جون
05-28-2005, 07:47 AM
محمد يوسف
*ما زال الكمبيوتر الشخصي يحتل موقعاً فريداً بين أعظم الاختراعات على مدار الخمسين سنة الماضية. ورغم أنه آلة، وأداة، ومجرد مجموعة من الأجهزة والأسلاك والبرامج الملتفة والمتشابكة ببعضها بعضا، فإنه غير كثيراً في واقع المجتمع الإنساني، وأثر تأثيراً عميقاً في الطريقة التي يعمل ويعيش بها الإنسان المعاصر، والأهم من كل هذا أنه كان «بذرة» نبتت منها صناعة قوية فتحت لها أسواق ضخمة في شتى أنحاء العالم.
ورغم كل الاعتبارات التقنية والاجتماعية والاقتصادية المهمة التي تحيط بعالم الكمبيوتر الشخصي، بعد ظهوره لأول مرة قبل أربعين عاماً تقريباً، ورغم كل التغيرات الجذرية التي شهدتها المكونات المادية hardware أو البرمجية software التي تعطي للكمبيوتر الشخصي حيويته وكفاءته ضمن المنظومة الرقمية، وهي تغيرات طورت في المقام الأول الأداء، السرعة والكفاءة، وهذبت تكلفته، تصنيعاً وشراءً، نقول رغم كل هذا، لم يتغير «شكل» الكمبيوتر الشخصي، وظل تصميمه على حاله منذ الأيام الأولى لتطويره، حتى بدا، مؤخراً، في أعين أكثر خبراء الصناعة كأنه «خردة» مزودة بأكثر المكونات تقدماً وتعقيداً.فالكمبيوتر الشخصي، في بيئة العمل أو المنزل، شكله كما هو، لم يطرأ عليه أي تغيير جذري.
لهذا الجمود أسبابه.فمع صعود نجم الشبكات، واختراقها، بكل قوة وجرأة، عالم الأعمال، انزوى نجم الكمبيوتر الشخصي، وتلاشى دوره المركزي، وظل قائماً على مكاتب الموظفين، يمارس، في استحياء، دوراً أقل بكثير من قدراته وإمكاناته.فالشبكات، على اختلاف أنواعها ومجالاتها، سهلت للمستخدم الوصول، عن بعد، إلى كافة موارد الحوسبة computing source، وخاصة من حيث المعالجة والتخزين.
ولتحقيق مكاسب اقتصادية وتشغيلية، اتجهت الشركات إلى دمج كل أصولها الرقمية، من معدات وبرامج، في مستودعات مركزية تحتفظ بكل البيانات وتنفذ هي كل العمليات المطلوبة، بل ان الاتجاه الحديث الصاعد الآن هو اتجاه الشركات إلى «استئجار» كل ما تحتاجه من إمكانات حوسبة من شركات خدمية متخصصة، دون الدخول في التفاصيل المرهقة، مادياً وفنياً، لتأسيس بنية تحتية معلوماتية داخل مؤسسة العمل.وسط كل هذه التغيرات الثورية لعالمي التكنولوجيا والأعمال، غدا الكمبيوتر الشخصي مجرد «ترس»، بل ترس يمكن الاستغناء عنه في أي لحظة.
ولأنه ترس، لا يستخدم من قوته وإمكاناته إلا أقل القليل رغم كل الكفاءة والقوة التي حققها حتى الآن، فأغلب مستخدميه يوظفونه في الأعمال الروتينية التقليدية العادية، ككتابة التقارير، أو إنشاء العروض التقديمية، أو فحص البريد الإلكتروني، أو استعراض الويب.وكل هذه المهام لا ترقى إلى مستوى التطبيقات التي يمكن أن يوفرها الكمبيوتر الشخصي بكل سهولة، مع انها تطبيقات استدعت، مثلاً، تطوير أحدث شرائح الذاكرة إيه أم دي AMD من شركة إنتل.ومع كل طفرة تشهدها أسواق التقنية، والتي تحدث بصفة شبه يومية تقريباً، تزداد الهوة اتساعاً بين أجهزة الكمبيوتر الشخصي، واحتياجات المستخدمين في عالم الأعمال.
