yasmeen
05-19-2005, 07:10 AM
كتاب جديد للمفكر السويسري جان زيغلير يدعو فيه إلى إسقاط الطبقة الجديدة
هاشم صالح
الكتب تصدر بالعشرات وربما بالمئات كل اسبوع في عواصم الغرب، ولكن الكتب الي تضيء لك الوضع العالمي وتساعدك على فهمه واستيعاب تعقيداته تظل قليلة ان لم تكن نادرة. من بينها هذا الكتاب بدون شك. ومؤلفه هو الباحث السويسري الكبير جان زيغلير، المقرر الخاص للامم المتحدة فيما يتعلق بالتغذية او بحق الناس في التغذية والأكل والشرب على مستوى العالم ككل. وهو شيء ابعد ما يكون عن التحقق حتى الآن.
سبق للمفكر السويسري جان زيغلير ان نشر كتابا هاما قبل عامين بعنوان: أسياد العالم الجدد واولئك الذين يقاومونهم. وكنا قد عرضناه هنا على صفحات «الشرق الأوسط» آنذاك. وهو الآن يعمق نفس الموضوع ويسير في نفس الاتجاه: اتجاه ادانة النظام الاقتصادي العالمي الذي تتحكم به دول الغرب الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية. وهو النظام الذي يؤدي الى تجويع مئات الملايين من البشر، وبخاصة في دول الجنوب، اي في النصف الجنوبي للكرة الارضية: اي في افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية والعالم العربي ـ الاسلامي على وجه الخصوص. ولكنه يؤدي ايضا الى تجويع وتهميش بعض الشرائح الاجتماعية في دول الغرب المتقدمة ذاتها.
يرى المؤلف اننا نشهد اليوم ظاهرة ضخمة تهدف الى اعادة العالم الى العصر الاقطاعي السابق على الثورة الفرنسية وكل الحداثة السياسية والاجتماعية التي رافقتها او نتجت عنها. نحن نعود الى ما قبل مائتي سنة من التاريخ الاوروبي عندما كان السادة الاقطاعيون، اي طبقة النبلاء، يسيطرون على المجتمع وثرواته ويستخدمون الشعب كأداة للسخرة والعمل في الحقول اي كعبيد، وفي ذلك الوقت كان اسياد العالم من اقطاعيين ونبلاء يعيشون حياة الترف والبذخ في القصور الباريسية وسواها، هذا في حين ان اغلبية الشعب من فلاحين وسواهم كانوا على حافة الجوع، او جوعانين بالمعنى الحرفي للكلمة.
وكانت شوارع باريس وغيرها من المدن تمتلئ بالشحاذين كما هو عليه الحال في شوارع نيودلهي او بنغلاديش او البرازيل حاليا.
كم كان عدد الاقطاعيين آنذاك؟ ربما 5% من سكان فرنسا على اكثر تقدير. كانت ثلاثمائة عائلة كبيرة هي التي تمتلك ثروة البلاد وتتحكم بمصيرها. والآن ماذا حصل بعد ان قضت الثورة الفرنسية على هؤلاء الاقطاعيين الكبار، بل وقطعت رؤوسهم تحت المقصلة الشهيرة؟ لا ريب في انه حصل تحسن كبير وتشكلت طبقة وسطى كبيرة وزال الجوع بالمعنى الحرفي للكلمة من دول الغرب على الاقل. ولكن سرعان ما ظهرت طبقة اقطاعية جديدة محلهم، وهي هذه المرة اكبر بكثير لأنها اصبحت بحجم العالم. لم تعد فقط ثروات فرنسا او حتى اوروبا تحت تصرفها وانما ثروات العالم بأسره. والاقطاعيون الجدد ما عادوا يركبون العربات التي تجرها الخيول كما كان يفعل الدوق او المركيز في ذلك الزمان الغابر. وانما هم يركبون سيارات الرولز رويس والمرسيدس الفاخرة ويستخدمون الطائرات الخاصة من اجل تنقلاتهم لكي لا يختلطوا بعامة الشعب من امثالنا، ولهم قصور في الجزر النائية التي لم ترها عين قط ولم تطأها قدم انسان قبلهم، ولا حتى بعدهم لأنها مخصصة لهم وحدهم لكي لا يزعجهم احد. وهكذا يعيشون معزولين عن البشر بكل انانية وكأنهم في قلاع محصنة.
