المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القدس في فيلم «مملكة السماء» .. ومغالطة التدين تؤدي إلى التعصب



فاطمي
06-10-2005, 10:50 AM
أخطاء تاريخية في السيناريو ومفهوم المعتقدات الدينية


أمير طاهري


طرح هذا السؤال على صلاح الدين الايوبي في مشهد من فيلم «مملكة السماء»: ماذا تعني لك القدس؟ ورد صلاح الدين «لا شيء» قبل ان يضيف كأنه يفكر «كل شيء».
وهذا الحوار هو روح هذا الفيلم الذي يصل طوله الى 145 دقيقة، ويكشف الكثير عن مرحلة ما بعد الحداثة المعاصرة اكثر من حديثه عن الحروب الصليبية، التي تعتبر العمود الفقري لحبكة هذا الفيلم. ومفهوم ان لا شيء يمكن ان يعني كل شيء ليس تناقضا، بل هو جوهر نظرة هذا الفيلم للدين، بل وللوجود بأكمله. والفيلم هو تعبير بليغ لاتجاهات الصفوة الغربية الليبرالية.

وتدور احداث الفيلم حول حداد فرنسي اسمه باليان الذي فقد اسرته وايمانه تقريبا. وتبدو الحروب التي تدور في «اراض مقدسة» وكأنها تدور في اماكن قاصية، بالنسبة له، غير ان القدر يقوده اليها، على شكل فارس عظيم هو جودفري اوف ابلين، وهو محارب صليبي يعود لفترة قصيرة لفرنسا من الحروب في الشرق. ويعلن انه اب باليان ويعلمه معنى الفروسية ويصحبه في رحلة عبر القارات الى «المدينة المقدسة». ووسط عظمة ومؤامرات القدس في العصور الوسطي يقع باليان في الحب ويتحول تدريجيا الى قائد، وفي النهاية يستخدم شجاعته ومواهبه في الدفاع عن المدينة.

ولا نحتاج بالضرورة الى الدخول في تفاصيل بخصوص الاخطاء التاريخية في السيناريو. ولا نحتاج للجدل حول حقيقة ان كاتب السيناريو وليام موناهان والمخرج ريدلي سكوت فشلا في تجسيد روح العصور الوسطى. فالذي قدماه هو مزيج من موتيفات القرن التاسع عشر والخدع السينمائية من النوع التي اشتهر به سيسل بي دي ميل. ويعرض موناهان وسكوت القدس وفلسطين ككل واحد، باعتبارها اماكن قفر قاصية جرى استيطانها مثلما استوطن الاوروبيون مستعمرات القارة الاميركية واستراليا. والحقيقة ان القدس آنذاك، كانت ابعد ما تكون عن هذا النوع من الغرب الاميركي المتوحش، كانت واحدة من اقدم الاماكن المأهولة في العالم، ويرجع تاريخها الى 1500 سنة وقد حكمها المصريون واليهود والبابليون والآشوريون والفرس والرومان والبيزنطيون والعرب والاتراك.

والامر الاكثر دهشة هو نظرة الفيلم للدين. فبالنسبة لموناهان وسكوت فإن المتدينين ينقسمون الى ثلاث مجموعات. اولا فهناك هؤلاء الذين يعميهم الايمان ولا يمكنهم رؤية العالم كما هو، وبالتالي لديهم قابلية للخداع وفي بعض الاحيان الاقتناع بارتكاب جرائم رهيبة. ثم هناك هؤلاء الذين يستخدمون الدين كنوع من الدرع ضد عالم يخشونه ولا يفهمونه. وفي اوقات ماضية كان العديد منهم يتحول الى نساك ورهبان بالنسبة للمسيحيين ودراويش ومعتكفين بالنسبة للمسلمين. واخيرا، فإن النوعية الثالثة من المتدينين تتكون من هؤلاء الذين يستخدمون الدين كوثاق سياسي واجتماعي، وبالتالي يخلقون شبكات لدعم مصالحهم المادية.

وقد تخيل موناهان وسكوت نوعية رابعة، يفضلانها. وهو «المعتدلون» دينيا، اذا ما اردنا استخدام المفاهيم الحالية. وقد اكدوا معتقداتهم الدينية ولكنهم لا يصرون على الدفاع عنها اذا ما كان ذلك يعني افساد حديث على حفل عشاء بغض النظر عن اثارة العنف والحروب.