فطبقاً لتقديرات آي بي أم، حوالي 95 في المئة من دورات الحوسبة المتوافرة في الكمبيوتر الشخصي العادي، لا تستغل أو تستخدم على النحو المأمول منها.أما الأقراص الصلبة، التي تقاس سعتها بالجيجابايت، فما عليك إلا ان تنظر لحجم البيانات المخزونة عليها، لتدرك أن كل هذا «الثراء» في الذاكرة لا يجد من يستخدمه، فتظل هذه المستودعات التخزينية الجبارة عاطلة عن العمل، أو تمتلئ عن آخرها بنفايات لا قيمة لها (صور من الإنترنت، ملفات موسيقى، ملفات نصية معدومة القيمة).
جهاز سخيف؟
من زاوية أخرى، يرى البعض أنه طالما أن أجهزة الكمبيوتر الشخصي باتت رخيصة للغاية، سواء عند تصنيعها أو تجميعها أو شرائها، فهدر إمكانياتها وقدراتها مسألة غير مهمة على الإطلاق. لكن تفكيرا كهذا يعد سخفاً، إن لم يكن جهلاً بحقيقة الأمور.فالمسألة لا تتوقف عند حد رخص شراء الجهاز فحسب، بل يجب أن يؤخذ في الاعتبار الميزانيات الضخمة التي ترصد لوضع كمبيوتر شخصي على كل مكتب، ثم ميزانية أخرى لإحلال هذه الأجهزة بعد بضع سنوات، وميزانية ثالثة لتغطية تكاليف أعمال الصيانة والخدمة الفنية التي تتطلبها هذه الأساطيل الجرارة من الكمبيوترات الشخصية في كل مؤسسة عمل.على حساب منْ وماذا كل هذه التكاليف؟ هذا من الناحية المادية.
ومن الزاوية الفنية، يتفق الآن الفنيون وخبراء الأمن الإلكتروني على حقيقة تدمغ واقع الكمبيوتر الشخصي، ألا وهي انه تحول إلى «ثغرة» تعاني منها كل نظم الأمان الإلكترونية في مؤسسات العمل، فهو «البوابة» التي يخترق منها القراصنة نظم الأمان رغم كل احتياطاتها وتجهيزاتها العتيدة.ولهذا السبب الفني بالذات، أصبح أكثر الخبراء مقتنعين بأن الكمبيوتر الشخصي لا يخلو من المفارقات الشاذة التي تضطرهم إلى إعادة النظر في جدواه ومنافعه حد أن البعض تساءل «هل الكمبيوتر الشخصي جهاز سخيف؟».
فقبل بضع سنوات، تردد فعلاً هذا السؤال بكثرة بين خبراء الصناعة، حتى أنه في أواخر التسعينات، قالها صراحة الرئيس التنفيذي لشركة أوراكل، لاري إيلسون، الكمبيوتر الشخصي «جهاز سخيف»، وتنبأ بأن ينزوي إلى الظل لتحل محله أجهزة «العميل النحيف»thin client للمحطات الطرفية التي تتصل بأجهزة مركزية، سرفر server.وإذا كان هذا التنبؤ قد جاء وقتها في غير أوانه، إلا أن تقدير إيلسون للأمور كان صائباً إلى حد بعيد.
فصناعة الحاسب، هذه الأيام، تشهد طفرة من البدائل التي تنذر بإخفاء الكمبيوتر الشخصي من المشهد التكنولوجي برمته!من أبرز هذه الطفرات أن شركات مثل وايس ونيو اير وصن مايكروسيستمز تطرح محطات طرفية مكتبية رخيصة، معمرة، تسحب كل احتياجاتها من المعالجة والتخزين والتطبيقات من أجهزة خادم مركزية، بل وإلى حد الاستغناء عن نظم التشغيل في تلك المحطات.كما ان الباحثين في آي دي سي يتنبأون بزيادة نمو أسواق هذه الأجهزة بنسبة 23 في المئة سنوياً بدءاً من عام 2007، وستفوق مبيعاتها، ان حدث هذا النمو فعلاً، مبيعات الكمبيوتر الشخصي بمراحل.ومن ناحية البرامج، ستنتشر تطبيقات الويب والتطبيقات المضيفة التي يمكن أن يستفيد منها المستخدم من خلال واجهة مستعرض بسيطة تربط بين العملclient والخادم server.ومع رسوخ نموذج الحوسبة الخدمي، المتمثل في بنية العميل والخادم تلك، سيزداد وضع الكمبيوترات المكتبية العادية في مؤسسات العمل هشاشة على هشاشتها.
