المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجنوب اللبناني انتقل من سجن الاحتلال إلى سجن الإهمال



جمال
05-27-2005, 02:15 PM
الأهالي يعتبرونه ضحية سياسة «الإنماء غير المتوازن»

بيروت: ثائر عباس

في مثل هذا اليوم منذ خمس سنوات كان الجنوب اللبناني خالياً من اي جندي اسرائيلي لاول مرة منذ 22 عاماً بعد انسحاب آخر الجنود فجر 24 مايو (ايار) 2000 .
انتشى اللبنانيون بالانتصار العربي الاول الذي ادى الى خروج اسرائيل من اراضٍ احتلتها من دون اي مفاوضات او معاهدة سلام. اكتفى اهالي الجنوب اللبناني يومها بالاحتفالات التي دامت اسابيع، واجّلوا طرح السؤال البديهي على انفسهم: «ماذا بعد؟».

هذا السؤال لم يجد اجابة عنه بعد 5 سنوات على تحرير الجنوب. وكان لا بد من محاولة معرفة ماذا تغيّر خلال هذه السنوات عبر جولة قامت بها «الشرق الاوسط» وسارت فيها على نفس الطريق الذي سارت عليه في جولة مماثلة صباح 24 مايو (ايار) 2000 .

يومها كانت الطرق مكتظة بآلاف اللبنانيين. بعضهم كان يزور المنطقة لاول مرة في حياته. وكان الدخان ينبعث بكثافة من المواقع الاسرائيلية ومواقع الميليشيا المتعاونة معها المدمرة. اما بعد 5 سنوات فقد تغيّر المشهد نوعاً ما. الطرق شبه خالية وطائر البجع المهاجر يتمشى بـ «امان» على الطريق العامة من النبطية باتجاه مرجعيون. اما الغبار الوحيد المتصاعد فهو من كسارة تنهش جبلاً كان على قمته موقع للمدفعية الاسرائيلية.

لقد تحولت منطقة الشريط الحدودي الى ما يشبه منطقة «ويك اند» يزورها اهلها في عطلة الاسبوع صيفاً ويهجرونها في ايام الاسبوع بحثاً عن الرزق في بيروت وضواحيها الفقيرة.

زادت الاعوام الخمسة الماضية من هجرة الريف الجنوبي الى المدينة بشكل كبير، وفق ما تؤكده عدة دراسات نشرت في السنوات الماضية بسبب ما يصفه السكان بانه «الانماء غير المتوازن». وبعدما كانت اسرائيل تصرف 50 مليون دولار سنوياً في المنطقة المحتلة، كما ذكر تقرير اقتصادي اسرائيلي نشر العام الماضي، اصيبت المنطقة الحدودية بنوع من الركود بسبب عدم طرح ادارات الدولة لخطة انمائية واضحة المعالم الى الجنوب. فالطرق الواسعة والاوتوسترادات تضيق عند مدخل المنطقة لتتحول الى شوارع لا تتسع حتى لسيارتين في بعض الاحيان.

اما مقومات الصمود فغائبة، اذ لم يتم افتتاح اي مصنع او مزرعة. ولم يتم توجيه الدعم الاقتصادي والمالي للمنطقة التي بقيت رهينة المبادرات الخاصة التي سقطت واحدة تلو الاخرى.

مزروعات لبنانية... وأراض يهودية

* في منطقة سهل الخيام، يقف ابو محمد امام مزروعاته القليلة المردود من الحمص والبامياء، وخلفه مصنع كبير وحديث لتوضيب الفاكهة والخضار. المزروعات لبنانية والارض يهودية والمصنع اسرائيلي يفصلهما فقط سياج شائك. لا جنود اسرائيليون ولا مقاومون لبنانيون، فقط مزارعون من الجانبين بحراسة برج مراقبة اسرائيلي فارغ وعشرات كاميرات المراقبة.

