على
06-09-2005, 07:15 AM
الخامس من يونيو وأسرار «المظاهرات العفوية»
القاهرة: حمدي عابدين
يحاول الباحث المصري شريف يونس في كتابه «الزحف المقدس» تحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية التي سبقت هزيمة 1967 ويستقصي الأساليب والسياسات الآيديولوجية التي استخدمت في تعبئة المصريين وشكلت عواطفهم وتوجهاتهم قبل نكسة الخامس من حزيران، ليفسر خروج المصريين يومي 9 و10 يونيو، رافضين تنحي رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر عن السلطة، هذه التظاهرات التي كانت حدثاً فريداً ومدهشاً، إذ لم يعرف التاريخ الحديث وربما القديم شعباً يخرج في مظاهرات حاشدة، لا ليفتك بمن تسببوا في هزيمته وإلحاق كارثة بأرضه التي احتلت منها مساحة كبيرة نتيجة الهزيمة، بل ليعيدهم إلى الحكم! ما هي الأسرار التي كانت تقف وراء ذلك؟
هل هو تنظيم الاتحاد الاشتراكي، الذي كان يقوده علي صبري وسعى من خلاله إلى تكوين وبناء قوة سياسية فاعلة ومستقلة في المجتمع المصري؟ ولكن هل كان الاتحاد قادراً في تلك اللحظة على حشد المصريين بمثل هذه السرعة، أم أن المظاهرات خرجت بشكل عفوي دون تدبير سابق؟ يذكر يونس، حسب شهادات فردية أوردها في ثنايا الكتاب، ان بعض المواصلات العامة نقلت الناس إلى أماكن تجمعاتهم كما نقلت وسائل نقل أخرى جموعاً من الريف والمدن إلى القاهرة، وان ظهور رجال الاتحاد الاشتراكي في وسط التجمعات الجماهيرية في الريف والمدن كان «بحكم تواجدهم الطبيعي بين السكان». ويشير المؤلف إلى أن النظام في تلك الأثناء كان في أضعف حالاته بعدما «نقل الناس فجأة من نشوة نصر أكيد وعدوا به إلى ظلمة هزيمة مروعة، وبالتالي لم يكن الاتحاد الاشتراكي وليد هذا النظام قادراً على فعل شيء بعدما أصيب بحالة من الشلل من أثر المفاجأة، إذ لم يكونوا يدرون ما الذي يجب فعله بوصفهم قيادات سياسية».
ويريد المؤلف أن يقول، عبر تلك الشهادات وغيرها، بان المظاهرات كانت تلقائية، إذ اندفع الناس إلى الشوارع بمجرد سماع عبد الناصر يعلن استقالته، وينقل السلطة إلى زكريا محيي الدين. وكان أقصى ما يستطيعه علي صبري هو أن يستخدم بعض الدوائر الضيقة الموثوق بها من الاتحاد الاشتراكي أو المنظمات الأمنية شبه المدنية في الإيحاء للتجمعات العفوية برفع شعارات مناسبة أو تجهيز بعض اللافتات أو توفير وسائل النقل، وان هذا كله أياً كان حجمه متواضع للغاية، ولا ينفي عن مظاهرات 9 و10 يونيو 1967 عفويتها وتلقائيتها.
إلا أن عفوية تلك المظاهرات لا تعني غياب فكرة ما، فعفويتها كانت تصدر عن وعي متراكم منذ 15 سنة من حكم الضباط، وهي محصلة لعمل أجهزة الدولة السياسية والآيديولوجية على مدى تلك السنوات، وهذا يكشف خلفية وأسرار ذلك الحدث التاريخي في حياة المصريين.
وهنا يحلل يونس خطب الرئيس جمال عبد الناصر بما فيها خطاب التنحي وخطب زملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة وتصريحاتهم وأحاديثهم الصحافية، فضلا عن مقالات أعلام الصحافة آنذاك: مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل واحمد بهاء الدين واحسان عبد القدوس ومحمد التابعي وغيرهم ممن قاموا بدور بارز في تشكيل تلك اللحظة والمجال الآيديولوجي الذي أحاط بها، وكذلك الأوضاع والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تتتابع في فترة الستينيات من القرن الماضي.
يقول المؤلف: «إن هناك ممارسات قام بها الضباط الأحرار على الجانب السياسي خلخلوا من خلالها وجود الشعب المصري وفاعليته في اتخاذ القرار، وفي ظل عدم تحقق نسب النمو في الاقتصاد، حسب وعود الثوار، ووصولها في الخمسينيات إلى 4.7% سنوياً أي ما يفوق بقليل فترة ما قبل قيام حركة الضباط في 1952. ففي الخطة الخمسية الأولى كان معدل النمو 5.7% سنوياً، وبينما حقق قطاع الخدمات 135% من الخطة المستهدف، لم تحقق الصناعة إلا 55.5% سنوياً والزراعة 13.1% وبلغ معدل نمو الصناعة سنويا 9% مقابل 14% في إيران في عهد الشاه بينما كانت النسبة المستهدفة 15%».
