فاطمي
05-15-2005, 12:05 AM
القبس تطير إلى المهبط العسكري الأميركي في المدينة
مقاتلون اشتركوا في معارك الفلوجة يديرون معارك القائم والأميركيون يحشدون قوة عسكرية أكبر مما استخدم لإسقاط النظام
القائم - د. جمال حسين:
انها المعركة الثانية الكبرى التي تخوضها القوات الأميركية في العراق بعد الفلوجة. وإن كانت الأخيرة قد أخذت بعدا إعلاميا - سياسيا ونفسيا ودينيا - اجتماعيا في المدونة الأميركية في العراق، فأن معارك القائم الراهنة التي تنافس حدتها ما حصل في الفلوجة، بل تتفوق عليها في القدرة النارية وتلافي الأخطاء من قبل الطرفين وزيادة خبرتهما على السواء، ستسلك أنفاقا مختلفة لغرض تدوينها في ذاكرة الحرب العصية للغاية بين طرفين غير متساويين في الأوزان والأطوال.
تسلل بالحسنى
أصبح أمرا مألوفا في كل العمليات وحتى في غضون تنفيذ قواتهم مداهمة عادية، اختيارهم لمراسل واحد أو اثنين على الأكثر وسماحهم له بتغطية الأنباء التي يرونها مناسبة. ولم تكن معارك القائم الدائرة رحاها الآن خارجة عن التصرف الذي بات تقليدا أمريكيا، اعتادوا عليه منذ الحرب ضد طالبان.
وكان أفضل الطرق وأخطرها أن تلغي الطريق وتطير على تلك المساحات الهائلة والمجدبة، بانتفاضة تلقائية ومجربة، مصحوبا بمزيد من الكذب والادعاء المنظم لتعلن عن نفسك بأي طريقة وصفة، مهما كانت، فقط لا تذكر بأنك صحافي.
الوصول الى حدود المعارك المنتشرة في القائم وأطرافها والقرى والبلدات المحيطة بها، أفاريز دوارة تصل بك من جوف الطائرة العسكرية الى محيط القاعدة الميدانية، لتبصر ما هو أظل ّ من الشبح، وأقرب الى الحقيقة، في لعبة صياغتها الآن ستنهك الكثيرين ممن ساعدونا في اختراق الحزام الأمني الاميركي وستضخم من عبء مسؤولية ليست في محلها، في وقت ينشغل فيه الجميع بمعارك دموية غير رحيمة، لنكتفي في النهاية بإنجاز ما كان متاحا عبر سبر الغور المدرك والمسموع والمشاهد على أن تكون متابعة قص ّ ما جرى على عاتق البديهية والرؤية الحاذقة.
الزورق الطائر
الطائرة الحربية التي نقلتنا تبدو من الداخل كجوف زورق ينقل كل شيء في وقت واحد، فيها نقالات الجرحى وكراتين المياه والعلب المجففة وصحف ومنشورات وصناديق عتاد وستر واقية وأوساخ متعددة المنشأ والأسباب. والعسكريون المرافقون لكل ذلك، لا تبدو عليهم لطمات المعارك ولا غبارها ووجعها، فهؤلاء المراسلون والمرسلون والجوابون طيرانا والناقلون العدة والعدد والعتاد وما يتصفح بين هذا وذاك ممن يمتلك كل شيء في حقيبة واحدة. لذلك تفهم أريحيتهم من هذا الجانب، كونهم جنود الحملات ومنظمي فسحتها ورحابة تبعاتها اللوجستية.
والرحلة، سواء بالذهاب أو الإياب، كانت أكثر من متوترة بسبب اشتعال الصحراء بالمفاجآت وحيازة المسلحين على صواريخ مضادة للطائرات وخاصة المعروفة بالتسمية «ستريلا» التي اعتاد عليها الجنود السابقون وكذلك الضباط في الجيش العراقي المحلول.