الارض يزرعها ابو محمد بالايجار ومردودها قليل لكنها «افضل من لا شيء». اما مالكو الارض الحقيقيون فهم يهود، يقول ابو محمد، مشيراً الى انها ارض اشتراها يهود قبل العام 1948، لكنهم لم يستطيعوا ضمها الى اسرائيل، فتحولت الى اراض مشاع يزرعها من يشاء.

الحسرة تبدو واضحة جداً في حديث ابو محمد. نسأله عن تقديمات الدولة ومساعداتها فيضحك متهكماً: «لا مساعدات ولا من يحزنون... عندما امطرت اتلفت المزروعات، اقترح بعض الشباب (من المزارعين) طلب تعويضات، فقلت لهم بلا قلة عقل». ويتابع مشيراً بيده الى الجانب الآخر حيث الارض خضراء والاشجار المثمرة تنمو بانتظام غريب: «انظروا كيف يعتنون بزراعتهم. تحت كل شجرة حنفية ماء اما نحن فلا شيء».

ويدل ابو محمد ـ وهو من بلدة كفركلا الحدودية ـ على قطعة ارض في مستوطنة المطلة المقابلة، قائلاً انها كانت قطعة ارض صخرية قبل تحرير الجنوب. وقد عمد الاسرائيليون الى جرف التربة من سهل الخيام لتحويل الجبل الصخري الى بستان للتفاح اصبح اليوم مثمراً.

تعايش الأعداء

* وفي بلدة كفركلا، حيث اقرب نقطتين سكنيتين في الاراضي اللبنانية والاسرائيلية، تبدو الامور كنوع من التعايش بين عدوين لدودين.

في كفركلا مبان تطل على الاراضي الاسرائيلية ويمكن للبنانيين ان يرموا ما يشأوون من شرفاتهم الى اسرائيل، لكنهم يمتنعون عن ذلك طبعاً. ومن نافذة المسجد الصغير، يمكن للمصلين ان يروا المباني المنظمة في مستوطنة المطلة القريبة والتي تتميز بسطوح القرميد المشابهة للبيوت اللبنانية التقليدية.

تمر الدوريات الاسرائيلية على خط الحدود بعيدة رمية حجر عن الجانب اللبناني الملتزم معادلة المقاومة في مزارع شبعا من دون غيرها على طول خط الحدود ما انعكس هدوءاً هناك وتوتراً في منطقة شبعا عند سفح جبل الشيخ بين لبنان والجولان السوري.

لكن هذا الهدوء تخرقه احياناً «استفزازات» اسرائيلية، كسرقة بعض الماشية او اطلاق بعض الكلاب الشاردة في اتجاه الاراضي اللبنانية وحتى توجيه المياه الآسنة. ومنذ نحو شهر اضطر الاسرائيليون و«حزب الله» الى نوع من التعاون في اخماد حريق استمر اياماً عدة على خط الحدود وهدد المواقع الاسرائيلية والاراضي اللبنانية في الوقت نفسه، فشارك الطرفان - كل من جانبه- في اطفاء الحريق بمشاركة الامم المتحدة.

المناطق المسيحية: التعامل أو العمل

* وحدها المناطق المسيحية في الشريط الحدودي لم تشهد تغييرات تذكر. المناخ هو ذاته، كئيب وشوارع شبه خالية في ساعات النهار. والسخط دائم على الاوضاع. لقد وضع الاحتلال الاسرائيلي مسيحيي المنطقة الحدودية امام خيارين اساسيين: التعامل معه او الرحيل. وهكذا دخل العديد من اهالي المنطقة في الميليشيا المتعاملة مع الاحتلال. ومن لم يدخل، تعامل معها موظفاً مدنياً. اما من لم يفعل فخياره كان العمل في اسرائيل.

في مطرانية مرجعيون يختزل رجل الدين المسؤول عن الرعية الوضع القائم في المنطقة الآن بانه «انتقال من السجن الى السجن»: سجن الاحتلال الى سجن الحرمان.