موت الكمبيوتر الشخصي
هذا عن وضع الكمبيوتر الشخصي في بيئة العمل.أما عن دوره في المنزل، فلن يبقى على حاله، رغم اختلاف طبيعة دور الكمبيوتر الشخصي في المنزل عنه في بيئات العمل.على أية حال، مع مرحلة النضج والاستقرار التي وصلت إليها إمكانات الحوسبة ووظائفها، سيبدأ المستهلكون في طلب «جرعة شكلية» أكثر تجدداً، كالتي يحصلون عليها يوماً بعد يوم من الأجهزة الرقمية الأخرى العادية، مثل الهواتف الجوالة أو التلفاز.فجأة، وكما تشير أكثر من دراسة استطلاعية ومسح إحصائي، شراء صندوق «عديم اللون والذوق» لم يعد أمراً جذاباً للمستهلك، حتى إن كان هذا الصندوق بقروش.
بوادر هذه التحولات من جانب المستهلكين ومستخدمي الكمبيوتر الشخصي المنزلي أصبحت ظاهرة للعيان.فحصة السوق لشركة آبل (مطورة ومنتجة الماكنتوش، المقابل الرسومي للكمبيوتر الشخصي)، آخذة في التنامي، بعد أن تعرضت لموجة تآكل شرسة قبل سنوات، والسبب في ذلك، كما أوضحت الدراسات السوقية، هو ظهور منتجات جذابة متجددة من قبيل آي ماك iMac وآي بوك iBook، وأخيراً ظهور الأعجوبة، ماكنتوش الصغير الذي يوازي أو يقل عن حجم الكمبيوترات الدفترية notebook computer والحضنية labtop.وقد أصبحت شركة آلين وير، كمثال آخر، أسرع شركات الكمبيوتر الأمريكية نمواً بعد أن طرحت مجموعة من الأجهزة، عالية الأداء، التي تلبي احتياجات عتاة مشغلي برامج الألعاب.في حين لمعت منتجات شركة نيفوس ميديا بعد طرحها أجهزة كمبيوتر يمكن تشبيكها وتوصيلها بنظم المسارح المنزلية.ومع تبدل الأماكن التي تشغلها الكمبيوترات الشخصية داخل المنزل، ما بين غرف المعيشة وغرف النوم والمكتب، زادت مطالب المستهلكين بتطوير أجهزة أكثر جاذبية من حيث الشكل والمظهر.
نخلص من هذا الى أن التغيير بات «غريزة»أساسية في الأسواق.ولنسترجع، في عجالة، تاريخ صناعة السيارات مع أسواقها، لنفهم كيف يمكن لصناعة الكمبيوتر الشخصي التعامل مع هذه الغريزة السوقية.
كانت شركة فورد قد هيمنت، في عشرينات القرن الماضي، على سوق السيارات بعد أن نجحت في تحويل السيارة إلى مركبة رخيصة وسلعة من سلع الأسواق.ولم تتمكن أي من شركات السيارات الأخرى أن تنافس هذه القدرات والعمليات، بأدائها الفريد، والتي وفرتها فورد في منتجاتها.
لكن السوق لا تعرف الثبات.فبعد أن أجاد المستهلكون كل الوظائف والعمليات المتوافرة في سيارات فورد، وباتوا يتعاملون معها على أنها «بديهيات»، وأخذ الملل يتسرب إلى النفوس من كثرة الاعتياد على هذه البديهيات، بدأ المستهلكون يبحثون عن نماذج أخرى أكثر إثارة وجاذبية، ولم تعد تستهويهم السيارات السوداء المكشوفة والخالية من أي كماليات جمالية أو شكلية تضفي علي المركبة بعداً جمالياً.فجأة، بدأ محبو السيارات يبحثون عن أطقم السيارات الفاخرة، أداءً وشكلاً؛ وتبدلت الأذواق، فتغيرت الأسواق.
