المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المهدى المنتظر عند الشيعة الإثنى عشرية



مجاهدون
05-12-2005, 06:35 AM
http://www.asharqalawsat.com/2005/05/12/images/books.298760.jpg


البحث في تاريخ دولة العقيدة السرية

نشر رسالة جواد علي لنيل شهادة الدكتوراه

رشيد الخيُّون

قد يتساءل قارئ كتاب «المهدي المنتظر»: لماذا ترك جواد علي كتابه القيم هذا غائباً عن المكتبة العربية كل هذه الفترة؟

وببساطة ان هذا الكتاب يحمل إشكاليتين بالنسبة للمؤلف: الأولى، أن السلطات العراقية السابقة لا تتحمل نشر مثل هذا الموضوع المذهبي الحساس. والثانية، تتعلق بالشيعة أنفسهم. مع ان المؤلف كان شيعياً من أهالي مدينة الكاظمية، وما سيتحمله من سخط الخواص قبل العوام. كانت تجربة الباحث في علم الاجتماع علي الوردي، وهو كاظمي وشيعي أيضاً، حيةً في ذهن جواد علي، عندما هاجمه رجال الدين، وحرّضوا العوام ضده، ووصفوه أنه «يدس السم بالعسل». وجواد علي ليس مواجهاً أو مغامراً كعلي الوردي، لذا أخفى كتابه المذكور عن الأوساط العربية، مثله مثل معروف الرصافي، الذي أوصى أن لا يُتصرف بكتابه «الشخصية المحمدية»، إلا بعد وفاته. ولو ترجمه بنفسه لأضاف له ما أضاف، وأخرجه خالياً من الأخطاء، مع ما بذله المترجم أبو العيد دودو، من جهد كبير للتغلب عليها، فمادة الكتاب ملأى بالأحداث والأسماء والمصطلحات المتشابكة.

تتبع جواد علي في كتابه فكرة الإمامة عند الشيعة الاثنى عشرية، من الناحية التاريخية والعقائدية، لا من الناحية الدينية. وقد جعل الشيعة الإمامة أصلاً من أُصول الدين، بعد التوحيد، والعدل، والنبوة، والمعاد. وتتجسد، بعد النبوة، في اثني عشر إماماً. الأول علي بن أبي طالب والأخير هو محمد بن الحسن العسكري المهدي، المختفي طوال هذه القرون، ينتظر الأتباع ظهوره من جيل إلى جيل. والمعلوم أن الشيعة لم يحتكروا فكرة المهدي، فهي فكرة إسلامية عامة، وردت فيها أحاديث، لا يُختلف حول موضوعها بقدر ما يُختلف حول صياغاتها، فهو عندهم مشخص بشخص مسمى. كذلك لم تبق فكرة الأمل وتجديد العدل والقسط محتكراً على المسلمين، بل لكل دين من الأديان مهديه المؤمل.

قصة غياب المهدي وانتظاره هي قصة كيان سياسي لا يخطأ جواد علي إذ اعتبره «بمثابة دولة داخل دولة»، يترأسها الإمام ويديرها نوابه. وبعد غيبته ترأسها السفراء الأربعة، ثم نوابهم، ثم علماء الدين المجتهدون. ومَنْ يدقق في تفاصيل المرجعيات الشيعية، وهيمنتها على الأتباع، يجد الدولة السرية ما زالت قائمة حتى يومنا هذا، لكن بآليات أخرى، في عاصمتي المذهب النجف وقم. وكم نشأت دول علنية، بقوة السيف، واضمحلت بقوة السيف أيضاً، بداية من العهد الأموي والعباسي، حتى المغولي والعثماني. إلا أن دولة العقيدة والفكر ظلت قائمة، ومتوارثة بهدوء. أعدت رئاسة تلك الدولة العدة لسريتها. لذا فهي لا تتأثر بالمتغيرات أوان نشوء وسقوط الدول الدنيوية المصاحبة.

