المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التنوير المفترى عليه.. أو محمد قطب قارئا للحداثة



على
06-09-2005, 06:58 AM
شقيق سيد قطب الذي كرس علل أخيه ونقلها للسعودية


رجعت أخيرا في إحدى مكتبات القاهرة إلى العناوين الجديدة لمحمد قطب، شقيق سيد قطب، بعد أن كنت اطلعت على أعماله الأولى في آخر السبعينات من القرن الماضي.
و قد استوقفني كتاب جديد يحمل عنوان «قضية التنوير» آثرت الاطلاع عليه لغرضين مترابطين هما من جهة تحديد مدى التطور والتحول في فكر الرجل بعد أربعين سنة انقضت على صدور كتاباته الأولى، ومن جهة أخرى الوقوف عند تصوره لهذه الإشكالية النظرية المجتمعية الكبرى التي تشكل الموضوع المحوري في الفلسفة المعاصرة (أي مسألة التنوير).

وقد هالني أن مواقف وتصورات محمد قطب لم تتغير ولو قليلا، الا في نقطة جزئية هامة هي تقربه من المفاهيم السلفية النصوصية، ربما لأثر خروجه من مصر الى السعودية ومن ثم ارتباطه بالتيار الصحوي السعودي حسب التسميات المحلية المعروفة.

ومع أن كتاب «قضية التنوير» ليست له قيمة معرفية أو منهجية تؤهله في ذاته للنقاش والمساءلة، إلا انه يشكل خلاصة مختصرة لفكر محمد قطب الذي كان له التأثير المكين في صياغة جانب وافر من جوانب الخطاب الإسلامي المشترك، باعتباره امتدادا ومكملا لمشروع شقيقه سيد قطب.

فما يهمّنا إذن في كتاب «قضية التنوير» هو ما يوفره من فسحة لمراجعة المقومات الأساسية لهذا الخطاب المشترك، في المحور المتعلق بالنظر للحداثة الموسومة بالغربية، وبتجلياتها وحضورها في الفكر العربي.

قطب وبناء الايديولوجيا الإسلامية

* يظهر من خلال تتبع مسار الفكر الإسلامي الحديث، أن البناء الإيديولوجي النسقي لم يبدأ الا مع الاخوين سيد قطب ومحمد قطب، بعد مرحلة تأرجح هذا الفكر بين النزعة التنويرية والتحديثية والانغلاق داخل الهوية الثقافية الخصوصية.

فاللحظة الإيديولوجية لم تبدأ إلا في نهاية العشرينات ببروز شعار الإسلام «دين ودولة»، مصحف وسيف لدى حسن البنا وحركته «الإخوان المسلمين»، بيد أن رسائل البنا ومذكراته للدعوة لا تقدم بناء إيديولوجيا مكتملا، ولعل ثقافته الحديثة المحدودة لم تكن تؤهله لهذه الصياغة الإيديولوجية المحكمة التي لم تبدأ إلا مع الاخوين محمد قطب وسيد قطب اللذين تخرجا من المدرسة العقادية (نسبة لعباس العقاد)، واطلعا على جانب وافر من الترجمات العربية للكتب الحديثة، وألفا تيارات النقد الأدبي الحديث وأعمال التيار التحديثي العربي.

وهكذا انحسرت الوعود التي كانت حملتها كتابات الأفغاني ومحمد عبده وان استمرت في السياق المغربي مع علمين بارزين هما علال الفاسي (من المغرب الأقصى) ومحمد الطاهر بن عاشور (من تونس) اللذان تبنيا منظومة التحديث والتنوير في إطار نظرية إصلاحية تحديثية تستبطن القيم الليبرالية المعاصرة، بيد أن أعمالهما لم تترك تأثيرا في المشرق العربي، لأسباب ليس هذا مجال التعرض لها.

كما انحسرت وعود الفكر العقلاني الإصلاحي التي بدأت مع الفيلسوف الباكستاني البارز محمد إقبال الذي قدم مشروعا طموحا لتجديد الفكر الديني بتوظيف المفاهيم والمناهج الفلسفية الجديدة، مركزا على معيار الحركة والتحول الذي اعتبره مفتاح النسق الإسلامي في نظرته للوجود والتاريخ.