كانت الخطة الخمسية ارتجالية، ولم تكن الستينيات، زمن عنفوان الثورة، بأفضل من الخمسينيات رغم دعاية النظام الهائلة عن افتتاح مصنع جديد كل يوم، ولم توضع خطة تنفيذية واحدة بشكل مركزي، وأدت جهود النظام في النهاية إلى كارثة اقتصادية فلم تحقق الصناعة رغم سيطرة الدولة عليها إنجازات أكبر مما حققته الدولة على أيدي القطاع الخاص أيام الملكية.
في ظل هذا التردي الاقتصادي ومصادرة حرية الشعب واتخاذ القرارات نيابة عنه والوصاية عليه واعتبار الحرية «أمانة في أيدي ضباط الثورة يمارسونها إلى أن يصبح الشعب مؤهلا للقيام بأعبائها» جاءت المظاهرات العفوية.
لكن، كما يشير يونس، كانت هناك تظاهرات أخرى حدثت عقب قرارات 5 و25 مارس، 1954، التي فرض الضباط بمقتضاها أنفسهم أوصياء على الشعب ومتحدثين بلسانه حيث خرجت المظاهرات وقتها «تهاجم الديمقراطية وتهتف بسقوطها». ومن هنا يمكن تفسير الذوبان الذي حدث بين «شخص الزعيم وبين الشعب الذي لا يمارس حريته». وانطلاقاً من هذه الحقيقة، يمكن أيضاً تفسير فوز عبد الناصر في الاستفتاءات التي تمت على رئاسته، إذ حصل في كل منها على 99.9 من الأصوات في الاستفتاء الأول، وكان عدد الرافضين 5 آلاف ناخب، بينما في الاستفتاء الثاني، وهو استفتاء دولة الوحدة، ارتفعت النسبة إلى 99.99 من الموافقين وانخفض عدد الرافضين إلى 247 ناخباً. وقد بلغ حجم «ممارسة الحرية نيابة عن الشعب المصري» أقصاه في استفتاء عام 1965، عندما بلغت النسبة 99.999% من الأصوات، «فلم يعد هناك مؤيدون ومعارضون، وصار عبد الناصر رمزاً للتحالف بين كل طبقات الشعب المصري» حسب تعبير الكاتب مصطفى أمين.
من هنا، حسب قول المؤلف يمكن فهم واقع الحياة السياسية في مصر الآن في بداية قرن جديد ويمكن فهم وجهة نظر السلطة السياسية عن الشعب التي تعتبر باعتباره «غير ناضج وينبغي أن يمارس حريته بحساب».
القاهرة: حمدي عابدين
يحاول الباحث المصري شريف يونس في كتابه «الزحف المقدس» تحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية والفكرية التي سبقت هزيمة 1967 ويستقصي الأساليب والسياسات الآيديولوجية التي استخدمت في تعبئة المصريين وشكلت عواطفهم وتوجهاتهم قبل نكسة الخامس من حزيران، ليفسر خروج المصريين يومي 9 و10 يونيو، رافضين تنحي رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر عن السلطة، هذه التظاهرات التي كانت حدثاً فريداً ومدهشاً، إذ لم يعرف التاريخ الحديث وربما القديم شعباً يخرج في مظاهرات حاشدة، لا ليفتك بمن تسببوا في هزيمته وإلحاق كارثة بأرضه التي احتلت منها مساحة كبيرة نتيجة الهزيمة، بل ليعيدهم إلى الحكم! ما هي الأسرار التي كانت تقف وراء ذلك؟
هل هو تنظيم الاتحاد الاشتراكي، الذي كان يقوده علي صبري وسعى من خلاله إلى تكوين وبناء قوة سياسية فاعلة ومستقلة في المجتمع المصري؟ ولكن هل كان الاتحاد قادراً في تلك اللحظة على حشد المصريين بمثل هذه السرعة، أم أن المظاهرات خرجت بشكل عفوي دون تدبير سابق؟ يذكر يونس، حسب شهادات فردية أوردها في ثنايا الكتاب، ان بعض المواصلات العامة نقلت الناس إلى أماكن تجمعاتهم كما نقلت وسائل نقل أخرى جموعاً من الريف والمدن إلى القاهرة، وان ظهور رجال الاتحاد الاشتراكي في وسط التجمعات الجماهيرية في الريف والمدن كان «بحكم تواجدهم الطبيعي بين السكان». ويشير المؤلف إلى أن النظام في تلك الأثناء كان في أضعف حالاته بعدما «نقل الناس فجأة من نشوة نصر أكيد وعدوا به إلى ظلمة هزيمة مروعة، وبالتالي لم يكن الاتحاد الاشتراكي وليد هذا النظام قادراً على فعل شيء بعدما أصيب بحالة من الشلل من أثر المفاجأة، إذ لم يكونوا يدرون ما الذي يجب فعله بوصفهم قيادات سياسية».