لقد نقل تحرير الجنوب الاهالي في المنطقة المسيحية الى وضع جديد. آلاف الشبان والرجال فروا الى اسرائيل هرباً من حزب الله الذي اخافتهم منه اسرائيل طوال السنوات الماضية. وعندما تم التحرير تبين ان مصدر الخوف الحقيقي هو السنوات اللاحقة.

العمل في إسرائيل

* يقدم اهالي بلدة مرجعيون صورة مؤلمة لواقع العمال اللبنانيين في اسرائيل. يقول مواطن «كنا نذهب منذ الفجر، نقف صفوفاً طويلة عند الحدود. وبعد التفتيش نوضع في شاحنات وننقل الى اماكن العمل التي غالباً ما تكون اوضاعنا فيها سيئة للغاية. المال متوافر، لكن العمل مرهق.ومع هذا فالجميع كان يعمل اوقاتاً اضافية لجني المزيد من المال تعويضاً عن الجهد الذي نبذله هناك». ويشير المواطن البالغ من العمر نحو 37 عاماً الى ان معظم العمال كانوا في قطاع الخدمات او الزراعة. اما العاملات فينظفن الفنادق والمراكز السياحية في المستوطنات الاسرائيلية. وبالنسبة الى الاجواء فهي سيئة. ويقول بحدة: « الاسرائيليون كانوا يؤلبوننا على بعضنا البعض بحيث كنا نكاد لا نتبادل الحديث معاً».

الضباط براءة.. العناصر في السجن

* واتى 24 مايو (ايار) 2000 وانسحبت اسرائيل وغادرت بعدها الميليشيا بانسحاب «غير مشرَّف» كما قال احد « ضباط» الميليشيا لقائدها انطوان لحد. اما العناصر فكان حظهم عاثراً. لقد منعوا من اخذ اي شيء معهم. سياراتهم تركوها عند خط الحدود وكذلك الكثير من متاعهم، لتبدأ رحلة معاناة جعلت الكثيرين منهم يفضلون العودة الى السجن في لبنان هربا من الحياة في اسرائيل التي تخلت عنهم مرتين «بانسحابها وبإزدرائنا» كما يقول احد العناصر السابقين في الميليشيا. حاول بعض هؤلاء الاندماج في المجتمع الاسرائيلي، لكن اليهود نبذوهم وعرب اسرائيل احتقروهم.

يقدر عدد اللبنانيين الباقين الآن في اسرائيل بنحو 2000 عائلة مسيحية وبعض العائلات المسلمة يذهب البعض الى القول انهم نحو 6 آلاف عائلة. وهؤلاء وضعهم اسوأ لانهم منبوذون في مجتمعاتهم في لبنان. حتى ان احدهم توفي العام الحالي ولم يتمكن ذووه من دفنه في مقبرة بلدته اللبنانية.

هواتف اسرائيلية

* يسمع اهالي المنطقة الحدودية الاذاعات الاسرائيلية، وعند اقترابهم من السياج الحدودي يلتقطون بوضوح بث الهواتف النقالة الاسرائيلية (3 شركات). وعمد بعض المقيمين في اسرائيل من اللبنانيين الى تهريب بطاقات هاتفية اسرائيلية الى لبنان للتحادث مع اقاربهم حيث يذهبون الى مناطق قريبة من السياج ويطلبون رقما هاتفيا في اسرائيل. غير ان الاجهزة الأمنية اللبنانية ضبطت الكثيرين منهم. وبعضهم حوكم بتهمة التجسس و«التخاطب مع العدو» ما جعل الاتصالات اصعب بين الجانبين حتى عبر الصليب الاحمر الدولي. لكن هذا الواقع ادى الى ازدهار مقاهي الإنترنت في هذه القرى للتواصل مع الاقارب.

محاكمة جنين

* اما الذين بقوا في لبنان فقد تعرضوا لملاحقات قضائية متنوعة، كل حسب «جريمته» كما يقول الكاهن «فالمتعامل حوكم والعامل حوكم وحتى الذين ولدوا في مستشفيات اسرائيل حوكموا».

