاهرة ، تتابع وصول الطرود البريدية الملغومة إلي الخبراء الألمان حيث قتل خمسة منهم في القاهرة . وفي نفس الفترة مورست ضغوط على عائلات واقرباء الخبراء في المانيا ذاتها وأرسلت لهم التهديدات .
في أيلول 1962 اتخذ رئيس الموساد قرارا بتكثيف النشاط ضد الخبراء الألمان في مصر ومن لهم صلات معهم ، فأختفى رجل الأعمال الالماني / هانز كروغ / لصلته بأعمال الخبراء في القاهرة وذلك أثناء عودته من القاهرة إلي ميونيخ ، حيث تلقى – كما تبين بعد ذلك – برقية عاجلة من قبل أحد عملاء الموساد تتضمن ضرورة اللقاء به في ميونيخ وفقد بعد ذلك . كما أقدم ثلاثة من عملاء الموساد في مدينة / لوره / الألمانية على محاولة اختطاف البروفسور / هانز كلاينغيختر / لصلته بأعمال التصنيع في القاهرة ، لكنه تمكن من الإفلات منهم بعد أن أصيب بثلاث طلقات في صدره من مسدس كاتم للصوت . أما ابنة / باول غورك / فقد تلقت تهديدا بقتل والدها الخبير في المعمل 333 إذا لم يغادره في أقصى سرعة وتبين فيما بعد أن عميل الموساد المدعو / أوتو يو كليك / هو الذي طلب منها ذلك .
فجأة توقفت الحملة الشعواء على الخبراء الألمان العاملين في الصناعة الحربية المصرية . لم يكن السخط العالمي على الإرهاب الصهيوني السبب في ذلك ، وإنما جراء الاتفاق الذي تم بين المستشار الالماني / كونراد اديناور / ورئيس الوزراء الإسرائيلي / بن غوريون / في فندق «وول دورف» في نيويورك ،حيث التزمت المانيا بدفع تعويضات لإسرائيل مقابل الجرائم النازية ضد اليهود في أوربا وذلك على شكل أسلحة متطورة.
بعد عودة بن غوريون من نيويورك استدعى رئيس الموساد إلي جناحه في الفندق المطل على بحيرة طبرية وطلب منه ايقاف عملياته الإرهابية ضد الالمان . جاء طلب بن غوريون كالتالي :
اسمع يا أيسير !
«إن بون تقدم لنا مساعدات قيمة بالدبابات والحوامات والسفن الحربية وغيرها ، وكما تعلم فإن بعثة المانية كانت هنا منذ فترة قريبة لتأكيد ضمان استمرارية هذه المساعدة ، وحملتك بالرسائل الملغومة لا تروق لحكومة بون ، لذا أطلب إليك الإسراع في أيقافها – وتابع بن غوريون – أريد أن أكون رأيي الشخص حول أهمية التقارير بخصوص نشاط الخبراء الألمان في مصر ، أريد أن أرى الوثائق بنفسي .
هذا بالتأكيد يعني عدم ثقة رئيس الوزراء الإسرائيلي برئيس الموساد والذي يعتبر الشخصية الثانية في دولة إسرائيل .
كان رد رئيس الموساد حرفيا :
- إذا كنتم لا تودون الثقة بن من الآن فصاعدا ، اسمحوا لي أن أقدم استقالتي وباستطاعة نائبي أن يقوم بما تريدون .
وبالفعل أسرع / أيسير حاريل / على تقديم استقالته لرئيس الوزراء / جاء في كتاب «الموساد» تأليف : دينيس أيزينيرغ – أوري دان – إيلي لانداو . أشير إلي أن الاستقالة أحدثت هزة عنيفة في أوساط الإسرائيليين (في صيف 1981 تم تسريح أوري دان من عمله في صحيفة «معاريف» لأنه أدان في إحدى مقالاته رئيس الموساد لتدخله في الحملات الانتخابية في الكنيست لجانب حزب العمل المعارض حينها) . وتم سرا تشكيل لجنة مختصة للتحقيق بأسباب الاستقالة .
بعد مرور سنوات ، حيث تقاعد بن غوريون ، جدد علاقاته مع رئيس الموساد وأشاد به في رسالة وجهها له بأنه الإنسان الموهبة والمخلص لوطنه والبارع في حبك القضايا المعقدة .
