دشتى
05-06-2005, 01:42 AM
رياض رمزي الحياة 2005/04/24
لا يوجد ما هو أعظم من الحب سوى الخوف. فهما، حسب جوانا يورك في كتابها «تاريخ ثقافي» (فيراغو، 2005)، الطاقتان الوحيدتان القادرتان على اخضاع الفرد وجعله يصدق كل شيء. الخوف، وحده، القادر على تنظيم الجمهور، إذا ما استخدم بمهارة من قبل شخص، منظمة، مجموعة أو دولة تقوم بتحويله الى ذعر ثم الى هستيريا عامة عن طريق نظام متقن من التخرصات والافتراءات والأباطيل، التي تجعل الجمهور يقبل بترهات تُرفع الى مستوى الحقائق. يعمل الخوف بقوانين لا علاقة لها بالأخطار الفعلية المهددة لسلامة الفرد، بل ما يسمى بحالة الغموض أو عدم اليقين الذي يكتنف مصير الفرد.
يصاب ـ على سبيل المثال ـ عمال المناجم المحاصرون تحت الأرض بحالة عظيمة من الذعر وهم يترقبون جهود عمال الاغاثة لانقاذهم. وما أن يعلموا باستحالة انقاذهم، حتى يُستبدل الذعر بحالة من الهدوء المطلق. في 1917 انفجرت باخرة محملة بـ3000 طن من الذخائر الحربية أمطرت مدينة نوفاسكوتيا القريبة بحمم نارية، فباتت سماؤها تشهد انفجارات شبيهة بتلك التي تطلقها آلهة غضبى على شعب عاق. اصيب الكل بهستيريا دفعتهم الى رؤية وجه المسيح محملقاً فيهم وسط شواظ النار. هكذا هو الخوف، عندما يصل الى حدود الذعر يخلق هستيريا خاصة به. وبما أن كل نوع من الخوف يخلق هلوسته الخاصة به، وأن المجتمعات لا تواجه الخوف بطريقة متشابهة، فإن شكل المجتمع هو نتاج لطريقة خوفه.
إذا أوكلنا دراسة تطور شكل الخوف وكيفية بسطه لسيطرته على بعض المجتمعات الى مجال علمي معين، سنجد أنه ما من طريقة أكثر فهماً له، غير دراسة تاريخ تطوره كظاهرة ثقافية. شهد الخوف، كمنتج ثقافي (شكل الخوف وموضوعه، أي كيف يخاف الفرد، وممَ يخاف)، تغييرات عدة، بدءا من القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر. كانت التغيرات الأولى تشير الى انحسار الخوف ذي النفحة الدينية القدرية لصالح آخر تغلب عليه مسحة علمية غير ايمانية، عادة ما كانت تتخذ شكلاً غاشماً. عندما حدثت المجاعات في أوروبا في مراحل التكون البدائي لرأس المال، إبان الثورة الصناعية، ظهر الخوف من الموت الناجم عن الجوع والفقر، الذي ظل رابضاً بقوة في مخيلة الأفراد. مثال: طفل تموت عمته جوعاً، يودعها بقبلة على جبينها البارد، يضع اصبعه على وجهها. يصاب الوجه ببعجة من لمسة الاصابع. يبدأ الطفل برؤية موتى، في أحلامه، وهم يطوفون في الجو في صناديق بعد أن رفضهم العالم الآخر بسبب الحفر وآثار الحزوز على أجسامهم. تعطيه أمه منقوع نبات السنا من زيت الخروع. تتوقف الكوابيس. غير أن الموتى يظهرون في أحلام الطفل، متفسخين. ويتحول الموت من قدر الى قوة غاشمة، كأفعى تسير تحت الفراش لا ترى، لكنها تشاهد من خلال تموجات الفراش. يعيش الفرد تحت وطأة ذلك الخوف الجديد البشع: رفض الموتى، لوجود عيوب في أجسادهم تنتقص من صلاحيات قبولهم في العالم الآخر. ابتدأ الفرد بالخوف من موت تتفسخ فيه أجساد الموتى، فلم يعد الموت حياة أخرى ببعد جديد، كما تؤكد الأديان، بل شبح يطارد الأحياء لإذلالهم. كان عدد الموتى، الذين لم يطالب بهم أحد، كبيراً لارتفاع تكاليف الدفن. فقامت الحكومات بدفن الجثث في مقابر عامة. وكي تزيل عن الأحياء الخوف من الموت المتحول الى ذعر جعلت من المقابر حدائق للغناء. وفي مواجهة مباشرة مع الخوف الجديد من الموت، جهد الاغنياء المستنفرون الى تخصيص جزء من أموالهم لمنظمات تعنى بالمحافظة على درجة لياقة أجسادهم عندما تغادرها الروح.