و من المفارقات المثيرة، أن الخطاب الإسلامي المشترك أحجم عن حدوس إقبال، واستبدلها بمقاربة مفكر باكستاني آخر، ليس له عمقه ولا انفتاحه، هو أبو الأعلى المودودي الذي كان أول من طرح مفهوم «الحاكمية» الذي شكل الفكرة المحورية في المنظومة الإيديولوجية الإسلامية.

القطبية والمودودية

* ولا يخفى تأثر المدرسة القطبية بفكر المودودي، بيد أن مدرسة الأخوين لا تنحصر في هذا التأثير، بل تتجاوز التركة المودودية، في صياغتها الإيديولوجية للخطاب لإسلامي المشترك التي تتمحور حول ست أسس نظرية نجملها في العناصر التالية:

(1) فكرة الحاكمية الإلهية.

(2) النظرة للحداثة الغربية بصفتها جاهلية ثانية.

(3) إرجاع التصورات الفلسفية الإنسانية الحديثة إلى أفكار اليهود ومخططاتهم.

(4) الطموح لأسلمة المعارف.

(5) القول بانحطاط الغرب وسقوطه الحتمي.

(6) الدعوة للقطيعة المعرفية والايديولوجية والإجرائية بين القلة المؤمنة والمجتمع الجاهلي المنحرف.

وليس من همنا في هذا الحيز الوقوف عند الفكرتين الأولى والأخيرة اللتين تخرجاننا عن سياق اهتمأمنا الحالي، وقد نعود لهما لاحقا إن شاء الله، وإنما سنكتفي بالتوقف عند الأسس النظرية الأربعة التي تشكل عناصر الرؤية القطبية للحداثة.

الحداثة بصفتها جاهلية

* اشتهر محمد قطب بكتابه الأساسي «جاهلية القرن العشرين، الذي يقدم فيه قراءة متكاملة للحداثة الغربية وامتدادها في المجال العربي الإسلامي، ناعتا إياها بأنها جاهلية ثانية، تماثل من حيث الانحراف والفساد الجاهلية العربية قبل البعثة النبوية.

ويتكرر هذا الحكم في احد آخر كتب قطب أي «قضية التنوير» الذي يقدم فيه محاولة لتتبع المسار التاريخي لفكر الأنوار الأوروبي، مع التركيز على حركة التنوير العربية. ولا بد في البداية من توضيح خلط يتردد كثيرا في كتاب قطب بين التنوير والعلمانية، مرادفا بين المقولتين اللتين تنتميان لسياقين نظريين وتاريخيين مختلفين. فحركة التنوير ـ كما هو معروف ـ بدأت في القرنين السابع عشر والثأمن عشر، وشكلت المفاهيم العقلانية المتمحورة حول حرية الذات المفكرة والفاعلة وقودها النضالي ضد القمع السياسي والفكري، ولم تكن تطرح الخيار العلماني (أي فصل الدين عن الدولة) مطلبا ايديولوجيا أو سياسيا صريحا، بل ان اغلب فلاسفة الأنوار تبنوا مسلك توظيف الدين في إصلاح الدولة وتوطيد مبادئ الحرية والعدل، ولم تبدأ القوانين العلمانية في أوروبا إلا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لأسباب معقدة مرتبطة بصراع المؤسستين الدينية والسياسية الذي تختلف مشاهده وصيغه اختلافا واسعا بحسب السياقات الأوروبية.