هؤلاء الاقطاعيون الجدد هم باختصار شديد رؤساء الشركات الكبرى الخاصة العابرة للقارات. وهم الذين يجتمعون في مؤتمر «دافوس» في سويسرا كل عام. ويبلغ عددهم الألف شخص او اكثر او اقل. وراتب الواحد منهم قد يتجاوز العشرة او عشرين مليون دولار شهريا. وهم اسياد العالم الحقيقيون وليس بوش او شرودر او بلير او شيراك او سواهم من قادة اليابان وكندا وسويسرا.. الخ. او قل ان هؤلاء هم خدم عند اولئك. انهم ينفذون السياسة التي تتماشى مع مصالحهم. وكثيرا ما يرافقونهم في رحلاتهم الى الخارج من اجل توقيع الصفقات التجارية الضخمة، وبالتالي فالسياسيّ يسهّل هنا للاقتصاديّ عملياته ومساوماته ويساعده على الفوز بالعقود الكبيرة التي ينافسه عليها رأسمالي آخر.
يقول جان زيغلير بما معناه: ان الخمسمائة اكبر شركة عابرة للقارات في العالم تمتلك اليوم 52% من منتوج العالم، واذن فهناك (500) شركة عابرة للقارات: اي لها فروع في شتى القارات وفي معظم بلدان العالم. بالطبع فهناك شركات اخرى، ولكنها اقل اهمية منها، ومن بين هذه الشركات العملاقة التي يصل عددها الى خمسمائة هناك 58% من اصل اميركي، والباقي يتوزع على اوروبا واليابان وكندا واستراليا. وهذه الشركات الخمسمائة تزيد ثروتها عن ثروة (133) دولة جنوبية مجتمعة. فاذا علمنا ان العالم يحتوي على (191) دولة فقط اخذنا فكرة عن مدى الثراء الفاحش للشركات العابرة للقارات والتي هي كلها غربية او يابانية.
وهذه الشركات عندما تشتغل في بلدان الجنوب الفقيرة كالبرازيل او افريقيا السوداء او العالم العربي او آسيا، فإنها لا تقبل اخذ ارباحها بالعملة المحلية. وانما تجبر البنوك المركزية في هذه الدول المنكوبة الى تحويل ارباحها من العملة المحلية الى العملة الصعبة (اي الدولار اساسا) ثم نقل هذه الارباح التي جنتها على حساب الشعوب الفقيرة الى بنوك سويسرا واوروبا واميركا.
وعلى هذا النحو تنتقل الاموال من الجنوب الى الشمال، اي من الفقير الى الغني، وليس العكس! ومع ذلك فإن هذا الشمال الذي وصل بالثروة الى حد البطر يسمح لنفسه بان يفتخر بانه يساعد دول الجنوب: اي يقدم لها سنويا ما يدعوه بمساعدات من اجل التنمية. وهكذا يخدعنا ونتوهم ان الاموال تنتقل من الشمال الى الجنوب وان العالم المتحضر او الغني يساعد العالم الفقير حقا ويشفق عليه! هكذا تنطلي علينا الحيلة. بل ربما بلغت الوقاحة بهذا القائد او ذاك من دول الغرب الى حد الافتخار علنا بانه زاد المساعدة لافريقيا هذه السنة بنسبة 0.3% مثلا.. هذا في حين ان شركات بلاده هي التي تنهب افريقيا وتستفيد منها وليس العكس.