رغم توقف الأعمال الإرهابية ضد الخبراء الألمان في الصناعة الحربية المصرية ، إلا أن الرسائل الملغومة بقيت كسلاح يستخدم من قبل الموساد ، حيث استمرت الطرود الملغومة بالوصول إلي عناوين مناهضي الدولة الصهيونية ، كما انتشر هذا الأسلوب البربري لدى المؤسسات المخابراتية الغربية . لكن الأهم كانت عمليات الموساد ضد الأعضاء البارزين في منظمة التحرير الفلسطينية والتي جاءت كما يلي :
- في 19 تموز عام 1972 حيث جرح الدكتور أنيس صايغ مدير مركز البحوث الفلسطينية في بيروت نتيجة أنفجار رسالة ملغومة . وفي نفس التاريخ تم إبطال شحنة متفجرة في رسالة موجه إلي رئيس أمن ال – 17 في التحرير أبو حسن سلامة .
- في 20 تموز 1972 تم إبطال ثلاث شحنات في طرود بريدية كانت موجهة إلي قادة فلسطينيين . وفي 25 تموز نفس العام جرح العضو البارز في منظمة التحرير / بسام أبو شريف / نتيجة انفجار كتاب ملغوم .
هذه التواريخ لا تشكل سوى حلقة بسيطة من رسائل الموت الموسادية (نسبة للموساد) . وتؤكد المعلومات أن منظمة «ميتسفاح ايلوخيم» (الغضب الالهي) المشكلة عام 1972 من قبل رئيس الموساد / تسفي زامير / هي التي كانت وراء العمليات التي نفذت ضد حركة المقاومة الفلسطينية .
الملاحظ أن عمليات الموساد هذه لم تكن تنفذ بشكل دوري ومنظم ، وإنما عندما كان قادة الموساد يرتأون أن اعداءهم خففوا من يقظتهم وحذرهم ، حينها تظهر لديهم حالات التعطش لسفك المزيد من الدماء ،والهدف من ذلك إظهار الموساد وكأنها المنظمة التي لا تقهر والقادرة على كل شيء – هذا من جانب ، ومن جانب آخر زرع اليأس في نفوس حركة المقاومة والشعب الفلسطيني خاصة والعربي عامة كي يرضخوا للأمر الواقع ويسلموا بحقيقة الاحتلال .
من الخطأ الكبير عدم تقدير خطورة الموساد وهذا ما أشار إليه أحد قادة المخابرات المركزية الأمريكية وحتى لو كان من باب الدعاية حيث قال :
«بالمقارنة مع اجهزة مخابرات الدول الأخرى فإن الموساد تعمل بشكل جيد ، لكن إذا أخذنا في الحقيقة الجانب الدعائي للموساد فإنها تحصل على تقدير ممتاز» .
فدعاية الموساد تلعب دورا هاما في الإرهاب النفسي والمعنوي لحركة المقاومة ورصيدها الجماهيري بحيث تخلق ضعفا في إرادتهم على مقاومة الاحتلال وتشوش أفكارهم في إمكانية مواجهة أعمال عصابة «ميتسفاح ايلوخيم» الموسادية .
العنكبوت البني تحت نجمة داؤود
كما أشرنا في البداية ، فالموساديون يحبون الدعاية لانفسهم وبالتالي لعملياتهم وعملائهم الذين انهوا خدماتهم الجلي ، لذلك نرى أن الاعلام الغربي وبإيعاز من قادة الموساد ينشر الكثير من المقالات والكتب حول مآثر مغامرات عملاء الموساد في شتى أصقاع الأرض .
من أجل هذا الهدف تم في تل أبيب إقامة حائط تذكاري عملاق أمام مبني الموساد حفرت عليه أسماء كافة عملائها الذين قتلوا أو سقطوا أثناء قيامه بـ «واجبهم» كما يقولون . أقيم هذا النصب التذكاري يجهود الجنرال مائير آميت (سلوتسكي) الذي تسلم قيادة الموساد بعد / أيسير هاريل / بين عامي 1963-1967 . فإذا كان / هاريل / درس وتخرج وعمل لصالح «الانتلجنس سرفيس» (المخابرات البريطانية) ، فإن / آميت / خدم عن عقيدة لصالح المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) .
وتجدر الإشارة إلي أن النصب الذكاري أشيد على شكل متاهة تجسد فكرة «البحث الدائم» التي ترفعها المؤسسات الصهيونية كشعار «الرداء والخنجر» .
