المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفكاهة ليست عبثا



المهدى
05-07-2005, 08:15 AM
الصادق المهدي

قال الإمام علي بن أبي طالب: «إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم».

الإنسان محتاج لعناصر مادية معينة لكي يستمر في الحياة. إنه محتاج للهواء، والماء، والغذاء بكميات معينة وإلا هلك. إن للغذاء نفسه مكونات ينبغي توافرها: الدهنيات، البروتينيات، الفيتامينات والأملاح.

ولكن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. إن القراءة الواعية لحقائق الإنسان تؤكد أن حياته لا تستقر وتزدهر إلا إذا توافرت له عشر حاجات أساسية، هي الحاجات: المادية، والروحية، والخلقية، والعاطفية، والمعرفية، والاجتماعية، والجمالية، والرياضية، والبيئية، والترويحية.

إن النظرة الجزئية للإنسان نظرة هازلة، فإن ركزت على حاجة واحدة فقط وسعيت في توافرها مهملا الحاجات الأخرى فإنك لن تحقق للإنسان استقرارا ولا سعادة بل ستخلق له تطلعا للحاجات الغائبة!! إن النظرة الجادة للإنسان هي التي تتخلى عن النظرات الجزئية وتلتزم الإحاطة. فالفكاهة تقع ضمن حاجات الإنسان الترويحية وإن أغفلها الإنسان أو أقام حياته على الصرامة والعبوس، فإنه حتما يخلق توترا نفسيا واجتماعيا رهيباً.

وبصرف النظر عن التنظير، فإننا لا نجد مجتمعاً إنسانياً واحداً خلا من أدب الفكاهة. التراث الفرعوني، والبابلي، والآشوري، واليوناني، والروماني، والعبري، والعربي القديم زاخر بأدب الفكاهة ودليل على دورها النفسي والاجتماعي في حياة البشر.

أما التراث الإسلامي فدلائله كثيرة.. ففي القرآن ـ مأدبة الله ـ مواقف فكهة، كمشهد إبراهيم (عليه السلام) وقد حطم الأصنام ثم وضع الفأس على كتف أكبرها: قال له الوثنيون أتتخذنا هزوا؟!

أو كموقف زوج عزيز مصر وقد دعت النساء وأمسكن بالسكاكين وخرج عليهن يوسف (عليه السلام) فطاش صوابهن! أما السيرة فتحدثنا عن أن النبي (ص) كان أكثر الناس تبسماً وضحكاً في وجوه أصحابه وتعجباً مما تحدثوا به وخلطا لنفسه بهم ـ رواه الترمذي. ولربما ضحك حتى تبدو نواجذه ـ متفق عليه من كلام عبد الله بن مسعود. وفي الحديث أنه كان (ص) أفكه الناس مع صبي، وأيضا أفكه الناس إذا خلا إلى أهله.

وفي الأدب العربي أقلام أتحفت الناس بكثير من الأدب الضاحك، مثل الجاحظ صاحب كتاب البخلاء، ورسالة التربيع والتدوير التي وصف فيها أحد الأدعياء وصفا رائعا مضحكا: كان ربع القامة تحسبه لسعة خاصرته مدوراً!!

لقد تناول كبار المفكرين الإسلاميين موضوع الفكاهة وعلقوا عليه، وقال الغزالي والجوهري إن الجد محتاج لشيء من اللهو لإقامته واستمراره.

الفكاهة والمزاح، والدعابة، كلها تبعث على الضحك. ومن الضحك ما هو طيب ومنه ما هو خبيث. ما كان منه نتيجة هزء وسخرية وهزل فهو خبيث ، لذلك نسبت الفكاهة والدعابة لبعض أفعال وأقوال النبي (ص) ولم تنسب له السخرية والهزل والهزء.

الضحك انفعال تنقبض له 15 عضلة من عضلات الوجه، ويصحبه تغيير في وتيرة التنفس. وله صفتان، الأولى: أنه يخدم غرضا حيويا للإنسان مثلما يخدم انكماش إنسان العين مع الضوء غرضا حيويا. الغرض الذي يخدمه الضحك هو إزالة التوتر من نفس الإنسان. والثانية: هي أن الضحك أكثر تعقيدا من انكماش إنسان العين ، لأن فيه جوانب حسية ظاهرة وجوانب نفسية تشعرنا بالابتهاج والسرور.

