مجاهدون
05-10-2005, 06:12 AM
صافيناز كاظم
http://www.asharqalawsat.com/01common/teamimages/331-SafiKazim.gif
لم أعد أفهم شيئا «من» أو «في» أو «عن» العراق العزيز. أنا ما زلت أذكر كلمة قالها جبرا إبراهيم جبرا لي في بيته على الغداء عند وصولي إلى بغداد سبتمبر 1975، قال: «صار لي سنوات بالعراق ولم أفهمه...» ثم ضحك وقال: «لا تحاولي..» لكنني حاولت، وعلى مدى إقامتي، التي استمرت متواصلة من 9/1975 وحتى 29/6/1980، تصورت أنني أحسست العراق أكثر مما فهمته، وقلت إن «الإحساس» يجلب «الفهم» ولكن «الفهم» لا يعطي «الإحساس» بالضرورة. والذي وعيته من «الإحساس» أن هناك بالعراق شعبا «واحدا» هويته الأولى «عراقي»، ضفيرة منسوجة من أمة الإسلام وأمة العرب، خيوطها ملمومة من أقدم الأعراق وأصل العقائد، فليس هناك عرق إنساني لم يدخل في تركيبة العراق، وليس هناك عقيدة إيمانية لم يحملها في قلبه، وكنت أرى ان هذا ما يعطيه التماسك ويحميه من الفرقة والتفرق والتحزب والتعنصر والطائفية، وليس العكس.
كنت أدخل أحاضر طلابي وأقرأ أسماءهم، أمثال «ساوة»، و«باكيزة»، و«روناك»، و«هيفاء»، و«الألوسي»...إلخ ولم أعرف ابدا، ولم أحاول ان أعرف، وقاومت ان أعرف، الصابئي من الآشوري من الكلداني من الكردي من السني من الشيعي من الرعية العثمانية أو الذي من أصل التبعية الإيرانية، كنت أراهم كلهم سمة واحدة، وسحنة واحدة، مزايا واحدة، وعيوبا واحدة، يعتزون بها أيما اعتزاز!
عندما كانوا أحيانا يفصحون عن خلفياتهم التي «أصلها» من هنا أو هناك، كنت أقول: يا جماعة كل هذه الأعراق والأصول عندنا مثلها في مصر، لكنها تذوب فورا خلال أقل من جيل، ولو تأملتم لدينا عائلات بألقاب «الكردي» و«الشيرازي» و«الأصفهاني» و«الكريتلي» و«الصقلي» و«العجمي» و«العربي» و«التونسي» و«العراقي» و«الحجازي» و«النجدي» و«المكي» و«السنوسي»، بل و«الصيني» و«الهندي»، وكان لدينا مقرئ للقرآن الكريم اسمه «منصور الشامي الدمنهوري»، إلى آخر الألقاب التي تنم عن وافدين من كل أصقاع الأرض جاءوا إلى أرض الكنانة، ثم أصبح الجميع مصريا، يرتفع منهم من يرتفع إلى المناصب والمسؤوليات والشهرة الأدبية والثقافية والاجتماعية بصفتهم الوحيدة «مصري»، ولو كان لقبه يشي بأصل وافد، صحيح يمكن أن يقال بشكل عابر: «هو من أصل كذا»، لكن «كذا» لا تعدو كلمة تقال من دون أن تترك أثرا يؤدي إلى حكايات التقسيم والموازنات بين مواطن وآخر، وحينما يريد من يريد أن يختلق تقسيما منحطا مثل «مسلم ومسيحي» يوقف عند حدّه بحزم، وغالبا ما يكون الاختلاق مدفوعا من عدو خارجي نقول عنه إنه «يبتغي الفتنة».