شرع العلماء بدراسة الخوف على اسس جديدة. فهو، وفقاً لرؤيتهم الجديدة لا يقع في تلك القشرة الرقيقة بين الوعي واللاوعي، كما يؤكد الفرويديون، بل في مجال العواطف ذات البناء المعماري الخاص والدقيق، والتي يمكن تحفيزها والسيطرة عليها من خلال السيطرة على الأخطار أو انشاء بنية خارجية تضخم أو تقلل منها. يعتقد هؤلاء الخبراء أن بوسع الحيز خلق حالة من الذعر أو الاطمئنان لدى الأفراد الذين يمتلكون ـ في حالات الخوف ـ غريزياً، طبيعة نسائية: اظهار الضعف. إنهم يتحولون الى همج في حالات الذعر الشديد، إذ سرعان ما تبدأ وتيرة الاحترام للضوابط الأخلاقية لديهم بالتراخي، فيباتون عرضة للاستثارة، ويتوحدون وفقاً لقوانين القطيع، التي يطلق عليها تسمية «الهستيريا العامة أو الجماعية».
والحال أنه كي يكون الخوف بليغاً عليه أن يتلبس شكلاً روائياً يعمر بالحكايات، مع كل ما تحفل به من تكنيك، حبكة، تشويق... بدأ الخوف يحمل لغة تعبيرية جديدة غيّرت من شكل متلقي الخوف. فبدأت شخصية الفرد تتغير من تغير شكل خوفه المتخذ شكلاً روائياً جديداً ذا لغة جديدة، مفتتحاً علماً فريداً: علم تاريخ خوف الإنسان. فشرع الفرد يؤمن بالتأويل الجديد الذي مرّنه الإعلام على التعلق به: خلف المرئي هناك دائماً اللامرئي، الساحة الخلفية التي يمارس الأوغاد سطوتهم عليها.
أمسى المنطق القديم المعّلل لسبب المواجهات موضع رفض. فلفظة الاشتباك القديمة والتي تعني التسيد في المعارك، والمنتهية بغلبة أحد الطرفين، كي تعود الأمور الى سابق عهدها، أخلت مكانها لتفسير جديد لا ينتهي بانتهاء الحديث، بل يبتدىء حال انتهائه من خلال لغة تذكًر وتستعيد التفاصيل. برز هذا الاتجاه في حرب فيتنام. إذ تم استخدام ظهير جنسي لتفسير ما يحدث في الحروب. فرعشة الذعر شبيهة برعشة الجماع، والجنود الذين يقاتلون يتعطشون للجنس أكثر من غيرهم، وبديل الحرب ممارسة الحب. تم بهذه الطريقة إعادة رواية حدث الحرب بمصطلحات جنسية، فتحولت الحرب نفسها الى قضية ثانوية عندما أُغرق الموضوع بقضايا جدالية.
في هذا الجو الثقافي، المضخم للخوف، جاء الارهاب الى العالم الأول (مثال اميركا والمملكة المتحدة). ففي خلال 1980 - 1985 عندما لم يكن عدد القتلى، نتيجة حوادث ارهابية، يتجاوز الـ34 شحصاً كان عدد العناوين التي تعالج الارهاب الصادرة في نفس الفترة قد تجاوز 13 الف عنوان. لم يكد الارهاب الجديد الوافد في 11/9 يطأ هذه البلاد باساطيره الخاصة عن قتل الاعداء الصليبيين حتى تصدت له الاساطير المقابلة التي كانت تتنفس الجو الثقافي السائد في بلدان المنشأ. حدث ذلك في وقت انتشرت فيه امراض الايدز، السرطان، مضار الاغذية المعدلة وراثياً. جاء الارهاب الوافد مع الوباءات الوافدة: جنون البقر، الحمى الصينية، انفلونزا الطيور... كانت الجمعيات المدنية ترفع شار «حاربوا الارهاب، حاربوا السرطان». بدأ الفرد يتعرف على الارهاب من خلال ظهير صحي. فهو ليس عملاً تقوم به مجموعات لها قضية، بل خلايا سرطانية تنهش الجسم الصحيح. وعلى المجتمع كي يحافظ على مناعة جسده ان يقضي على هذه الجرثومة، من خلال ضربات وقائية تدمر اماكن تفريخ تلك الخلايا. لم يقتصر الأمر على استخدام ترسانة المصطلحات الصحية بل تم استدراج المخيلة الروائية: فطائرات شركتين فقط من شركات النقل الجوي الداخلي في اميركا قادرة اذا ما وقعت في ايدي ارهابيين ان تزيل 110 من اكبر البنايات من أساسها.
