المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : 'ديزني لاند' للشيعة .... بقلم نبراس الكاظمي



البحر
12-08-2017, 11:46 AM
06 ديسمبر، 2017

https://gdb.alhurra.eu/01747BB5-09F9-4467-8935-8F6E09F72675_w1023_r1_s.jpg

كتاب الزهور في رامبور

بقلم نبراس الكاظمي - الحرة

قبل نحو أسبوعين، كتب الباحث دانيال جاكوبيوس موركان، وهو طالب دكتوراة في جامعة شيكاغو، عن مسعاه في البحث عن مخطوطة من وضع محمد صنع الله بانيباتي باللغة الفارسية في القرن الثامن عشر حول الأبعاد الغيبية في دعاء منسوب إلى أبو الحسن الشاذلي المغربي (من رجال القرن الثالث عشر)، وذلك في مكتبة صاولات العامة في مدينة رامبور بشمالي الهند، والتي تأسست في سنة 1934. وحسب الفهرست الموجود لمحتويات المكتبة، لا وجود لهذه المخطوطة في أي بقعة من الأرض إلا فيها، ولكن بالرغم من تعنّي موركان في الوصول إليها واستغراقه لعدة الأيام في البحث ما بين رفوفها، فلم يجد ضالته. وكان موركان يندب الحال الذي وصلت إليه هذه المكتبة المهمة والمختصة بالتراث الإسلامي الهندي من تهالك وإهمال، إذ تهدم أحد جدرانها واتسعت الشقوق في سطحها، مما عرض موجوداتها للتلف والتبعثر. فأغلب روادها من مثقفي المسلمين في الشمال الهندي كانوا قد هاجروا إلى باكستان إثر انشطار الأخيرة عن الهند عام 1947، والتي رافقتها أعمال شغب وعنف في المدينة كادت أن تؤدي إلى حرق المكتبة لولا تدخل بعض الأهالي بنقل محتوياتها.

ومن ثم انقطعت المبرة التي أوقفتها العائلة المالكة الرامبورية لصالح المكتبة، ويبدو أن إدارتها أوكلت إلى الدولة الهندية في ما لحق. ولا يشرح لنا موركان لما لم يتم نقل الموجودات إلى مكتبة رضا القريبة والواقعة في نفس المدينة والتي تعد من أهم مكتبات القارة الآسيوية إذ تحتوي على النفائس من المخطوطات والمطبوعات في لغات عدة. وهي أيضا من آثار ومبرات أمراء رامبور، وتُعنى بها حاليا الدولة الهندية ولكنها تغدق عليها لأهميتها العالمية على عكس مكتبة صاولات، خصوصا وأن موجوداتها أوسع من الشأن الإسلامي البحت.

وفي خبر آخر، وردنا من الهند أيضا اكتشاف جثة "آخر أمراء دولة أوده" علي رضا في مطلع شهر أيلول. وكان الأمير قد توفي لوحده في خربة قذرة واقعة ما بين الأدغال المحيطة بدلهي يناهز عمرها 600 سنة كانت قد منحتها حكومة الهند لوالدته سنة 1985، من بعد قيام الأخيرة بالاعتصام في مقصورة الدرجة الأولى في محطة نيودلهي للقطار لمدة عقد من الزمن، مطالبة بميراث عائلتها التي قامت السلطات الإنكليزية بمصادرته سنة 1856. وعاشت هذه السيدة مع ابنها وبنتها وبعض من خدمهم في هذا الكوخ الذي بناه أحد ملوك المُغول لغرض الصيد، في فقر مدقع من دون كهرباء ولا ماء، وفي عزلة شبه تامة إلى أن واتتهم المنية الواحد بعد الآخر. وكانوا يدعون النسب إلى واجد علي شاه، الحاكم العاشر والأخير لإمارة أوده (أو عوض في إحدى التلفظات) وبأنهم آخر من تبقى من هذه السلالة، ولكن الصحيح هو أن هناك مئات ممن يدعون الانتساب إلى هذه السلالة، يتوزعون في عدة بقاع من العالم، أما أصحاب النسب الصريح فهم لم يعترفوا بإدعاء والدة الراحل علي رضا أبدا. وكان أحد "النواب" أي الأمراء من هذه العائلة قد ارتحل إلى العراق وسكن في الكاظمية ولكنه توفي من دون عقب، فاكتسب العاملون في حاشيته لقب النواب وعرفوا به.