فالإسم الكامل للموساد هو (موساد عاليه بيتا) باللغة العبرية وتعني (مكتب الهجرة الثانية) . ظهرت هذه التسمية – كما تذكر صحيفة «الواشنطن بوست» - بعد ظهور دولة إسرائيل في خارطة العالم السياسية عام 1948 . بموجب قرار تقسيم فلسطين . بيد أن هذه المنظمة عملت في الثلاثينات تحت أسم «ريشوت» حيث كانت المهمة الأساسية لها استقدام اليهود إلي فلسطين . ولذلك لم تكن المنظمة السرية للصهيونية فحسب ،بل كانت السلاح الذي نفذ العديد من العمليات الخاصة ضد مناهضي الصهيونية ، فمقر عمليات الموساد كان في البداية في جنيف ثم انتقل إلي استامبول وحتى لو أخذنا برواية «الواشنطن بوست» فالموساد لم تولد من الفراغ . فقبل ظهورها كانت هناك ثلاث منظمات إرهابية صهيونية تقوم بنفس الوظيفة وهي : عصابة «الهاغانا» أي الدفاع الذاتي ، عصابات «ايرغون تسفي ليئوم وليخي» وعصابة شتيرن . إضافة لذلك كان لدى الوكالة اليهودية منظمة استخبارية تسمى «شيروت إسرائيل» والتي استخدم خبراتا أول رئيس وزراء إسرائيلي بن غوريون أثناء تشكيله للموساد حيث أطلق عليه في البداية المكتب المركزي للاستطلاع والأمن (ريشوت) .
بالنسبة لعصابة «الهاغانا» ظهرت على اساس مجموعة استطلاع صهيونية كان تدعى «نيلي» عملت في العشرينات حيث كان معظم موظفيها من المحاربين القدامي ارتبطت بشكل وثيق مع الانتلجنس سرفيس البريطانية . حيث شارك الكابتن الصهيوني البريطاني وينغيت الناشط في الانتجلنس في تشكيل عصابات الهاغانا .
كان الهدف الأساسي لعصابة الهاغانا التمهيد لهجرة اليهود إلي فلسطين الخاضعة حينها للانتداب البريطاني ولذلك كانت منظمة شبه عسكرية تقوم بمهام خاصة في هذا الشأن ، وبجهودها ومساعدة الانتلجنس سرفيس البريطانية تم تشكيل مجموعات اقتحام اطلق عليها «بالماخ» قامت بنشر الرعب ومداهمة السكان العرب بحجة تأمين الحماية للمهاجرين اليهود .
بيد أن الحكومة البريطانية في 17 أيار 1939 اصدرت ما يسمى «الكتاب الأبيض» الذي حددت فيه هجرة اليهود تبعا للأراضي المشتراة من أصحابها العرب . ولمعرفتهم ما اقتزفته أيديهم بتشكيل عصابات الهاغانا لذلك حاول البريطانيون تلافي الخسارة الناجمة عنها ، وخصوصا عندما اكتشفت الشرطة البريطانية مخازن الأسلحة السرية في فلسطين والتي قادت آثارها إلي مدرس التربية البدنية أنذاك المدعو / موشي دايان / والعضو في عصابات الهاغانا ومعه أربعين عضوا في التنظيم حيث تم اعتقالهم وزوجهم في السجن . لكن سرعان ما تدخل اللوبي الصهيوني البريطاني للإفراج عنهم مبررا ذلك بنزعاتهم المثالية البعيدة عن أعمال العنف . وبالفعل تم الافراج عنهم بالكامل في 17 شباط 1941 بعد أن دعتهم الوكالة اليهودية للتوطع في الجيش البريطاني المتواجد في فلسطين . وهكذا في أيار من العام المذكور تم الاتفاق بين أحد قادة الصهيونية / حاييم وايزمان / ورئيس الاستخبارات البحرية البريطانية على تشكيل مجموعات عسكرية من الهاغانا على كافة الأراضي الفلسطينية بحجة حماية اليهود حيث كانت تعتبر بنفس الوقت احتياطا للجيش البريطاني . وبالفعل شكلت مجموعتان عين صفقة مع المخابرات البريطانية ليرسل عيونا له إلي سورية في حال احتلالها من قبل الألمان . في البداية اقترح دايان على رؤسائه البريطانيين تشكيل كتائب في الجيش البريطاني من قوائم مجموعات «بالماخ» كي تعمل ضد الالمان لأنها منهمكة في ايجاد التربة المناسبة بعد الحرب لشبكة واسعة من العملاء الصهاينة على الساحة الأوروبية .