فمحمد قطب يقدم تعريفا لا تاريخيا غير دقيق لحركة الأنوار في أوروبا، معتبرا أنها نشأت بسبب «انحراف» و«إفلاس» الديانة القائمة: «لقد كان الظلام مخيما على أوروبا نتيجة اتباعهم دينا أفسدته الكنيسة الأوروبية بتصورات منحرفة، وسلوك طغياني اشد انحرافا، كان هذا هو كل ما عرفته أوروبا من الدين». ويذهب قطب في تفسير هذا الحكم إلى القول ان الديانة الأوروبية ليست هي الديانة المسيحية المنزلة، بل هو «دين وضعته المجامع الكنسية وفرضته فرضا على الناس، ولم يكن يتجاوز حيز العقيدة الفردية، في الوقت الذي يحتفظ الكهنة بسلطة روحية مطلقة كرست الاستغلال والفساد والاستبداد السياسي». ولذا «ليس العجب أن أوروبا ثارت على هذا الدين وتمردت عليه» إذ هو «دين غير صالح «للحياة»، فلم يكن أمامها حل وقد أوصدت الكنيسة أمامها منافذ الدين الصحيح ـ إلا أن تنبذ دينها الكنسي، لتتقدم وتتعلم، وتتقوى وتتحرر من الطغيان. فحركة التنوير من هذا المنظور هي حصيلة اكتشاف «زيف الدين المتبع» من اجل المصالحة مع التقدم والحياة. عجز وإفلاس وتيه عن المقاربة الصحيحة ويستدعي هذا التصور ملاحظتين مقتضبتين:

1 ـ إن المؤلف يقف عاجزا عن رصد التحولات الفكرية والمجتمعية التي أفرزت عصر الأنوار، وهي في مجموعها ثلاث نلمح إليك بمجرد الإشارة: الإصلاح الديني الذي غير المقاربة التأويلية للنص الديني منظور حرية التأمل والقراءة، التصورات العلمية المستندة للرؤية التجريبية للطبيعة، وقد انتظمت هذه التحولات فلسفيا في ما دعاه هايدغر بقارة الذاتية التي تترجم في إناطة مرجعية الفكر والمجتمع بالإنسان وفق اتجاه ديناميكي حركي قبلته المستقبل ورهانه القدرة على صنع التاريخ.

وتلك معطيات معروفة لمن له أدنى إطلاع على تاريخ الفكر الأوروبي، أما القول بان انحراف الديانة الغربية هو سبب الخروج عليها، فأمر مثير للجدل: فما القول في المجتمع الأميركي الذي هو أكثر المجتمعات الغربية تقدما وتطورا ولا يزال تسعون بالمائة منه يقرون بانتمائهم الديني وحرصهم على ممارسته. وما القول في المجتمعات الهندوسية والبوذية في آسيا التي تجمع بين أكثر الديانات قدما وبعدا عن الديانات السماوية وأخر التطورات والاكتشافات العلمية.

إن محمد قطب بربطه بين «الإفلاس الديني» و«التطور العلمي التجريبي» يتبنى التطورات الوضعية ـ المعادية في العمق للدين ـ في حين أن العلوم التجريبية تنتمي لسردية معرفية وابستمولوجية لا علاقة لها عضويا بصحة الدين أو طبيعته، حتى ولو كانت الكنيسة الأوروبية حاربت في العصور الحديثة الاكتشافات العلمية لاستنادها للسلطة المعرفية اليونانية وليس للدين المسيحي ذاته، فالإشارات القرآنية الكثيرة شاهدة على أن لا علاقة بين تطور المجتمعات المادي الذي يستجيب لسنن كونية واتباعها النهج الروحي الصحيح.

2 ـ ليس من الصحيح أن حركة الأنوار كرست القطيعة مع الدين، بل سلكت إزاءه مقاربات متباينة : فكانت اقرب لنقد الدين في فرنسا، مدافعة عنه رافضة ربط التعصب والاستبداد به في السياق الانقليزي، في حين كانت اقرب لحركة الإصلاح الديني في السياق الألماني.