أما دولة أوده فكانت منافسة لدولة رامبور وأقدم منها، وكانت العائلة الحاكمة تتبع المذهب الشيعي الاثني عشري، ومن مآثرها المهمة تخصيص ريع الفائدة عن قرض بمليون جنيه استرليني كانت قد منحته إلى الإنكليز في سنة 1825 للعتبات والحوزات الدينية في العراق، وكانت قيمة الفائدة تتراوح حول عشرة آلاف جنيه سنويا. ناهيك عن مآثرها في ما سبق من إعمار مراقد الأئمة ومد المياه للنجف وكربلاء. أما العائلة الحاكمة في رامبور فكانت بداياتهم مع قدوم قبائل الباشتون الذين أتى بهم المغول من أفغانستان وأسكنوهم في شمال الهند لصد الهجمات من قبائل مناوئة لهم، وظهرت من بينهم إمارة يتزعمها سادة حسينيون إلى أن اعتنق أحد هؤلاء الأمراء المذهب الشيعي في نهاية القرن الثامن عشر بتأثير دولة أوده المجاورة. وعلى عكس أمراء أوده، ناصر أمراء رامبور الإنكليز أثناء العصيان الكبير الذي حصل سنة 1857، لذا سمحت بريطانيا لهم بالاستمرار في التمتع بامتيازات الحكم والمال. وحاليا فإن سبعين بالمئة من المدينة هم من المسلمين (ويشكلون خمسين بالمئة من المقاطعة الأوسع أيضا) حتى من بعد هجرة الكثير منهم إلى الباكستان. يذكر أن بالقرب من رامبور تقع مدينة بريلي حيث ولد الداعية الإسلامي الشهير أحمد رضا خان (توفي سنة 1921) الذي كفّر الشيعة والوهابية والأحمدية، وهو مؤسس الطريقة الباريلفية المنتشرة في شبه القارة الهندية والتي يشكل أتباعها ستين بالمئة من سكان باكستان حسب بعض التقديرات، وهم في طليعة أعمال الشغب الحاصلة في باكستان هذه الأيام.

وهذان الخبران، حول تهالك مكتبة صاولات في رامبور ووفاة الأمير علي رضا، يذكرانني بأهمية الشمال الهندي في قصة التشيّع، وبأن أعين النجف كانت تستعطف إكرام أمراء الهند هؤلاء لقرنين من الزمن، ولكن يبدو أن هذا الرابط الحضاري قد تلاشى وأصبح في طي النسيان، فها هي النجف قد احتيت ماديا، وتسري في عروقها بضعة مليارات من الدولارات ضمن مؤسساتها المختلفة وذلك في حالة اضطرادية وتوسعية، ولكنها لا تتلفت لا لإرث رامبور ولا إلى أوده، وكأن الأمر لا يعنيها، ولو من باب رد الجميل. وتذكرت أيضا أحد ألذ الكتب الذي يندرج تحت أدب الرحالة والذي وجدته في شارع المتبني بعنوان "الزهور في رامپور"، للمؤلف الشيخ عبد الحسين عباس عبد السادة الأعسم، المطبوع في المطبعة الحجازية ببومباي (الهند) سنة 1927، وهو يحوي باكورة مشاهدات الشيخ خلال زيارتين اتخذهما لرامبور في سنتي 1924 (لمدة ثلاث أشهر) و 1926 (لمدة أربع أشهر). ويبدو أن الأعسم (1883-1957)، النجفي المنشأ والكاظمي المسكن، كان يهوى الترحال، وذلك بحجة الدعوة إلى الإسلام، فذهبت به الرياح إلى الإقامة في اليابان، وثم في سان فرانسيسكو بأميركا وثم في البلدان الاسكندنافية، وكل ذلك قبيل ترحاله إلى الهند.

وفي إحدى زياراته إلى مدينة بومباي تعرف من خلال أحد معارفه العراقيين على "صاحب العظمة والشوكة والسلطان الأوحد والملك المعظم الممجد سليل بيت الأكارم والمجد الشريف مولانا (مخلص الدولة. ناصر الملك. أمير الأمراء نواب سر سيد محمد حامد علي خان بهادر مستعد جنـگ) جى. سي. أيس. آئي. جى. سي. آئى. أي. جى. سي. وى. أو فرمان روائي دار السرور (رياست رامبور يو. بي) لا زال السعد أليفه والنصر حليفه آمين" (... هذه الأحرف إشارة إلى درجات الفرسان البريطانية "السير").

وأتحفنا هذا اللقاء العرضي بهذا الكتاب النادر جدا، لأن الأمير حامد علي خان دعا الأعسم لأصطحابه إلى موطنه في رامبور قرب الحدود النيبالية عند مشارف جبال الهملايا.

فركب الأعسم بالقطار الخاص بحامد خان من بومبي إلى رامبور، وانبهر به، فقدم لنا تفاصيل كثيرة عنه، من مقصورة الحمام حيث "قاعته من الرخام الأبيض الصافي وحيطانه مما يلي الطابق مرصوفة بصفائح المرمر وفي حوضين أحدهما كبير خاص للاستحمام والآخر للوجه واليدين وعليه وذيلة بديعة وإلى زاويته مرحاض من المرمر وعلقت بسمائه المصابيح الكهربائية"، إلى أن انتهت الرحلة إلى محطة قطار خاصة هي أيضا تابعة لأحد قصور الأمير.