تمكنت تلك الدولة السرية من مراوغة السلطات، ذلك بعدم الاطمئنان لإجراءات الخلفاء والوزراء في التقرب من الشيعة، فليس هناك حدث أكثر قرباً من الدولة عندما عهد عبد الله المأمون بولاية العهد إلى الإمام الشيعي الثأمن علي بن موسى الرضا. ومع ذلك لم يكشف الشيعة عن تلك المؤسسة السرية، ولم يتعاط مؤرخوها وإخباريوها مع الحدث بتفاؤل، بل أول المتهمين لديهم بقتل الرضا هو المأمون نفسه. أسفر هذا الحذر والترقب، بل الحرب المستمرة بين الشيعة والدولة العباسية، عن قوة تنظيم شيعية، وعن قوة مخابراتية لدى الدولة، تراقب وتلاحق التنظيمات الشيعية، وتختلق الأعذار للوصول إلى حقيقة صلتها بالإمام. ولهذا دفعت الخلافة العباسية الأئمة، بعد محمد الباقر، إلى الإقامة ببغداد أو بسامراء، فهناك ببغداد ضريح موسى الكاظم وحفيده محمد الجواد، وبسامراء ضريح علي الهادي وولده الحسن العسكري، وما عُرف بسرداب الغيبة، الذي يعتقد جمهور من الشيعة أن المهدي غاب منه، وهو مكان يُزار مثل باقي الأمكنة المقدسة لدى الطائفة الشيعية. ويكشف جواد علي أن حكاية السرداب بعيدة عن فعل الغياب أو الاستتار، بل ان التبرك به أتى كونه كان جزءاً من دار الإمام الحسن العسكري. ولم يحدث أن أجبرت الدولة الأموية أئمة الشيعة من قبل على الإقامة بدمشق، والسبب يتعلق بالتنظيم الشيعي نفسه. فأتباع الحسين بن علي كانوا بالكوفة، ولم يكن له تنظيم سري. أما ولده علي بن الحسين، وحفيده محمد الباقر، فمالا إلى التقية، التي كانت سبباً في استمرارية التنظيم الشيعي، وإلا لأنهكتها الحروب مع الدولة الرسمية.

يأتي جواد علي بتفسير منطقي، إلى حد ما، لظاهرة انشقاق التنظيمات الشيعية عقب وفاة أو قتل الأئمة، يتعلق بالأموال التي تُجبى باسم الإمام المتوفى، وهي أموال الخمس، وتبرعات الأتباع الأخرى. قال: «ثمة عناصر لا تحصى استغلت هذه الظروف للقيام باختلاس الأموال، وامتلاكها بطرق غير شرعية، ولم يكن للإمام في هذه الحالات حول ولا قوة. لأنه لم يكن يستطيع الالتجاء إلى الأجهزة العدلية الحكومية. ولو انه فعل ذلك لتم اعتقاله هو نفسه» (ص 16). وقد أورد كتاب «فرق الشيعة»، لأبي محمد الحسن بن موسى النوبختي (حوالي 300 هـ)، العديد من الفرق المشككة أو المكذبة بوفاة أو قتل العديد من الأئمة، وتعلنهم مهديين موعودين. ففرقة أعلنت أبا عبد الله جعفر الصادق (ت 148 هـ)، الذي دامت إمامته أربعة وثلاثين عاماً، أنه حي غائب، وأنه المهدي، وعرفت هذه الفرقة، حسب النوبختي، بالناووسية، نسبة إلى صاحب مقالتها عجلان بن ناووس البصري، ويُعزى أكثر الشقاق عقب وفاة الإمام جعفر الصادق إلى رسوخ الإمامة ولاتفاق الشيعة حوله، بعد فشل حركة عمه زيد بن علي، وأبناء عمومته محمد النفس الزكية بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وأخيه إبراهيم.

كذلك أعلنت فرقة شيعية الإمام موسى الكاظم (ت 183هـ)، مهدياً بعد وفاته. وعرفت بالواقفة، لأنها أوقفت الإمامة عنده، ولم تعترف لولده علي الرضا بها. كذلك حصل مع وفاة والد المهدي المنتظر الحسن العسكري، بأنه غاب ولم يمت. وبما يتعلق الأمر بالأموال التي تُجبى للإمام من قِبل النواب، ومحاولة اختلاسها بعد وفاته، حتى لا تُسلم إلى خليفته.

ذكر: «جواد علي» كتب الإمام الجديد (الرضا) إلى وكلائه بشأن الأمور، التي كانت لا تزال تنتظر حلولها، أي الأموال التي تمت جبايتها باسم أبيه. «لم يستجب لطلبه الوكيل زياد بن مروان بمبلغ 70000 ألف دينار، كذلك علي بن حمزة بمبلغ 30000، وعثمان بن عيسى الرواسي بنفس المبلغ، إنما نازعوا في شرعية الرضا بدعوى أن الإمام السابق لم يمت، إنما اختفى من العالم، لذلك فهم يحتفظون بالأموال باسم الإمام موسى بن جعفر» (ص 16 عن كتاب الغيبة لشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي). لكن، سلوك هذه الجماعات قد يخص التكتلات الصغيرة والموسمية، ولا يلغي بمكان وجود فرق لها بُعدها الفكري، تطورت في ما بعد إلى تيارات شيعية كبرى، موازية لحضور الشيعة الاثنى عشرية، ما زالت لها حضورها حتى يومنا هذا.