وكنت أقول لماذا يظل النازح عندكم مطاردا بأصله وفصله ولو ظل بالعراق ألف سنة، ولو ظل يقسم أنه عراقي ابن عراقي؟ أظل أمزح وأقول: إن العراقي لا يحتاج إلى تحليل الحامض النووي ـ (الدي إن إيه) ـ لإثبات عراقيته، يكفي أن تضع أمامه ذلك الشلغم المسلوق المنقوع في الدبس ـ (عسل البلح) ـ فإذا استساغه فهو عراقي ابن حلال مصفي، وأراهن ان يتحمل هذه الوجبة الممتعة للعراقي أي إنسان آخر ولو كان من المغامرين، واسألوني أنا عندما خرجت ذات مرة من باب جامعة المستنصرية ووجدت تلك العربة التي يتصاعد من ماعونها البخار، يلتف حولها، على ركن الطريق، الطلاب من كل حدب الجامعة وصوبها، يأكلون ما عليها بشغف وتلذذ، وقفت بينهم: ماذا تأكلون يا شباب؟ قالوا: شلغم
منقوع في الدبس، قلت: لذيذ؟ قالوا: كلّش طيب! تصورته مثل حلاوة البطاطا المشوية في مصر أو مثل الذرة المشوي على الفحم على شاطئ النيل، هاجني الشوق فقلت: أجرب، وما ان وضعت ذلك «الشلغم» ـ الذي هو اللفت المسلوق أبو عسل ـ على طرف لساني حتى كدت أروح في غيبوبة سكتة حلق أو دماغ أو قلب. ضحك الشباب: ست ست إيش بيش؟ قلت في ضعف: «شلغم»!
من أجل ذلك لم ولا أفهم تلك التقسيمات التي تكونت أو تتكون منها الحكومة العراقية، لم ولا أفهم الحاق صفة رئيس العراق بـ «الكردي»، ورئيس الوزراء بـ «الشيعي»، ونائب «سني» ونائب «شيعي»، والله عيب، كيف يوافق أهل العراق على هذه التقسيمات وهو يعلم ـ بحق «الشلغم أبو دبس» ـ أنه صاحب «هوية» ليس له غيرها: «عراقي»، ولو دفعته العواصف والزوابع إلى سكنى الاسكندنافية أو أي مجاهل على الكرة الأرضية من القطب إلى القطب!
http://www.asharqalawsat.com/01common/teamimages/331-SafiKazim.gif
لم أعد أفهم شيئا «من» أو «في» أو «عن» العراق العزيز. أنا ما زلت أذكر كلمة قالها جبرا إبراهيم جبرا لي في بيته على الغداء عند وصولي إلى بغداد سبتمبر 1975، قال: «صار لي سنوات بالعراق ولم أفهمه...» ثم ضحك وقال: «لا تحاولي..» لكنني حاولت، وعلى مدى إقامتي، التي استمرت متواصلة من 9/1975 وحتى 29/6/1980، تصورت أنني أحسست العراق أكثر مما فهمته، وقلت إن «الإحساس» يجلب «الفهم» ولكن «الفهم» لا يعطي «الإحساس» بالضرورة. والذي وعيته من «الإحساس» أن هناك بالعراق شعبا «واحدا» هويته الأولى «عراقي»، ضفيرة منسوجة من أمة الإسلام وأمة العرب، خيوطها ملمومة من أقدم الأعراق وأصل العقائد، فليس هناك عرق إنساني لم يدخل في تركيبة العراق، وليس هناك عقيدة إيمانية لم يحملها في قلبه، وكنت أرى ان هذا ما يعطيه التماسك ويحميه من الفرقة والتفرق والتحزب والتعنصر والطائفية، وليس العكس.
كنت أدخل أحاضر طلابي وأقرأ أسماءهم، أمثال «ساوة»، و«باكيزة»، و«روناك»، و«هيفاء»، و«الألوسي»...إلخ ولم أعرف ابدا، ولم أحاول ان أعرف، وقاومت ان أعرف، الصابئي من الآشوري من الكلداني من الكردي من السني من الشيعي من الرعية العثمانية أو الذي من أصل التبعية الإيرانية، كنت أراهم كلهم سمة واحدة، وسحنة واحدة، مزايا واحدة، وعيوبا واحدة، يعتزون بها أيما اعتزاز!