في ذاك الحين، استشعر رئيس «جنرال موتورز»، ألفريد سلوان، تغييراً مرتقباً في سوق السيارات وأذواق المستهلكين.فالمنتجات السلعية، ومن بينها السيارات، تمر، كما يقول سلوان بمراحل ثلاث.إذ تبدأ في الظهور كسلع باهظة الثمن، فاخرة الشكل، تقبل عليها شريحة معينة من المستهلكين القادرين على شرائها.ومع نضج التكنولوجيات واقتصاديات الموازنة التي تتجه نحو تقليل تكاليف عمليات التصنيع، تتحول تلك المنتجات إلى سلع شعبية.في المرحلة الثالثة، ومع رسوخ السلع وتحولها إلى سلع ضروية لا كمالية، يبدأ المستهلك في البحث عن تصميمات وخصائص تلبي رغباته واحتياجاته بشكل أو بآخر، ولا يلتفت إلى الرقم المكتوب على بطاقة السعر أياً كان.هنا، يبدأ الشكل يفوق، من حيث الأهمية، طبيعة المحتوى.
التحدي
وبينما كانت «فورد» تواصل جهودها لتطوير موديل يناسب كل الأذواق قدر الإمكان، كانت جنرال موتورز قد دفعت إلى الأسواق سلسلة من سيارات شيفروليه الجذابة والمزودة بمجموعة من الوظائف والخصائص الجديدة تماماً على عالم السيارات.أكثر من هذا أن جنرال موتورز بدأت في تغيير تصميماتها، عاماً بعد عام، محتذية في ذلك نهج بيوتات الأزياء العالمية.وفي عام 1926، كانت السيارة شيفروليه قد سحبت البساط من تحت أقدام سيارات فورد، وانتزعت منها حصتها الجبارة في السوق.وفاقت مبيعات شيفروليه مبيعات فورد، وضاعت أسواق الثانية، لتدخل صناعة السيارات مرحلة جديدة تحكمها أذواق ومفاهيم وخصائص جديدة.
كانت فورد، وسط كل هذه التغيرات الدراماتيكية، بطيئة في الاستجابة والتفاعل مع الظروف الجديدة.ثم نهضت أخيراً من غفوتها وتحركت.ففي 25 مايو، عام 1927، أعلنت الشركة أنها أوقفت إنتاج سياراتها من موديل «تي»، وأنها ستغلق خطوط إنتاجها في مصانع فورد، وستبدأ في تطوير سلسلة من الموديلات الجديدة الجذابة.ورغم كل محاولاتها، لم تنجح فورد في أن تستعيد مكانتها أو حصتها في أسواق السيارات التي كانت لها في يوم من الأيام.
تصلح حكاية فورد، إذن، لأن تكون عبرة وتحذيرا لكل الشركات التي ازدهرت في موجة «تسليع» منتجاتها وخدماتها. وشركات الكمبيوتر الشخصي ليست استثناء، وتحديداً شركة ديل، بوصفها أحد أهم معاقل تطوير الكمبيوتر الشخصي وتصنيعه في العالم.
فاستراتيجيتها تقوم على بيع أجهزة الكمبيوتر الشخصي إلى المستهلكين باعتبارهم مستخدمين في عالم الأعمال، فتوفر خصائص تشغيلية متقدمة، وتبيع منتجاتها بأسعار تذبح المنافسين.بقول آخر، التركيز كله منصب على جانبي التكلفة والأداء، أما جانب التصميم، فلا يجد من يهتم به الاهتمام الكافي.
استراتيجية كهذه تصلح وتناسب عالم الأعمال، مع الأخذ في الحسبان أن الكمبيوتر الشخصي في هذا العالم يواجه موقفاً حرجاً للغاية.فقيمته تتداعى يوماً بعد يوم.أما في المنزل، الملعب الأخير للكمبيوتر الشخصي، فما زال أمام شركات الكمبيوتر فرصة لأن تعدل من شكله وتصميماته؛ وإلا سيكون مصيره مصير أشياء كثيرة بدأت نجوماً ساطعة وانتهت شهبا محترقة .