وقد بين ماكس فيبر العلاقة العضوية بين مسار الحداثة والتنوير والإصلاح البروتستانتي، كما هو مألوف ومتداول في الدراسات الاجتماعية والتاريخية المدرسية. والمفارقة المثيرة في تناول محمد قطب للتنوير والحداثة، هو اختزاله النموذج الغربي في الفساد الأخلاقي والجريمة والانحلال وتحلل الروابط الاجتماعية، واستبطانه غير الواعي لقيم التنوير في دفاعه عن الإسلام بصفته دين الحرية والتقدم والعلم. كيف فهم قطب حرية المرأة والفكر والسياسة؟

* ففي محاكمته لحركة التنوير، يرى أن إنجازاتها الكبرى في ادعائها تتمحور حول ثلاثة مكاسب هي: تحرير المرأة وحرية الفكر والحرية السياسية. فبخصوص حرية المرأة، يرى قطب أن حركة تحرير المرأة نشأت من الثورة الصناعية التي اضطرت المرأة إلى العمل في المصانع، وقد تحولت من مبدأ المساواة في الحقوق إلى مبدأ المساواة في الفساد. يقول قطب: «إن إحداث الثورة الصناعية في أوروبا هي التي اضطرت المرأة للعمل في خارج البيت، وتبع ذلك الاختلاط والمفاسد التي ترتبت عليه، ووصول الأوضاع الراهنة التي صارت الفاحشة أصلا معترفاً به، بل صارت هي الأصل ...».

ومن نفس الزاوية الأخلاقية، لا يرى في خطاب تحرير المرأة لدى الحداثيين العرب سوى نفس الخلفية أي الفساد والرذيلة: «كان هذا هو الطريق للقضاء على ما بقي من نظائر الإسلام في المجتمع، وشغل الأولاد والبنات بالعلاقات الدنسة والأفكار الدنيئة والتصورات الهابطة». ولئن كان ربطه لخطاب تحرير المرأة بالثورة الصناعية له بعض الوجاهة الجزئية، إلا أن اختزاله هذا الخطاب في الانحرافات الأخلاقية التي لم يتخل منها مجتمع في التاريخ فيه تبسيط شديد لدينامية مجتمعية ارتبطت بحركة التنوير والتحديث، أي مبدأ الحرية والمساواة، وهو مبدأ إسلامي أصيل، ومن ثوابت النظرة الإسلامية للمرأة، ففاته أن يتبين التأثيرات الايجابية لتحرير المرأة في تقدم وتطور المجتمعات الغربية، وهو الدرس الذي أراد التحديثيون العرب الاستفادة منه، منذ محمد عبده وقاسم أمين والطاهر الحداد، ومن الخلف والخطر حشر تحرر المرأة في زاويتي الوصاية على القاصر و«الانحراف الأخلاقي».

ويبدو ان صاحبنا لا يرى في انحراف الغرب الأخلاقي إلا الجانب الجنسي، ولا تستوقفه قيم العدالة الاجتماعية والحرية السياسية والتضأمن التي نجدها في المجتمعات الغربية أكثر من غيرها. أما المكسب الثاني أي حرية الفكر، فيرى قطب انه يعني التحرر من الدين والقطيعة معه، وهو أمر مفهوم في المجتمعات الغربية ذات الدين «المنحرف» الفاسد (وقد وقفنا آنفا عند هذا الحكم)، ويرى ان الحداثيين العرب أرادوا الأمر ذاته إزاء الإسلام بقولهم: «حطموا الدين واغلاله، لكي تتحرروا وتنطلقوا، تجددوا وتبدعوا، وتصير لكم القوة والسلطان».

ويتجلى هذا الموقف في العلاقة بالنص الديني، الذي ليس له قداسة في الديانة الغربية باعتباره محرفا، في حين أن النص القرآني محفوظ مقدس لا يمكن أن تمارس آليات القراءة النقدية عليه. ولا يورد قطب أمثلة من مفكرين تحديثيين عرب أرادوا إلغاء قداسة النص القرآني، ولا اعرف شخصيا مفكرا ذا قيمة تبنى هذا الرأي، إلا إذا كان تطبيق مناهج العلوم الإنسانية الجديدة على أنماط تلقي المسلمين لنصوصهم المقدسة فيه تعرض لقداسة الدين، وهو أمر غير صحيح ما دام الموضوع هو الفهم البشري وليس النص ذاته.