وبسبب صواريخ الكتف، كان الطيران واطئا للغاية، وربما وصل أحيانا الى 15 مترا فحسب، كانت كافية لإثارة التوتر والانتباه للطيارين اللذين كانا يقودان هذه العملية المكررة عليهما كثيرا بخطورتها الآخذة بالازدياد بعد سقوط ثلاث طائرات مروحية من نوع آباتشي خلال الايام الماضية.
مفاجآت القائم
المعلومات التي كانت بحوزة القيادة الميدانية الأميركية حول وضع المسلحين في القائم وما حولها كانت غير دقيقة بما يكفي، الأمر الذي تسبب في فشل الاقتحام الأول للمدينة وحتى محاولات متكررة لدخولها والإصرار على دخولها بالطرق الأميركية المعتادة باستخدام المشاة - الآلي المدرع بمساندة المروحيات القتالية.
لم تنجح هذه الطريقة لكون المسلحين استخدموا تكتيك الضرب والكر والفر والاصطياد والتفخيخ والتلغيم والقنص، زد على ذلك امتلاكهم قوة نارية لا بأس بها والقاذفات المضادة للدروع والأغرب من كل ذلك راجمات الصواريخ ذاتية الحركة من الطراز السوفيتي «غراد» و «كاتيوشا» التي يمتلك الجيش العراقي منها وكذلك السوري!
والسؤال الحتمي الذي مهد له ظهور راجمات الصواريخ في تلك البقعة النائية هو كيفية وصول هذا النوع من المدفعية الفعالة، وإذا كانوا قد احتفظوا بها من بقايا ومخلفات أسلحة الجيش، فكيف تيسر لهم الاحتفاظ بها في بلدة مفتوحة غير معقدة العمران طوال سنتين من انصراف الجيش؟
والثالثة يمكن حصرها في التخطيط ونجاح المسلحين المحليين والعرب في تطويع نهر الفرات واستغلاله وإشراكه في المشاجرة مع الأميركيين في تكتيك متقدم جدا باستغلال النهر وتفرعاته وكذلك المرتفعات الصحراوية التي تعاند في اختراقها المدرعات المهاجمة.
وكانت «حرب الجسور» في مناطق الباخور والعبيدي وحصيبة والباروز والكرايلة واحدة من أهم العثرات التي قدر على الأميركيين الوقوع فيها في المعركة الراهنة، بعد أن وجدوا أنفسهم في محيط مغلق بمنطقة تشبه الجزيرة وحتى المحليون يسمونها «جزرة الفرات» التي تنتهك فيها مناورة الدبابات وعربات المشاة الآلية وتبعدها أحيانا عن مهامها الأساسية.
ويعني ذلك، إمكانية هذه المجموعات وطول ذراعها وسعة شبكتها التي أتاحت لها ما يسميه العسكريون «ضرب العدو من الخلف» وإعاقة وضعه التعبوي ـ اللوجستي وتعكير طرق إمداداته، وإلحاق خسائر به.
التكتيك الأميركي
بعد اليوم الثالث من معارك القائم استبدل الأميركان تكتيكهم في محاصرة المدينة من الشمال والشرق والجنوب وتقدمهم المدرع البطيء، بأسلوب وجدوه أكثر فائدة لهم من حيث الاقتصاد بالوقت والخسائر البشرية، وهو ما يعرف بتكتيك «الضفدع النطاط»، أي الإنزال والقفز بإنزال آخر على التعاقب في مناطق مختلفة وعزل الجيوب المقاومة تمهيدا لتدميرها وتحقيق التقدم على أكثر من جبهة في آن واحد.
والثاني كما ذكرناه استبدال التغطية الجوية بقاصفات الفانتوم المؤثرة، وهذا أدى الى انسحاب المسلحين من مركز القائم، وكما يقولون «للحفاظ على سلامة المدنيين الذين يكتظ بهم المركز»، الأمر الذي سمح لدخول القوات الأميركية وسيطرتها على قائمقامية القائم ومستشفى القضاء وبعض المنشآت الحكومية فيه.