لماذا نضحك؟

هنالك نظرية تقول إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يضحك ويبكي، لأنه يستطيع أن يرى فرقا بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن فعلا. وأخرى تقول إن الضحك، كالرياضة التنافسية، من القنوات التي ابتدعها الإنسان لتصريف مادة (ادريلانين) التي تفرز مع الشعور بالخطر، والتي كانت مناسبة مع ظروف عاشها في الماضي.

ومهما تعددت التفسيرات، فإنني أرى أن الضحك دائما يشتمل على عنصرين هما: عنصر عدم الانسجام بين ظاهرتين (مثل النكات التي ألفت عن رفيعة هانم والسبع أفندي)، وعنصر النقد الظاهر أو الخفي مثل الإضحاك الوارد في كرتون توم وجيري (Tom &Jerry) ، والنقد للقوة الغاشمة التي يمثلها القط توم وفشلها المستمر أمام حيل وحظ الفأر جيري.

النكتة موجودة في أحاديث وقصص وأمثال الناس. وهنالك النكتة العملية التي تنتج عن تصرف في غير محله، والنكتة اللفظية التي تقوم على ألفاظ متشابهة مع اختلاف في معانيها (التورية)، مثلا قول العربي:

وأقطع قلت له أنت لــص أوحد

فقال هذه صفة لم يبق لي فيها يد

كما هنالك نوع من النكات يقوم على هجوم وهجوم مضاد يفحم المهاجم، مثلا كان للسياسي البريطاني الشهير ونستون تشرشل عدد من المعجبين، وعدد آخر من الحساد والمعارضين، وكان يكثر من شراب الخمر، فقالت له سيدة من منتقديه: يا ونستون إذا كنت زوجتك لوضعت لك سما في هذا المشروب! فرد عليها فورا: يا سيدتي لو كنت زوجك لشربته بكل سرور!!

ومن نكات التراث أن الحسن بن علي (رض) ومعاوية بن أبي سفيان اجتمعا في مائدة طعام وكان بينهما ما بينهما من جفوة، وكان في المائدة خروف صغير محمر فنهشه الحسن ليأكل منه، فقال له معاوية: ما هذه القسوة كأن أمه نطحتك؟ فرد الحسن فورا: وأنت ما هذه الشفقة كأن أمه أرضعتك؟

ونوع آخر هو النكتة الاجتماعية، مثل نكات العلاقة مع الحماة في المجتمع المصري. والنكتة السياسية وهي تنتشر في حالات معينة مثل حالات شدة التنافس بين الخصوم السياسيين، وحالات القهر، ففي حالات التنافس الحاد تصبح النكتة السياسية أسلوب صراع بين المتنافسين، أما في حالات القهر فإنها تصبح وسيلة تنفيس ومعارضة. لقد صار الشعب المصري أستاذا في النكتة، لا سيما السياسية، وقيل إن أكثر عهد راجت فيه النكتة السياسية في مصر هو عهد الوالي قراقوش. أما السودان فقد اقتبس النظام الشمولي من مصر الناصرية، وفي عهد مايو ظهرت في المجتمع السوداني نفس ظاهرة النكتة السياسية المعهودة في مصر، وإبان تلاعب ذلك النظام بالتشريع الإسلامي بسنه لقوانين سبتمبر 1983م المشوهة للدين، انفعلت مع ذلك الحدث بكتابة «المقامة الجعفرية الأولى: رسالة الترويع بالتشريع» وهي نوع من الأدب الضاحك.

كذلك ظهرت النكتة السياسية في العهد الشمولي الإنقاذي الحالي. والآن تتداول نكات بشأن تنفيذ اتفاقية السلام. فقد كان السودانيون ينتظرون أن تسفر اتفاقية السلام الأخيرة عن نظام حكم قومي وديمقراطي وسلام شامل، ولكن ظهر أن الفريقين (الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان) حريصان على اقتسام كل شيء بينهما مع إقصاء الآخرين، والنكتة تقول إن جماعة الحركة قالوا لجماعة الحكومة: ها قد اقتسمنا الثروة والسلطة، وتبقى أن نقتسم الهلال والمريخ (فريقا كرة القدم الأعرق في السودان)!