عندما كانوا أحيانا يفصحون عن خلفياتهم التي «أصلها» من هنا أو هناك، كنت أقول: يا جماعة كل هذه الأعراق والأصول عندنا مثلها في مصر، لكنها تذوب فورا خلال أقل من جيل، ولو تأملتم لدينا عائلات بألقاب «الكردي» و«الشيرازي» و«الأصفهاني» و«الكريتلي» و«الصقلي» و«العجمي» و«العربي» و«التونسي» و«العراقي» و«الحجازي» و«النجدي» و«المكي» و«السنوسي»، بل و«الصيني» و«الهندي»، وكان لدينا مقرئ للقرآن الكريم اسمه «منصور الشامي الدمنهوري»، إلى آخر الألقاب التي تنم عن وافدين من كل أصقاع الأرض جاءوا إلى أرض الكنانة، ثم أصبح الجميع مصريا، يرتفع منهم من يرتفع إلى المناصب والمسؤوليات والشهرة الأدبية والثقافية والاجتماعية بصفتهم الوحيدة «مصري»، ولو كان لقبه يشي بأصل وافد، صحيح يمكن أن يقال بشكل عابر: «هو من أصل كذا»، لكن «كذا» لا تعدو كلمة تقال من دون أن تترك أثرا يؤدي إلى حكايات التقسيم والموازنات بين مواطن وآخر، وحينما يريد من يريد أن يختلق تقسيما منحطا مثل «مسلم ومسيحي» يوقف عند حدّه بحزم، وغالبا ما يكون الاختلاق مدفوعا من عدو خارجي نقول عنه إنه «يبتغي الفتنة».
وكنت أقول لماذا يظل النازح عندكم مطاردا بأصله وفصله ولو ظل بالعراق ألف سنة، ولو ظل يقسم أنه عراقي ابن عراقي؟ أظل أمزح وأقول: إن العراقي لا يحتاج إلى تحليل الحامض النووي ـ (الدي إن إيه) ـ لإثبات عراقيته، يكفي أن تضع أمامه ذلك الشلغم المسلوق المنقوع في الدبس ـ (عسل البلح) ـ فإذا استساغه فهو عراقي ابن حلال مصفي، وأراهن ان يتحمل هذه الوجبة الممتعة للعراقي أي إنسان آخر ولو كان من المغامرين، واسألوني أنا عندما خرجت ذات مرة من باب جامعة المستنصرية ووجدت تلك العربة التي يتصاعد من ماعونها البخار، يلتف حولها، على ركن الطريق، الطلاب من كل حدب الجامعة وصوبها، يأكلون ما عليها بشغف وتلذذ، وقفت بينهم: ماذا تأكلون يا شباب؟ قالوا: شلغم
منقوع في الدبس، قلت: لذيذ؟ قالوا: كلّش طيب! تصورته مثل حلاوة البطاطا المشوية في مصر أو مثل الذرة المشوي على الفحم على شاطئ النيل، هاجني الشوق فقلت: أجرب، وما ان وضعت ذلك «الشلغم» ـ الذي هو اللفت المسلوق أبو عسل ـ على طرف لساني حتى كدت أروح في غيبوبة سكتة حلق أو دماغ أو قلب. ضحك الشباب: ست ست إيش بيش؟ قلت في ضعف: «شلغم»!
من أجل ذلك لم ولا أفهم تلك التقسيمات التي تكونت أو تتكون منها الحكومة العراقية، لم ولا أفهم الحاق صفة رئيس العراق بـ «الكردي»، ورئيس الوزراء بـ «الشيعي»، ونائب «سني» ونائب «شيعي»، والله عيب، كيف يوافق أهل العراق على هذه التقسيمات وهو يعلم ـ بحق «الشلغم أبو دبس» ـ أنه صاحب «هوية» ليس له غيرها: «عراقي»، ولو دفعته العواصف والزوابع إلى سكنى الاسكندنافية أو أي مجاهل على الكرة الأرضية من القطب إلى القطب!