لذلك تنحصر المعارك الآن ليس في مركز القائم، بل في القرى والبلدات التي انسحب إليها المسلحون مع بقاء قسم من «انتحارييهم» في القائم نفسها لتنفيذ عمليات من وقت لآخر وتلغيم الطرق بغية إزعاج القوات الأميركية وتنغيص سلاسة حركتها وجعلها في توتر نفسي دائم وعدم إعطائها أي فرصة لاسترداد الأنفاس، وهو بالمناسبة أسلوب أميركي استعاره المسلحون.
وللتغلب على قلة المعلومات عما يدور في القرى والضواحي المكتظة بالسكان، وتداريا لما حصل للمخبرين الخاصين للأميركيين من إعدام على أيدي المسلحين، يسيـّر الأميركيون طائرات التجسس بدون طيار على مدار الساعة في أجواء المنطقة، وهذا أسلوب مساعد، لكنه غير مجد في حالة معركة القائم، لكون المجموعات المسلحة منصهرة مع المدنيين وليست لديها مواقع ثابتة، فما أن تعود الطائرات وتحلل معلوماتها بعد ثلاث ساعات على الأقل من وصولها الى القيادة الميدانية، يكون المسلحون المحترفون للغاية قد غادروا أماكنهم ومواقعهم ببساطة.
مؤشرات القائم
أخطأ الأميركيون بالواقعة نفسها التي أدت الى فشلهم الأول في الفلوجة مطلع أبريل 2004 حين أعادوا السيناريو نفسه : محاصرة المدينة، إبطال الحياة فيها، القصف المكثف، القنص من بعد، الزحف باستخدام المشاة الآلي المدرع ومن ثم تمشيط المدينة بيتاً بيتا.
والمؤشر الثاني هو أن الذين يقودون المجموعات المسلحة في القائم هم ذاتهم الذين حاربوا الأميركيين في الفلوجة باسترجاعهم الأساليب نفسها مع تطور واضح لقدراتهم التسليحية. ويبدو أن القائمين على دعم حركة القائم الحالية، استفادوا من النقص الذي حصل في الفلوجة وتداعوا بكل ما أوتوا من إمكانيات لتجاوزه هذه المرة.
أما المؤشر الثالث، فيتعلق بجزء كبير منه بتداعيات ما حصل في الفلوجة أيضا، فالذين يقاومون حتى الموت في القائم الآن، يدركون جيدا أن ليس أمامهم خيار آخر غيره، وهذا خطأ المهاجم القوي الدائم تقريبا، عندما لا يترك مسلكا أو فسحة وخيار قد يتخذه المقاتلون في لحظة يأس أو ضعف لكي يفروا. ففرض الطوق الكامل ليس دائما من صالح المهاجم الذي سيضطر لملاقاة ومجابهة عدو ميت لا محالة ولا تفرق لديه كيف يموت.
الرابع من المؤشرات غير المواتية، مرتبط بالفلوجة ومدينة الصدر وإلى حد ما بالنجف وتجارب مماثلة أخرى في حرب المدن العراقية المختلفة، وينحصر في بطلان الوعود الأميركية والعراقية الرسمية في تعويض المدنيين عن الأضرار التي ألحقت بهم جراء المجابهات المسلحة داخل المدينة، وكذلك عدم تنفيذ مخططات إعادة إعمارها.
أفشل المؤشر الكريه هذا مصداقية الطرف المهاجم، وحوله الى أداة للتدمير فحسب، الأمر الذي جعل الناس أو بعضهم لاسيما الواقعين بتأثير هذه التجارب التي يذكر الخطباء بها عادة في المساجد، الى المساعدة والتكاتف مع المسلحين، بإضافة مؤشر خامس أكثر إزعاجاً مما سبق وهو حملات الاعتقالات العشوائية وما يسفر عنها من ربط سيكولوجي بفضائح السجون الأميركية.