بل يمكن القول بوضوح، ان المناهج التأويلية المعاصرة تختلف جذريا عن المسالك الفيللوجية في القرن التاسع عشر، فلا تتعرض لمصدر النص، ولا تدعي تقديم قراءة موضوعية له، بل تتناوله في استراتيجيات تأويله المتباينة، ومن يمكن أن ينكر واقع الاختلاف الواسع بين تفسير أعلام الإسلام الأوائل للقرآن الكريم: ما بين الزمخشري والقرطبي وابن عربي، أو المحدثين ما بين سيد قطب وبن عاشور والطبطبائي... ؟ وكل هؤلاء يقرون بقدسية القرآن وحفظه وبمصدره الالهي؟

وحاصل الأمر أن حربه الفكر من ثوابت الدين وأساسياته، ولا يجوز التخويف منها بما يمكن أن تؤدي إليه من تجاوزات في تناول النصوص المقدسة، تعالج بالحجة والدليل والبرهان، كما لا يجوز استسهال تكفير الناس بتأويلات وفهوم، نجد ما يوازيها بل يتجاوزها في التراث الكلامي والفلسفي الوسيط.

أما الحرية السياسية (التي هي المكسب الثالث من مكاسب حركة التنوير)، فلا يرى فيها سوى هدم الخلافة الإسلامية التي خططته الصهيونية العالمية والاستعمار، والوقوف ضد «الحكم الإسلامي» واستبداله بالأنظمة العلمانية القمعية. ويتأرجح قطب هنا بين الانشداد لنظام الخلافة وهو نموذج من نماذج الدولة التاريخية الإسلامية (الدولة السلطانية) انحسر موضوعيا لأسباب بديهية، وبلورة نموذج جديد للدولة الإسلامية نلمسه في كتاباته الأخرى (دولة القلة المؤمنة في مواجهة الجاهلية)، حيث تغيب قيم الحداثة السياسية التي لا يرى فيها سوى تآمر على الدولة الإسلامية وإلغاء لحاكمية الدين.

وكما سنبين في مراجعة مقبلة للتصورات الإسلامية للعلمانية، فان هذه العبارة لا تعني شيئا من الناحية النظرية والفلسفية، بل هي من شعارات التعبئة الفارغة في الصراعات الايديولوجية العربية. فإذا كانت تعني الفصل بين الدين والدولة، بمعنى انفصال المؤسستين الدينية والسياسية، فالأمر تحصيل حاصل، فهما مؤسستان تنتميان لخلفيتين متباينتين خصوصا في الإسلام الذي نزع القداسة عن الدولة ولم يجد علماء الإسلام الأوائل ومؤرخوه (من الطبري حتى ابن خلدون) غضاضة في النظر اليها بصفتها دولة مدنية قائمة على الموازين العصبية. وإذا كانت تعني القطيعة مع المقدس في دلالته الانتروبولوجية الواسعة، فالأمر ممتنع، ذلك إن السياسة ذاتها بصفتها مجال التفاعل بين البشر وميدان تحكم بعضهم في بعض، تقتضي نمطا من المقدس في الإشكالات المتعلقة بالشرعية والولاء للرموز السلطوية والمجتمعية، وغالبا ما اضطلعت الأديان القومية بهذا الدور، وفي الحقبة المعاصرة عوضتها الانساق الايديولوجية التي لا تختلف عنها في الجوهر من حيث الخلفيات الدينية.

فالمهم هو بناء الدولة والمشروعية على قيم الديمقراطية والحرية والعقلانية، وتلك أهداف لا تعارض الدين بل تستجيب لروحه وأحكامه، بدلا من الانسياق وراء مقولة «الدولة الإسلامية» التي بينا من قبل أنها علمانية ملتبسة غير واعية. فالخلل الأكبر في نظرة محمد قطب للحداثة بصفتها جاهلية، ناتج عن عدم فصله بين الخلفيات التاريخية والمجتمعية الخاصة بالسياق الغربي للحداثة، والحداثة في مفهومها الانطولوجي أي من حيث هي علاقة فكرية ووجودية بالذات والمجتمع والتاريخ. فللحداثة الغربية خصوصياتها التي تختلف نوعيا بين السياقات الأوروبية والأميركية الشمالية والأميركية اللاتينية، كما للحداثات اليابانية والهندية والصينية خصوصياتها، وللحداثات الإسلامية الصاعدة في ماليزيا واندونيسيا مميزاتها الخاصة، بيد أنها تنتظم في عمومها حول مقومات ثابتة ليست مدار اعتراض من أهمها كما بينا من قبل قيم العقلانية والحرية والفاعلية التجريبية والتقنية... والمطلوب هو استيعابها واحتضانها في نسيجنا الفكري والمجتمعي بدل التنفير منا بحجة اختلالاتها المرفوضة. الحداثة صنيعة يهودية؟