عندما تمازجت الرؤيتان الصحية والروائية برز شكل جديد من الخوف: جرثومة لا احد يعرف متى واين ستضرب. اصاب الكلَ مرض الرُهاب من الاماكن المغلقة والمفتوحة على حد سواء، مما استدعى فرض حجر صحي على كل الحيّز الداخلي كرد طبيعي على خوف مبرر: ماذا لو حصل الاوغاد على اسلحة اكثر فتكا؟ برفع الخوف الى ذعر وهيستيريا عامة، اصبحت السيطرة على الحيز الداخلي حاجة ملحة لا تقبل التأجيل: كاميرات مراقبة، هويات تعريف شخصية لكل فرد، السيطرة على الحدود، منع الهجرة، الأهم: ان الخروج الى الخارج لاعادة رسم شكل جديد للعالم، قوبل باستحسان عالي الصوت من قبل اغلبية تلبّسها شكل جديد من الخوف.
يأخذ الخوف شكله من الاحوال الذهنية السائدة في زمنه: بنية الحكاية، اللغة السائدة، الطقوس... لو قُيض لشخص من القرن التاسع عشر ان يقوم برحلة الى هذا القرن لعاوده الحنين الى ذكرى ايام خوفه الطيبة، ولطلب الرجوع الى ذلك الزمان مثل عجوز يتذكر أيام صباه بمودة.
(كاتب عراقي)
لا يوجد ما هو أعظم من الحب سوى الخوف. فهما، حسب جوانا يورك في كتابها «تاريخ ثقافي» (فيراغو، 2005)، الطاقتان الوحيدتان القادرتان على اخضاع الفرد وجعله يصدق كل شيء. الخوف، وحده، القادر على تنظيم الجمهور، إذا ما استخدم بمهارة من قبل شخص، منظمة، مجموعة أو دولة تقوم بتحويله الى ذعر ثم الى هستيريا عامة عن طريق نظام متقن من التخرصات والافتراءات والأباطيل، التي تجعل الجمهور يقبل بترهات تُرفع الى مستوى الحقائق. يعمل الخوف بقوانين لا علاقة لها بالأخطار الفعلية المهددة لسلامة الفرد، بل ما يسمى بحالة الغموض أو عدم اليقين الذي يكتنف مصير الفرد.
يصاب ـ على سبيل المثال ـ عمال المناجم المحاصرون تحت الأرض بحالة عظيمة من الذعر وهم يترقبون جهود عمال الاغاثة لانقاذهم. وما أن يعلموا باستحالة انقاذهم، حتى يُستبدل الذعر بحالة من الهدوء المطلق. في 1917 انفجرت باخرة محملة بـ3000 طن من الذخائر الحربية أمطرت مدينة نوفاسكوتيا القريبة بحمم نارية، فباتت سماؤها تشهد انفجارات شبيهة بتلك التي تطلقها آلهة غضبى على شعب عاق. اصيب الكل بهستيريا دفعتهم الى رؤية وجه المسيح محملقاً فيهم وسط شواظ النار. هكذا هو الخوف، عندما يصل الى حدود الذعر يخلق هستيريا خاصة به. وبما أن كل نوع من الخوف يخلق هلوسته الخاصة به، وأن المجتمعات لا تواجه الخوف بطريقة متشابهة، فإن شكل المجتمع هو نتاج لطريقة خوفه.