شعور المسلح والمواطن العادي أحيانا وأقربائه، وقراءته للمؤشرات أعلاه، وبما سيصيبه في المعتقل وما سيحل ببيته وأهله ومدينته، يقربه من خيار القتال حتى الموت أكثر وهذا الذي يصعب مهمة الأميركيين الآن في القائم.
محرمات
في المهبط العسكري الذي رابطنا فيه، لم تكن أنباء إشاعات استخدام القوات الأميركية لأسلحة محظورة خافية، وكانت حديث القوات العراقية والمترجمين والعاملين الآخرين هناك.
فقد كان أفراد من الحرس الوطني متخوفين من استخدام العنقودي وحاوياته الرهيبة وكذلك غاز الأعصاب لعدم تهيئتهم لمجابهته، فإشارة مسؤولين في وزارة الصحة العراقية إلى إصابات تلقوا تقارير بشأنها من مستشفى القائم دفعتهم لتوجيه نداء الى القيادة الأميركية طلبوا فيها توضيح ماهية هذه الأنباء والتحذير من استخدام هذا النوع من الأسلحة في منطقة يكثر فيها المدنيون. وقد تكون هذه جزءاً من أساليب الحرب النفسية للضغط على القوات المهاجمة كما جرى الأمر في الفلوجة سابقا، لكن استبعاد ذلك لا يتوافق مع من يفهم الأميركيين وردود فعلهم في حالة وقوع خسائر كثيرة لهم في الأرواح والمعدات في فترة وجيزة.
وكما جرت الأعراف الأميركية في اقتحام مسلح لمدينة مسلحة، فقد قطعوا عن القائم وضواحيها كل مصادر الحياة كالماء والكهرباء والمواد الغذائية بغية إنهاك المجموعات المسلحة فيها الذين استعدوا بدورهم لهذه المناسبة بالتزود الكافي من وقود المولدات الكهربائية وبخزن الخضر والفواكه والمعلبات.
مقاتلون اشتركوا في معارك الفلوجة يديرون معارك القائم والأميركيون يحشدون قوة عسكرية أكبر مما استخدم لإسقاط النظام
القائم - د. جمال حسين:
انها المعركة الثانية الكبرى التي تخوضها القوات الأميركية في العراق بعد الفلوجة. وإن كانت الأخيرة قد أخذت بعدا إعلاميا - سياسيا ونفسيا ودينيا - اجتماعيا في المدونة الأميركية في العراق، فأن معارك القائم الراهنة التي تنافس حدتها ما حصل في الفلوجة، بل تتفوق عليها في القدرة النارية وتلافي الأخطاء من قبل الطرفين وزيادة خبرتهما على السواء، ستسلك أنفاقا مختلفة لغرض تدوينها في ذاكرة الحرب العصية للغاية بين طرفين غير متساويين في الأوزان والأطوال.
تسلل بالحسنى
أصبح أمرا مألوفا في كل العمليات وحتى في غضون تنفيذ قواتهم مداهمة عادية، اختيارهم لمراسل واحد أو اثنين على الأكثر وسماحهم له بتغطية الأنباء التي يرونها مناسبة. ولم تكن معارك القائم الدائرة رحاها الآن خارجة عن التصرف الذي بات تقليدا أمريكيا، اعتادوا عليه منذ الحرب ضد طالبان.
وكان أفضل الطرق وأخطرها أن تلغي الطريق وتطير على تلك المساحات الهائلة والمجدبة، بانتفاضة تلقائية ومجربة، مصحوبا بمزيد من الكذب والادعاء المنظم لتعلن عن نفسك بأي طريقة وصفة، مهما كانت، فقط لا تذكر بأنك صحافي.
