المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العراق: الجميع في مأزق... وهنا يكمن الخطر الاكبر



دشتى
05-06-2005, 01:38 AM
نهلة الشهال الحياة 2005/05/1

أرفق السيد ابراهيم الجعفري تسليم تشكيلته الوزارية الى مجلس الرئاسة العراقي بتصريح يرفض فيه «تكريس ثقافة التجزئة والتفكيك»! وهو كان امضى شهراً كاملاً يقلب الصيغ ويفاوض الاطراف المختلفه بحثاً عن تركيبة تراعي كل المطالب وترضيها. وقبلها مضى وقت لا يقل طولاً حتى امكن الاتفاق على تكيلف السيد الجعفري نفسه والاتفاق على نائبي رئيس الجمهورية بعد ان تأكد ان منصب الرئاسة مكرس لشخصية كردية.

والحال ان التشكيلة الوزراية التي طال انتظارها، مثلها مثل سائر الاجراءات السياسية التي اتخذت خلال السنتين المنصرمتين من عمر العراق، لم تفعل سوء تكريس ثقافة التجزئة والتفكيك، حتى بات العراق وكأنه جُرد من كافة أبعاده واحيل الى مكونات ابتدائية، طائفية وعرقية، هي وإن بدت تأسيسية، الا انها لا تمثل الواقع. والاهم من ذلك أنها غير قادرة على انتشاله من حلقة الدمار الذاتي المفرغة. وهذا ليس ذماً في الطائفية والعرقية بوصفهما مقياسين معيبين، بل تعيين للحدود التي تصطدم بها محاولات بناء نظام يستند الى انتماءات بديهية مفترضة. ولنا في لبنان خير مثال على ذلك، اذ، ولأسباب تاريخية وديموغرافية واقتصادية، متشابكه ومتفاعلة وشديدة الخصوصية في آن، ولد في لبنان نظام يعتمد الطوائف كوحدات اجتماعية فاعلة في حركة تداول السلطة والثروة. الا ان هذا النظام مأزوم تعريفاً لأن اي اختلال في تلك المعايير التي أنشأته يفسد المعادلة. وقد عرف لبنان، في تاريخه القصير، ازمات تكاد تكون دورية، اتخدت احياناً اشكالا بالغة العنف، وكانت تستلزم في كل مرة اعادة البحث في الصيغة المتوافق عليها، لتعريفها مجدداً، اي لتحقيق تعديلها بشكل مُرض الى هذا الحد او ذاك للجميع.

وكما ان الطائفية في لبنان ليست، اذاً، مجرد الانتماء الى طوائف تقوم بعد ذلك من تلقاء نفسها بتمثيل مصالح ابنائها، فإن تعميم المثال اللبناني، او ما يسمى استعجالاً احياناً «اللبننة» سواء في حالات سلمية او عنفية، يبدو وهماً خالصاً.

فحيث الطائفية، كما في لبنان، نظام اجتماعي مبني، يتملك آلياته المركبة ووظائفه، فهي في حالات اخرى مجرد تعبير عن تفكك النظام الاجتماعي او عن العجز عن بنائه.

واذا لم يكن النظام الطائفي في لبنان مجرد جمع لممثلي الطوائف جنباً الى جنب وتوزيع حصيف للمناصب والمسؤوليات (والمغانم) عليهم، بحيث أنه حين يتلخص في ذلك يكون في واحدة من أشد حالاته تأزماً، فإن ادراك ذلك، كما يفرضه الواقع الراهن في هذا المكان المخصوص، يصطدم في المقابل بالسهولة التي تبديها الادارة الاميركية منذ بعض الوقت، في التعاطي مع الطوائف في المنطقة العربية اجمالاً، وفي تقديم تصورات حول مكانتها ودورها في «اعادة صياغة الشرق الاوسط الكبير». وعلى النحو هذا يبدو الاميركان، مسؤولين ومحللين، وكأنهم يسبحون براحة في بحر الطائفية والقوميات!

هكذا، ورغم حيازة المثال العراقي على اهمية فائقة في التمرين الاميركي على ضبط التعامل مع المنطقة، او ربما بسبب ذلك، فإن الهاجس الذي بدا مسيطراً على التدخل الاميركي في العملية السياسية الجارية في العراق، تعلق بهدف «تحقيق التوازن»: بين الاكراد والعرب، وبينهم وسائر الاقليات، وبين الشيعة والسنة من العرب، وداخل الشيعة انفسهم بوصفهم الاغلبية المطلقة...

وحيث ان الانتخابات العامة التي جرت قبل ثلاثة اشهر قد عرفت اختلالاً في هذا التوازن لم يمكن تلافيه في حينه، تمثل في اتساع المقاطعة السنية لها، فإن المشرفين الاميركيين على العراق اصروا، رغم نفاذ صبرهم من التأخر وقلقهم من تبديد الآثار الايجابية للانتخابات، على تعويض ذلك في الحكومة. وجاء العنوان الادل لذلك منع استئثار الشيعة بالسلطة رغم فوزهم الساحق في الانتخابات ورغم «معاناتهم من الحيف في ظل النظام السابق»، على ما قال السيد رامسفيلد في آخر زيارة له للعراق. ثم اتت بعد ذلك مهمة حفظ التوازن بين التعبيرات الشيعية نفسها، ثم اتت لمسات صغيرة: هنا لمزيد من الضمانات المتعلقة بالولاء للاميركان، وهناك لشكل الصورة كالحضور النسائي، وحضور الكفايات المشهود لها...