لندخل الآن في التفاصيل اكثر، ولندع الاحصائيات تتكلم وكذلك الارقام. يقول جان زيغلير، هذا الرجل المحترم الذي يسير على خطى سلفه الكبير جان جاك روسو في القرن الثامن عشر ما يلي: في عام 2003 قدمت دول الشمال الصناعية الغنية مبلغ (54) مليار دولار الى (122) دولة من دول الجنوب الفقيرة من اجل مساعدتها على التنمية، وهذا عمل عظيم ومشرف بحد ذاته، لكن المشكلة هي انه في ذات الوقت تلقت بنوك الغرب مبلغ (436) مليار دولار من هذه الدول الفقيرة بالذات كخدمة للديون!! وهنا نصل مع المؤلف الى بيت القصيد. هنا نجده يخترع مصطلحا رائعا او قل انه يقلب المصطلح على الغرب لكي يطبقه عليه. واقصد بذلك مصطلح اسلحة الدمار الشامل. فالواقع ان الغرب يمتلكها ولكن من نوع آخر اكثر فتكا ربما، فهو يمتلك سلاحين اساسيين لاخضاع الجنوب الفقير وكل البشرية: انهما الديون المتراكمة على العالم الثالث، والتجويع. أليس التجويع سلاحا من اسلحة الدمار الشامل؟ اليس تجويع مئات الملايين، بل وقتلهم جوعا بالملايين ايضا هو سلاح تدمير شامل؟ أليس تراكم الديون بالمليارات على كاهل هذه الدول الفقيرة سلاحا ردعيا شاملا؟ هنا يدخل المؤلف في صلب الموضوع. وكنت اتمنى لو استطيع نقل كل تحليلاته هنا ولكن المكان ينقصني، سوف اكتفي اذن بالمختصر المفيد. وهو مرعب بحد ذاته. فالواقع ان استراتيجية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من المؤسسات الغربية الكبرى تتمثل فيما يلي:
اثقال كاهل دول الجنوب بالديون الباهظة من اجل التحكم بها لاحقا عندما لا تستطيع تسديد هذه الديون واحيانا لا تستطيع تسديد فوائد الديون او خدماتها كما يقال.. على هذا النحو يسيطر الغرب على العالم كله من الهند الى افريقيا، الى آسيا، الى روسيا، الى اميركا اللاتينية، الى عالم العرب والمسلمين.. على هذا النحو يمسك بخناق الجميع.
لندخل الآن في التفاصيل والاحصائيات والارقام المرعبة. في عام 2003 بلغت ديون اميركا اللاتينية (790) مليار دولار. وبلغت خدمات هذه الديون او فوائدها التي هي مجبرة على دفعها كل سنة: (134) مليار دولار. فماذا يتبقى لها من اجل التنمية ورفع مستوى شعوبها؟
اما ديون الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية (اي العالم العربي في الواقع) فقد بلغت (320) مليار دولار في نفس السنة. وخدمتها تبلغ سنويا (42) مليار دولار. فماذا تبقى لنا اذن لكي نصرفه على التنمية او حتى شراء رغيف الخبز؟ ماذا تركوا لنا؟ على هذا النحو يتحكمون بالانظمة والشعوب والرؤساء والوزراء.
والفساد المستشري في بلدان الجنوب يزيد الطين بلّة ويؤدي الى افقار الشعب اكثر فأكثر. نقول ذلك وبخاصة ان الطبقة الكومبرادورية، اي البورجوازية المحلية العميلة، تضع اولادها وعائلاتها في الخارج تحسبا لحصول اضطرابات في الداخل او ثورة شعبية. وبالتالي فهي لا تخشى على اطفالها الذين يتعلمون في احسن مدارس سويسرا وفرنسا والذين حولت لهم اموال من دم الشعب، اموال لا تحرقها النيران.
ما الحل؟ ما العمل؟ على هذا السؤال يجيب المفكر السويسري الكبير قائلا بكلمة واحدة او كلمتين: شطب الديون. نعم، شطب ديون العالم الثالث كلها دفعة واحدة من اجل جعله قادرا على تحقيق التنمية والخروج من الفقر المدقع والجوع.
وليس صحيحا ان النظام المصرفي العالمي سوف يختل اذا ما اتخذ هذا القرار. ليس صحيحا على الاطلاق، ولكن ارباب الغرب ومديريّ شركاته الرأسمالية العملاقة لا يريدون ذلك لكي يظلوا قابضين على خناق الشعوب. فالاقطاعي لكي يخُضع الفلاح ينبغي ان يجوعه او يعيّشه على حافة الجوع باستمرار. عندئذ يركع امامه ويستسلم له ويقبل يده. وهذا ما يفعله الاقطاعيون الجدد حاليا بالعالم كله. انهم يثقلونه بالديون ويجوعونه بطريقة ناعمة شديدة الديبلوماسية والخبث.
هل نعلم ان كل خمس ثوان يموت طفل من الجوع في العالم الثالث، عالم الجنوب؟ كل خمس ثوان فقط. فكم يموت اذن كل دقيقة، او كل ساعة، او كل يوم، او كل شهر، او بالسنة كلها، احسبوا.. وكم يموت من الكبار ايضا؟ فالجوع لا يصيب الاطفال فقط.