لقد هيأت سرية التنظيم الشيعي الإمامي، من زمن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وحتى الإمام الحادي عشر الحسن العسكري، لقبول فكرة الغيبة. فإمام عصره كان مراقباً وملاحقاً من قبل أجهزة الدولة، ومحجوباً لا يظهر إلا لمواجهة الخليفة، أو أي داعٍ رسمي آخر. ومن أساليب جهاز مخابرات الخلافة، بعث رسائل مزيفة من أتباع وهميين، لأجل ملاحظة التعاطف معها من قبل الإمام، أو المحيطين به من الأتباع. والإمام هو الغائب الحاضر عند الناس، يسمعون به ولا يرونه، وهنا تزداد الحظوة عند الأتباع، وتكثر التفسيرات العجيبة بينهم حول شخصية الإمام. وكل القصص التي ترويها كتب الغيبة، وما اعتمده جواد علي من كتاب «الوصية»، للمؤرخ أبي الحسن المسعودي، تربط بين الحياة السرية للأئمة وبين قبول فكرة الاختفاء أو الغياب.

أعلنت غيبة الإمام الثاني عشر المهدي محمد بن الحسن العسكري سنة 260هـ، وقيل 266هـ. شغلها أربعة سفراء، هم: عثمان بن سعيد العمري، وولده محمد بن عثمان العمري، والحسين بن روح النوبختي، وعلي بن محمد السَّمُّري. وقد دامت سفارة هؤلاء الأربعة 96 عاماً، أي منذ حدوث الغيبة الصغرى حتى وفاة السَّمُّري 326هـ، أو 329هـ. وذكر محمد باقر المجلسي، في «بحار الأنوار»، عددا من السفراء الملفقين، حسب رأي الشيعة، منهم: محمد بن نصير النميري، المنافس لعثمان بن سعيد العمري، ثم ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان، وقد نُعت النميري من قبل السفير الإمامي الثالث ابن روح بالغلو والتحايل بالمحرمات. وتكذيباً للنميري، أطلق الشيعة على عثمان بن سعيد العمري، بالشيخ الموثوق به. والنميري أسس فرقة العلويين، واعتمد فكرة البابية بدلاً من الإمامية، لكن أشد المنافسين للإمام الثاني عشر كان عمه جعفر بن علي الهادي، الذي اتصل بالخليفة العباسي، وطلب الإمامة كخليفة لأخيه الحسن العسكري، وأعطى معلومات عن نساء وأموال أخيه.

اختلف المؤرخون حول ولادة المهدي المنتظر، بل وحول وجوده أيضاً. فمَنْ قال لا عقب للحسن العسكري، لذا ادعى بها أخوه من بعده، فليس من العادة أن يخلف الأخ أخاه في الإمامة، ما عدا ما كان بين الحسين والحسن ابني علي بن أبي طالب. ثم كان الخلاف حول والدته، هل هي الجارية التي دارت حولها الحكايات العجيبة، وهي مليكة بنت يوشوعا ابن القيصر الروماني، وأتتها المنامات المقدسة بآل النبي لتحفظ نفسها حتى تباع في سوق النخاسين، ويشتريها مَنْ يوصلها إلى الإمام الحادي عشر، لتكون أماً للإمام المهدي المنتظر، الذي تعددت أسماؤه، فهو المهدي، وصاحب الزمان، والحجة، وصاحب الأمر. كذلك تعددت، في كتب تاريخ المهدي أسماء والدته، فهي نرجس، وريحانة، وسوزان.

أطنب صاحب الكتاب في تاريخ سفراء ونواب ووكلاء المهدي، فعد منهم العشرات مع التوقيعات، ودور كل واحد منهم في «الدولة السرية»، من تحريك الأتباع إلى جمع الأموال. وقد كشف عن شخصيات مهمة انتهت بأحداث دامية، لهم صلة ما بالتنظيم الشيعي السري، وقد نسبت إليها كتب التاريخ الرسمية، مثل «تاريخ الأمم والملوك» لأبي جعفر الطبري، وغيرها، تهماً مثل الهرطقة والزندقة والخروج على السلطان. فلا أحد يتوقع أن يكون محمد بن علي الشلمغاني (قُتل 322هـ)، وكيلاً للسفير الثالث، ثم منقلباً عليه، وأنه شخصية مهمة بين الشيعة آنذاك. كذلك أن يظهر الحسين بن منصور الحلاج (قُتل 309هـ)، مدعياً السفارة للإمام المهدي، ومنافساً للسفير الثاني والثالث، لكن لا أحد يعلم هل أن السفير الرابع، وهو علي بن محمد السَّمُّري، أصبح رفيقاً للحلاج، وأن ابنة السَّمُّري شهدت ضده في المحكمة، التي أقيمت له زمن المقتدر بالله (راجع التنوخي، مشوار المحاضرة). انتهت الغيبة الصغرى وسط خلافات أثناء وبعد وفاة السفير الرابع، الذي لم يخلف أحد مكانه، وقد رشح البعض سفيراً خامساً، لكنه لم يحظ بالموافقة، لتبدأ الغيبة الكبرى.