*ما زال الكمبيوتر الشخصي يحتل موقعاً فريداً بين أعظم الاختراعات على مدار الخمسين سنة الماضية. ورغم أنه آلة، وأداة، ومجرد مجموعة من الأجهزة والأسلاك والبرامج الملتفة والمتشابكة ببعضها بعضا، فإنه غير كثيراً في واقع المجتمع الإنساني، وأثر تأثيراً عميقاً في الطريقة التي يعمل ويعيش بها الإنسان المعاصر، والأهم من كل هذا أنه كان «بذرة» نبتت منها صناعة قوية فتحت لها أسواق ضخمة في شتى أنحاء العالم.
ورغم كل الاعتبارات التقنية والاجتماعية والاقتصادية المهمة التي تحيط بعالم الكمبيوتر الشخصي، بعد ظهوره لأول مرة قبل أربعين عاماً تقريباً، ورغم كل التغيرات الجذرية التي شهدتها المكونات المادية hardware أو البرمجية software التي تعطي للكمبيوتر الشخصي حيويته وكفاءته ضمن المنظومة الرقمية، وهي تغيرات طورت في المقام الأول الأداء، السرعة والكفاءة، وهذبت تكلفته، تصنيعاً وشراءً، نقول رغم كل هذا، لم يتغير «شكل» الكمبيوتر الشخصي، وظل تصميمه على حاله منذ الأيام الأولى لتطويره، حتى بدا، مؤخراً، في أعين أكثر خبراء الصناعة كأنه «خردة» مزودة بأكثر المكونات تقدماً وتعقيداً.فالكمبيوتر الشخصي، في بيئة العمل أو المنزل، شكله كما هو، لم يطرأ عليه أي تغيير جذري.
لهذا الجمود أسبابه.فمع صعود نجم الشبكات، واختراقها، بكل قوة وجرأة، عالم الأعمال، انزوى نجم الكمبيوتر الشخصي، وتلاشى دوره المركزي، وظل قائماً على مكاتب الموظفين، يمارس، في استحياء، دوراً أقل بكثير من قدراته وإمكاناته.فالشبكات، على اختلاف أنواعها ومجالاتها، سهلت للمستخدم الوصول، عن بعد، إلى كافة موارد الحوسبة computing source، وخاصة من حيث المعالجة والتخزين.
ولتحقيق مكاسب اقتصادية وتشغيلية، اتجهت الشركات إلى دمج كل أصولها الرقمية، من معدات وبرامج، في مستودعات مركزية تحتفظ بكل البيانات وتنفذ هي كل العمليات المطلوبة، بل ان الاتجاه الحديث الصاعد الآن هو اتجاه الشركات إلى «استئجار» كل ما تحتاجه من إمكانات حوسبة من شركات خدمية متخصصة، دون الدخول في التفاصيل المرهقة، مادياً وفنياً، لتأسيس بنية تحتية معلوماتية داخل مؤسسة العمل.وسط كل هذه التغيرات الثورية لعالمي التكنولوجيا والأعمال، غدا الكمبيوتر الشخصي مجرد «ترس»، بل ترس يمكن الاستغناء عنه في أي لحظة.
ولأنه ترس، لا يستخدم من قوته وإمكاناته إلا أقل القليل رغم كل الكفاءة والقوة التي حققها حتى الآن، فأغلب مستخدميه يوظفونه في الأعمال الروتينية التقليدية العادية، ككتابة التقارير، أو إنشاء العروض التقديمية، أو فحص البريد الإلكتروني، أو استعراض الويب.وكل هذه المهام لا ترقى إلى مستوى التطبيقات التي يمكن أن يوفرها الكمبيوتر الشخصي بكل سهولة، مع انها تطبيقات استدعت، مثلاً، تطوير أحدث شرائح الذاكرة إيه أم دي AMD من شركة إنتل.ومع كل طفرة تشهدها أسواق التقنية، والتي تحدث بصفة شبه يومية تقريباً، تزداد الهوة اتساعاً بين أجهزة الكمبيوتر الشخصي، واحتياجات المستخدمين في عالم الأعمال.