هناك مجزرة رهيبة تحصل يوميا، هناك جريمة ترتكب ضد الانسانية ولا احد يتجرأ على رفع صوته متهما المسؤول الحقيقي عن الجريمة، ولهذا السبب فإن المؤلف يتهم النظام الاقتصادي العالمي السائد حاليا بأنه آكل لحوم البشر بالمعنى الحرفي للكلمة. انه نظام مجرم. ومن يقف على رأس هذا النظام او يسمح به؟ الغرب الحضاري العظيم؟
ولهذا السبب فإن المؤلف يدعو الى تنوير جديد بعد ان انحرف الغرب عن التنوير السابق: اي عن مبادئ جان جاك روسو وايمانويل كانط. انه يدعو الى ثورة فرنسية جديدة، ولكن بحجم العالم هذه المرة وليس فقط بحجم فرنسا لكي تسقط رؤوس الطغيان والاستكبار العالمي المتمثلة بالطبقة الاقطاعية الجديدة. فهذه الطبقة التي فقدت كل ضمير او احساس انساني، اصبحت خطرا على الحضارة والبشرية بأسرها. ولكن مقاومة هذا النظام العالمي لن تكون على طريقة «القاعدة» والارهاب الاعمى. فهذا يعني الانتقال من بربرية الى بربرية اخرى: اي من بربرية الرأسمالية الى بربرية الاصولية. وهذا ما لا يريده جان زيغلير بأي شكل. انه يريد مقاومة من نوع جديد، مقاومة قائمة على فلسفة انسانية واسعة تشمل كل البشر وتتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم اينما كانوا. وكما ان فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر استطاعوا اسقاط الطبقة الاقطاعية القديمة، فإن مفكري التنوير الجديد سوف يسقطون الطبقة الاقطاعية الجديدة مهما بلغت قوتها الاخطبوطية وجبروتها. وقد ابتدأ ذلك على يد الحركات النضالية والانسانية المضادة للعولمة الرأسمالية والتي تنزل الى الشوارع بالملايين في جنوة بايطاليا، او في جنيف، او لندن، او سياتل او غيرها من عواصم العالم.
هاشم صالح
الكتب تصدر بالعشرات وربما بالمئات كل اسبوع في عواصم الغرب، ولكن الكتب الي تضيء لك الوضع العالمي وتساعدك على فهمه واستيعاب تعقيداته تظل قليلة ان لم تكن نادرة. من بينها هذا الكتاب بدون شك. ومؤلفه هو الباحث السويسري الكبير جان زيغلير، المقرر الخاص للامم المتحدة فيما يتعلق بالتغذية او بحق الناس في التغذية والأكل والشرب على مستوى العالم ككل. وهو شيء ابعد ما يكون عن التحقق حتى الآن.
سبق للمفكر السويسري جان زيغلير ان نشر كتابا هاما قبل عامين بعنوان: أسياد العالم الجدد واولئك الذين يقاومونهم. وكنا قد عرضناه هنا على صفحات «الشرق الأوسط» آنذاك. وهو الآن يعمق نفس الموضوع ويسير في نفس الاتجاه: اتجاه ادانة النظام الاقتصادي العالمي الذي تتحكم به دول الغرب الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية. وهو النظام الذي يؤدي الى تجويع مئات الملايين من البشر، وبخاصة في دول الجنوب، اي في النصف الجنوبي للكرة الارضية: اي في افريقيا وآسيا واميركا اللاتينية والعالم العربي ـ الاسلامي على وجه الخصوص. ولكنه يؤدي ايضا الى تجويع وتهميش بعض الشرائح الاجتماعية في دول الغرب المتقدمة ذاتها.
يرى المؤلف اننا نشهد اليوم ظاهرة ضخمة تهدف الى اعادة العالم الى العصر الاقطاعي السابق على الثورة الفرنسية وكل الحداثة السياسية والاجتماعية التي رافقتها او نتجت عنها. نحن نعود الى ما قبل مائتي سنة من التاريخ الاوروبي عندما كان السادة الاقطاعيون، اي طبقة النبلاء، يسيطرون على المجتمع وثرواته ويستخدمون الشعب كأداة للسخرة والعمل في الحقول اي كعبيد، وفي ذلك الوقت كان اسياد العالم من اقطاعيين ونبلاء يعيشون حياة الترف والبذخ في القصور الباريسية وسواها، هذا في حين ان اغلبية الشعب من فلاحين وسواهم كانوا على حافة الجوع، او جوعانين بالمعنى الحرفي للكلمة.