الوصول الى حدود المعارك المنتشرة في القائم وأطرافها والقرى والبلدات المحيطة بها، أفاريز دوارة تصل بك من جوف الطائرة العسكرية الى محيط القاعدة الميدانية، لتبصر ما هو أظل ّ من الشبح، وأقرب الى الحقيقة، في لعبة صياغتها الآن ستنهك الكثيرين ممن ساعدونا في اختراق الحزام الأمني الاميركي وستضخم من عبء مسؤولية ليست في محلها، في وقت ينشغل فيه الجميع بمعارك دموية غير رحيمة، لنكتفي في النهاية بإنجاز ما كان متاحا عبر سبر الغور المدرك والمسموع والمشاهد على أن تكون متابعة قص ّ ما جرى على عاتق البديهية والرؤية الحاذقة.
الزورق الطائر
الطائرة الحربية التي نقلتنا تبدو من الداخل كجوف زورق ينقل كل شيء في وقت واحد، فيها نقالات الجرحى وكراتين المياه والعلب المجففة وصحف ومنشورات وصناديق عتاد وستر واقية وأوساخ متعددة المنشأ والأسباب. والعسكريون المرافقون لكل ذلك، لا تبدو عليهم لطمات المعارك ولا غبارها ووجعها، فهؤلاء المراسلون والمرسلون والجوابون طيرانا والناقلون العدة والعدد والعتاد وما يتصفح بين هذا وذاك ممن يمتلك كل شيء في حقيبة واحدة. لذلك تفهم أريحيتهم من هذا الجانب، كونهم جنود الحملات ومنظمي فسحتها ورحابة تبعاتها اللوجستية.
والرحلة، سواء بالذهاب أو الإياب، كانت أكثر من متوترة بسبب اشتعال الصحراء بالمفاجآت وحيازة المسلحين على صواريخ مضادة للطائرات وخاصة المعروفة بالتسمية «ستريلا» التي اعتاد عليها الجنود السابقون وكذلك الضباط في الجيش العراقي المحلول.
وبسبب صواريخ الكتف، كان الطيران واطئا للغاية، وربما وصل أحيانا الى 15 مترا فحسب، كانت كافية لإثارة التوتر والانتباه للطيارين اللذين كانا يقودان هذه العملية المكررة عليهما كثيرا بخطورتها الآخذة بالازدياد بعد سقوط ثلاث طائرات مروحية من نوع آباتشي خلال الايام الماضية.
مفاجآت القائم
المعلومات التي كانت بحوزة القيادة الميدانية الأميركية حول وضع المسلحين في القائم وما حولها كانت غير دقيقة بما يكفي، الأمر الذي تسبب في فشل الاقتحام الأول للمدينة وحتى محاولات متكررة لدخولها والإصرار على دخولها بالطرق الأميركية المعتادة باستخدام المشاة - الآلي المدرع بمساندة المروحيات القتالية.
لم تنجح هذه الطريقة لكون المسلحين استخدموا تكتيك الضرب والكر والفر والاصطياد والتفخيخ والتلغيم والقنص، زد على ذلك امتلاكهم قوة نارية لا بأس بها والقاذفات المضادة للدروع والأغرب من كل ذلك راجمات الصواريخ ذاتية الحركة من الطراز السوفيتي «غراد» و «كاتيوشا» التي يمتلك الجيش العراقي منها وكذلك السوري!
والسؤال الحتمي الذي مهد له ظهور راجمات الصواريخ في تلك البقعة النائية هو كيفية وصول هذا النوع من المدفعية الفعالة، وإذا كانوا قد احتفظوا بها من بقايا ومخلفات أسلحة الجيش، فكيف تيسر لهم الاحتفاظ بها في بلدة مفتوحة غير معقدة العمران طوال سنتين من انصراف الجيش؟
والثالثة يمكن حصرها في التخطيط ونجاح المسلحين المحليين والعرب في تطويع نهر الفرات واستغلاله وإشراكه في المشاجرة مع الأميركيين في تكتيك متقدم جدا باستغلال النهر وتفرعاته وكذلك المرتفعات الصحراوية التي تعاند في اختراقها المدرعات المهاجمة.