وبكلمة اخرى الدين بالنسبة لهم هو وجهة نظر اكثر منه اعتقاد. وكما نعلم يمكن للناس الجدل حول وجهات النظر ولكن لا احد، تقريبا، يقاتل من اجل وجهة نظر. الاشخاص الجيدون في هذا الفيلم من «المعتدلين» الذين لا يأخذون الدين على محمل الجد. والاشخاص السيئون، هم من «الاصوليين» الذين يعتقدون مصداقية قناعتهم الدينية.

ونتيجة لذلك فإن الاشخاص الرئيسية في الفيلم، من المسلمين والمسيحيين، يبدون، في افضل الحالات غير متيقنين. وربما يتساءل المرء لماذا اهتم الصليبيون بالتعرض لكل هذه المخاطر للحضور من اوروبا للشرق الاوسط للقتال من اجل شيء لا يؤمنون به حقا. وبالمناسبة لغير المتيقنين بين المسلمين ربما يتعجب المرء لماذا اهتموا بطرد الصليبيين من ارض لا تعني لهم شيئا.

وبلغت درجة اهتمام كل من موناهان وسكوت بإخفاء الجانب الديني للحملات الصليبية لدرجة انك لا تشهد أي مكان عبادة او رجال دين طوال هذا الفيلم الطويل.

فلا توجد كنائس في «مملكة السماء»، ولا حتى في «اقدس» المدن. ولا يوجد رهبان ولا راهبات. وقلة قليلة من الحجاج. ويظهر قسيسان في الفيلم بأكمله، احدهما يشوه الجثث والآخر شرير تعتمد استراتيجيته في الدفاع عن القدس على اعتناق الاسلام وترك الناس يموتون. وينثر سكوت عدة صلبان هنا وهناك، ولكن لا يوجد صلب، وهو الامر الذي كان عاديا في العصور الوسطى. ولا توجد في ديكورات قصور الصليبيين ايقونات لمريم العذراء او القديسين، بل لا توجد أي فنون دينية بأي شكل من الاشكال. ويعيش المسيحيون والمسلمون واليهود في هذه القدس الهوليوودية في سلام تام.

غير ان الحقيقة هي انه لم يكن من المسموح للمسلمين واليهود وباقية غير المسيحيين بالحياة في المدينة خلال عهد بولدوين الرابع. وفي خاتمة الفيلم، يظهر البطل باليان كشبه ماركسي يدافع عن الناس بدلا من كونه مسيحيا تقيا. ويقول ان ما يهم بالنسبة له ليس مدينة القدس ولكن سكانها. ويوضح وهو يهدد بتدمير كل المواقع المسيحية والاسلامية التي يصفها بأنها تدفع الناس للجنون «انا هنا للدفاع عن الناس وليس عن الحجارة». ويتعجب المرء لماذا يأتي الى القدس للدفاع عن الناس. ألم يكن من الممكن فعل ذلك في فرنسا حيث كان الاقطاعيون يستغلون الفلاحين العزل استغلالا بشعا؟ ويضيع سكوت وموناهان جوهر القصة: اعتبر الصليبيون القدس بأكملها اثرا مقدسا لحياة وموت وبعث المسيح.

وباليان الحقيقي هدد، في مواجهة غزو القدس من المسلمين، بتدمير قبة الصخرة اذا لم يتراجع صلاح الدين عن خطته لذبح السكان المسيحيين. ومرة اخرى، كان السبب هو ان قبة الصخرة واحدة من اقدس الآثار الاسلامية، ليست مجرد «كومة من الحجارة» بالنسبة للمسلمين، الذين كانوا على استعداد للقتال والموت من اجلها.

ولكن ليست القدس المسيحية التي يعقمها سكوت وموناهان. فهما يظهران المسلمين يصلون مرتين، بطريقة غير صحيحة. ففي مشهد يصلي صلاح الدين على جثث الجنود. ولكن يجري مونتاج للمشهد بطريقة تجعل صلاته، وهي بالعربية، بلا معنى. وفي المشهد الآخر ينتشر المصلون في المكان بدلا من الوقوف في صفوف منتظمة كما هو الحال.

والمسلم التقي الوحيد في الفيلم هو رجل دين متشح بالسواد يطالب صلاح الدين بشن هجوم على القدس وذبح المسيحيين.

والرسالة هنا واضحة: التدين يؤدي للتعصب، والتعصب يؤدي للحروب. ومحاولة الفيلم ان يكون مؤدبا للغاية للاسلام والمسيحية في العصور الوسطى، تؤدي في النهاية الى اهانتهما. ولكن ربما الاهم من ذلك، فإن اتخاذ الفيلم لمواقف صحيحة يؤدي الى خيانة مصداقيته الفنية.