ناصح
02-26-2017, 12:49 AM
التأريخ العاطفي
عبدالسلام حيدر - هافينغتون بوست
كاتب ومترجم مصري
25/02/2017
كلما نظرت في الموضوعات التاريخية التي كنت أكتبها في صباي أتعاطف مع نفسي جداً، وأحمد الله على السلامة، كانت كتابات مشحونة بالرومانسية والعاطفة المتأججة، وما زلت أذكر أن دموعي كانت تسح مدراراً على صفحات كتب التاريخ، وأنا أقرأ عن الموضوعات الحساسة، مثل قتل عثمان، أو قتل الحسين، أو عن مصائر الطالبيين بصفة عامة.
وعندما ذهبت لألمانيا وسجّلت للدراسة في جامعة بامبرغ، كنت أجيل عيني في كل شيء وأتعلم، وقد تعلمت من الأساتذة والزملاء كيفية تناول الموضوعات بصرامة وانضباط عقلاني يصل إلى حد البرود أحياناً.
وأذكر أنه في بداية كل فصل دراسي كانت مكتبة الجامعة تخصص عدة دواليب وأرفف لديها تحت عنوان "سميستر أبارات"، وتضع عليها -بناء على طلب الأساتذة- مصادر الموضوعات التي ندرسها في كل تخصص وبكل اللغات الرئيسية، حتى لو لم يعرفها الطلاب، وكم تصفحت من كتب بالإيطالية والإسبانية دون أن أفهم شيئاً، ولكنني كنت أستفيد بالجداول والخرائط والرسوم الموجودة فيها، وقبل أن تكتب في أي موضوع يقولون لك: اذهب وانظر في الـ"سميستر أبارات"؛ لتعرف كيف تكتب، ثم تعالَ وقُل لنا ماذا فهمت، فأنت تتدرب مع الأساتذة والزملاء، وفي المكتبة، وتحسن طريقتك في التناول والكتابة من فصل دراسي لآخر، حتى إذا استويت وتمكنت من أدواتك تبدأ في كتابة رسالتك الأكاديمية.
وأذكر أن جهودي تركزت بالأساس على قتل تلك العاطفة المتأججة لأي موضوع أكتبه واستبدالها عند الكتابة بمنهج عقلاني بارد، وأسلوب كتابة هندسي لا يعاني الترهل ولا تنبت له زوائد عاطفية، وساعد على ذلك أنني كتبت كل هذا بالألمانية، وهي لغة عقلانية حد البرود لمن أراد بالطبع، وأصبحت كتاباتي مع الوقت شبه محايدة، بل وقد يرى البعض فيها بعض الجفاف، ولكن كان هذا هو المقصد والهدف.
المهم تخلصت -ولله الحمد- من تلك الطريقة العاطفية الضاجة في الكتابة العلمية خاصة التاريخ، وأصبحت أصاب بانزعاج شديد عندما أصادف مثل تلك الكتابات العاطفية التي لا محصول من ورائها، وهي للأسف صفة تكاد تكون ملازمة لأغلب الإسلاميين الفاعلين في مجال الكتابة التاريخية، والمشكلة أن هذا المرض يزداد انتشاراً مع الانفجار المعرفي وزيادة منصات النشر الإلكتروني، واليوم عندما أنظر حولي أجد أسراباً ممن يدعون أنفسهم بالمؤرخين وهم لا يتقنون إلا تسويد الصفحات بالقص واللصق دون وعي ودون رؤية أو قدرة على التحليل والإفهام.
والمصيبة أن بعضهم عندما يعجز عن التحليل والإفهام يتحول إلى سب ولعن الشخصيات التي يؤرخ لها، وأذكر على سبيل المثال أنني حين قدمت بروكسل وقع في يدي كتاب اسمه "الوجيز في تاريخ الإسلام"، وصاحبه أستاذ في القص واللصق بالفعل، والمشكلة أنه ينقل ما يعجبه ويلونه بأيديولوجيته مع فقر شديد في التحليل والإفهام وإفاضة في السب واللعن، وهكذا حتى إذا وصل إلى الدولة العثمانية وجد نفسه عاجزاً ولا محصول لديه ولا مصادر ينقل عنها، رغم توافرها، فكانت النتيجة أنه سوّد الصفحات بالسباب واللعان.
وهذا نموذج عشوائي وبالنص لأسلوبه في تسويد الصفحات:
"السلطان بيازيد: جلس على كرسي الملك سنة 886 وله عدة فتوحات، وفي أيامه ظهر في بلاد العجم رافضي زنديق هو شاه إسماعيل الصفوي، فقد عاث هذا الزنديق في البلاد الفساد وسفك دماء العباد ودعا إلى عقيدة الرفض والإلحاد، فخرب بذلك ممالك العجم وأشاع فيها الزندقة وفساد الملة والاعتقاد، ثم ظهر من أتباع هذا الشقي الفاجر زنديق آخر هو سلطان قولي الذي برع في التخريب والقتل وإشاعة الباطل". (ص 838).
