لمياء
05-31-2005, 02:56 PM
أحمد الملك
قاص سوداني يقيم في هولندا
منذ حوالي العام‚ منذ ان انتقلت للسكن في هذه المدينة الصغيرة وانا اراه كل صباح طوال ايام الاسبوع‚ اجده دائما يجلس في مدخل البيت يراقب اسراب الحمام التي تمرح فوق الغابة الصغيرة المسماة: حديقة الكتاب‚ في انتظار موزع البريد الذي يحضر دائما في العاشرة صباحا‚ لا اجد تفسيرا لشعوري بالحزن عند رؤيته‚ سوى احساس غامض ينتابني كلما التقيته‚ بأنه انسان وحيد‚ ليس فقط في هذا العالم‚ بل انه محكوم بوحدة ابدية حتى لو عاش في عوالم اخرى‚
اشعر كما لو ان العالم كله يشاركني نفس ذلك الشعور‚ وانا اعبر في طريقي لمدرسة اللغة الهولندية التي ادرس بها‚ اعبر امام دار العجزة‚ ارى كبار السن يراقبون المارة من الشرفات الغاصة بالزهور‚ اتذكر كلما مررت امام دار العجزة‚ قصة صديقنا الذي لم يبلغ العشرين من العمر وكان يسكن معنا في بيت واحد قبل سنوات‚ كان مهملا لا يهتم بنظافة البيت‚ وكان يجد دائما اعذارا واهية ليتهرب من اداء واجباته المنزلية‚ وكنت اجد اهماله مفيدا احيانا‚ ففي اليوم الذي يقرر فيه ممارسة واجباته تكون النتيجة طعاما لا يصلح للاستخدام الآدمي‚
كان صديقنا احمد يضيق ذرعا باهماله وذات مرة اعلن ان مثل صديقنا المهمل هذا ينبغي ان يترك ليعيش في الصحراء حيث تكون هناك التزامات عليه القيام بها!
تصادف وجود زائر معنا ينتمي لمنطقة الصحراء في المغرب العربي فرد بغضب: انتم تجهلون الصحراء‚ هذا لا يستطيع ان يعيش يوما واحدا في الصحراء!
قال صديقنا احمد مندهشا: يعني انه لن يستطيع العيش حتى في الصحراء‚
قال الصديق الزائر: لا يستطيع‚
فقال صديقنا احمد ضاحكا: ماذا ننتظر اذن لنأخذه الى دار العجزة!
حين اعود في نهاية اليوم‚ اجده جالسا بحزن في الحديقة الصغيرة امام البيت‚ رجل في حوالي الاربعين من عمره‚ ممتلئ الجسم قليلا‚ اسود البشرة‚ او بصورة ادق كما نقول في السودان‚ اخضر‚ وتذكرني كلمة اخضر بابن عم كان يعيش في اميركا مع زوجة اميركية‚ وذات مرة زاره والده هناك‚ وكان والده اسود البشرة‚‚ قالت الزوجة الاميركية حين رأته اسود وليس اسمر مثل ابنه‚ your father is black ! والدك اسود اللون! فرد عليها قائلا: No, he is green! كلا انه اخضر!‚
اجده جالسا في الحديقة الصغيرة في شمس ابريل الباهتة التي بدأت على وقع خطواتها تدب خطوات الحياة في العالم المثقل تحت وطأة شتاء قاس‚ احييه من على البعد‚ افكر انه يستذكر تفاصيل الحياة‚ في ذلك الوطن البعيد الذي مزقته الحروب الاهلية‚ غروب الشمس في المحيط‚ ومزارع الموز‚ واشارات زمان سعيد بدأت تفاصيله تتسرب من الذاكرة‚