ويتابع الأعسم انبهاره بثراء أمراء رامبور ورفعتهم، فيشرح لنا بالتفصيل كل ما شاهده من تحفيات وأثاث، وعمارة وزخرفة، في تلك القصور الفارهة (... هناك عشرات من الصور في متن الكتاب). ويُخال للقارئ بأنه يطالع زيارة شيخ شيعي إلى "ديزني لاند" الشيعة آنذاك، فها هو الأمير الشيعي حامد خان ينشئ القصور، ومنها "حامد منزل" (الذي انتقلت إليه مكتبة رضا آنفة الذكر في وقت لاحق)، ويستضيفه امبراطور ألمانيا وثم الملكة فيكتوريا، وهو يكرم علماء الشيعة الزائرين فيحلون ضيوفا عليه في نفس تلك القصور حالهم من حال اللورد إدوارد وود، مندوب ملك بريطانيا في الهند، والتي تحوي على ملاعب التنس واصطبلا لخمسين فيلا! وكذلك ينشئ حسينيات رحبة ومدارس عصرية، وأبناؤه لديهم مدرسون إنكليز خاصون مقيمون معهم. فهذه كانت جنة شيعية على أرض الله، وكان الأعسم منبهرا بها، وهو الآتي من العراق التعس والفقير نسبيا قياسا برامبور.

الأعسم كان يبحث عن الانفتاح الشيعي على العالم والترقي العلمي، وكانت مدائن رامبور بمثابة منارات للتنور الشيعي. يتحفنا الأعسم بنقل رسالة نشرتها جريدة (ستارة إيران) من فتاة متنورة تشرح فيها ظروفها وتقدم "سيرتها الذاتية" عمّا يميزها فهي حسب وصفها "إيرانية الجنس وبلادي كردستان التابعة لدولة إيران، جعفرية المذهب" وكان أبوها قد تركها لبعض سنوات مع عمها في بغداد حيث انخرطت في مدرسة اليهود للإناث حيث خالطت اليهوديات والمسيحيات وتعلمت البيانو، وثم أكملت دراستها الابتدائية باللغة العربية هناك، لتعود لاحقا إلى كردستان ومن ثم تكمل دراستها الثانوية في طهران. وقوامها، كما تقول، هو متر واثنان وستون سنتيما. وتروم الزواج من رجل يلبي هذه الشروط: "أن يكون زوجي لا يتجاوز الثلاثين سنة.

ألا يكون عائداته أقل من أربعين تومان شهريا.

ألا يكون مجرما ومتهما بجناية ولم يكن محروما من حقوقه الاجتماعية. أن يكون له تحصيلات واطلاعات بالعلوم العصرية بقدر ما يمكن له المذاكرة بيني وبينه كي لا تكن كلماتي ومذكراتي معه ثقيلة مما يوجب الكدر والاشمئزاز." فانحاز الأعسم إلى جرأتها وإلى رغبتها في اختيار زوج مناسب حسب مواصفاتها.

ومن المفارقات في الكتاب أيضا نقله لمقطع من مذكرات منسوبة إلى ابن عم ملك أفغانستان يروي فيها تعرفه على امرأة مجرية مقيمة في القاهرة على متن باخرة كانت تقلهم من بيروت إلى اسطنبول. وهنا نتعرف على قصة كاميليا و"المسيو برلان" ابن يوركي أفندي الذي كان من عرب فلسطين ودرس الصيدلة في فيينا حيث تعرف على كاميليا ووقعا في الغرام وثم عاد قافلا إلى بلاده ليفتتح صيدلية في دمشق وينقطع بذلك عن عشيقته. كما يحوي كتاب "الزهور في رامبور" على مداخلة تدوم لعشرات الصفحات حول اكتشاف كريستوفر كولومبس لقارة أميركا وما لحقه من تاريخ تأسيس الولايات المتحدة!

ويتخلل السرد العديد من الإشارات إلى أحداث عالمية مثل نفي الشريف حسين بن علي عن الحجاز، واستتباب السيطرة لابن سعود والوهابيين على الكثير من أرجاء الجزيرة العربية، وآخر التطورات في شأن المفاوضات حول ولاية الموصل وإحالتها إلى تركيا أو إلى العراق. كما يتطرق الأعسم بشكل عرضي إلى "الفتن" الطائفية الواقعة بين الهندوس والمسلمين، وخصوصا إنهما كانا يتناصفان نسب السكان في تلك النواحي، ولكنه لا يتوقف كثيرا على هذه الأحداث التي قد تؤثر على نشوة الانبهار التي انتابته حينها، والتي ستؤدي في نهاية المطاف إلى إنهاء حكم الإنكليز، وتقسيم الهند بين المسلمين والهندوس، وإنهاء الإمارات مثل إمارة رامپور (قامت الحكومة الهندية بسحب امتيازات العائلة المالية سنة 1971)، وإتيان الخراب والنسيان على قصور النواب.

فقد ذبلت الزهور يا أسياد رامبور، ولم يتبق هناك من يسقيها ولو بذرف الدمع. (أعنيك يا نجف!)

للاطلاع على الكتاب اتبع الرابط التالي:

http://02e37fc.netsolhost.com/site/alzuhoor_fi_rampour.pdf


https://www.alhurra.com/a/disneyland-shia/405963.html