وفي الفقرة كما ترى من السباب ما لو مزج بماء المحيط لمزجه، ومع ذلك لا تجد في الفقرة شيئاً مفيداً، فقط تتعجب من السجع وتتوالى على ذهنك الأسئلة تَترى:
متى وُلد بيازيد؟ وما هي فتوحاته؟ وكيف فتحها؟ وأين فتحها؟ ومَن هم هؤلاء العجم؟ وما معنى رافضي؟ وما معنى زنديق؟ ومتى وُلد إسماعيل هذا؟ وكيف أصبح شاه؟ ولماذا يلقب بالصفوي؟ وأية بلاد تلك التي عاث فيها فساداً؟ وكيف حال الزندقة التي نشرها الآن؟ وكيف أفسد الملة والاعتقاد؟ وما الفرق بين الملة والاعتقاد؟ ولماذا هو شقي فاجر؟ وبمن فجر؟ ومن هو هذا الزنديق الآخر سلطان قولي؟ وكيف ظهر؟ ومن أظهره؟ وكيف تزندق؟ وأين ظهرت براعته في التخريب والقتل وإشاعة الباطل؟ وما الدليل على كل هذا؟
أسئلة لا تنتهي وليس إلا ضجيجاً وقعقعة يدلان على نقص شديد في الأدوات لا عاصم منه إلا التجاهل! ولكن تصوَّروا أن هذا الكتاب (1095 صفحة) كل صفحاته على هذا النحو، وهذا المنوال بالمناسبة هو ما يسمى بالتأريخ العاطفي أو الرومانتيكي، وهو في رأيي تأريخ زائف، فهو لا يهدف إلى اكتشاف حقائق الماضي وإنما يعبر عن المشاعر الخاصة للكاتب أو الدارس تجاه هذا الماضي، والنتيجة النهائية هي تشويه المعرفة التاريخية للقراء، وظني أن طالب التاريخ المسكين بعد أن يقرأ هذا الكتاب سيتعلم السب واللعن، ولن يشم رائحة التاريخ قط.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
عبدالسلام حيدر - هافينغتون بوست
كاتب ومترجم مصري
25/02/2017
كلما نظرت في الموضوعات التاريخية التي كنت أكتبها في صباي أتعاطف مع نفسي جداً، وأحمد الله على السلامة، كانت كتابات مشحونة بالرومانسية والعاطفة المتأججة، وما زلت أذكر أن دموعي كانت تسح مدراراً على صفحات كتب التاريخ، وأنا أقرأ عن الموضوعات الحساسة، مثل قتل عثمان، أو قتل الحسين، أو عن مصائر الطالبيين بصفة عامة.
وعندما ذهبت لألمانيا وسجّلت للدراسة في جامعة بامبرغ، كنت أجيل عيني في كل شيء وأتعلم، وقد تعلمت من الأساتذة والزملاء كيفية تناول الموضوعات بصرامة وانضباط عقلاني يصل إلى حد البرود أحياناً.
وأذكر أنه في بداية كل فصل دراسي كانت مكتبة الجامعة تخصص عدة دواليب وأرفف لديها تحت عنوان "سميستر أبارات"، وتضع عليها -بناء على طلب الأساتذة- مصادر الموضوعات التي ندرسها في كل تخصص وبكل اللغات الرئيسية، حتى لو لم يعرفها الطلاب، وكم تصفحت من كتب بالإيطالية والإسبانية دون أن أفهم شيئاً، ولكنني كنت أستفيد بالجداول والخرائط والرسوم الموجودة فيها، وقبل أن تكتب في أي موضوع يقولون لك: اذهب وانظر في الـ"سميستر أبارات"؛ لتعرف كيف تكتب، ثم تعالَ وقُل لنا ماذا فهمت، فأنت تتدرب مع الأساتذة والزملاء، وفي المكتبة، وتحسن طريقتك في التناول والكتابة من فصل دراسي لآخر، حتى إذا استويت وتمكنت من أدواتك تبدأ في كتابة رسالتك الأكاديمية.
وأذكر أن جهودي تركزت بالأساس على قتل تلك العاطفة المتأججة لأي موضوع أكتبه واستبدالها عند الكتابة بمنهج عقلاني بارد، وأسلوب كتابة هندسي لا يعاني الترهل ولا تنبت له زوائد عاطفية، وساعد على ذلك أنني كتبت كل هذا بالألمانية، وهي لغة عقلانية حد البرود لمن أراد بالطبع، وأصبحت كتاباتي مع الوقت شبه محايدة، بل وقد يرى البعض فيها بعض الجفاف، ولكن كان هذا هو المقصد والهدف.