وكانت شوارع باريس وغيرها من المدن تمتلئ بالشحاذين كما هو عليه الحال في شوارع نيودلهي او بنغلاديش او البرازيل حاليا.
كم كان عدد الاقطاعيين آنذاك؟ ربما 5% من سكان فرنسا على اكثر تقدير. كانت ثلاثمائة عائلة كبيرة هي التي تمتلك ثروة البلاد وتتحكم بمصيرها. والآن ماذا حصل بعد ان قضت الثورة الفرنسية على هؤلاء الاقطاعيين الكبار، بل وقطعت رؤوسهم تحت المقصلة الشهيرة؟ لا ريب في انه حصل تحسن كبير وتشكلت طبقة وسطى كبيرة وزال الجوع بالمعنى الحرفي للكلمة من دول الغرب على الاقل. ولكن سرعان ما ظهرت طبقة اقطاعية جديدة محلهم، وهي هذه المرة اكبر بكثير لأنها اصبحت بحجم العالم. لم تعد فقط ثروات فرنسا او حتى اوروبا تحت تصرفها وانما ثروات العالم بأسره. والاقطاعيون الجدد ما عادوا يركبون العربات التي تجرها الخيول كما كان يفعل الدوق او المركيز في ذلك الزمان الغابر. وانما هم يركبون سيارات الرولز رويس والمرسيدس الفاخرة ويستخدمون الطائرات الخاصة من اجل تنقلاتهم لكي لا يختلطوا بعامة الشعب من امثالنا، ولهم قصور في الجزر النائية التي لم ترها عين قط ولم تطأها قدم انسان قبلهم، ولا حتى بعدهم لأنها مخصصة لهم وحدهم لكي لا يزعجهم احد. وهكذا يعيشون معزولين عن البشر بكل انانية وكأنهم في قلاع محصنة.
هؤلاء الاقطاعيون الجدد هم باختصار شديد رؤساء الشركات الكبرى الخاصة العابرة للقارات. وهم الذين يجتمعون في مؤتمر «دافوس» في سويسرا كل عام. ويبلغ عددهم الألف شخص او اكثر او اقل. وراتب الواحد منهم قد يتجاوز العشرة او عشرين مليون دولار شهريا. وهم اسياد العالم الحقيقيون وليس بوش او شرودر او بلير او شيراك او سواهم من قادة اليابان وكندا وسويسرا.. الخ. او قل ان هؤلاء هم خدم عند اولئك. انهم ينفذون السياسة التي تتماشى مع مصالحهم. وكثيرا ما يرافقونهم في رحلاتهم الى الخارج من اجل توقيع الصفقات التجارية الضخمة، وبالتالي فالسياسيّ يسهّل هنا للاقتصاديّ عملياته ومساوماته ويساعده على الفوز بالعقود الكبيرة التي ينافسه عليها رأسمالي آخر.
يقول جان زيغلير بما معناه: ان الخمسمائة اكبر شركة عابرة للقارات في العالم تمتلك اليوم 52% من منتوج العالم، واذن فهناك (500) شركة عابرة للقارات: اي لها فروع في شتى القارات وفي معظم بلدان العالم. بالطبع فهناك شركات اخرى، ولكنها اقل اهمية منها، ومن بين هذه الشركات العملاقة التي يصل عددها الى خمسمائة هناك 58% من اصل اميركي، والباقي يتوزع على اوروبا واليابان وكندا واستراليا. وهذه الشركات الخمسمائة تزيد ثروتها عن ثروة (133) دولة جنوبية مجتمعة. فاذا علمنا ان العالم يحتوي على (191) دولة فقط اخذنا فكرة عن مدى الثراء الفاحش للشركات العابرة للقارات والتي هي كلها غربية او يابانية.
وهذه الشركات عندما تشتغل في بلدان الجنوب الفقيرة كالبرازيل او افريقيا السوداء او العالم العربي او آسيا، فإنها لا تقبل اخذ ارباحها بالعملة المحلية. وانما تجبر البنوك المركزية في هذه الدول المنكوبة الى تحويل ارباحها من العملة المحلية الى العملة الصعبة (اي الدولار اساسا) ثم نقل هذه الارباح التي جنتها على حساب الشعوب الفقيرة الى بنوك سويسرا واوروبا واميركا.