يرفع احيانا جهاز تسجيله بصوت عال‚ خاصة في عطلة نهاية الاسبوع‚ موسيقى شبيهة بموسيقانا‚ وان كان ايقاعها اسرع قليلا‚ اشبه بالموسيقى الاثيوبية‚ فجأة اتى الصيف‚ تتحول المدينة من حولي مع ارتفاع درجات الحرارة الى غابة من الزهور والاشجار‚ يستغرقني نفس برنامجي اليومي‚ لا يغير من رتابة الحياة سوى تقلب الطقس‚ يعطيك احساسا حين يتحسن فجأة‚ تشرق الشمس ويتوقف المطر تشعر بالفرح‚ ان ثمة اوقاتا تستحق ان تعاش‚ ان ثمة ذكريات يجب ان نعيشها مرة اخرى‚ ان عجلة الزمان تصبح في متناول احلامك‚ لا تتنتبه الى انك غارق في وهم الفرح الصغير‚ الذي يعتاش عليه الناس هنا‚ شمس مشرقة لساعات قليلة تصبح مناسبة للفرح‚ ارتفاع غير متوقع في درجات الحرارة يجعل الناس يتحللون من ثيابهم ويهرعون للشواطئ‚
فجأة شعرت بخلل في ايقاع الاشياء من حولي‚ وانتبهت الى انني لم ار جاري الصومالي منذ ايام‚ لم التقه في صباحات انتظار ساعي البريد حيث الرسالة التي لن يقرأها مطلقا ولن يستبيح دفء حروفها التي تعبق برائحة الوطن البعيد‚
اختفت موسيقى نهاية الاسبوع وجلسات الخامسة مساء في حديقة زهوره الاخيرة‚ في ربيع الوحدة الاخير‚ الوقت الاسوأ للموت في زمان يعود فيه العالم تدريجيا لصخب الحياة بعد فترة موات الشتاء‚ كان رجال الشرطة قد اقتحموا البيت بعد بلاغ من بعض اصدقائه الذين اعتاد السهر معهم احيانا‚ ليجدوه ميتا في فراشه‚
جهاز الموبايل ايضا كان يلفظ انفاسه الاخيرة‚ مطلقا صفيرا متقطعا يعلن ان بطاريته تحتاج للشحن‚ وعلى شاشته الصغيرة عبارة 7 missed calls‚
قاص سوداني يقيم في هولندا
منذ حوالي العام‚ منذ ان انتقلت للسكن في هذه المدينة الصغيرة وانا اراه كل صباح طوال ايام الاسبوع‚ اجده دائما يجلس في مدخل البيت يراقب اسراب الحمام التي تمرح فوق الغابة الصغيرة المسماة: حديقة الكتاب‚ في انتظار موزع البريد الذي يحضر دائما في العاشرة صباحا‚ لا اجد تفسيرا لشعوري بالحزن عند رؤيته‚ سوى احساس غامض ينتابني كلما التقيته‚ بأنه انسان وحيد‚ ليس فقط في هذا العالم‚ بل انه محكوم بوحدة ابدية حتى لو عاش في عوالم اخرى‚
اشعر كما لو ان العالم كله يشاركني نفس ذلك الشعور‚ وانا اعبر في طريقي لمدرسة اللغة الهولندية التي ادرس بها‚ اعبر امام دار العجزة‚ ارى كبار السن يراقبون المارة من الشرفات الغاصة بالزهور‚ اتذكر كلما مررت امام دار العجزة‚ قصة صديقنا الذي لم يبلغ العشرين من العمر وكان يسكن معنا في بيت واحد قبل سنوات‚ كان مهملا لا يهتم بنظافة البيت‚ وكان يجد دائما اعذارا واهية ليتهرب من اداء واجباته المنزلية‚ وكنت اجد اهماله مفيدا احيانا‚ ففي اليوم الذي يقرر فيه ممارسة واجباته تكون النتيجة طعاما لا يصلح للاستخدام الآدمي‚
كان صديقنا احمد يضيق ذرعا باهماله وذات مرة اعلن ان مثل صديقنا المهمل هذا ينبغي ان يترك ليعيش في الصحراء حيث تكون هناك التزامات عليه القيام بها!