* لن نطيل في معالجة هذا التصور الذي بثه محمد قطب في الخطاب الإسلامي المشترك، وفصله في كتبه الأولى وكنا بينا تهافته في مراجعتنا لقراءة تلميذ محمد قطب الشيخ سفر الحوالي للحداثة. والمنشورة في هذه الصحيفة .

وفي كتابه «قضية التنوير» يرد هذا التصور مرارا، فالماسونية العالمية هي بالنسبة له التي حاربت الدين في الغرب وقضت عليه، وهي التي كانت وراء الثورة الفرنسية التي كانت حركة الحاد وتفويض للأديان والأخلاق، وهي التي كانت وراء الرأسمالية المستغلة التي يطلق عليها «الرأسمالية اليهودية»، وهي التي كانت وراء هدم الخلافة الإسلامية لإنشاء إسرائيل، فأججت الثورة العربية ضد السلطان التركي، ونادت بتحرير المرأة وحرية الفكر لتشغل الأمة عن روح الجد والجهاد لمواجهة المؤامرة الكبرى التي تدبر للاستيلاء على فلسطين. ولا تحتاج هذه التخريفات إلى جهد كبير لابطالها وبيان سطحيتها.

ففضلا عن كون الماسونية عبارة سحرية غامضة لا اعرف كنهها الحقيقي، ولا يورد قطب أي أدلة تاريخية موضوعية على تأثيرها الخارق في كل الأحداث الجسيمة التي ذكرها، فان الدور اليهودي في تاريخ الغرب الحديث فكرا وممارسة هامشي ومحدود، لسبب رئيسي هو واقع العزلة المضروبة على الجاليات اليهودية في أوروبا لأسباب دينية واجتماعية معروفة، وللأحداث التي ذكرها قطب (الثورة الفرنسية، نشأة الرأسمالية، تفكك الخلافة الإسلامية) أسباب وخلفيات عميقة ومتعددة نشرت حولها أطنان من الدراسات الموضوعية التي لا يبدو أن قطب اطلع عليها، بل اكتفى بحكايات وانطباعات هزيلة، تثير استهزاء الباحثين الجادين والمختصين المحترفين. أسلمة المعرفة: أي بديل؟

* على الرغم أن مقاربة «اسلمة المعرفة» لم تتبلور في الخطاب الإسلامي الرائج بصفة ملموسة وعينية، إلا مع إنشاء المعهد العالمي للفكر الإسلامي وصدور مجلة «إسلامية المعرفة»، إلا أن جذور هذه المقاربة ترجع لمحمد قطب في محاولاته الأولى لنقد العلوم الإنسانية الغربية (خصوصا علم النفس الفرويدي وعلم الاجتماع الدوركايمي) واستبدالها بعلوم إنسانية إسلامية تصدر عن تصور الإسلام للنفس والمجتمع. ولا يفصل قطب هذا المسلك في كتابه «قضية التنوير»، بيد أنه حاضر بقوة في تصفية حسابه مع الحداثيين، الذين ينطلقون حسب رأيه في افساد المجتمع الإسلامي من التصورات اليهودية للإنسان. وفي انتظار قراءة مقبلة موسعة لمقاربة اسلمة المعرفة، نكتفي بتقديم الملاحظتين الأساسيتين التاليتين:

1 ـ مهما كان الإقرار لازما بان العلوم الإنسانية ليست معارف موضوعية تجريبية مستقلة عن ثقافة وذاتية الدارس، بل تحمل بصمات خصوصيته الحضارية والمجتمعية (وهو ما انتهى إليه علماء الاجتماع المعاصرون منذ ماكس فيبر ودلتاي انتهاء بهابرماس ورورتي)، إلا أن ما يميز هذا الصنف من العلوم عن الخطابات التأويلية الأخرى هو استخدامها مناهج وطرق بحث ومعاينة تطمح إلى تقديم نماذج تحليلية برهانية تصلح لدراسة الظواهر الإنسانية في شموليتها. فالمقياس ليس هو موضوعية العالم (وهي ممتنعة في المطلق حتى في العلوم التجريبية) وإنما ملاءمة النموذج واصالة الأدوات المنهجية وصلوحيتها لدراسة الظاهرة. فالخيارات حرة، والخلفيات مقبولة، ما دامت تلتزم هذه الاعتبارات والحدود المنهجية.

2 ـ إن «أسلمة المعرفة» شعار مضلل لا معنى له. فإذا كان يعني استنتاج مناهج وطرق علمية من التصور الإسلامي، فإما ان يتحول الى نسق معياري يحدد مدى قبول نظرية ما من حيث المقاييس الشرعية وهو بهذا جانب من الفقه والفتوى (مقبول داخل الحيز الفقهي) ولا يمكن تصنيفه داخل مجال العلوم الإنسانية التي لها سماتها المنهجية الخاصة (و لا يعني ذلك القول بيقينيتها)، وإما أن يفضي إلى نظريات وأطروحات تستلهم الخلفية العقدية والقيمية الإسلامية بالاحتفاظ بأدوات وآليات المناهج العلمية فمجالها هو العلوم الإنسانية ولا عبرة بخلفية العالم الدينية التي لن تطفو ضرورة في خياراته المنهجية.

فالجميع يعرف أن بول ريكور مسيحي لكن دراساته في الزمن واللغة والدولة مجالها الفلسفة والعلوم الإنسانية لا التيولوجيا، وكذلك شأن دراسات لفيناس اليهودي، وطلال أسد وعبد الوهاب بوحديبة المسلمين.

سقوط الغرب... نهاية الحداثة

* من المقولات المألوفة في كتابات الأخوين قطب التبشير بنهاية الغرب المنحط والمتحلل، والاستشهاد ببعض الأدبيات الغربية. في تأكيد هذا التوقع، على غرار بعض العبارات المستمدة من توماس كار ليل وارنولد توينبي ...

وقد طور الخطاب الإسلامي الرائج هذه الأطروحة بالاستناد لبعض الكتابات اليسارية الغربية وأدبيات ما بعد الحداثة (من بينها على الأخص كتابات روجي غارودي الأخيرة).

ولا بد من التنبيه إلى أن هذه النغمة على سذاجتها وسطحيتها لتنكرها لحقيقة بديهية هي التزايد المطرد للفوارق النوعية بين الغرب وباقي العالم في التطور العلمي والتقني وفي القوة العسكرية والاستراتجية وفي الاستقرار السياسي، فإنها في الآن نفسه مدمرة للأمة بما تقوم عليه من فكرة قطيعة وعداء مع العالم، بدل الإقرار بان أسباب التفوق والنهوض مرهونة باحترام حقوق الإنسان وتحرير إرادته ووعيه ومنحه المؤسسات السياسية والدستورية التي تكفل له ضمان حقوقه وتحقيق فعالياته، والاستثمار في البحث العلمي والتقني وتطوير القدرات الطبيعية والبشرية، وهي الشروط المتاحة لمختلف الأمم والمجتمعات، على تباين دياناتها وشرائعها، وليس فيها ما يعارض الإسلام، بل هي من أساسيات قيمه. لقد كتب رئيس البوسنة الراحل علي عزت بيجوفيتش هذه الجملة الرائعة في خواطر سجنه:

«كل ما هو عظيم وسام من صنع الله، وكل ما هو خطأ وغير كريم هو من صنع البشر».