وعلى هذا النحو تنتقل الاموال من الجنوب الى الشمال، اي من الفقير الى الغني، وليس العكس! ومع ذلك فإن هذا الشمال الذي وصل بالثروة الى حد البطر يسمح لنفسه بان يفتخر بانه يساعد دول الجنوب: اي يقدم لها سنويا ما يدعوه بمساعدات من اجل التنمية. وهكذا يخدعنا ونتوهم ان الاموال تنتقل من الشمال الى الجنوب وان العالم المتحضر او الغني يساعد العالم الفقير حقا ويشفق عليه! هكذا تنطلي علينا الحيلة. بل ربما بلغت الوقاحة بهذا القائد او ذاك من دول الغرب الى حد الافتخار علنا بانه زاد المساعدة لافريقيا هذه السنة بنسبة 0.3% مثلا.. هذا في حين ان شركات بلاده هي التي تنهب افريقيا وتستفيد منها وليس العكس.
لندخل الآن في التفاصيل اكثر، ولندع الاحصائيات تتكلم وكذلك الارقام. يقول جان زيغلير، هذا الرجل المحترم الذي يسير على خطى سلفه الكبير جان جاك روسو في القرن الثامن عشر ما يلي: في عام 2003 قدمت دول الشمال الصناعية الغنية مبلغ (54) مليار دولار الى (122) دولة من دول الجنوب الفقيرة من اجل مساعدتها على التنمية، وهذا عمل عظيم ومشرف بحد ذاته، لكن المشكلة هي انه في ذات الوقت تلقت بنوك الغرب مبلغ (436) مليار دولار من هذه الدول الفقيرة بالذات كخدمة للديون!! وهنا نصل مع المؤلف الى بيت القصيد. هنا نجده يخترع مصطلحا رائعا او قل انه يقلب المصطلح على الغرب لكي يطبقه عليه. واقصد بذلك مصطلح اسلحة الدمار الشامل. فالواقع ان الغرب يمتلكها ولكن من نوع آخر اكثر فتكا ربما، فهو يمتلك سلاحين اساسيين لاخضاع الجنوب الفقير وكل البشرية: انهما الديون المتراكمة على العالم الثالث، والتجويع. أليس التجويع سلاحا من اسلحة الدمار الشامل؟ اليس تجويع مئات الملايين، بل وقتلهم جوعا بالملايين ايضا هو سلاح تدمير شامل؟ أليس تراكم الديون بالمليارات على كاهل هذه الدول الفقيرة سلاحا ردعيا شاملا؟ هنا يدخل المؤلف في صلب الموضوع. وكنت اتمنى لو استطيع نقل كل تحليلاته هنا ولكن المكان ينقصني، سوف اكتفي اذن بالمختصر المفيد. وهو مرعب بحد ذاته. فالواقع ان استراتيجية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وغيرهما من المؤسسات الغربية الكبرى تتمثل فيما يلي:
اثقال كاهل دول الجنوب بالديون الباهظة من اجل التحكم بها لاحقا عندما لا تستطيع تسديد هذه الديون واحيانا لا تستطيع تسديد فوائد الديون او خدماتها كما يقال.. على هذا النحو يسيطر الغرب على العالم كله من الهند الى افريقيا، الى آسيا، الى روسيا، الى اميركا اللاتينية، الى عالم العرب والمسلمين.. على هذا النحو يمسك بخناق الجميع.
لندخل الآن في التفاصيل والاحصائيات والارقام المرعبة. في عام 2003 بلغت ديون اميركا اللاتينية (790) مليار دولار. وبلغت خدمات هذه الديون او فوائدها التي هي مجبرة على دفعها كل سنة: (134) مليار دولار. فماذا يتبقى لها من اجل التنمية ورفع مستوى شعوبها؟
اما ديون الشرق الاوسط وافريقيا الشمالية (اي العالم العربي في الواقع) فقد بلغت (320) مليار دولار في نفس السنة. وخدمتها تبلغ سنويا (42) مليار دولار. فماذا تبقى لنا اذن لكي نصرفه على التنمية او حتى شراء رغيف الخبز؟ ماذا تركوا لنا؟ على هذا النحو يتحكمون بالانظمة والشعوب والرؤساء والوزراء.