تصادف وجود زائر معنا ينتمي لمنطقة الصحراء في المغرب العربي فرد بغضب: انتم تجهلون الصحراء‚ هذا لا يستطيع ان يعيش يوما واحدا في الصحراء!
قال صديقنا احمد مندهشا: يعني انه لن يستطيع العيش حتى في الصحراء‚
قال الصديق الزائر: لا يستطيع‚
فقال صديقنا احمد ضاحكا: ماذا ننتظر اذن لنأخذه الى دار العجزة!
حين اعود في نهاية اليوم‚ اجده جالسا بحزن في الحديقة الصغيرة امام البيت‚ رجل في حوالي الاربعين من عمره‚ ممتلئ الجسم قليلا‚ اسود البشرة‚ او بصورة ادق كما نقول في السودان‚ اخضر‚ وتذكرني كلمة اخضر بابن عم كان يعيش في اميركا مع زوجة اميركية‚ وذات مرة زاره والده هناك‚ وكان والده اسود البشرة‚‚ قالت الزوجة الاميركية حين رأته اسود وليس اسمر مثل ابنه‚ your father is black ! والدك اسود اللون! فرد عليها قائلا: No, he is green! كلا انه اخضر!‚
اجده جالسا في الحديقة الصغيرة في شمس ابريل الباهتة التي بدأت على وقع خطواتها تدب خطوات الحياة في العالم المثقل تحت وطأة شتاء قاس‚ احييه من على البعد‚ افكر انه يستذكر تفاصيل الحياة‚ في ذلك الوطن البعيد الذي مزقته الحروب الاهلية‚ غروب الشمس في المحيط‚ ومزارع الموز‚ واشارات زمان سعيد بدأت تفاصيله تتسرب من الذاكرة‚
يرفع احيانا جهاز تسجيله بصوت عال‚ خاصة في عطلة نهاية الاسبوع‚ موسيقى شبيهة بموسيقانا‚ وان كان ايقاعها اسرع قليلا‚ اشبه بالموسيقى الاثيوبية‚ فجأة اتى الصيف‚ تتحول المدينة من حولي مع ارتفاع درجات الحرارة الى غابة من الزهور والاشجار‚ يستغرقني نفس برنامجي اليومي‚ لا يغير من رتابة الحياة سوى تقلب الطقس‚ يعطيك احساسا حين يتحسن فجأة‚ تشرق الشمس ويتوقف المطر تشعر بالفرح‚ ان ثمة اوقاتا تستحق ان تعاش‚ ان ثمة ذكريات يجب ان نعيشها مرة اخرى‚ ان عجلة الزمان تصبح في متناول احلامك‚ لا تتنتبه الى انك غارق في وهم الفرح الصغير‚ الذي يعتاش عليه الناس هنا‚ شمس مشرقة لساعات قليلة تصبح مناسبة للفرح‚ ارتفاع غير متوقع في درجات الحرارة يجعل الناس يتحللون من ثيابهم ويهرعون للشواطئ‚
فجأة شعرت بخلل في ايقاع الاشياء من حولي‚ وانتبهت الى انني لم ار جاري الصومالي منذ ايام‚ لم التقه في صباحات انتظار ساعي البريد حيث الرسالة التي لن يقرأها مطلقا ولن يستبيح دفء حروفها التي تعبق برائحة الوطن البعيد‚
اختفت موسيقى نهاية الاسبوع وجلسات الخامسة مساء في حديقة زهوره الاخيرة‚ في ربيع الوحدة الاخير‚ الوقت الاسوأ للموت في زمان يعود فيه العالم تدريجيا لصخب الحياة بعد فترة موات الشتاء‚ كان رجال الشرطة قد اقتحموا البيت بعد بلاغ من بعض اصدقائه الذين اعتاد السهر معهم احيانا‚ ليجدوه ميتا في فراشه‚
جهاز الموبايل ايضا كان يلفظ انفاسه الاخيرة‚ مطلقا صفيرا متقطعا يعلن ان بطاريته تحتاج للشحن‚ وعلى شاشته الصغيرة عبارة 7 missed calls‚