وكانت «حرب الجسور» في مناطق الباخور والعبيدي وحصيبة والباروز والكرايلة واحدة من أهم العثرات التي قدر على الأميركيين الوقوع فيها في المعركة الراهنة، بعد أن وجدوا أنفسهم في محيط مغلق بمنطقة تشبه الجزيرة وحتى المحليون يسمونها «جزرة الفرات» التي تنتهك فيها مناورة الدبابات وعربات المشاة الآلية وتبعدها أحيانا عن مهامها الأساسية.
ويعني ذلك، إمكانية هذه المجموعات وطول ذراعها وسعة شبكتها التي أتاحت لها ما يسميه العسكريون «ضرب العدو من الخلف» وإعاقة وضعه التعبوي ـ اللوجستي وتعكير طرق إمداداته، وإلحاق خسائر به.
التكتيك الأميركي
بعد اليوم الثالث من معارك القائم استبدل الأميركان تكتيكهم في محاصرة المدينة من الشمال والشرق والجنوب وتقدمهم المدرع البطيء، بأسلوب وجدوه أكثر فائدة لهم من حيث الاقتصاد بالوقت والخسائر البشرية، وهو ما يعرف بتكتيك «الضفدع النطاط»، أي الإنزال والقفز بإنزال آخر على التعاقب في مناطق مختلفة وعزل الجيوب المقاومة تمهيدا لتدميرها وتحقيق التقدم على أكثر من جبهة في آن واحد.
والثاني كما ذكرناه استبدال التغطية الجوية بقاصفات الفانتوم المؤثرة، وهذا أدى الى انسحاب المسلحين من مركز القائم، وكما يقولون «للحفاظ على سلامة المدنيين الذين يكتظ بهم المركز»، الأمر الذي سمح لدخول القوات الأميركية وسيطرتها على قائمقامية القائم ومستشفى القضاء وبعض المنشآت الحكومية فيه.
لذلك تنحصر المعارك الآن ليس في مركز القائم، بل في القرى والبلدات التي انسحب إليها المسلحون مع بقاء قسم من «انتحارييهم» في القائم نفسها لتنفيذ عمليات من وقت لآخر وتلغيم الطرق بغية إزعاج القوات الأميركية وتنغيص سلاسة حركتها وجعلها في توتر نفسي دائم وعدم إعطائها أي فرصة لاسترداد الأنفاس، وهو بالمناسبة أسلوب أميركي استعاره المسلحون.
وللتغلب على قلة المعلومات عما يدور في القرى والضواحي المكتظة بالسكان، وتداريا لما حصل للمخبرين الخاصين للأميركيين من إعدام على أيدي المسلحين، يسيـّر الأميركيون طائرات التجسس بدون طيار على مدار الساعة في أجواء المنطقة، وهذا أسلوب مساعد، لكنه غير مجد في حالة معركة القائم، لكون المجموعات المسلحة منصهرة مع المدنيين وليست لديها مواقع ثابتة، فما أن تعود الطائرات وتحلل معلوماتها بعد ثلاث ساعات على الأقل من وصولها الى القيادة الميدانية، يكون المسلحون المحترفون للغاية قد غادروا أماكنهم ومواقعهم ببساطة.
مؤشرات القائم
أخطأ الأميركيون بالواقعة نفسها التي أدت الى فشلهم الأول في الفلوجة مطلع أبريل 2004 حين أعادوا السيناريو نفسه : محاصرة المدينة، إبطال الحياة فيها، القصف المكثف، القنص من بعد، الزحف باستخدام المشاة الآلي المدرع ومن ثم تمشيط المدينة بيتاً بيتا.