والفساد المستشري في بلدان الجنوب يزيد الطين بلّة ويؤدي الى افقار الشعب اكثر فأكثر. نقول ذلك وبخاصة ان الطبقة الكومبرادورية، اي البورجوازية المحلية العميلة، تضع اولادها وعائلاتها في الخارج تحسبا لحصول اضطرابات في الداخل او ثورة شعبية. وبالتالي فهي لا تخشى على اطفالها الذين يتعلمون في احسن مدارس سويسرا وفرنسا والذين حولت لهم اموال من دم الشعب، اموال لا تحرقها النيران.
ما الحل؟ ما العمل؟ على هذا السؤال يجيب المفكر السويسري الكبير قائلا بكلمة واحدة او كلمتين: شطب الديون. نعم، شطب ديون العالم الثالث كلها دفعة واحدة من اجل جعله قادرا على تحقيق التنمية والخروج من الفقر المدقع والجوع.
وليس صحيحا ان النظام المصرفي العالمي سوف يختل اذا ما اتخذ هذا القرار. ليس صحيحا على الاطلاق، ولكن ارباب الغرب ومديريّ شركاته الرأسمالية العملاقة لا يريدون ذلك لكي يظلوا قابضين على خناق الشعوب. فالاقطاعي لكي يخُضع الفلاح ينبغي ان يجوعه او يعيّشه على حافة الجوع باستمرار. عندئذ يركع امامه ويستسلم له ويقبل يده. وهذا ما يفعله الاقطاعيون الجدد حاليا بالعالم كله. انهم يثقلونه بالديون ويجوعونه بطريقة ناعمة شديدة الديبلوماسية والخبث.
هل نعلم ان كل خمس ثوان يموت طفل من الجوع في العالم الثالث، عالم الجنوب؟ كل خمس ثوان فقط. فكم يموت اذن كل دقيقة، او كل ساعة، او كل يوم، او كل شهر، او بالسنة كلها، احسبوا.. وكم يموت من الكبار ايضا؟ فالجوع لا يصيب الاطفال فقط.
هناك مجزرة رهيبة تحصل يوميا، هناك جريمة ترتكب ضد الانسانية ولا احد يتجرأ على رفع صوته متهما المسؤول الحقيقي عن الجريمة، ولهذا السبب فإن المؤلف يتهم النظام الاقتصادي العالمي السائد حاليا بأنه آكل لحوم البشر بالمعنى الحرفي للكلمة. انه نظام مجرم. ومن يقف على رأس هذا النظام او يسمح به؟ الغرب الحضاري العظيم؟
ولهذا السبب فإن المؤلف يدعو الى تنوير جديد بعد ان انحرف الغرب عن التنوير السابق: اي عن مبادئ جان جاك روسو وايمانويل كانط. انه يدعو الى ثورة فرنسية جديدة، ولكن بحجم العالم هذه المرة وليس فقط بحجم فرنسا لكي تسقط رؤوس الطغيان والاستكبار العالمي المتمثلة بالطبقة الاقطاعية الجديدة. فهذه الطبقة التي فقدت كل ضمير او احساس انساني، اصبحت خطرا على الحضارة والبشرية بأسرها. ولكن مقاومة هذا النظام العالمي لن تكون على طريقة «القاعدة» والارهاب الاعمى. فهذا يعني الانتقال من بربرية الى بربرية اخرى: اي من بربرية الرأسمالية الى بربرية الاصولية. وهذا ما لا يريده جان زيغلير بأي شكل. انه يريد مقاومة من نوع جديد، مقاومة قائمة على فلسفة انسانية واسعة تشمل كل البشر وتتعاطف مع آلامهم وعذاباتهم اينما كانوا. وكما ان فلاسفة التنوير في القرن الثامن عشر استطاعوا اسقاط الطبقة الاقطاعية القديمة، فإن مفكري التنوير الجديد سوف يسقطون الطبقة الاقطاعية الجديدة مهما بلغت قوتها الاخطبوطية وجبروتها. وقد ابتدأ ذلك على يد الحركات النضالية والانسانية المضادة للعولمة الرأسمالية والتي تنزل الى الشوارع بالملايين في جنوة بايطاليا، او في جنيف، او لندن، او سياتل او غيرها من عواصم العالم.