فطبقاً لتقديرات آي بي أم، حوالي 95 في المئة من دورات الحوسبة المتوافرة في الكمبيوتر الشخصي العادي، لا تستغل أو تستخدم على النحو المأمول منها.أما الأقراص الصلبة، التي تقاس سعتها بالجيجابايت، فما عليك إلا ان تنظر لحجم البيانات المخزونة عليها، لتدرك أن كل هذا «الثراء» في الذاكرة لا يجد من يستخدمه، فتظل هذه المستودعات التخزينية الجبارة عاطلة عن العمل، أو تمتلئ عن آخرها بنفايات لا قيمة لها (صور من الإنترنت، ملفات موسيقى، ملفات نصية معدومة القيمة).
جهاز سخيف؟
من زاوية أخرى، يرى البعض أنه طالما أن أجهزة الكمبيوتر الشخصي باتت رخيصة للغاية، سواء عند تصنيعها أو تجميعها أو شرائها، فهدر إمكانياتها وقدراتها مسألة غير مهمة على الإطلاق. لكن تفكيرا كهذا يعد سخفاً، إن لم يكن جهلاً بحقيقة الأمور.فالمسألة لا تتوقف عند حد رخص شراء الجهاز فحسب، بل يجب أن يؤخذ في الاعتبار الميزانيات الضخمة التي ترصد لوضع كمبيوتر شخصي على كل مكتب، ثم ميزانية أخرى لإحلال هذه الأجهزة بعد بضع سنوات، وميزانية ثالثة لتغطية تكاليف أعمال الصيانة والخدمة الفنية التي تتطلبها هذه الأساطيل الجرارة من الكمبيوترات الشخصية في كل مؤسسة عمل.على حساب منْ وماذا كل هذه التكاليف؟ هذا من الناحية المادية.
ومن الزاوية الفنية، يتفق الآن الفنيون وخبراء الأمن الإلكتروني على حقيقة تدمغ واقع الكمبيوتر الشخصي، ألا وهي انه تحول إلى «ثغرة» تعاني منها كل نظم الأمان الإلكترونية في مؤسسات العمل، فهو «البوابة» التي يخترق منها القراصنة نظم الأمان رغم كل احتياطاتها وتجهيزاتها العتيدة.ولهذا السبب الفني بالذات، أصبح أكثر الخبراء مقتنعين بأن الكمبيوتر الشخصي لا يخلو من المفارقات الشاذة التي تضطرهم إلى إعادة النظر في جدواه ومنافعه حد أن البعض تساءل «هل الكمبيوتر الشخصي جهاز سخيف؟».
فقبل بضع سنوات، تردد فعلاً هذا السؤال بكثرة بين خبراء الصناعة، حتى أنه في أواخر التسعينات، قالها صراحة الرئيس التنفيذي لشركة أوراكل، لاري إيلسون، الكمبيوتر الشخصي «جهاز سخيف»، وتنبأ بأن ينزوي إلى الظل لتحل محله أجهزة «العميل النحيف»thin client للمحطات الطرفية التي تتصل بأجهزة مركزية، سرفر server.وإذا كان هذا التنبؤ قد جاء وقتها في غير أوانه، إلا أن تقدير إيلسون للأمور كان صائباً إلى حد بعيد.
فصناعة الحاسب، هذه الأيام، تشهد طفرة من البدائل التي تنذر بإخفاء الكمبيوتر الشخصي من المشهد التكنولوجي برمته!من أبرز هذه الطفرات أن شركات مثل وايس ونيو اير وصن مايكروسيستمز تطرح محطات طرفية مكتبية رخيصة، معمرة، تسحب كل احتياجاتها من المعالجة والتخزين والتطبيقات من أجهزة خادم مركزية، بل وإلى حد الاستغناء عن نظم التشغيل في تلك المحطات.كما ان الباحثين في آي دي سي يتنبأون بزيادة نمو أسواق هذه الأجهزة بنسبة 23 في المئة سنوياً بدءاً من عام 2007، وستفوق مبيعاتها، ان حدث هذا النمو فعلاً، مبيعات الكمبيوتر الشخصي بمراحل.ومن ناحية البرامج، ستنتشر تطبيقات الويب والتطبيقات المضيفة التي يمكن أن يستفيد منها المستخدم من خلال واجهة مستعرض بسيطة تربط بين العملclient والخادم server.ومع رسوخ نموذج الحوسبة الخدمي، المتمثل في بنية العميل والخادم تلك، سيزداد وضع الكمبيوترات المكتبية العادية في مؤسسات العمل هشاشة على هشاشتها.