المهم تخلصت -ولله الحمد- من تلك الطريقة العاطفية الضاجة في الكتابة العلمية خاصة التاريخ، وأصبحت أصاب بانزعاج شديد عندما أصادف مثل تلك الكتابات العاطفية التي لا محصول من ورائها، وهي للأسف صفة تكاد تكون ملازمة لأغلب الإسلاميين الفاعلين في مجال الكتابة التاريخية، والمشكلة أن هذا المرض يزداد انتشاراً مع الانفجار المعرفي وزيادة منصات النشر الإلكتروني، واليوم عندما أنظر حولي أجد أسراباً ممن يدعون أنفسهم بالمؤرخين وهم لا يتقنون إلا تسويد الصفحات بالقص واللصق دون وعي ودون رؤية أو قدرة على التحليل والإفهام.
والمصيبة أن بعضهم عندما يعجز عن التحليل والإفهام يتحول إلى سب ولعن الشخصيات التي يؤرخ لها، وأذكر على سبيل المثال أنني حين قدمت بروكسل وقع في يدي كتاب اسمه "الوجيز في تاريخ الإسلام"، وصاحبه أستاذ في القص واللصق بالفعل، والمشكلة أنه ينقل ما يعجبه ويلونه بأيديولوجيته مع فقر شديد في التحليل والإفهام وإفاضة في السب واللعن، وهكذا حتى إذا وصل إلى الدولة العثمانية وجد نفسه عاجزاً ولا محصول لديه ولا مصادر ينقل عنها، رغم توافرها، فكانت النتيجة أنه سوّد الصفحات بالسباب واللعان.
وهذا نموذج عشوائي وبالنص لأسلوبه في تسويد الصفحات:
"السلطان بيازيد: جلس على كرسي الملك سنة 886 وله عدة فتوحات، وفي أيامه ظهر في بلاد العجم رافضي زنديق هو شاه إسماعيل الصفوي، فقد عاث هذا الزنديق في البلاد الفساد وسفك دماء العباد ودعا إلى عقيدة الرفض والإلحاد، فخرب بذلك ممالك العجم وأشاع فيها الزندقة وفساد الملة والاعتقاد، ثم ظهر من أتباع هذا الشقي الفاجر زنديق آخر هو سلطان قولي الذي برع في التخريب والقتل وإشاعة الباطل". (ص 838).
وفي الفقرة كما ترى من السباب ما لو مزج بماء المحيط لمزجه، ومع ذلك لا تجد في الفقرة شيئاً مفيداً، فقط تتعجب من السجع وتتوالى على ذهنك الأسئلة تَترى:
متى وُلد بيازيد؟ وما هي فتوحاته؟ وكيف فتحها؟ وأين فتحها؟ ومَن هم هؤلاء العجم؟ وما معنى رافضي؟ وما معنى زنديق؟ ومتى وُلد إسماعيل هذا؟ وكيف أصبح شاه؟ ولماذا يلقب بالصفوي؟ وأية بلاد تلك التي عاث فيها فساداً؟ وكيف حال الزندقة التي نشرها الآن؟ وكيف أفسد الملة والاعتقاد؟ وما الفرق بين الملة والاعتقاد؟ ولماذا هو شقي فاجر؟ وبمن فجر؟ ومن هو هذا الزنديق الآخر سلطان قولي؟ وكيف ظهر؟ ومن أظهره؟ وكيف تزندق؟ وأين ظهرت براعته في التخريب والقتل وإشاعة الباطل؟ وما الدليل على كل هذا؟
أسئلة لا تنتهي وليس إلا ضجيجاً وقعقعة يدلان على نقص شديد في الأدوات لا عاصم منه إلا التجاهل! ولكن تصوَّروا أن هذا الكتاب (1095 صفحة) كل صفحاته على هذا النحو، وهذا المنوال بالمناسبة هو ما يسمى بالتأريخ العاطفي أو الرومانتيكي، وهو في رأيي تأريخ زائف، فهو لا يهدف إلى اكتشاف حقائق الماضي وإنما يعبر عن المشاعر الخاصة للكاتب أو الدارس تجاه هذا الماضي، والنتيجة النهائية هي تشويه المعرفة التاريخية للقراء، وظني أن طالب التاريخ المسكين بعد أن يقرأ هذا الكتاب سيتعلم السب واللعن، ولن يشم رائحة التاريخ قط.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.