إذا أوكلنا دراسة تطور شكل الخوف وكيفية بسطه لسيطرته على بعض المجتمعات الى مجال علمي معين، سنجد أنه ما من طريقة أكثر فهماً له، غير دراسة تاريخ تطوره كظاهرة ثقافية. شهد الخوف، كمنتج ثقافي (شكل الخوف وموضوعه، أي كيف يخاف الفرد، وممَ يخاف)، تغييرات عدة، بدءا من القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر. كانت التغيرات الأولى تشير الى انحسار الخوف ذي النفحة الدينية القدرية لصالح آخر تغلب عليه مسحة علمية غير ايمانية، عادة ما كانت تتخذ شكلاً غاشماً. عندما حدثت المجاعات في أوروبا في مراحل التكون البدائي لرأس المال، إبان الثورة الصناعية، ظهر الخوف من الموت الناجم عن الجوع والفقر، الذي ظل رابضاً بقوة في مخيلة الأفراد. مثال: طفل تموت عمته جوعاً، يودعها بقبلة على جبينها البارد، يضع اصبعه على وجهها. يصاب الوجه ببعجة من لمسة الاصابع. يبدأ الطفل برؤية موتى، في أحلامه، وهم يطوفون في الجو في صناديق بعد أن رفضهم العالم الآخر بسبب الحفر وآثار الحزوز على أجسامهم. تعطيه أمه منقوع نبات السنا من زيت الخروع. تتوقف الكوابيس. غير أن الموتى يظهرون في أحلام الطفل، متفسخين. ويتحول الموت من قدر الى قوة غاشمة، كأفعى تسير تحت الفراش لا ترى، لكنها تشاهد من خلال تموجات الفراش. يعيش الفرد تحت وطأة ذلك الخوف الجديد البشع: رفض الموتى، لوجود عيوب في أجسادهم تنتقص من صلاحيات قبولهم في العالم الآخر. ابتدأ الفرد بالخوف من موت تتفسخ فيه أجساد الموتى، فلم يعد الموت حياة أخرى ببعد جديد، كما تؤكد الأديان، بل شبح يطارد الأحياء لإذلالهم. كان عدد الموتى، الذين لم يطالب بهم أحد، كبيراً لارتفاع تكاليف الدفن. فقامت الحكومات بدفن الجثث في مقابر عامة. وكي تزيل عن الأحياء الخوف من الموت المتحول الى ذعر جعلت من المقابر حدائق للغناء. وفي مواجهة مباشرة مع الخوف الجديد من الموت، جهد الاغنياء المستنفرون الى تخصيص جزء من أموالهم لمنظمات تعنى بالمحافظة على درجة لياقة أجسادهم عندما تغادرها الروح.
شرع العلماء بدراسة الخوف على اسس جديدة. فهو، وفقاً لرؤيتهم الجديدة لا يقع في تلك القشرة الرقيقة بين الوعي واللاوعي، كما يؤكد الفرويديون، بل في مجال العواطف ذات البناء المعماري الخاص والدقيق، والتي يمكن تحفيزها والسيطرة عليها من خلال السيطرة على الأخطار أو انشاء بنية خارجية تضخم أو تقلل منها. يعتقد هؤلاء الخبراء أن بوسع الحيز خلق حالة من الذعر أو الاطمئنان لدى الأفراد الذين يمتلكون ـ في حالات الخوف ـ غريزياً، طبيعة نسائية: اظهار الضعف. إنهم يتحولون الى همج في حالات الذعر الشديد، إذ سرعان ما تبدأ وتيرة الاحترام للضوابط الأخلاقية لديهم بالتراخي، فيباتون عرضة للاستثارة، ويتوحدون وفقاً لقوانين القطيع، التي يطلق عليها تسمية «الهستيريا العامة أو الجماعية».
والحال أنه كي يكون الخوف بليغاً عليه أن يتلبس شكلاً روائياً يعمر بالحكايات، مع كل ما تحفل به من تكنيك، حبكة، تشويق... بدأ الخوف يحمل لغة تعبيرية جديدة غيّرت من شكل متلقي الخوف. فبدأت شخصية الفرد تتغير من تغير شكل خوفه المتخذ شكلاً روائياً جديداً ذا لغة جديدة، مفتتحاً علماً فريداً: علم تاريخ خوف الإنسان. فشرع الفرد يؤمن بالتأويل الجديد الذي مرّنه الإعلام على التعلق به: خلف المرئي هناك دائماً اللامرئي، الساحة الخلفية التي يمارس الأوغاد سطوتهم عليها.