موت الكمبيوتر الشخصي
هذا عن وضع الكمبيوتر الشخصي في بيئة العمل.أما عن دوره في المنزل، فلن يبقى على حاله، رغم اختلاف طبيعة دور الكمبيوتر الشخصي في المنزل عنه في بيئات العمل.على أية حال، مع مرحلة النضج والاستقرار التي وصلت إليها إمكانات الحوسبة ووظائفها، سيبدأ المستهلكون في طلب «جرعة شكلية» أكثر تجدداً، كالتي يحصلون عليها يوماً بعد يوم من الأجهزة الرقمية الأخرى العادية، مثل الهواتف الجوالة أو التلفاز.فجأة، وكما تشير أكثر من دراسة استطلاعية ومسح إحصائي، شراء صندوق «عديم اللون والذوق» لم يعد أمراً جذاباً للمستهلك، حتى إن كان هذا الصندوق بقروش.
بوادر هذه التحولات من جانب المستهلكين ومستخدمي الكمبيوتر الشخصي المنزلي أصبحت ظاهرة للعيان.فحصة السوق لشركة آبل (مطورة ومنتجة الماكنتوش، المقابل الرسومي للكمبيوتر الشخصي)، آخذة في التنامي، بعد أن تعرضت لموجة تآكل شرسة قبل سنوات، والسبب في ذلك، كما أوضحت الدراسات السوقية، هو ظهور منتجات جذابة متجددة من قبيل آي ماك iMac وآي بوك iBook، وأخيراً ظهور الأعجوبة، ماكنتوش الصغير الذي يوازي أو يقل عن حجم الكمبيوترات الدفترية notebook computer والحضنية labtop.وقد أصبحت شركة آلين وير، كمثال آخر، أسرع شركات الكمبيوتر الأمريكية نمواً بعد أن طرحت مجموعة من الأجهزة، عالية الأداء، التي تلبي احتياجات عتاة مشغلي برامج الألعاب.في حين لمعت منتجات شركة نيفوس ميديا بعد طرحها أجهزة كمبيوتر يمكن تشبيكها وتوصيلها بنظم المسارح المنزلية.ومع تبدل الأماكن التي تشغلها الكمبيوترات الشخصية داخل المنزل، ما بين غرف المعيشة وغرف النوم والمكتب، زادت مطالب المستهلكين بتطوير أجهزة أكثر جاذبية من حيث الشكل والمظهر.
نخلص من هذا الى أن التغيير بات «غريزة»أساسية في الأسواق.ولنسترجع، في عجالة، تاريخ صناعة السيارات مع أسواقها، لنفهم كيف يمكن لصناعة الكمبيوتر الشخصي التعامل مع هذه الغريزة السوقية.
كانت شركة فورد قد هيمنت، في عشرينات القرن الماضي، على سوق السيارات بعد أن نجحت في تحويل السيارة إلى مركبة رخيصة وسلعة من سلع الأسواق.ولم تتمكن أي من شركات السيارات الأخرى أن تنافس هذه القدرات والعمليات، بأدائها الفريد، والتي وفرتها فورد في منتجاتها.
لكن السوق لا تعرف الثبات.فبعد أن أجاد المستهلكون كل الوظائف والعمليات المتوافرة في سيارات فورد، وباتوا يتعاملون معها على أنها «بديهيات»، وأخذ الملل يتسرب إلى النفوس من كثرة الاعتياد على هذه البديهيات، بدأ المستهلكون يبحثون عن نماذج أخرى أكثر إثارة وجاذبية، ولم تعد تستهويهم السيارات السوداء المكشوفة والخالية من أي كماليات جمالية أو شكلية تضفي علي المركبة بعداً جمالياً.فجأة، بدأ محبو السيارات يبحثون عن أطقم السيارات الفاخرة، أداءً وشكلاً؛ وتبدلت الأذواق، فتغيرت الأسواق.