ويريد المؤلف أن يقول، عبر تلك الشهادات وغيرها، بان المظاهرات كانت تلقائية، إذ اندفع الناس إلى الشوارع بمجرد سماع عبد الناصر يعلن استقالته، وينقل السلطة إلى زكريا محيي الدين. وكان أقصى ما يستطيعه علي صبري هو أن يستخدم بعض الدوائر الضيقة الموثوق بها من الاتحاد الاشتراكي أو المنظمات الأمنية شبه المدنية في الإيحاء للتجمعات العفوية برفع شعارات مناسبة أو تجهيز بعض اللافتات أو توفير وسائل النقل، وان هذا كله أياً كان حجمه متواضع للغاية، ولا ينفي عن مظاهرات 9 و10 يونيو 1967 عفويتها وتلقائيتها.
إلا أن عفوية تلك المظاهرات لا تعني غياب فكرة ما، فعفويتها كانت تصدر عن وعي متراكم منذ 15 سنة من حكم الضباط، وهي محصلة لعمل أجهزة الدولة السياسية والآيديولوجية على مدى تلك السنوات، وهذا يكشف خلفية وأسرار ذلك الحدث التاريخي في حياة المصريين.
وهنا يحلل يونس خطب الرئيس جمال عبد الناصر بما فيها خطاب التنحي وخطب زملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة وتصريحاتهم وأحاديثهم الصحافية، فضلا عن مقالات أعلام الصحافة آنذاك: مصطفى أمين ومحمد حسنين هيكل واحمد بهاء الدين واحسان عبد القدوس ومحمد التابعي وغيرهم ممن قاموا بدور بارز في تشكيل تلك اللحظة والمجال الآيديولوجي الذي أحاط بها، وكذلك الأوضاع والتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تتتابع في فترة الستينيات من القرن الماضي.
يقول المؤلف: «إن هناك ممارسات قام بها الضباط الأحرار على الجانب السياسي خلخلوا من خلالها وجود الشعب المصري وفاعليته في اتخاذ القرار، وفي ظل عدم تحقق نسب النمو في الاقتصاد، حسب وعود الثوار، ووصولها في الخمسينيات إلى 4.7% سنوياً أي ما يفوق بقليل فترة ما قبل قيام حركة الضباط في 1952. ففي الخطة الخمسية الأولى كان معدل النمو 5.7% سنوياً، وبينما حقق قطاع الخدمات 135% من الخطة المستهدف، لم تحقق الصناعة إلا 55.5% سنوياً والزراعة 13.1% وبلغ معدل نمو الصناعة سنويا 9% مقابل 14% في إيران في عهد الشاه بينما كانت النسبة المستهدفة 15%».
كانت الخطة الخمسية ارتجالية، ولم تكن الستينيات، زمن عنفوان الثورة، بأفضل من الخمسينيات رغم دعاية النظام الهائلة عن افتتاح مصنع جديد كل يوم، ولم توضع خطة تنفيذية واحدة بشكل مركزي، وأدت جهود النظام في النهاية إلى كارثة اقتصادية فلم تحقق الصناعة رغم سيطرة الدولة عليها إنجازات أكبر مما حققته الدولة على أيدي القطاع الخاص أيام الملكية.
في ظل هذا التردي الاقتصادي ومصادرة حرية الشعب واتخاذ القرارات نيابة عنه والوصاية عليه واعتبار الحرية «أمانة في أيدي ضباط الثورة يمارسونها إلى أن يصبح الشعب مؤهلا للقيام بأعبائها» جاءت المظاهرات العفوية.
لكن، كما يشير يونس، كانت هناك تظاهرات أخرى حدثت عقب قرارات 5 و25 مارس، 1954، التي فرض الضباط بمقتضاها أنفسهم أوصياء على الشعب ومتحدثين بلسانه حيث خرجت المظاهرات وقتها «تهاجم الديمقراطية وتهتف بسقوطها». ومن هنا يمكن تفسير الذوبان الذي حدث بين «شخص الزعيم وبين الشعب الذي لا يمارس حريته». وانطلاقاً من هذه الحقيقة، يمكن أيضاً تفسير فوز عبد الناصر في الاستفتاءات التي تمت على رئاسته، إذ حصل في كل منها على 99.9 من الأصوات في الاستفتاء الأول، وكان عدد الرافضين 5 آلاف ناخب، بينما في الاستفتاء الثاني، وهو استفتاء دولة الوحدة، ارتفعت النسبة إلى 99.99 من الموافقين وانخفض عدد الرافضين إلى 247 ناخباً. وقد بلغ حجم «ممارسة الحرية نيابة عن الشعب المصري» أقصاه في استفتاء عام 1965، عندما بلغت النسبة 99.999% من الأصوات، «فلم يعد هناك مؤيدون ومعارضون، وصار عبد الناصر رمزاً للتحالف بين كل طبقات الشعب المصري» حسب تعبير الكاتب مصطفى أمين.
من هنا، حسب قول المؤلف يمكن فهم واقع الحياة السياسية في مصر الآن في بداية قرن جديد ويمكن فهم وجهة نظر السلطة السياسية عن الشعب التي تعتبر باعتباره «غير ناضج وينبغي أن يمارس حريته بحساب».