والمؤشر الثاني هو أن الذين يقودون المجموعات المسلحة في القائم هم ذاتهم الذين حاربوا الأميركيين في الفلوجة باسترجاعهم الأساليب نفسها مع تطور واضح لقدراتهم التسليحية. ويبدو أن القائمين على دعم حركة القائم الحالية، استفادوا من النقص الذي حصل في الفلوجة وتداعوا بكل ما أوتوا من إمكانيات لتجاوزه هذه المرة.
أما المؤشر الثالث، فيتعلق بجزء كبير منه بتداعيات ما حصل في الفلوجة أيضا، فالذين يقاومون حتى الموت في القائم الآن، يدركون جيدا أن ليس أمامهم خيار آخر غيره، وهذا خطأ المهاجم القوي الدائم تقريبا، عندما لا يترك مسلكا أو فسحة وخيار قد يتخذه المقاتلون في لحظة يأس أو ضعف لكي يفروا. ففرض الطوق الكامل ليس دائما من صالح المهاجم الذي سيضطر لملاقاة ومجابهة عدو ميت لا محالة ولا تفرق لديه كيف يموت.
الرابع من المؤشرات غير المواتية، مرتبط بالفلوجة ومدينة الصدر وإلى حد ما بالنجف وتجارب مماثلة أخرى في حرب المدن العراقية المختلفة، وينحصر في بطلان الوعود الأميركية والعراقية الرسمية في تعويض المدنيين عن الأضرار التي ألحقت بهم جراء المجابهات المسلحة داخل المدينة، وكذلك عدم تنفيذ مخططات إعادة إعمارها.
أفشل المؤشر الكريه هذا مصداقية الطرف المهاجم، وحوله الى أداة للتدمير فحسب، الأمر الذي جعل الناس أو بعضهم لاسيما الواقعين بتأثير هذه التجارب التي يذكر الخطباء بها عادة في المساجد، الى المساعدة والتكاتف مع المسلحين، بإضافة مؤشر خامس أكثر إزعاجاً مما سبق وهو حملات الاعتقالات العشوائية وما يسفر عنها من ربط سيكولوجي بفضائح السجون الأميركية.
شعور المسلح والمواطن العادي أحيانا وأقربائه، وقراءته للمؤشرات أعلاه، وبما سيصيبه في المعتقل وما سيحل ببيته وأهله ومدينته، يقربه من خيار القتال حتى الموت أكثر وهذا الذي يصعب مهمة الأميركيين الآن في القائم.
محرمات
في المهبط العسكري الذي رابطنا فيه، لم تكن أنباء إشاعات استخدام القوات الأميركية لأسلحة محظورة خافية، وكانت حديث القوات العراقية والمترجمين والعاملين الآخرين هناك.
فقد كان أفراد من الحرس الوطني متخوفين من استخدام العنقودي وحاوياته الرهيبة وكذلك غاز الأعصاب لعدم تهيئتهم لمجابهته، فإشارة مسؤولين في وزارة الصحة العراقية إلى إصابات تلقوا تقارير بشأنها من مستشفى القائم دفعتهم لتوجيه نداء الى القيادة الأميركية طلبوا فيها توضيح ماهية هذه الأنباء والتحذير من استخدام هذا النوع من الأسلحة في منطقة يكثر فيها المدنيون. وقد تكون هذه جزءاً من أساليب الحرب النفسية للضغط على القوات المهاجمة كما جرى الأمر في الفلوجة سابقا، لكن استبعاد ذلك لا يتوافق مع من يفهم الأميركيين وردود فعلهم في حالة وقوع خسائر كثيرة لهم في الأرواح والمعدات في فترة وجيزة.
وكما جرت الأعراف الأميركية في اقتحام مسلح لمدينة مسلحة، فقد قطعوا عن القائم وضواحيها كل مصادر الحياة كالماء والكهرباء والمواد الغذائية بغية إنهاك المجموعات المسلحة فيها الذين استعدوا بدورهم لهذه المناسبة بالتزود الكافي من وقود المولدات الكهربائية وبخزن الخضر والفواكه والمعلبات.