أمسى المنطق القديم المعّلل لسبب المواجهات موضع رفض. فلفظة الاشتباك القديمة والتي تعني التسيد في المعارك، والمنتهية بغلبة أحد الطرفين، كي تعود الأمور الى سابق عهدها، أخلت مكانها لتفسير جديد لا ينتهي بانتهاء الحديث، بل يبتدىء حال انتهائه من خلال لغة تذكًر وتستعيد التفاصيل. برز هذا الاتجاه في حرب فيتنام. إذ تم استخدام ظهير جنسي لتفسير ما يحدث في الحروب. فرعشة الذعر شبيهة برعشة الجماع، والجنود الذين يقاتلون يتعطشون للجنس أكثر من غيرهم، وبديل الحرب ممارسة الحب. تم بهذه الطريقة إعادة رواية حدث الحرب بمصطلحات جنسية، فتحولت الحرب نفسها الى قضية ثانوية عندما أُغرق الموضوع بقضايا جدالية.
في هذا الجو الثقافي، المضخم للخوف، جاء الارهاب الى العالم الأول (مثال اميركا والمملكة المتحدة). ففي خلال 1980 - 1985 عندما لم يكن عدد القتلى، نتيجة حوادث ارهابية، يتجاوز الـ34 شحصاً كان عدد العناوين التي تعالج الارهاب الصادرة في نفس الفترة قد تجاوز 13 الف عنوان. لم يكد الارهاب الجديد الوافد في 11/9 يطأ هذه البلاد باساطيره الخاصة عن قتل الاعداء الصليبيين حتى تصدت له الاساطير المقابلة التي كانت تتنفس الجو الثقافي السائد في بلدان المنشأ. حدث ذلك في وقت انتشرت فيه امراض الايدز، السرطان، مضار الاغذية المعدلة وراثياً. جاء الارهاب الوافد مع الوباءات الوافدة: جنون البقر، الحمى الصينية، انفلونزا الطيور... كانت الجمعيات المدنية ترفع شار «حاربوا الارهاب، حاربوا السرطان». بدأ الفرد يتعرف على الارهاب من خلال ظهير صحي. فهو ليس عملاً تقوم به مجموعات لها قضية، بل خلايا سرطانية تنهش الجسم الصحيح. وعلى المجتمع كي يحافظ على مناعة جسده ان يقضي على هذه الجرثومة، من خلال ضربات وقائية تدمر اماكن تفريخ تلك الخلايا. لم يقتصر الأمر على استخدام ترسانة المصطلحات الصحية بل تم استدراج المخيلة الروائية: فطائرات شركتين فقط من شركات النقل الجوي الداخلي في اميركا قادرة اذا ما وقعت في ايدي ارهابيين ان تزيل 110 من اكبر البنايات من أساسها.
عندما تمازجت الرؤيتان الصحية والروائية برز شكل جديد من الخوف: جرثومة لا احد يعرف متى واين ستضرب. اصاب الكلَ مرض الرُهاب من الاماكن المغلقة والمفتوحة على حد سواء، مما استدعى فرض حجر صحي على كل الحيّز الداخلي كرد طبيعي على خوف مبرر: ماذا لو حصل الاوغاد على اسلحة اكثر فتكا؟ برفع الخوف الى ذعر وهيستيريا عامة، اصبحت السيطرة على الحيز الداخلي حاجة ملحة لا تقبل التأجيل: كاميرات مراقبة، هويات تعريف شخصية لكل فرد، السيطرة على الحدود، منع الهجرة، الأهم: ان الخروج الى الخارج لاعادة رسم شكل جديد للعالم، قوبل باستحسان عالي الصوت من قبل اغلبية تلبّسها شكل جديد من الخوف.
يأخذ الخوف شكله من الاحوال الذهنية السائدة في زمنه: بنية الحكاية، اللغة السائدة، الطقوس... لو قُيض لشخص من القرن التاسع عشر ان يقوم برحلة الى هذا القرن لعاوده الحنين الى ذكرى ايام خوفه الطيبة، ولطلب الرجوع الى ذلك الزمان مثل عجوز يتذكر أيام صباه بمودة.
(كاتب عراقي)