ان ما يتم في العراق يمكن تسميته بـ«صناعة الطائفية». وتلك عملية لا تعني انتفاء وجود الطوائف اساساً او اختراعها من لا شيء، بل هي مزيج من استخدام المتوفر، وفي الوقت نفسه تعزيز مكانته ثم توزينه اجتماعياً لأغراض تتعلق بادارة الموقف. والحقيقة ان الخيارات امام واشنطن محدودة جداً. فهي اذ تريد اعادة صوغ العالم - والعراق نموذجياً - خلال فترة قصيرة جداً، مجبَرة على اللجوء الى التركيبات الاسهل والقابلة للتحريك اليسير، او التي تبدو كذلك، كما تبدو صالحة لتوليد صورة عن توازن عام متحقق. ثم ان واشنطن لا تكترث كثيراً بالصيغ المعتمدة، لأن الاساسيات تبقى في يدها مباشرة. ففي العراق عالم كامل لم يتوقف بانتظار الانتخابات او الحكومة، ولن يتوقف بانتظار صياغة الدستور ثم الانتخابات المقبلة والحكومة النهائية. وهو عالم يتعلق بالمصادر الفعلية للسلطة والثروة، بوجود جنود الاحتلال الى أمد غير محدد، قد يتغير شكله في احسن الحالات فيخف وجوده في المدن لمصلحة الانكفاء الى قواعد عسكرية، وبوجود الخبراء في كل الوزارات بغض النظر عن وزرائها، وبوجود اكبر سفارة اميركية في العالم، اقر الكونغرس مؤخراً، ورغم الاعتراضات، الميزانيه الهائله المطلوبه لانشائها، وبوجود شركات النهب لكل القطاعات، بدءاً من النفط وحتى آصغر سلعة.

الا انه وللانصاف، فان الموقف لا يتلخص بما يقترفه الاميركان فحسب، اذ ثمة مقابلهم صحراء خاوية، قد يمكن تبرير وجودها بتذكر السحق المنهجي والمديد للحياة السياسية والثقافية العراقية على يد النظام السالف، بالانهاك العراقي اثر الحروب والحصارات، وبالوضعية غير المسبوقة والجديدة للعراق تحت غزو واحتلال، وبانهيار الصورة اقليمياً وعالمياً... انما لا يغير ذلك كله من اللحظة شيئاً. فالحيز السياسي المقابل للسياسة الاميركية في العراق محتل تماماً من قبل ظاهرة تحولت من الاعلان عن نية مقاومة الاحتلال، اي استهداف الوجود الاميركي في العراق، الى ممارسة تفجير السيارات او العمليات الانتحارية التي تستهدف الجمهور الشيعي لأنه نُخبه المعتمدة تتعامل مع الاحتلال (واستطراداً يبنى على ذلك موقف تكفيري من الشيعة، هذا اذا لم يُعتد به كأصل في تفسير التعامل واجازة القتل الجماعي). يقابل هذا المسلك «ضبط للنفس» على ما يقال، وهو يعني حبساً موقتاً للرد بالوسيلة نفسها، بل بأعنف وأوسع منها، على ما هدد به اخيراً محافظ مدينة النجف، هو بذاته، وليس ارهابياً او مقاتلاً مجهولاً يرسل بيانات بالانترنت او شرائط مصورة رديئة الصنع. وبينهما تجري احداث غامضة لا يعرف احد اصلها وفصلها وحقيقتها، كتلك التي دارت في المدائن منذ فترة قريبة.

ويقيناً انه لا يمكن وقف العملية السياسية المدارة اميركياً بقتل اكبر عدد ممكن من الشيعة او بالتهديد باغتيال من يلتحق بها من السنة. فهذا لا يعدو كونه هذراً بشعاً، وهو يؤدي وظيفة وحيدة هي تكريس العملية السياسية الجارية بوصفها الخيار الممكن في وجه الفوضى. كما هو يعزز، علاوة على ذلك، صناعة اخرى ملازمة لصناعة الطائفية الجارية وضرورية لها، وهي صناعة الخوف.

ففي مقابل ذلك، وفي مقابل الخطر الذي يتهدد السياسة الاميركية في العراق، والذي اعتبرت مؤخراً صحيفة «نيويورك تايمز» انه فقدان التبرير الحالي للوجود الاميركي في العراق، «وهو حماية التحول الديموقراطي»، فيصبح أجوف مثل حجة اسلحة الدمار الشامل التي استخدمت لغزوه... مقابل تينك الصورتين المنعكستين في مرآة واحدة، ما زالت محاولات صوغ تصور سياسي وطني مبعثرة وقاصرة. وما زالت مبادرات كالمظاهرة العارمة التي نجح مقتدى الصدر في الدعوة اليها بمناسبة يوم سقوط بغداد تمر مرور الكرام لأنها ليست جزءاً من مقترح شامل قابل لاستقطاب من يرفض الاحتلال ويحلم في الوقت نفسه بعراق الغد المأمول لدى كل أبنائه... الحاجة قائمة والامكانات قائمة، فمتى تتلاقى هذه وتلك؟

(كاتبة وناشطة لبنانية)