في ذاك الحين، استشعر رئيس «جنرال موتورز»، ألفريد سلوان، تغييراً مرتقباً في سوق السيارات وأذواق المستهلكين.فالمنتجات السلعية، ومن بينها السيارات، تمر، كما يقول سلوان بمراحل ثلاث.إذ تبدأ في الظهور كسلع باهظة الثمن، فاخرة الشكل، تقبل عليها شريحة معينة من المستهلكين القادرين على شرائها.ومع نضج التكنولوجيات واقتصاديات الموازنة التي تتجه نحو تقليل تكاليف عمليات التصنيع، تتحول تلك المنتجات إلى سلع شعبية.في المرحلة الثالثة، ومع رسوخ السلع وتحولها إلى سلع ضروية لا كمالية، يبدأ المستهلك في البحث عن تصميمات وخصائص تلبي رغباته واحتياجاته بشكل أو بآخر، ولا يلتفت إلى الرقم المكتوب على بطاقة السعر أياً كان.هنا، يبدأ الشكل يفوق، من حيث الأهمية، طبيعة المحتوى.
التحدي
وبينما كانت «فورد» تواصل جهودها لتطوير موديل يناسب كل الأذواق قدر الإمكان، كانت جنرال موتورز قد دفعت إلى الأسواق سلسلة من سيارات شيفروليه الجذابة والمزودة بمجموعة من الوظائف والخصائص الجديدة تماماً على عالم السيارات.أكثر من هذا أن جنرال موتورز بدأت في تغيير تصميماتها، عاماً بعد عام، محتذية في ذلك نهج بيوتات الأزياء العالمية.وفي عام 1926، كانت السيارة شيفروليه قد سحبت البساط من تحت أقدام سيارات فورد، وانتزعت منها حصتها الجبارة في السوق.وفاقت مبيعات شيفروليه مبيعات فورد، وضاعت أسواق الثانية، لتدخل صناعة السيارات مرحلة جديدة تحكمها أذواق ومفاهيم وخصائص جديدة.
كانت فورد، وسط كل هذه التغيرات الدراماتيكية، بطيئة في الاستجابة والتفاعل مع الظروف الجديدة.ثم نهضت أخيراً من غفوتها وتحركت.ففي 25 مايو، عام 1927، أعلنت الشركة أنها أوقفت إنتاج سياراتها من موديل «تي»، وأنها ستغلق خطوط إنتاجها في مصانع فورد، وستبدأ في تطوير سلسلة من الموديلات الجديدة الجذابة.ورغم كل محاولاتها، لم تنجح فورد في أن تستعيد مكانتها أو حصتها في أسواق السيارات التي كانت لها في يوم من الأيام.
تصلح حكاية فورد، إذن، لأن تكون عبرة وتحذيرا لكل الشركات التي ازدهرت في موجة «تسليع» منتجاتها وخدماتها. وشركات الكمبيوتر الشخصي ليست استثناء، وتحديداً شركة ديل، بوصفها أحد أهم معاقل تطوير الكمبيوتر الشخصي وتصنيعه في العالم.
فاستراتيجيتها تقوم على بيع أجهزة الكمبيوتر الشخصي إلى المستهلكين باعتبارهم مستخدمين في عالم الأعمال، فتوفر خصائص تشغيلية متقدمة، وتبيع منتجاتها بأسعار تذبح المنافسين.بقول آخر، التركيز كله منصب على جانبي التكلفة والأداء، أما جانب التصميم، فلا يجد من يهتم به الاهتمام الكافي.
استراتيجية كهذه تصلح وتناسب عالم الأعمال، مع الأخذ في الحسبان أن الكمبيوتر الشخصي في هذا العالم يواجه موقفاً حرجاً للغاية.فقيمته تتداعى يوماً بعد يوم.أما في المنزل، الملعب الأخير للكمبيوتر الشخصي، فما زال أمام شركات الكمبيوتر فرصة لأن تعدل من شكله وتصميماته؛ وإلا سيكون مصيره مصير أشياء كثيرة بدأت نجوماً ساطعة وانتهت شهبا محترقة .