اما العمل فكان صعباً بدوره. معظم اهالي هذه القرى اتجهوا نحو الزراعة. لكن الكساد اصاب مواسمهم، كما اصاب مصانع الالبان والاجبان ومزارع الماشية. ويروي الكاهن ان شابين خرجا من السجن واقاما مزرعة ابقار، لكنهما افلسا جراء الحال الاقتصادية فدخلا السجن مجدداً بعد عجزهما عن سداد ديونهما.

المدارس

* المدارس وحدها كانت «نعمة» الدولة، اذ انشأ مجلس الجنوب الكثير من المدارس الحكومية في القرى الجنوبية. لكن معظمها بقي من دون رواد. فالمدرسة التابعة لمطرانية مرجعيون كانت تضم 500 طالب خلال الاحتلال. وهي تضم الآن 150 طالباً وتتحمل تحت خسائر سنوية يسددها المطران الياس كفوري بجمع التبرعات. اما المدرسة الخاصة المجاورة فكانت تضم 200 طالب. وهي الآن تضم 75 طالباً، فيما المدرسة الحكومية شبه خالية.

حكاية عميل

* التكتم سمة لافتة عند اهالي المنطقة المسيحية. يخافون الحديث عموماً، وينظرون بريبة الى كل مقبل غريب. فالاحتمال الاول دائما هو ان الزائر عنصر مخابرات رسمي او عنصر مخابرات حزبي.

ومرافقة الكاهن لنا، لم تجعل الحذر يذهب تماماً، فالجميع يتكلم، لكن الاسماء ممنوعة، كذلك ذكر المنطقة، لأنهم يخافون ان «تعرفهم المخابرات». اي مخابرات؟ لا احد يعلم. شاب وحيد قبل التحدث عن تجربته في السجن قائلا: «نحن مقهورون وننتظر فرصة لنفش خلقنا». لكنه مع هذا يرفض ان «يفش خلقه» علناً. ويضيف: «من المفترض ان تتم محاكمة المسؤولين الذين تركوا المنطقة منذ العام 1960 لاسرائيل وغيرها يتدخلون فيها».

اما حكايته مع السجن فهي تبدأ عام 1998 عندما سجن في معتقل الخيام الذي كانت تديره الميليشيا المتعاملة مع اسرائيل. والتهمة زرع عبوات في المنطقة. خرج بعد ستة اشهر وذهب الى بيروت، فاستدعي الى مقر احد الاحزاب المعادية لاسرائيل حيث عرض عليه التعامل معه، فرفض.

فاتهم بانه عميل وسجن لدى الحزب 20 يوماً لم يعرف اهله خلالها عنه شيئاً. بعدها استطاع اهله ان يقوموا بوساطة كلفتهم 7 آلاف دولار لمعرفة مكانه، فتم تسليمه الى جهاز أمني رسمي. ويقول:

«لقد اخذت الى احدى الثكنات، وقيل للمسؤولين هناك: «خذوه انه عميل» وبعدها بدأ الضرب من كل اتجاه، نذهب الى الحمام ونضرب ونعود فنضرب. نذهب الى التحقيق فنضرب. بعدها اتاني ضابط بورقة مغطاة طالباً مني التوقيع عليها فرفضت 3 مرات، لكني قبلت بعد الضرب، لادرك اني وقعت على اعترافاتي». ويضيف: «بعدها سلمت الى وزارة الدفاع، وهناك توقف الضرب، وقد اكد لي المحقق اني سأنال حكماً بالبراءة لضعف الملف المسند الي، فذهبت الى المحكمة وعدت بحكم لثلاث سنوات من دون أي مجال للاستئناف». تتدخل زوجته قائلة: «هناك مسؤولون (في الميليشيا) خرجوا براءة لعدم كفاية الدليل».

ومنهم احد اقاربي. ويتدخل آخر يروي حكاية لواء في الميليشيا اقاربه نافذون نال حكماً بالبراءة، فيما نال سائقه حكماً بالسجن 3 سنوات لانه كان سائقه وفقاً لمنطوق الحكم».