مع مرور الزمن تدرج عميل المخابرات البريطانية موشي دايان في سلم الخدمة . حيث نجد من خلال كتاب : «موشي دايان – الجندي ، الانسان ، الأسطورة» الصادر في لندن عام 1972 للكاتب / شابتاي تيفيس / مايلي :
«منحت الثقة لموشي دايان بإعداد المظليين ،فأو كلها للضابط البريطاني الملقب بـ «القاتل» وهو برتبة رائد واسمه الحقيقي غرانت تايلور . عمل هذا الضابط سنوات عديدة مدربا لعناصر المهام الخاصة في الأسكوتلانديار للرمي على الأسلحة النارية الخفيفة ، ثم دعاه مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي للعمل معه ضد عصابات الكانغستر هناك فأمضى عدة سنوات مارس خلالها كافة أنواع القتل والتعذيب والختطاف – ويشير الكتاب – إن موشي دايان ترقي المناصب من خلال الخدمة التي أداها له تلامذة القاتل غرانت تايلور ، حيث كان دايان عام 1948 مسؤولا في عصابات الهاغانا عن شؤون العرب . كما ذكر الكتاب بالوثائق عن الخدمات التي أداها موشي دايان للمخابرات البريطانية كعميل نشيط ينفذ كافة الأساليب الإرهابية لتحقيق مبتغاه» .
ورد في مذكرات موشي شاريت أحد رؤساء الوزراء السابقين في حكومة إسرائيل والتي نشرت عام 1955 ما يلي : «دايان يرغب في خطف الطائرات والضباط العرب» - هذا الأسلوب لا يزال قائما حتى اليوم كأحد أساليب الموساد المتبعة .
تسعى الدعاية الصهيونية دائما لاظهار عصابات الهاغانا وكأنها منظمة خيرة تعمل بموجب قناعات انسانية رفيعة المستوى . وكما هو معلوم بعد هزيمة هتلر عقد زعماء هذه المنظمة اتفاقا مع منظمات «ايرغون تسفي ليئوم» و «ليخي» للعلم سوية في تنفيذ العمليات الإرهابية ومن ضمنها الطرود البريدية الملغومة – كما ذكرنا في الفصل السابق .
فيما يخص منظمة ايرغون اشرنا إلي أعمالها في البداية لذلك سنتحدث عن «ليخي» التي تزعمها أبراهام شتيرن المعروف بتعاونه الوثيق مع النازيين وذلك بتقديم أسماء عملاء الانكليز في فلسطين والمساعدة في طرد البريطانيين منها . كما اتفق على تشكيل مجموعات دعم للالمان في الشمال الأفريقي والشرق الأوسط تقوم بعمليات تخريب ضد القوات البريطانية ، وفي حال تحقيق النصر يتم ارسال كافة اليهود الأوربيين إلي الأرض الواقعة بين النيل والفرات لإقامة دولة إسرائيل العظمى وبالمقابل طرد كافة العرب من هذه المنطقة ، وإقامة علاقات متميزة مع المانيا الحديثة بقيادة هتلر . وفي نفس الوقت وقعت عصابات الهاغانا اتفاقا للتعاون مع بريطانيا . الجدير ذكره أن اسحاق شامير (اسحاق ايزرتينسكي) كان أحد قادة عصابة «ليخي» وقد اعتقل من قبل الجيش البريطاني في الفترة التي تم فيها قتل رئيس العصابة ابراهام شتيرن أثناء محاولة الفرار من سجن الجيش البريطاني في فلسطين . انتقاما لمقتل شتيرن قام أفراده بقتل الوزير البريطاني المفوض في القاهرة (اللورد موين) .
يعتبر إبراهام شتيرن حاليا في إسرائيل بطلا قوميا ويتفاخر أعضاء «ليخي» بأن الموساد تستخدم حاليا اساليبه التي كان قد ابتكرها في الإرهاب.
بعد خروج اسحاق شامير من السجن عام 1945 تبوء رئاسة عصابة «ليخي» بطريقته الخاصة ، حيث قاد منافسه / الياهو غيلانوي / بجولة إلي الصحراء وعاد بدونه ليجمع بقية القادة ويجبرهم على الاعتراف بزعامته للعصابة وإلا سيكون مصيرهم كمصير الياهو .
تابع